كاتب الموضوع :
وطن نورة ،،
المنتدى :
الروايات المغلقة
أتمنى لكم يوم جميل و قراءة ممتعة مقدما ❤
# الفصل الثالث والعشرون،،
" غُصنْ، وأَلفُ عصفُورْ "
.
.
.
كان المكان يغرق بأجواءٍ حميميةٍ باعثةٍ على الاسترخاء ومفعمة بالدفء، بإضاءةٍ خافتةٍ وشمعةٍ عطرية تراقص لهيبها في كأسها الزجاجي الأنيق بشريط حريري ملفوف في منتصفه كان مصدرًا لرائحة الورود والبرتقال الدافئة التي انتشرت بجنون في أرجاء الغرفة الواسعة.
صرفت سارة التي كانت تجلس على أحد أرائك الجلسة الجانبية في زاوية غرفة نومها نظرتها الشاردة بعيدًا عن فتيل الشمعة المتراقص لجهازها المحمول على الطاولة أمامها، تنظر لشاشته بعبوسٍ طفيف وضيق كان واضحًا على ملامحها الرقيقة ومن حولها تتناثر الأوراق التي كانت تحاول باستماتةٍ أن تشغل نفسها بالمكتوب فيها رغم أن عقلها توقف تمامًا بعد مكالمة ابنها حاكم والخبر الذي أتى به قبل أكثر من نصف ساعة.
كان العبوس طفيفًا لكن سرعان ماتحوّل لذعرٍ وهلع عندما فُتح الباب بقوة، يدخل فهد مقتحمًا بدخوله المكان, بملامح تختنق بظلمةٍ مريعة جعلت قلبها يتوقف عن النبض، تسأل بأنفاسٍ مسلوبة: بسم الله وش صاير؟
تقدم فهد ناحيتها بخطىً تائهه تبحث عن يديها ونظرة تلتمع بالدموع، فكررت سارة السؤال بوجل وهي تشد على كتفيه المتراخيان عندما تهاوى جالسًا بانهزامٍ فضيع، تبكي رغمًا عنها وكل فكرة سوداء عصفت بها، غير قادرة على منع نفسها من البكاء أو التوقف عنه والتقاط أنفاسها وهي تسمع صوت أنفاسه الثائرة كالبركان وترى ارتعاش فكيه وخط الدموع الذي شق خديه بضعفٍ ووضوح.
احتضنته بقوة وفزع وكأنها تريد أن تأمن فزعه، ضمّت رأسه لصدرها ما إن خرجت شهقةٌ عنيفةٌ من أعماق قلبه شقّت قلبها وأحرقت جدرانه.
انفجر فهد يبكي ببكاءٍ مُرٍّ أليم ما إن شعر بذراع أمه الحانية تطوقه، تتسلل رائحة عطرها الخفيفة لأنفه، تعطيه الضوء الأخضر ليجهش بدموعٍ حارةٍ حارقة كان يحبسها قبل أن يصل لها حتى خنقت روحه، لتسقط تباعًا دون خجل، دون توقف، وكأن صنابير عيناه جميعها مفتوحة. الدموع التي كانت عزيزةً في يومٍ ما صارت بلا قيمة، فقلبه الذي ينبض بين جوانحهِ ذاق من الألم والحزن ما الله بهِ عليم،
أصبحت الدموع التي لا تليق برجلٍ مثله تغلبه وتتفوق عليه بسهولة مهما حاول أن يسيطر عليها أو يكتمها بداخله حتى تموت.
كان فهد كعادته يبكي لها مايسوؤهُ بدون قيود، ويشكي لها مايؤلمه بدون حدود، وكأنها بقبلاتها التي وزعتها على شعره بعشوائية وسرعة تكاد تغرقه بها، قادرة على إصلاح كل هذا الخراب، واخماد كل هذه النيران وترميم كل هذه الشروخ،
هي الوحيدة التي كلما ضاقت به الدنيا الواسعة بسمائها وأرضها ركض لها، لتشد عليه، وتُسمِعه مواساتها التي يحتاجها دائمًا دون أن تنطق بها حتى "لا تبكي.. لا بأس.. سأبكي عنك"، "لا تضعف.. لا بأس.. سأضعف عنك"، "لا تحزن.. لا بأسَ لا بأسْ، واللهِ سأحزنُ عنك".
