كاتب الموضوع :
طِيفْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: و في نشوة العشق صرنا رماداً ، بقلمي : طِيفْ!
" أنا مو مـلاك "
ذلك كان الجواب الذي يتردد على لسانه ، لكل سؤال تسأله ، كانت تعرف أنه ليس جاهِلاً ليحاسبها على خطأ أخيها ، لكنه في المقابل لن يكون قادراً على تجاهل وَجـَع أخته .. قرأ الخيبة في ملامح وجهها ، تنهّد و قال : المفروض تكوني توقعتي هالجواب لأسئلتك .. ماله داعي تزعلي مني ..
عَروب : بس أنا مـالي ذنـب يا سليمـان ،
سُليمـان : عارف ، و أنا ما قلت شي ، بس أنا بعد مو مـلاك ، ما أقدر أتجاهل إنّك أخت اللي جرح أختي و قهـرها ..
عَروب تشبك أصابع يديها فوق ركبتها و تقول بتوتر : جرحها بشنـو ؟ ما في واحـد منا يعرف سبب التأجيل ، أخوي قال ظروف .. ممكن ظروف بشغله ..
سُليمـان : و هذي الظروف ما قدرت تيجي إلا قبل العرس بيومين ؟ صحيح جيهان ما قالت وش الخِلاف اللي بينهم ، بس أنا ماني مغفّل أصدّق إنه مو مزعّـلها .. و جيهـان إذا كتمت ، كتمت عشان علاقتنا ما تتأثر ..
عَروب ابتسمت ساخِرة : و يا ليت كِتمانها جاب نتيجة ، لو تكلّمت أحسن .. عالأقل أقدر ألوم أخوي .. هالحين وش بقول له ؟ زوجي قرر يأجل العرس لأنك قررت تأجل ؟
صَمت و لم يجِد جواباً لسؤالها ، أردفت : بكرا لو تزوجنا ، و جيهان تزوجت إبراهيم ، و اختلفوا .. راح تفتعل معي نفس الخِلاف ؟
سُليمـان : أكيد لا .. هذا موضوع ثـانـي ..
نهضت عَروب : خسارة يا سليمان ، و أنا اللي كِنت أقـول إن سليمان مستحيل يخلي شي يأثّر على علاقتنا ..
وصلت إلى باب المجلس ، صوته يقول بحدّة : قلت لك إني مو ملااك ، و اللي عندي قلته ..
فتحت الباب و خرجت حاملةً انكسارها و خيبتها ، و كان حِملاً ثقيلاً جداً هذه المرة .. تناول سُليمـان مفاتيح سيّارته و جواله ، و خرج دون أن يلتفت ..
،,
التاسِعة مساءًا ،
جَلست شهد ، و عبير و والدتهما في الساحة الخارجية للمنزل ، تدرس عبير موادّها ، و شهد تتابع معها بعض المسائل التي لم تفهمها ، بتعب تُمسِك أم طارِق مسبحتها و تسبّح باسم الله العليّ العظيم .. نَغَمات الغضب تقرع الباب ، بصوتٍ مُفزِع ، جعلت أنظارهن جميعها تتجه صَوب الباب بتعجب ، قالت عَبير : مين هذا اللي يدق عالباب كِذا ؟
الطرق على الباب يزداد غضباً و اضطراباً ، أم طارِق : قوموا شوفوا راح يكسّروا الباب !
نظرت إليهما شهد التي اعتادت دوماً أن تكون الدّفاع الخاص بوالدتِها و أختها الصغيرة في حال عدم تواجِد رجل في المنزل ، بأعصاب هادئة : خليكم ، لا تقوموا أنا بشوف مين ..
وَصلت إلى الباب ، تناولت حجابها المعلّق و لفّته على رأسِها بإحكام ، قالت و هي تُمسِك قبضة الباب : مـين ؟
صوت حانِق من الخارج : الأمـن ..
تنهّدت بملل ، فتحت الباب و اختبأت خلفه و هي ترى أهل الحارة متجمّعين ينظرون صوب بيتهم ، مدّت رأسها و قالت بلهجة باردة : أمـر ؟
يَحيى رَفَع حاجباً : إنتِ هِنا بس اللي تفتحي الباب ؟ ما في رجال يفتح ؟
بغضب ، و بحدّة أجابت : والله مالَك علاقة ، إنتَ تارِك شغلك عشان تشوف في رجّال في بيتنا أو لا ؟ يا ليت تقول ليش جاي ، و باختصار ، و خليك محترم نفسَك لا أعلّمك الاحترام ..
