كاتب الموضوع :
سميتكم غلآي
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: خطوات على الجمر
حصار
بعد ذلك الموقف
حاولت الهروب من أي مكان يوجد فيه يوسف
فمشاعري متقلبة
دامعة في لحظة وغاضبة في أخرى
حتى إنني لزمت غرفتي في ذلك الوقت، وحبست نفسي بين جدرانها
في كثيرٍ من الأحيان كانت تطوقني أفكاري، وتخنقني هواجسي
وأفكر في حياتي الآن
وما أنا عليه
وهل حققت شيئاً
أجمع أوراقي، أنبشها، أنظر إليها عن كثب
فتتساقط من بين يديّ
فأراها فارغة، لها عمق أسود مثقوب
نعم ...فداخلي مملوء بالثقوب التي لا ترقع
منذ زمن وحتى عمر الخامسة والعشرين لا أزال أبحث عن ذاتي
المخبأة فيّ
ذاتي التي لا أعرفها
فأنا لا أعرف نفسي، ولا حتى ماذا تريد!
أعرف أنني عشت حياة غير منصفة
حياة تتجسد كشكل من المعاناة
حتى في بيئتي المدرسية، وعند مراهقتي تغيرت إلى الأسوأ
الانعزال كان ملاذي
وانخراطي في أحزاني وهمومي
جعل مني شخصاً وحيداً منبوذاً في نظري
حتى نبذت نفسي في ذلك الوقت، وكرهتها
فالكل أصبح في نظري يعاملني مثل أمي
والكل يلومني ويعنفني على أخطائي حتى لو كانت بسيطة
حتى كدتُ أخسر أحلامي التي كنت أطمح إليها
وأتخلى عنها، وأخضع للواقع
كنتُ أريد دراسة القانون الجنائي، أطمح في شيءٍ مميز أحبه
وعندما وقفت أمام الكل بطموحي هذا، وقفت حوائطُ رفضهم
القاطع أمامي، وجدران تذمرهم وتعنفيهم لي
خضعت لهم، وتخليت عنه، بسبب أنني بنظرهم لا أرتقي لذلك
الطموح، واخترت غيره تخصصاً قريباً منه وأسهل وكان علم نفس،
وأعادوا الكرة
أبي ... كان أكبر المتشمتين بي، في البداية ضحك عليّ، واستحقر
حلمي، ورفض ذلك الغباء الذي أريده، وأنه تخصص لن يفيدني بشيء
أما أمي ... أمي التي تمنيت ولو لمرة في حياتي أن تكون في صفي، وأن
تقف معي وفي الأمام
فكانت غير مبالية، وغير مهتمة وكأنني لست ابنتها ولا شيئاً يخصها
كنتُ أريد التوسل إليها، وتقبيل قدميها، أريد فقط ابتسامة حنوناً
منها، ابتسامة تشجعني
تضمني وترفعني إلى السماء، وموافقة تسع الكون
ولكنني وكما تعودت، وكما هي العادة والصدمات المتتالية
قالت لي: «أشك في نجاحكِ فأنتِ نجحتِ بصعوبة بعد محاولات
كثيرة فاشلة، الحمد لله أنك استطعتِ التخرج من المدرسة، ولا أظن
أن هذا التخصص مناسب لكِ فقد تصبحين في المستقبل شخصاً مجنوناً
فالكثير من الأشخاص أصيبوا بالجنون من جراء هذه المهنة، الجلوس
في المنزل أفضل من الدراسة من وجهة نظري »
كانت كلماتها، هي الشوكة القاصمة
والمدمرة بالكامل
كانت محزنة بشكل عقيم
جعلتني أذرف دموعاً حارة، وأبكي وحيدة، وأتمنى لو أنني لم أولد
أو أتمنى لو كانت أمي تحبني، ذلك الذي أتمناه، حلم بعيد لا تطاله
الأيدي!
ولكن ذلك لم يكن ليجعلني هشة فقط، إنما مترددة في كل خطواتي،
حزينة في داخلي، ولكن فعلتها ودخلت ووقفت في وجه المعارضين
حتى لو كانت كلماتهم سمًّ يجري في الأبدان.