شعرت سارة بأن صاعقةً نزلت عليها ما إن وصلتها كلماته بنشيجٍ موجوع شعرت معه بأن كل شيء يقع عليها دفعةً واحدة, الحزن، الخيبة، الصدمة والألم، الكثير والكثير واللهِ الكثير من الألم.
أبعدته عنها قليلاً، وتسمّرت نظرتها المذهولة والمصدومة لثوانٍ في وجهه، ترمش بعدم استيعاب، تتعلق الدموع بأهداب نواعسها وتسقط بدون تصديق، بإنكارٍ وجزع واضح وهي تنظر لعينيه التي ذابت بأدمعه وأصبحت كحفرتين من الدم من شدة احمرارها، تنظر بتساؤل يشوبه أمل وكأنها تنتظر تكذيبًا منه. تشعر بقلبها يهوي، تقسم أنّ قلبها هوى واقعاً حتى تهشّم حطامًا تحت أقدامها.
ضمّت سارة وجهه بين كفيها بحنو، ومسحت بهما العبرات التي سقطت من عينيه، وليتها تستطيع أن تنتزع الكم الهائل من قلة الحيلة التي لوّنت صوته عندما همس ببؤسٍ راجف وهو يربت على صدره يشكو بفزع: يمه أحس.. إني أختنق، قلبي بيوقف.. ماني قادر أتحمّل قلبي يوجعني يووجعني يمه...
لم تحزن سارة في حياتها يومًا كحزنها في هذه اللحظة، في هذه الثانية وهي ترى انطفاء الحياة في عينَي ابنها، وكأن فؤاده أصبح مظلمًا بعد محاولاتٍ عديدة من البقاء صامدًا في وجه الظلام، تخرج من بين شفتيه آه طويلة مرتعشة، آهةٌ من قلبِ إنسانٍ متعب تجاذبته الهموم وتنازعته وعبثت به.
حاولت سارة أن تستعيد أنفاسها و رباطة جأشها وأن تهدّئ نفسها وتبتلع علقم ومرارة الحزن مؤقتًا على الأقل، فآخر مايحتاجه فهد الآن هو أم ضعيفة بقلبٍ مكلوم تصعّب في وجهه الحياة أكثر.
لكن قلبها المكلوم ذاته لم يعد قادرًا على تحمل كل هذا، غير قادرة على تصنع القوة أكثر وهي ترى العجز والضياع يتخلل الأعين الحزينة التي كانت مصدر بهجتها طيلة حياتها.
تكدست الدموع حتى ضببت رؤيتها، وخرجت نبرتها مهزوزةً ضعيفة من بين شفتين ترتعشان بضعف علها تداري شيئًا من بقايا قلبه وهي تمسح وجنتيه بابهاميها بخفه: خيرة.. خيرة حبيبي فهد أكيد خيرة.
فهد وقد استبد به اليأس والحزن، نطق بجزع: وين الخيرة بكل هاللي قاعد يصير لي يمه؟..
صمتت تبحث عن صوتها لكنها لم تجده، فارتعش فكه وهو يتشبث بمعصميها بضياع، يهتف والف شهقه قاطعت نبرته التائهة: يمه.. يمه.. يمه...
ثم عاد يجهش باكيًا بحسرة من واقعه الذي يعيشه: اااه يمه, أحس إني أنا الوحيد اللي قاعد يخسر كل شي بحياته،، ماشفت بعمري غير الحزن حتى فرحتي ناقصة يمه... والله ماعاد بي حيييل تعبت وأنا أكابر واضغط على نفسي والله تعبت..والله العظيم تعبببت....
شعرت سارة بمعصميها يُطحنان في قبضته التي كانت تشد عليها بقوةٍ دون شعورٍ منه، وعادت تحاول مسح دموعه التي كانت ولازالت تكسرها في كل مرةٍ تراها تهطل من عينيه الحبيبتين، تحاول أن تقوّي نبرتها ونظرتها وهي تنقل بصرها بين مقلتيه، تنطق بثبات علّ صوتها يصل لأعماقه رغم يقينها بأن ولا كلمة تُقال قادرة على أن تهوّن عليه خسارته: حبيبي فهد الخيرة اللي اختارها ربي لك أبعد من مد نظري ونظرك و....