نَظر عزيز إلي يَحيى ، و لوهلة شعر أنه سيُطلِق النّار عليها لما قامت به من إهانةٍ تجاهه ، عضّ يَحيى شفّته السفلية كأنه يُخفي انفعاله ، بهدوء لا يعكِس ما بداخله ، جعلها تبتسم في داخلها على جرأتها ، قال : طارِق وينه ؟
شهد : مادري ..
أخرَج سيجارة ، وضعها في فمه : شوفيلي في أي داهية خليه يجي فوراً ..
شهد : اسمع يا حضرة الضابط ، أنا مو شغلتي أنفّذ أوامرك ، دام إنّك محقق و فهيم ، استخدم قوّتك علشـان تجيبه ، مو تيجي على بيوت الناس بأنصاف الليالي تدقدق على الحريم !
صَرخ صرخة جعلتها تنتفض في مكانها : بــــــنـــت !! احترمي نفسِك أنا ساكِت لأنّك بنت !
أوقَفهم صوت طارِق من الخلف : خير يا سيد يحيى ، وش تبي ؟؟
انسحبت شهد ، أغلقت الباب و دخلت متأففة و هي تنزع الحجاب عن رأسها ، التفت يحيى إلى طارِق ، و قد فهم من نظراته أنه قد علِم بما أخبر فهد ، سأله بهدوء و هو يسحق سيجارته بمقدّمة حذائه : وين كِنت يا طارِق ؟
أخذ نفساً عميقاً ، أجاب و هو يعرف أنه لا جدوى من الكذب الآن : مع فهـد ..
ابتسم يحيى ابتسامة لا تُنبئ بالخير أبداً ، اقترب منه ، قال و هو يفتح ثلاث أصابع للحلفان ، و بلهجة تهديدية : والله ، بعلّمك شلون تلعب على يحيى الغانِم ، والله لأخفيك عن وجه الأرض ..
صَرخ بحدّة : عزيـز ..
عزيز : آمر طال عمرك ،،
أشار إلى طارِق بسبابته : خذوه ..
ابتعد عنهم ليدخل في سيّارته ، كبّل عزيز يدي طارق ، الذي كانت تدور في رأسه علامة استفهام واحدة : كيف عرفوا بهذه السرعة ؟
،,
في الجهة الأخرى ، لم يكن يبدو عليه التوتّر مما قاله فهد قبل ساعات ، يجلِس خلف مكتبه براحة ، يضرب بقلمه فوق الطاولة ، يكمل حديثه : هذولا الشّركة داخلين مناقصة مع شركة عمّـك عـمـر ، و المَطلوب إن عمر يكسَب المناقصة ..
فهد : آهـا ، و أنا شـلون بخليه يكسبها ؟
تنحنح سُلطان ، خرج من خلف مكتبه و وقف أمامه : الشركة هذي ، مديرها يكون صديقي ، و في بيننا صلة قرابة بعيدة .. و أنا رح أكلّمه كـواسطة عشان يوظفك عنده ..
صَمت فهد ، منتظراً سُلطان ليُكمل كلامه : طبعاً سَبق و قلتلك إن ما في أحد يدرى بعلاقتي بعُمر .. و هذا أهم شي أبيك تكون منتبه له ..
هزّ رأسه بالموافقة دون كلام ، أردف سُلطان : راح تتوظّف في قِسم المحاسبة و الماليّة ، و بالتالي رح تحضر كل اجتماعاتهم ، و من ضمنها الاجتماعات اللي تخص المناقصَة .. و المطلوب منّك ، تبلّغنا بالرقم ، اللي رصدته الشركة لهذي المناقصة ..
أخذ نفساً عميقاً ، تساءل بعدها : طيب ، و فرضاً ما قبلوا يوظفوني ، وش بيصير ؟
ابتسم بدهاء : راح يقبَلوا ، أولاً إنت شهادتك الجامعية ، محاسبة .. ثانياً الواسطة ممكن تسوّي أمور عقلك ما يتخيّلها .. و ثالثاً ، في موظّف بيستقيل خلال يومين .. و راح يكون بحاجة موظف يأخذ مكانه ..
رفع حاجبيه و هو ينظر إليه باستفهام : و شلون متأكّد إن هالموظّف بيستقيل ؟
جَلس مقابله : الدّراهِم مراهِم يا وِلدي .. و اللي بيستقيل أنـا راح أكـون ورا استقالته .. بس بدون ما أحـد يدرى ..