وفي النهاية فعلتها وتخرجت منه بتقدير جيد جدّاً، لم يكن سهلاً ولم
تكن كل محاولاتي سهلة
فلقد عانيت الكثير إلى أن نجحت، وأهملت النظرات لشخص يظنونه
لن يفلح فقط لأنه رسب مرات قليلة
وفي النهاية، جلوسي في المنزل كان الخيار الإجباري إلى أن تجدني
وظيفتي أو أجدها.
***
أنا شخص أحب الكتابة، وكم كنت أقرأ وأكتب وأتعلم
كنتُ أقرأ بالسر لأن القراءة كانت ممنوعة من جهة أبي، وكنتُ أحاول
الكتابة وأخفي ما أكتبه في خزانتي خوفاً من اكتشاف أحدٍ لي
فكسر المواهب وإهمالها من قبل الأهل، جعلني أعمل كل شيء بالخفاء
جعلني أخفي حبي لأشياء كثيرة
خوفاً من تحطيم أحدٍ لي، أو الاستهزاء بي...
أن تتحدث مع نفسك كثيراً، أو أن تُحدثها وكأنها شخص مقرب
وحميم، هو أمر بغاية الغرابة لكثير من الأشخاص!
أنا هكذا
دائماً ما أتكلم مع نفسي وأشتكي إليها
فهذا يعطيني راحة عظيمة، وتنفيساً عميقاً
وكم من المرات كنت أتكلم فيها مع نفسي في دورة المياه خاصة،
وأخطط لمَا سأفعل غداً
وعندما أخرج أسمع أختي خولة الأكبر مني بسنتين تقول: «أأنتِ
مجنونة! »
أهز رأسي، وأؤكد لها أنني شخص مجنون كليّاً
الجنون هو أن أتحدث مع نفسي عن يوسف
وأن أقول عنه كلاماً غير لائق، وأقلده
فيوسف قد تغير فجأة، وأصبح لا يبالي بوجودي، ويتصرف على سجيته على غير العادة
فلقد ترك صمته وكآبته بعيداً
وبدأ يصبح ثقيل الدم، ويتدلل بإفراط على أمي وخالتي
دائماً ما أراه يحتضن أمي ويقبلها ويسمعها المديح، ويحادث خالتي
ويجعلها تعبر عن كل ما بداخلها
فيوسف قليل النقاشات، كثير التودد إلى أمي وخالتي وأخواته من
الرضاعة
يا إلهي، حتى إنني نسيت ما حصل بيننا
ونسيتُ أنه هو يوسف بسبب تصرفاته هذه
فأنا قد بدأت أراقبه، وأرى تصرفاته مع أهلي
واكتشفت أشياء بغيضة عنه
أنه يبدي رأيه فيتقبله الجميع برحابة صدر، ويعطي رأيه بالأشياء التي
لا تعجبه، ويسن القوانين كيفما يشاء، وكأن كل مقاليد العائلة بين يديه.
لم أكن أتصور أن يكون يوسف شخصاً بهذا الشكل، فأنا لم أعرفه
إطلاقاً خلال سِنِيّ الماضية
فلقد اكتشفت أنني أكره هذا النوع، وبصدق!!
في إحدى المرات وبعد ذهابهم جميعاً، بدأت أتكلم بصوت عالٍ مُنقهر:
«يا إلهي لم أرَ أحداً مدللاً مثله من قبل، والمصيبة تصرفهم معه يشعرُني
وكأنه هو الشخص الوحيد الموجود على الكرة الأرضية، يا إلهي .. كم
أكره الرجال ». عبستُ بشفتيّ وأنا أقلده: «أختي سميرة أنا لم أتذوق
مثل طعامكِ من قبل، يا إلهي يا لها من كاذبة فهي لم تطبخ في حياتها
بيضة واحدة، الذي يتعب ويكد نحن وهي تأخذ كُل المجد، أما فاطمة الثقيلة
الدم تلك والتي لا تكف عن النقد والتذمر فيقول إنها أجملنا وتملك
حلاوة لسان لم يرَها من قبل، يا لسخافته »
«يا إلهي، صدقاً إنكِ تملكين الكثير من الأحقاد بداخلك »
جاءني صوته القريب مني ممزوجاً بالفكاهة، وأخافني وأنا في خلوتي
وكنتُ أظن أن لا أحد هنا، ولن يسمعني أيٌّ كان
ولكن ويا لسوء حظي سمعني صاحب الشأن
احمر وجهي وإحساس بالخجل اعتراني
لم أتحرك ولم أرد عليه، إنما سكنت للحظات قبل أن يقرر عقلي أن عليّ
الهرب
في الحقيقة لا أستطيع مواجهته بعد الذي قلته، وأنا خجلة جدّاً منه، بل
أكاد أموت من الإحراج.