قُطعت نبرتها ما إن اُثقلت، وسكتت تبتلع غصتها وهي تحاول باستماتةٍ أن تلحق بما يقع من عينيه قبل أن يأخذ طريقه لمنتصف خده، تهمس بشجن ونبرة تغرق بالعبرة: فهد أنت تدري إني أحبك ومافيه أحد بالعالم ذا كله يحبك أكثر مني، وتدري إن ضلوعي لك سيوف وإني مستعدة أحميك وأفديك بروحي ولا يصير لك شي، وأخاف عليك وأموت من الخوف وأحن عليك بشكل محد يتصوره. لكن ربي يحبك أكثر، وقادر إنه يحميك أكثر وأرحم وأحن عليك مني أكثر وأكثر. لا تجزع حبيبي الموضوع يكسر القلب أدري، ويهد الحيل والله العظيييم أدري، بس مالك يد فيه. هذا قدرك ولازم تؤمن به وترضى فيه، وتأكد إن ربي سبحانه مايريد بك شر ومامنع عنك إلا عشان يعوضك ويعطيك، ربي ماينساك وهذا يكفي، ومايظلمك ولا يكرهك، ومستحيل مستحيل مستحيييل يخذلك لو خذلك العالم كله،، وكن على ثقه بأنه يسمعك ويلطف فيك وبقلبك وأحرص عليك من نفسك.
هز فهد رأسه وهو يشعر بأصابعها تربت على خديه، تطبطب على قلبه الذي أكل القنوط جدرانه، يهتف بنبرة يائسة وصوت أبح: أنا عارف كل ذا يمه، عارفه ومتأكد منه،، ب بس.. بس ماني قادر أجبر قلبي به أنا أ أ.. أنا والله... والله أحس إني بموت.. بمووت بمووت وصدري بينفجر.
قالها وهو يضغطُ على أضلعه بكفه بقوةٍ وألم وكأنه يريد أن يهدّها على أحزانه كلها.
فرطت دمعة بتمرد من عينَي سارة وهي تشده لها، تهمس بأنفاسٍ متهدجة: بسم الله عليك ياحبيبي أنت، بسم الله عليك ليته فيني ولا فيك ياحبيبي أنت.
نطق فهد بضعف: أنا خسرت كل شي، كل شي..غادة إن درت بتطلب الطلاق يمه، مستحيل ترضى تستمر بحياة ناقصة معي.
مررت أصابعها على شعره، تقبل رأسه أكثر من مره، تتمتم بين قبلاتها علها تريحه: مستحيل، غادة ماهي كذا أنا أعرفها زين...
قاطعها فهد وهو يبتعد عنها، ينظر لوجهها ناطقًا بغصة ووجع وهو يشير لنفسه بيدٍ ترتعش: وأنا أعرفها زين، أنا بعد أعرفها زين بس هي اللي ماتعرف عني شي، يمه غادة ماتعرفني.. أنا ضحكت عليها من البداية، غشيتها فيني ولو عرفت إنها تعيش بخدعة معي مستحيل تسامحني... أنا..
تحركت شفتاه دون أن يخرج صوته، لايجد شيئًا يصف الخيبة والخذلان وكل مايشعر به. تعب، إلى متى سيستمر هذا الحزن معه!!.. ليكتفي بالعض على شفتّه السفلى التي عادت ترتعش بوهن حتى كادت تتمزق من شدة ضغطه عليها بأسنانه.
ابتلعت سارة ريقها المثقل بالعبرة، تهتف بنبرةٍ مغرقةٍ بأسىً عظيم وهي تمسح من على وجنتيه آثار دموعه بشفقة، تكره ضعف فهد ويقتلها انهياره وتعلم أنه إن بكى فإن السبب فاق طاقته وكبرياءه وشموخه وحدود الصبر عنده، فدمعة الرجل مهما اختلفت الأطباع والمجتمعات ليست بالرخيصة الهينة، هذه الدموع التي تكون أشد التهابًا من النار لم تخرج إلا من قلبٍ مهلوك أنهكه الحزن، وحُزن فهد وهمومه ليست عاديةً تنتهي بمجرد الفضفضة....: أنت..؟
نطق فهد بندم عله يخرج القليل من الحسرة التي تملأ قلبه: أنا ظلمتها، أخذتها وسحبتها معي لحياة مشوهة، حياة متدمرة حياة من البداية غلط.