فهـد : يعني دفعتوا كل هالمبالغ عشان تاخذوا المناقصة ؟ وش تستفيدوا ؟
سُلطان : افـا ، دارس محاسبة و ما تدري ليش الشركات تبذل كل مجهودها لربح المناقصات ؟
صَمت بجهل ، أردف سُلطان : ما عليك ، المهمّة هذي أتوقّع إنها أسهل من الأولى ، و نَصيبك منها محفوظ .. و بعد ما نخلص من موضوع المناقصة ، راح تداوم بالشركة مثل أي موظف ..
فهد : ممكن يعرفوا إني أنا الجاسوس ،
سُلطان : ما راح يعرفوا ، إنت مو قاعِد تشتغل مع أغبياء !
نهض من مكانه ، أدار ظهره : المقابلة انتهت ..
ظل فهد جالساً في مكانه ، لم يسمع سُلطان أي حركة في الخلف تدل على رحيله ، التفت : قلت لك المقابلة انتهت ، وش تبي ؟
ظهرت ابتسامة جانبية على شفتيه : ولو ؟ دفعـة عالحساب ..
رفَع سُلطان حاجبه و قال بغيظ : والله ؟
فهد : أنا بدون دراهــم ، ما أشتـغـل ، و بدون دفعة سَلَف ، ما راح أشتغل ..
سُلطان : مو ملاحظ إنّك قاعِد تتجاوز حدودك ؟ و يلا تفضّل من هنا لا تصير طمّاع ، لا أنجزت المهمة بعطيك كامل حقّك ..
نهض من مكانه ، و بنبرة جادّة : شوف يا سُلطان ، تقدر تقول إن اللي واقِف قدّامك الحين ما هو فهد ، اللي شفته أول مرة ، ضعيف و مكسور ، و قليل حيلة .. هذا فهـد ثـاني ، لا تتحداني ، هذي نصيحة ..
وَصل إلى الباب ، قال بتحذير : فكّـر ، على أقل من مهلك ، و شاوِر معلّمك عُمر ، لا وافقتوا .. رقمي تعرفوه .. و غير هالكلام ما راح أقول ..
كان ليخرج لولا صوت سُلطان : فهـد ..
التفت ينظر إليه باستفهام ، أردف سلطان متسائلاً : من وين عرفت إن ولدي ضابط ؟ في مليون واحد من بيت الغانِم ، شلون عرفت إنه يحيى يكون ولدي ؟
ابتسم : كان مجرّد تخمين ، و صَاب ، و إنت أكّدت لي الحين صحّة توقعي ..
برزت عينا سُلطان الممتعض من قدرة ذلك الرجل على كَشف سرّه بحيلة صغيرة ، أكمل فهد مبتسماً : أتوقّع هالمرة ، فادني ذكـائي .. سَلام ..
خرج و أطبق الباب خلفه بقوّة ، سُلطان يحدّث نفسه بغيظ : صاير تتمرّد يا فهـد ، بسيطة .. دواك عندي ..
،,
الثانية عشر و النصف ، بعد منتصف الليل ..
تجلِس الأم بقلقها ، و الهواجِس لا تتركها ، إلا أنه المرض اللعين يفتك بها ، يمنعها حتى عن مزاولة خوفها ، جسدها يرتعش جزعاً ، تِلك الليلة الأولى التي يقضيها وَلدي الوحيد خارج المنزل ، وَلدي الوحيد ، الذي لم يكن يوماً مدللاً .. حتى اضطرابها كان هادئاً ، يتلخص في مسبحة تتنقل حباتها الصغيرة بين أصابعها المرتجفة ، يجلِس زوجها الذي لم تعهده بتلك القسوة من قبل ، مسنداً كوعيه إلى الطاولة ، يشبك أصابعه بتوتر ، و أمامهم شهد التي مشَّطت الساحة ذهاباً و إياباً عشرات المرات ، كل يعبر عن قلقه بطريقته ، أو بما أتاحت له قدراته ، عَبير التي تقرأ في كتابها بتمعن ، تزوغ نظراتها لضعف الضوء الوحيد الذي ينير المكان .. تنهّدت شهد ، اقتربت منها و هي تعرف تماماً أنها لا تدرس إنما تحاول الهرولة هرباً من خوفها : عَبير .. قومي نامي حبيبتي ..
عبير بعنادها المعتاد : ما فيني نوم ، اتركيني قاعدة معاكم ، بكرا الجمعة يعني إجازة ..
أغمضت شهد عينيها ببأس : اووف صحيح ، بكرا الجمعة و إجازة يعني أكيد ما راح يطلع بكرا !
أبو طارِق بصوت حاد : إنتِ ما فهمتِ ليش أخذوه ؟
هزّت رأسها بـ " لا " ، قالت بهمس خائف : يبه ، وش قالوا لك لما رحت المركز ؟
أبو طارِق بحيرة : ما لقيت إلا الضابط عزيز ، و ما رضي يقول لي وش مسوي طارق ..