ظهر أمامي، كان يوسف يتحرك بحرية وكأنه يحفظ كُل شبرٍ في المنزل،
لا... إنما ظننتُ للحظات أنه يبصر!
فيا سبحان الله الذي يعطي الأعمى بصيرة تفوق بصيرة المبصر بمرات
مر من أمامي فلمحت ثوبه الأبيض، ولكنني لم أرفع بصري إليه
وصل بالقرب مني قرب المقاعد، وقال: «ها أنتِ ثانية يا صاحبة الحاجبين الغليظين، حقّاً إني لا أخطئ نغمة صوتكِ، وأعرفكِ على الفور »
تصاعدت الحرارة إلى وجهي، يا إلهي.. يا لهذا المدلل المعسول اللسان،
إنه لا يخجل من قول مثل هذه الكلمات.
كانت غرفة المعيشة خالية من سكان المنزل إلا مني أنا ويوسف، وكان
الصمت سيد تلك اللحظات
تجرأت أن أحادثه، فأنا متشوقة للحديث معه، ومعرفته عن قرب،
فصغيري قد تغير وكبر
إلى جانب أنه لا يعرف أنني ياسمين!
بعد حزني الطويل في الأيام الماضية
وندمي السحيق
توصلت إلى أن لا أخبره أنني ياسمين، إذا حاول الحديث معي عن
هذا الأمر
وأن أكون شخصاً مخفى يعرفه يوسف حتى أستطيع الوصول إلى قلبه
حتى أجعله يرق ويسامحني حتى لو تقبلني قليلاً، ولم يسامحني نهائيّاً
قد تأتي فرصة يسامحني فيها يوسف
فأنا لم أكن أقصد فعل ذلك
إنما كنتُ طفلة غير واعية
تجرأت وطرحت أفكاري بعيداً عني، فأنا أريد التقرب منه، فبدأت
حديثي معه: «وبهذه السرعة ما شاء الله »
أصدرت حنجرته ضحكة خفيفة وعميقة، جعلتني أبتسم وأمشي مع
خطواته التي مرت بجانبي وبدأت ترحل نحو أحد المقاعد
وجلس يوسف على المقعد الجلدي الأسود، مقعده الدائم والمفضل
على ما يبدو
وأسند ظهره عليه بكل أريحية
يا إلهي إن يوسف طويل وضخم، ويملك جسداً رياضيّاً !!
قلت له بدون وعيٍ مني: «يوسف، هل أنت تمارس الرياضة ؟»
تشكلت على وجهه تلك التعابير، التي لم أفهمها في البداية، ولكني
وللحظة ظننتُ أن السؤال كان قاسياً، سؤالاً يذكره بحقيقة إعاقته،
صمتُّ بعد تلك الكلمات وأصابني الندم الشديد عليها، أيقظني من
ندمي وتأنيب نفسي صوته الغليظ المنخفض وهو يقول: «نعم فأنا
رياضي بارعٌ جدّاً، ولدي الكثير من الميداليات »
تبّاً!!
أظن أنني أخطأت في ندمي ذلك، فصوته كان محملاً بالغرور والفخر
حل علينا الصمت، وأنا استرخيت في مكاني وغصت في مقعدي
وانتقلت نظراتي إلى كل ما يحيط بي من أبواب ونوافذ وجدران وألوان.
كتمت أنفاسي وأنا أبعد نظراتي عن كل شيء، وأرحل بها إلى أعماق
أفكاري، سرحت في عالمي لأفكر لمرة ومرتين وثلاث في كل شيء، فيّ
وفي يوسف وأهلي !! وهل ما أفعله صحيح! وهل عليّ أن أقترب منه
لأخدعهُ!