نهرته سارة بقوة وغضب منه عليه: ماهي غلط.. حياتك ماهي غلط وأنت ماعمرك كنت غلط يافهد... أنت مُبتلى والله لأنه يحبك ابتلاك...
توقفت أنفاس ريم بعد أن سمعت شكوى فهد الباكي في لحظة ضعفٍ وخنوع، درعها وحصنها الذي لا يقتحمه أحد كان يبكي وكأنه طفل اُخذت منه لعبته..يبكي ويبكي ويبكي لوالدته التي تحاول باستماتةٍ أن تهدّئ وقع المصيبة عليه، لكن فهد كان غارقًا بها لا يَسمع إلا صوته المرتفع الذي لم يحاول أن يتحكم به حتى.
ارتجف فكها بتأثر، وشعرت بترقرق الدموع يحجب عنها الرؤية، تحس وكأن كتلة من الحزن تعلق في حلقها.. ولن يبعدها البكاء.. ابتعدت عن المكان بسرعة وقلبها يكاد يتمزق ما إن سمعت صوت والدتها الباكي بقلة حيلة وهي تحاول تهدئة فهد، وصوت فهد المخنوق بالعبرة يسأل: ليه أنا من بين كل هالناس الوحيد المبتلى يمه؟
خرجت لساحة المنزل وهي تشعر بأن لا أرض تسعها ولا سماء، الكون كله يضيق عليها ولم يعد يسعها من ضيق فهد وحزنه. تنحني، تشعر بثقل الجبال يقع على أكتافها، كمية الحزن والأسى والشفقة التي ضربت قلبها لا ترحم، لا تُحتمل، وبكاءه بضعفٍ هكذا وهو مصدر قوتها كسرها للحد الذي لا جبر بعده.
احتاجت ريم مايقارب العشر دقائق حتى استطاعت أن تسيطر على مشاعرها ونفسها، بالكاد استطاعت ذلك خصوصاً وأن وجه فهد وابتسامته التي تصل لعينيه دائمًا وتذيب القلب من عذوبتها كانت تتراءى لها بين دموعها وتُضعف قلبها ونبضاته.
وعشر دقائق أخرى قبل أن تضرب باب شقة حاكم الذي أتاها صوته مرتفعًا: ادخلي الباب مفتوح.
فتحت الباب ودخلت، واغلقته بهدوءٍ وصمت ونظرتها لم ترتفع عن الأرض.
كان حاكم يتمدد على الأريكة، يتابع اقتراب ريم بتفحص وكأنه يريد أن يستشف شيئًا من ملامحها لكن المهمة كانت شبه مستحيلة خصوصًا وأنها مطرقة الرأس هكذا.
اعتدل جالسًا، يسأل بتوجس ما إن جلست على الأريكة الأخرى بثقلٍ واضح: وش فيك تأخرتي؟
أخذت ريم نفسًا عميقًا وأطلقته بزفيرٍ مكتوم قبل أن ترفع عينها له، تهتف بصوتٍ محتقن: انشغلت شوي.
انتبه حاكم لإحمرار أجفانها وكأنها أفرغت مخزون الدموع كله قبل أن تأتي له، فسأل بشك: أمي كلمتك، قالت لك شي؟
ابتلعت ريقها وهزت رأسها تنفي وهي تصرف بصرها عنه ما إن رأت نظرة عينيه المتفحصة باهتمامٍ واضح. صوته عندما طلب منها أن تأتي لبيته لم يعجبها أبدًا وكأن هناك مصيبة لكنها استبعدت أن يكون الموضوع يتعلق بفهد فكما يبدو أن حاكم لا يعرف، ولم يأتي في عقلها أي موضوع آخر وكأن الاحتمالات جميعها تلاشت واختفت.
طال الصمت قليلاً، فسألت وهي لا تسمع إلا الهدوء: شكل جادل ماهي فيه!!
حاكم بهدوء : راحت بيت خالي.
زفرت بتوتر : طيب وش السالفة بالله؟ وش تبي أعصابي تلفت.
حاكم بعد ثانية صمت: عبدالله كلمني.