شهد تمتمت : أكيد الموضوع يخص فهد ..
نظر إليها والدها : وش قلتي ؟
بارتباك : لا ما في شي ، بس ممكن الموضوع يخص فهـد ..
أبو طارِق : حسبي الله و نعم الوكيل ، هالفهد هذا بيجيب آخرتنا .. الله أعلم وش مسوي أخوكِ الثّور !!
شهد تفرك أصابعها بتوتر : يبه ، ماله لزوم كان إنك تضغط على طارِق عشان يسوي شي ما يبيه !
رمقها بنظرة : والله ؟ عاد مو ناقصني إلا حضرتِك تعلميني وش له لزوم و وش ماله لزوم !
شهد بخجل : لا يبه استغفر الله ماهو قصدي ،، بس أنا خايفة على أخوي !
أبو طارِق بقسوة : قومي خذي أمك و أختك فوتوا ناموا ، و هذا أخوكِ خليه يتربى في القِسم ماني سائل عنه ..
في الجهة الأخرى ، أنزل السماعات عن أذنيه و وضعهما جانباً ، تبدو الحيرة على وجهه في ظل هدوء المكان ، نظر إليه يحيى الذي يراقب تويتر فهد من حساب وهمي ، و قال : في شي ؟
تنهّد عزيز : الحقد اللي حاقده بـو طارِق على فهد غَريب .. يعني وش مبرره ؟
يحيى باهتمام : و أنا بعد حسّيت نفس الشي .. أنا حاسس إن فهـد ، و علاقته بحارته القديمة اهمة اللي بيوصلونا للقاتِل ..و هذا اللي مخليني ألاحِق فهد و تحرّكاته ..
عزيز : أتوقّع لازم نسأل ، ايش اللي مخلي بو طارق يحقد على فهد ، و بعد يحرّض ولده إنه يتجسس عليه !
يَحيى : أتوقع هالشي طبيعي ، أب لـ 3 أولاد ، و أمهم ، و المصاريف اللي ما ترحم ، و إنت شفت حالهم ، مبلغ ياخذه ولده طارق مقابل مجرّد تجسس على صديق عمره ، هو عبارة عن فَرج و نعمة بالنسبة لهم ، ولا تنسى إننا وعدنا طارق بوظيفة في جهاز الأمن .. بالنسبة لعاطِل عن العمل ، هذي فرصة ما أحد يفوّتها ..
عزيز بابتسامة : بس طارِق فوّت فرصة هالعمل ، و أبوه هو اللي كان مصر عليها !
يحيى : لأنه صديق حقيقي ، ما ينباع و ينشرى بفلوس ..
رفع عزيز حاجبه : أشوفك غيّرت نظرتك عنه .. من ساعتين خليتنا نحط الأغلال في ايديه ، و نزلناه للزنزانة ، و الحين تقول عنه صديق وفي ؟
نهض يحيى : صحيح ، و الصداقة المخلصة لها ثمن ، و اهو قاعِد يدفع ثمنها حالياً ..
عزيز يعارض كلامه : إنت قاعِد تدفعه ثمن الخصلة الكويسة اللي فيه ؟ إنه ما رضي يبيع صديقه ، قاعِد تعاقبه عليها ؟؟ لازم يكون خاين عشان ترتاح ؟
رمقه بنظرة حادة ، ارتدى جاكيته و قال : عَزيز ! إذا وفاءك لصديقك بيخليك تعرض أمن البلد للخطر ، ساعتها بيصير هالوفاء لعنة ، مو خصلة كويسة ..
عزيز بلهجة ساخِرة : أمـن البـلد ؟؟ مو ملاحظ إنّك مكبر الموضوع ؟ أنا ماني معاك أبداً ..
رفع يحيى حاجبه و بدت ملامح الغضب على وجهه : مو ملاحظ إنك ما تنعطى وجه ؟؟ " اقترب من مكتبه ، انحنى و هو يسند كفيه فوق الطاولة : " مو مطلوب منّك تكون معاي ، مطلوب تنفّذ أوامري ، و إذا كنت ديموقراطي معاك ، مو معناته إنّك تتجاوز حدودك ..
تجمّعت ملامح الامتعاض في وجه عزيز ، لم يترك له يحيى مجالاً للرد ، خرج و هو يقول ببرود : انتبهلي على ضيفنا ، الوفـي ..
عَزيز يتمتم لنفسه بعد خروج يحيى : صدقوا لما قالوا إنك مريض !