أعدت نظراتي إليه، واهتز قلبي الساكن في أعماق صدري
حتى تشقق وتقطع
وتناثرت شظاياه
لو كان لي القدرة على إعادة الماضي
لو حدث ذلك
لكنتُ غيرت العديد، بل وفعلت الكثير وتركت القليل
لكنتُ أحسنت معاملتك، ورعيتك جيداً
أتعرف ندمي يا يوسف
ندمي يحرق صدري في كل يوم
ندمي يسع الكون كله، بل إنه لا يسع أي شيء
ولو أخرجته لك لما استوعبته من ثقله وعِظمه.
أخرج يوسف سماعة صغيرة ووضعها في أذنيه، ظننته ولوهلة أنه قد
نسي وجودي
ابتلعت موجات الألم التي اعترتني منذ لحظات، وخبأتها بداخلي
وأخذت أطيل النظر إليه
يا تُرى ما الذي يسمعه الآن !!
فملامحه تغرق في الاسترخاء
زفرت نفساً، تبعه صوتي وجلبة داخلي، تعمقي في النظر إليه، وحفظ
تفاصيله
سمعت يوسف يقول وأنا سارحة فيه: «ألن تكفي عن التحديق بي! »
في تلك اللحظات كدتُ أكذب حقيقة أنه لا يبصر، أكذبها رأي العين
فأنا أسمع العجاب منه
«يا إلهي، وكيف لك أن تعرف هذا!! »
قلتها والدهشة تغرقني، ويطوقني تعجبي من كل الجوانب
ارتفع طرف شفتيه عن ابتسامة واسعة، اظهرت غمازة خفيفة على
خده
ذكرني ذلك بالماضي
وتساقطت الذكريات على رأسي
وخلف موجها فيضاناً من السعادة في داخلي
وكأنني في ذلك الوقت، وكأن الزمن عاد بي إلى الوراء
إلى ذلك الصغير الذي لا تفارقه ضحكاته، ولا ابتسامته، ولا حتى
هُتافاتهُ
أنظر إلى الأسفل والرؤية ضبابية، نظراتي تنصب عليه، وجه دائري
قمحي اللون وشعر بني مسترسل كالشلال، وعينان كبيرتان لامعتان،
وابتسامة واسعة تسع الكون من فرحتها، وغمازة صغيرة مميزة.
صغير جدّاً، وجميل جدّاً، ويقول بصراخ: «احمليني »
أرفض.. أهز رأسي بالرفض، بل هو رفض الحقيقة، رفض كل ما أراه
في تلك اللحظة!
أهذا يوسف !!! أهذه أنا !! أرفع أصابعي فأراها صغيرة ضئيلة، تعبر
عن حجمي، وتعبر عن ذاتي القديمة
ينتشلني من ذلك الموقف المرعب صوت بعيد
صوت من بعده يكاد لا يسمع
كان يقترب بسرعة رهيبة مني
وأعادني إلى أرض الواقع
وكانت تلك ضحكة يوسف
يا إلهي !!
خُيل إلي أن ما حدث منذ لحظات كان ضربة من الجنون
جنون حل على عقلي
وضعت يديّ على وجهي وأنا ألهث من الخوف، وأنظر إلى أصابعي
التي كبرت فجأة، وبشكل مفزع أصابني بالرعب
أغفوت! متيقنة أنني غفوت ولم أشعر بذلك، على الأكيد أنه حلم!
أبعدت يديّ عن وجهي وأنا أحاول العودة إلى أرض الواقع ونفي كل
ما مر عليّ، وأنظر إلى يوسف
الذي قال: «أعرف فإحساسي لا يخيب »
ما الذي يحدث يا يوسف !!!
أرأيت أنا واقعاً، أم حلماً!