أنار مصباح أعلى رأسها وارتفع حاجبيها بمعنى "اها" صامتة. بالتأكيد الموضوع يتعلق بها وبعبدالله.. كيف راح عن بالها عبدالله؟
حاكم بذات الهدوء: يقول طلعت نتايج التحاليل.
رمشت بتركيز تنتظر الباقي من كلامه، لكنه سكت. بل أنه قام من أريكته ليجلس بجانبها مما جعل نبض قلبها يضطرب من فرط التوتر.. فسألت بضحكة باردة: وش النتيجة طيب؟ لا تقول طلعت مو بنتكم ههه!!.
لف حاكم يده حول كتفها وقربها له، يقبل رأسها بحنانٍ ودون تعليق.
خافت من هذه المعاملة التي لم تعتدها منه أبدًا ليصور لها عقلها كارثةً فورًا.. فسألت بصوتٍ مقطوع وهي تبتعد عنه: وش طلع؟
لم يجد حاكم صيغة مناسبة ليخبرها بما دار بينه وبين عبدالله على الهاتف، تكفيه نبرة عبدالله الضائقة في تلك اللحظة وهو يخبره بعدم توافق نتائج الفحص الطبي وأن كلاهما حاملان لمرض وراثي في الدم سيصيب أطفالهما في حال زواجهما وإنجابهما والقرابة القوية بينهما تعزز ذلك.
حاول حاكم أن يواسيه في لحظتها رغم الضيق الذي شعر به: معوضين خير إن شاءالله، لا يضيق صدرك ياخوك الله بيرزقك ببنت الحلال اللي تسعدك وتجبر خاطرك والله بيعوض ريم ولو إن اللي مثلك ماله عوض يابو علي.
عبدالله بتنهيدة محبطة : الحمدلله على كل حال، قدر الله وماشاء فعل.
ضحك حاكم ببؤس وقال متصنعًا المرح: اللهم قوي إيمانه.
لم يضحك عبدالله بل نطق بنبرة مكتومة فالحلم الجميل بالزواج والاستقرار انتهى بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من أن يتحقق: يارجّال ما باليد حيلة مير الحمدلله.... يلا لا أطول عليك سلم على اللي عندك وخلنا نشوفك لا تقطع.
ابتلع حاكم ريقه، وهدأت نبرته حتى أصبحت ساكنة من أي حياة وهو يرى التماع سطح عينيها: النتايج ماتطابقت.
سكتت ريم قليلاً وهي تحدق به بدون فهم، تترجم الكلام بطريقتها الخاصة في عقلها علها تستوعبه قبل أن تقول بضحكة مرتجفة: ماتطابقت!!!... هه أشوى ياخي والله خرعتني قلت طلع فيني بلاء ما أدري عنه واكتشفوه بالتحاليل.
ابتسم حاكم ابتسامة مقتضبه وهو يتأمل ملامحها التي احتقنت بشكلٍ واضح، يهتف بأسف: الله يعوضك باللي أخير منه. توك صغيرة والعمر قدامك واللي خلق عبدالله خلق غيره.
هزت رأسها تؤيد قوله رغم أن داخلها ينكر ذلك، تحطمت لا تنكر حتى وإن لم تكن هناك مشاعر قوية بينها وبين عبدالله، لكن كانت هناك آمال وطموحات تحلق بين جوانحها تولدت في قلبها رغمًا عنها عندما رأته هو وابتسامته البشوشة وشخصيته الجذابة ينتظرونهم أمام باب المستشفى.
لكن للأسف، تلاشت الأحلام والطموحات والآن فقط انتهى كل شيء قبل أن يبدأ حتى.
فركت وجهها بكفيها بقوة علها تبدد الثقل الذي تسلق ملامحها بعد خبرٍ كهذا، وكأن فهد وحدة لا يكفي: أبوي درى؟
هز حاكم رأسه بالإيجاب، ينطق بخفوت: مم.. درى.
تقوست شفتيها بأسى: وش قال؟
رفع حاكم حاجبًا باستنكار، وهتف بصوتٍ هادئ: قال الحمدلله، وش بيقول بعد!
ريم بعبوس: حبيبي تلاقيه ضاق صدره كان متحمس يبي عبدالله.