،,
رومـا ، المدينة الشّاهِدة على أوجاعِ الكثيرات .. تجلِس حسناء في الصالة رافعة قدميها فوق الأريكة ، تقلّب بالريموت كونترول في التلفاز ، و في الأريكة الخلفيّة تجلِس ريم ، و يبدو أنها في عالَم آخر ، التفتت لها حسناء التي سمِعت الكثير من التنهّدات في ذلك اليوم ، و كانت تعرف جيداً ما وراءها ، إلا أنها تجاهلت ذلك ، لأنها اعتادت أن لا تفضفض ، و أن لا تسمع فضفضة من أحد ، اعتادت أن تنسلِخ عن كونها أنثى تحكمها مشاعرها ، تساءلت : وش فيكِ ريم ؟
صمت ريم ، كان دليلاً على أنها بجسدها فقط تجلس في هذا المكان ، أما روحها .. فيبدو أنها في مكان بعيد .. كررت حسناء : هييه ريموه ، أكلّمك وش فيكِ ؟
انتفضت ريم و هي تعود لواقعها : هـا ؟ وش قلتِ ؟
عقدت حسناء حاجبيها : وين سارحة ؟؟
تحدثت و الهمّ يقطر من كلماتها : أبوكِ يا حسناء ، رافض الطفل اللي في بطني ..
أعادت حسناء توجيه نظراتها صوب شاشة التلفاز ، ببرود : و مستغربة ؟ لو كان يبي عيال ما كان أجبرك على حبوب منع الحمل ..
ريم : ماني مستغربة ، بس توقّعت إنه لما يسمع خبر الحمل يغيّر وجهة نظره ! تخيلي بيني أجهض الولد !
حسناء دون أن تلتفت : عـارفـة ..
رفعت ريم حاجبيها : عـارفـة ؟؟
حسناء : يعني شي متوقع ،، و بعدين إنتِ على طول كذا تعترضي على أوامر أبوي و في الآخر تنفذيها .. فنفذي ولا تعوري دماغي و دماغِك !
ريم بصوت خافت : مو لمّـا يكون الموضوع متعلّق بروح ، هذا ولدي .. بكرا لا تزوجتي و حملتي راح تعرفي وش معنى إنّك تجهضي ولدك اللي تنتظريه من سنين ..
ظهرت ابتسامة ساخرة على وجه حسناء ، تضحك على كلمة " تزوّجتِ ، و حملتِ " لا تظن نفسها يوماً ستكون امرأة ككل النّساء ، تكوّن أسرة و تصبح مسؤولة عن أطفال .. يبدو أن والدها قد أوكل لها مهمّة أخرى في تِلك الحياة .. رن جوال حسناء ، رفعته و نظرت باستغراب إلى الشاشة ، كان والدها المتصل ، التفتت إلى ريم : أبوي طـالع ؟
ريـم : لا ، في مكتبه ..
تمتمت حسناء : ليش قاعِد يدق علي ؟
فصلت المكالمة ، نهضت من مكانها و قالت : بقوم أشوفه ..
صعدت الدّرج حتى وصلت إلى باب مكتبه ، دخلت و كان يجلس خلف طاولته ، إنّها تعرف تماماً سبب استدعاءه لها الآن ، اقتربت : يبه .. دقيت علي ؟
رفع نظارته الطبية عن عينيه و قال : ايه يبه تعالي ..
جَلست أمامه ، قال : بكرا نازلة الجامعة ؟
هزّت رأسها بنـعم ، أردف عُمر : طيب ، بكرا لا تردي البيت قبل لا تشوفي جماعة كلية الرياضة ، خاصة اللي عندهم بطولات .. و قوليلهم عن المنشطات الجديدة اللي جبناها ..
أمالت رأسها : و تبي تعطيني عيّنة كالعادة ؟
عُمـر : أكـيد ، " أخرج كيساً صغيراً أسوداً من الدرج ، وضعه أمامها و قال بلهجة تحذير : " ما بي أوصّيكِ ، لا تتكلمي إلا مع اللي واثقة منهم .. مفهوم ؟
حسناء تحمل الكيس و تقف : مو أول مرة نشتغل .. أبغى بس أتخرج و أخلص من هالقرف اللي دخلتني فيه ..
عمر بحدّة : القرف هذا اهوة اللي خلّاكِ تدرسي جامعة ، نسيتي ؟
التفتت إليه ، ألقت الكيس أمامه بغضب : أنا بس أبـفهم ، قاعِد تشغلني بهالشغل الوصخ عشان تخليني أكمل دراستي ؟ ليش ؟ أنا مو بنتك ؟ مو مجبور فيني و بتعليمي و بمصروفي ؟؟ ليش لازم تلوثني ؟
عمر بقسـوة : لو كانت أمّك ، واحدة ثانية غير روزموند ، لو أمّـك ما سـوّت اللي سوّته يمكن كان اختلف الوضع ..