أخذت أتنفس بسرعة، أخرج أنفاسي المختنقة من صدري، وأبعد تلك
الأحلام المزعجة عن مخيلتي
حتى لو لم تكن مزعجة
حتى لو كانت الأجمل
ولكنها مرعبة عندما أصبحت حقيقية
«ما بكِ! »
قالها يوسف والاهتمام بادٍ عليه
كان يحدق بي وكأنه يراني، ينظر إلى عينيّ اللتين ارتبكتا فوراً، وتبدل ما
بصدري إلى حرارة
حركت مشاعري الخامدة، مشاعري التي تصهر جسمي وتحرك ما
تحت أضلعي، وتتموج بأشكال من الأحاسيس الغريبة
التي تنتابني عند رؤيتي لهُ في الآونة الأخيرةِ
قلت وأنا أشعر بالعرق يبللني أكثر من ذي قبل: «لا شيء »
«إذاً إن كان لا شيء، فلمَ كان صوتك وأنفاسك بهذا الشكل »
والآن أكتشف في يوسف شيئاً سيئاً أكرهه جدّاً
أكره الحديث عن نفسي في حالاتي هذه
أكره رؤية أحدٍ ما لي في لحظات ضعفي
أكره اقتحام أحدٍ ما لحصني المنيع الموضوع حولي
أكره الإلحاح الذي يلحه الغير في معرفة الأسرار
يوسف أرجوك لا تواصل الحديث !!
كلمة أخرى وأنفجر عليك، وأقول كلاماً غبيّاً وأنا في حالتي هذه!
ويا للعجب تغيرت تعابيره ولهجته وهو يقول: «أتحبين القراءة »
انقلب حالي المنزعج، وتحول التعكر إلى انشراح، بل وسكنني الهدوء
بهمس قلت: «على الأكيد، فأنا أكتب »
سأل والدهشة ترتسم على وجهه: «وأتكتبين! »
بتردد أضفت: «نعم، فأنا أحب كتابة القصص والخواطر »
أصابني الندم على هذا الاعتراف الصريح، صحيح أنني أتوق لإخبار
أحدٍ ما بأنني أكتب، وأريد الافتخار بهذا الشيء، وأريد أن أصبح
عظيمة الشأن، بارعة في هذا المجال.
ولكنني أفضل الاختباء في ذلك الجحر الذي يفصلني عن العالم المحيط
بي، وعن الذين يعرفونني على الأخص
«مدهش، وهل نشرتِ شيئاً؟ »
احتجزني صمتي، وهجرتني عزيمتي وآمالي التي كانت تلمع في الأفق
البعيد
لا.... لمَ أفعل يا يوسف!
ألكي يعرفني الكل!
أم لكي يستهزئ بي المزيد من الناس الذين من حولي
جربتها مرة وأعطيتها لأمي لعلها ترى في ابنتها شيئاً مميزاً تفتخر به،
فأصبحتُ محط سخريتها قبل أن تقرأها
حتى إنها قالت لي: «دعكِ من هذه السخافات، التي لا تجدي نفعاً ولا
تغني من جوع، إنها إهدار للوقت »
لقد كان وقع كلماتها على نفسي أشد وأقوى من وقع المرض على جسمي
فالتأثير النفسي كان أشد مرارة
ولقد أصبت بالصدمة، صدمة جعلتني أفقد رغبتي في إكمال ما أريده
قلتُ لهُ وصوتي ذابل، يغص بالحزن: «لا »
كان في صوتي نبرة تدل على عدم رغبتي في الاستمرار في هذا الحديث
أعرف أنها كانت فظاظة مني، ولكن حقّاً أنا لا أريد الحديث أكثر عن
نفسي لكيلا يكتشفني يوسف!
لا .... ليس لكيلا يكتشفني يوسف
إنما هو الخوف من الإفصاح عن حقيقة نفسي، فأنا لا أريد استنكاراً أو
احتقاراً سقيماً آخر
لا أريد التحدث، إنه صعب، صعب أن أعبر عن فرحي وحزني
لشخص بيني وبينه هذا التضاد العجيب، والفروق العميقة
والشروخ الكثيرة
يوسف لا يزال غريباً عني، وبعيداً أميالاً كثيرة
أنبني ضميري لصمتنا الذي وضعته أنا، واستمر لدقائق طويلة
وخنقني
قطعت الصمت بصوت منخفض هامس: «ما الذي تسمعه! »
لم تظهر ملامحه الهادئة أي ردة فعل على سماعي، كان مستغرقاً في النظر
إلى أمامه، وسماعته تلتصق بأذنيه، فصمتُّ وقد حاصرني ندمي، وحل
عليّ الحزن.