تجمّعت الدموع في عينيها : أنا وش ذنبي بغلطها ؟ ليش تحاسبني عليه ؟
نهض من مكانه : ذنبك إنك بنتها ، عيونِك مثل عيونها ، نفس اللون و نفس الرسمة ، كل ما أطالع فيهم أتذكرها و أتذكر خيانتها ..
حملت الكيس بخيبة ، بنبرة هادئة تخفي فيها ارتجاف أحبالها الصوتية المهتزّة من فيض بكاء أخفته طويلاً : مشكلتك إنك أبوي ، ماني قادرة أكرهك رغـم كل شي سويته فيني .. لأن مالي غيرك ، ماني قادرة أكرهك ، ولا أتخلى عنك ..
تركته و خرجت ، جَلس على كرسيه بتعب و طيف زوجته الأولى و عشقه الأول يمر أمامه ، إلا أنه لم يكن طيفاً ملوّناً ، بل كان طيفاً حالك السواد .. تركت خلفها قلبين جريحين ، لم يتعافى أي منهما حتى الآن ، يلعن نفسه في كل مرة يقسو فيها على ابنته بسببها ، إلا أن عينا حسناء ذات اللون الأخضر الداكن ، تذكرانه دوماً بـ "روزمـونـد " ، المرأة الوحيدة التي كَسرت جبروته ، و أطغت قلبه ، المرأة الوحيدة التي اختلست الدمع من عينيه حين تركته و رحلت لآخر .. و لم يجد سبيلاً للانتقام إلا في عينيها ، عينيكِ أنتِ يا حَـسنـاء ..
،,
الجُمعة ، ظهرًا .. مآذِن الجوامِع تصدَح بأصوات الأئمّة و الشوّارع هادئة في سكينة ، يستمع الجميع إلى خطبة الجمعة .. وَصلت إلى البيت ، نظرت حولها إلى الشّوارِع الخالية ، وصلت إلى باب المنزل ، تحدّث نفسها : أكيد الحين بيكون في الجامِع .. يا ليتني أخرت جيتي شوي !
رن جوّالها ، ذات الموديل القديم ، ارتجفت و هي ترى اسم جارتهم هُدى ، عرفت أن عبير من يتصل من جوال جارتهم ، ردّت بخوف : آلـو ..
عَبير بهمس : شهد ، وين رحتِ ؟؟
شهد : مشوار ، لا جيت أقول لك ، أبوي رجع من الجامع ؟
عَبير : لا بس ما راح يطوّل ! وش بقول له إذا سألني عنّك ؟
شهد تفكّر ، بعد ثانية : قولي إني رحت أعطي واحدة من البنات درس خاص ..
عَبير بلهجة استنكارية : والله ؟ تبيني أكذِب على أبوي عشان يكوفنني ! و بعدين أبوي عارف إن البنات ياخذون دروس في بيتنا مو إنتِ تروحيلهم !
شهد بتعجل : طيب خلاص قفلي الحين لا تأخريني ! دبري أي شي و أنا لا رديت البيت بتصرف .. يلا سلام ..
أغلقت الخط ، وضعت الهاتف في حقيبتها الصغيرة ، فركت يديها بتوتر ، بعد دقيقة قرعت الجرس بسبابتها المرتجفة ، لم تتوقّع أن يفتح هو الباب ، نظر إليها بعينين متسعتين ، و بصدمة قال : شهـد ؟؟
انخفضت نظراتها في الأرض خجلاً ، يعهدها منذ زمن غير قادرة على النظر في عينيه ، أمال رأسه و هو يحدّق بها : تفضّلي ..
صوت خجول خرج من حنجرتها بالكاد يُسمع : خالتي جواهر موجودة ؟
ابتسم : ايه موجودة تفضلي ..
دخلت بخطوات مرتجفة ، وقفت في المدخل و هي تفرك يديها بتوتر واضح ، تساءل : صاير معاكم شي ؟
رفعت نظرها إليه ، لوهلة شرد ذهنها و هي تتأمل ملامحه التي تغيرت كثيراً ، إنك تصبح أجمل ، لكنّك مختلف .. كأني أقابلك للتو ، أرى وجهك الأسمر للمرة الأولى ، و ذقنك المرسومة ، نصف الغمازة في خدّك الأيسر التي بالكاد تظهر حين تبتسم ، أفاقت بسرعة من شرودها و قالت : بصراحة أنا ،، مابي أشغلكم معانا ، توقعت تكون في الجامِع بس ..
فهد بخجل : ما لحقت الصلاة ، تأخرت في النوم ..
أرسلت نظرة خاطفة معاتبة له ، تغيّرت كثيراً يا فهد ، لم تفوّت يوماً فرضاً ، كنت ترافق طارق إلى المسجد دائماً ، فما الذي تغير الآن ؟
تنهّد فهد : قولي يا شهد وش صاير ؟
شهـد : الأمن أمس ، أخذوا أخوي طارق و للحين ما رجعوه ..
تكتّف عاقداً حاجبيه : عَـشاني ؟
شهـد : مادري ..
مشت بسرعة نحو الباب و هي تقول : ما أقدر أتأخر أكثر ، قلت يمكن تقدر تساعده ، أبوي ماهو سائل و أنا خايفة عليه ، عن إذنك ..
فتحت الباب و همّت بالخروج ، قال فهد : شـهد ..
التفتت إليه ، أردف : أعطيني رقمك ، بدق عليكِ لا صار شي مهم ..
شهـد بتردد : بـس ..
فهـد : لا تخافي ، مستحيل أزعجِك ، ما بدق إلا لا صار شي مهم ..
،,
خَرج من الجامِع متجهاً إلى المركز ، وصل و دخل مسرعاً إلى مكتبه .. كانت الغرفة خالية إلا من عزيز الجالِس خلف مكتبه و يقوم بطباعة أوراق أمامه على الكمبيوتر ، خَلع جاكيته و هو يوجّه كلامه لعزيز : أشوفَك مداوم اليوم ؟
تجاهل عزيز كلامه و لا زال حاملاً في داخله على كلام يحيى في الأمس ، أما يحيى فقد نسي تماماً حالة الفصام التي أصابته .. استمر بالطباعة ، وضع يحيى مسدّسه فوق الطاولة ، اقترب و هو يعقد حاجبيه و يرسم ابتسامة على وجهه : عزوز ، وش فيك ما ترد ؟ أقول ليش مداوم ؟
عزيز ببرود و دون أن ينظر إليه : عندي شغل ..
يَحيى : كلّمت طارِق ؟
بنفس البرود : لا ..
ارتفعت نبرة صوته ، و قال بملل : عزووز و صمخ ! وش فيك تتكلم كذا ؟
التفت إليه و هو يرفع حاجباً : والله ؟ ناسي كلامك أمس ؟
شرد دقيقة و هو يتذكر ما حصل في الأمس ، تذكر كلامه ، ثم ضحِك : هههههههههههه لا تكون زعلان مثلاً ؟
عَزيز : ماني تافه علشان أزعل ، بس مو غلط يكون في بيننا احترام !
يَحيى مازحاً : والله أنا مو محترم تحمّلني..
اكتفى عزيز بالسكوت ، أعاد نظراته لشاشة الحاسوب ، وقف يحيى : يلا قوم بلا ولدنة خذ طارِق لغرفتي اللي أحبهاا،،،
دقائق ، كان طارِق الواضِح على عينيه أنه لم ينَـم طوال الليل يجلس في الغرفة الخاوية إلا من طاولة صغيرة و كرسيان ، دخـل يحيى إلى الغرفة ، بدأ يطقطق أصابعه كَمـن يستعِدّ لأمر ما ، جَلس على الكرسي و قال بهدوء : شلونَك يا طارِق ؟
كانت نظرات طارِق هي الرد ، إنما اكتفى هو بالصمت دون إجابة ، قال و هو يحكّ ذقنه بسخرية : إن شاء الله تكون ارتحت في النومة ؟
استمر في صمته المستفزّ ليحيى ، مسح فمه بيديه و استقرت كفه على رقبته ، ثم قال : ما راح ترد ؟ عيب ، تارِك إجازتي و جاي عشـانَك ..
طارِق بصوت مبحوح : شتـبـي ؟
أمال رأسه و هو يرفع حاجبيه قال بحدّة : تكلّم باحترام ..
طارِق يتأفف : واضِح إنك قاعِد تدوّر مشكلة !
اعتدل رأسه و قال بغضب : طـارِق !! مفكر نفسك مع خويك ؟؟ تكلّم بأدب !