قطع تفكيري وانحشاري بين أنسجة الأريكة، صوته الخشن الرنان:
«كتاب يمكنك القول عنه إنه مجموعة من الخواطر » صمت ليضيف
وكأنه استنتج أن وجهي قد قفزت إليه علامات التعجب والدهشة:
«إني أجيد خمس لغات، وقصدي من القراءة هو نصفه الاستماع إلى
الكتب المسجلة، والنصف الآخر القراءة من كتب المكفوفين »
بعد هذه الكلمات وهذا اللقاء، نظرت إلى نفسي، أمعنت النظر إلى
أعماقها
ووجدت التبعثر يحتل كل ركن فيّ
أنا الإنسانة التي لا تعاني من خطب عضوي واحد عدا النفسية المدمرة
بالكامل
إنسانة طبيعية تمتلك كل حواسها، تمتلك كل مكملات الحياة حتى
الرفاهية منها
لا أجيد إلا لغتي الأم، ولا أجيد شيئاً في هذه الحياة سوى الانغماس
في البؤس!
وأتخلى عن كل الأشياء بسهولة، لا أرغب في التقدم خطوة واحدة
بسبب أنني خائفة ومترددة!
أما هو فيعاني من فقد حبيبتيه، فقد أغلى ما يملك الإنسان، فالأعين
أهم شيءٍ لدى الإنسان وهي نعمة لا تضاهيها نعمة.
يوسف شخص إيجابي يناقضني
يوسف غريب كغرابة عالمي عني
يوسف شخص يعيش في فضاء غريب عن فضائي، وفي عالم فسيح
ولعل معرفته الواسعة جعلته بهذا الشكل
شخص وكأنه يكبر عمره أضعافاً
هو أصغر مني، وأقل مني مرتبة دراسية
ولكنه أكبر عمراً بعقله مني
أحسست بحجمي الصغير وهو يطلعني على مهاراته، وحجم
الكتب التي قرأها، وسعة معلوماته المذهلة، علم فيزياء وكيمياء
ورياضيات.... بل كل علوم الدنيا تستقر بداخل ذلك الرأس الذي
لا يكبر رأسي كثيراً، أما أنا ... ويا لفظاعة ذلك فلا يوجد لديّ غير
التفكير المستمر والتردد والتذمر، ونظراتي العمياء عن المساحة الممتدة
أمامي، وعن فضاء يوسف الساطع في السماء.
يوسف كان لا يتردد في طرح أفكاره، والتحدث بانسيابية
لم أكن أستوعب حديثه إلا بمشقة
كنتُ مجرد شخص منبهر، يرى شيئاً لامعاً مصقولاً بعناية فائقة
فيوسف قد صقل نفسه صقلاً، ورمى عثرات طريقه بعيداً عن مرماه
اتخذ الحياة سبيلاً، والإعاقة درباً
بعد حديث يوسف المطول، بعد تلك الحرب النفسية التي خضتها
اجتاحتني الغيرة وأمسكتني مطولاً من عنقي
خنقتني وجعلت مني شخصاً يرى ويسمع ويفقه
لمَ لم أفعل شيئاً واحداً صائباً في حياتي!
لمَ لم أكن أفضل منه!
لمَ لم أقاوم كل العثرات والخيبات!
وأجابه الحياة والناس الذين كانوا يحاولون إضعافي بكل السبل،
وإسقاطي في مستنقع التخاذل والإحباط
الفظاعة أن أكون شخصاً كشخصي الآن الذي أفكر به، وأنني شخص
مملوء بالحقد والغيرة
لأنني أرَى يوسف أفضل مني، وأنا لا شيء
لأنني بقيت كما أنا، أما هو فقد تغير كليّاً
استلقيت في تلك الليلة في ظلمة غرفتي والهدوء يخنقني، والألم يحفر
صدري، يشق أخاديده في نفسي
لو كان لدي القدرة على شق صدري، واستخراج قلبي وتمزيقه إلى
قطع صغيرة
لفعلت ذلك من دون تردد
لم أكن أفعل غير الضرب عليه، ولطمه لكي يخرج ألمي منه.
والندم لا يزال يجثم على صدري، فكل شيءٍ في حياتي مرتبط بالندم
وهل الندم يقال لهُ يا ليت!!!
لم تكن كلمة يا ليت لتضيف شيئاً جديداً إلى حياتي، فهي كانت ولا
تزال تلتحم بي
قضيت الليل بطوله أتقلب في تفكير مستمر لم يثمر إلا عن آمال تعد
مستحيلة بالنسبة إليّ.
|