ابتسم طارِق و زاد في استفزازه ليحيى ، بدأ الغضب يشع من عينيه ، رغم أنه كان متوقعاً لما سيحدث ، إلا أنه لم يكن يتوقع أن يغضب إلى تِلك الدرجة ، كوّر قبضة يده و لكمه على أنفه ، أسقطه عن الكرسي و أسال منه الدم ، نهض طارِق و هو يمسح دمه بكم قميصه ، ينظر إليه بنظرات حاقدة ، اقترب يحيى و شدّه من قميصه ، و قال بصراخ : قاعــد تلــعب معــاي ؟؟ منــت عــارف وش ثـمـن اللعـب معــاي ؟؟
طارِق بلهجة تحدي : قلتلك مابي أشتغل معاك و إنت أجبرتني ، مستحيل أخون صديقي ..
تركه و ألقاه على الكرسي بقوة و قال بغضب : صديقــك ؟؟ صديقك اللي ما سأل فيك من أمس ؟؟ وينه صديقك ؟؟
طارِق : مالك علاقة ..
لكمه مجدداً على فمه ، لكمة أقوى جعلته يبصق الدم ، أخذ يسعل بقوة ، دخل عزيز على صوت الصراخ ، انصدم من الدم الذي يسيل من وجه طارِق و قال : يحيى وش تسوّي !!!
كاد أن يقترب من طارِق مجدداً ، وقف عزيز في وجهه ليمنعه من الاقتراب ، أشار يحيى بسبابته : والله ثم والله يا طارِق إني بعلمك شلون تلعب مع يحيى الغـانِم ، والله بندّمك عاليوم اللي جيت فيه !
عزيز يصوت منخفض : يحيى إنت وين عقلك معقول اللي مسويه بالرجال ؟؟
طارِق : إنتوا كنتوا سامعين كل شي ، و سمعتوا وش قال فهد ، لو كان مسوي شي كان قال و كنتوا سمعتوا .. روحوا جيبوا اللي قتل العم مشعل و حاسبوه ، مو قاعدين تتبلوا ع ناس مالها علاقة ، و تحققوا مع وِلد الضحية بدال ما تشتغلوا عشانه !
ابتسم يحيى بغيظ : ممتــااز والله ، حضرتك بتعلّمنا شغلنا !!
أحكم عزيز قبضته على ذراع يحيى ، جرّه خارجاً : خلااص ، هدي أعصاببك ! ما يصير كذا وش مسوي الرجال عشان تضربه و تهينه ؟؟
يحيى بتوتر : والله بربيه ، والله بربييه !!
،,
ظهيرة روما الملطّخة بالدماء ، خرجت من الحمّـام مرتدية روب نومها الحريري الأبيض ، تضع يدها على بطنها الذي يعتصر ألماً ، تذكّرت كأس العصير الذي قدّمه لها عُمـر صباحاً ، نَزلت على الدرج بحركات بطيئة و هي تضغط بكفيها على بطنها ، وصلت إلى نهاية الدرج و لم تقاوم الوقوف أكثر ، جَلست بتعب و العرق يتصبب من جبينها ، شعرت برطوبة روبها تحتها ، مدّت يدها المرتجفة ، تحسست روبها ، رفعت يدها لتراها .. شحب وجهها و اصفرّ لونها و هي ترى دماً مائل لونه إلى السواد يغطيها ،ارتجف فكّها ، بدأت تبكي و تعتصر ألمـاً بصوت غير مسموع ، بحروف متقطعة تحاول أن تنادي الخادمة لكن صوتها بالكاد يخرج من حنجرتها ، تصبب العرق من جبينها أكثر ، ثم سقطت مغمى عليها ..
خلال دقائق دخلت حسناء العائدة من جامعتها ، سقطت حقيبتها أرضاً و راحت تركض إلى ريم الملقاة إلى جانب الدرج ، جلست على ركبتيها : ريــم ! ريــم سـامعتني ؟
بدأت تضربها كفوفاً خفيفة على خدّها ، فتحت عينيها ببطء ، نطقت بصعوبة : أ أبـ ـوكِ !
انتفضت بخوف و هي ترى الدم يلوّن الأرض تحتها ، رفعت جوالها بيد مرتجفة ، و اتصلت بالحارس " عَـابِد " ..
،,
,،
ابتعد عنها ، وقف أمام النافذة و قال بنفاد صبر : إنتِ قاعدة تبالغي و هالشي ما ينحمل !
،,
,،
وَقف أمامه بنظرات خجولة ، رأسه في الأرض ، رفع يده و صفعه على وجهه : طول عمرك فاشِل ، و ما تعرف مصلحتك .. الشرهة علي اعتمدت عليك و اعتبرتك رجال !
،,
,،
انتهى ()
أتمنى أن يَنال البارت إعجابكم ، لا تنسوني من آراءكم ، تعليقاتكم الجميلة ، و صالِح دعائكم ..
نلتقي الجمعة القادمة بإذن الله .. في حفظ الرحمن ()
طِيفْ!
|