حاكم بضحكة خفيفة ونبرة مشاكسة على أمل أن يغير جوها: والله كلنا كنا متحمسين ونبيه كان بيخلصنا منك الله يجزاه خير بس بعلك شكله للحين يهجول بحصانه ماهو قادر يدل طريق البيت.
ابتسمت بضيقٍ وتكلّف، تستظرف وكأن لا بؤس في أعماقها: والله الطريق واضح قدامه بس شكله جايني على حمار.. الحمار.
ثم أردفت ما إن ضحك حاكم: وش الخطة الحين؟
عقد حاحبيه بعدم فهم، لتتابع : ارسلوا لي ملف المتقدم اللي بعده لا نضيع الوقت.
ضحك : والله إلى الآن عبدالله كان الوحيد اللي على رأس القائمة، لكن ولا يهمك بشوف لك حدا عيال الاستراحة.
كشرت في وجهه وقالت بإزدراء: لا تكفى ما أبي من سلق الاستراحة أبي واحد مهندم.
رفع حاجبه بتهكم: سلق بعينك ذولي طيور شلوى.
لوت ريم فمها بامتعاض: قل لي من تصاحب أقول لك من أنت.
حاكم بعبوس: ماشاءالله وش هالدرر الله لا ينطقك إلا بالح...
سكت ولم يكمل باقي كلمته عندما شعر ببللٍ دافئٍ دبق يمسّ شفتيه، فرفع يده يمسحه بأطراف أصابعه قبل أن يعقد حاجبيه باستنكار ما إن ابعدها على صوت ريم المندفع وهي ترى اللون الأحمر يلوّن شاربه ويلطخ أنفه وفمه: خشمك يصب دم!!!
أخفض رأسه لقطرة الدم التي شعر بها تقع لتخلف بقعةً حمراء اللون على بنطاله، يمرر لسانه على شفتيه لا إراديًا بارتباكٍ كشّر بعده ما إن تذوق طعم الدم المعدني والذي بدأ يتدفق بقوةٍ من فتحة أنفه اليمنى مما جعله يضع كفه بشكلٍ عرضي فوق شاربه يمنع سيلانه وتدفقه، هاتفًا بدهشة معيدًا رأسه للخلف: اووب..
تقدمت ريم بجسدها بسرعة، تسحب عددًا لا نهائيا من علبة المناديل على الطاولة أمامها قبل أن تستبدلها مكان كفه، تسأل بهلع: من وش هالنزيف؟
ضحك بخفة وهو يسند رأسه على حد الأريكة ويضغط على كفها الذي لازال يغطي أنفه بالمناديل: رعاف مهوب نزيف.
ابتلعت ريم ريقها بقلق: طيب من وش هالرعاف؟ وليه فجأة كذا بدون سبب!
أغمض عينيه ونطق بنبرة حاول أن تكون اعتياديةً مرحة إلا أن القلق بدَا واضحًا في صوته: مَن قال فجأة وبدون سبب؟.. كله منك أنتِ رفعتي ضغطي.
عبست في وجهه رغم أنه لا يراها: ليه وش سويت لك؟
لم يجبها وقد بدأت يده تمسد جبينه المعقود بضيق، فسألت: أول مره؟
هز رأسه بخفه لازال صامتًا، واستمر الصمت لبرهة كانت طويلة نوعًا ما قبل أن يفتح حاكم عينيه لتقع نظرته الضبابية بنظرة ريم التي تتفحص وجهه بوجلٍ حقيقي.
حاول أن يبتسم ونجح في ذلك وهو يرفع رأسه، يبعد يدها وكومة المناديل التي كانت تمسك بها وتلونت بدمه.
يقول وهو يمسح أنفه بكفه: خلاص وقّف.
لم تنطق ريم بحرف وعينها تنظر بخوفٍ للمناديل التي لازالت بيدها، ليضطر حاكم بأن يقول وهو يشعر بمقدار خوفها: ماهي لوحة ترى خلاص ارميها بالزبالة.
وقفت ريم من مكانها بأنفاسٍ متسارعة وصدرها يعلو ويهبط بوضوح: بروح أنادي أمي.
أمسك معصمها بقوة، ينطق بصرامة: ياويلك!
ريم بإنفعال: أجل بدق على الجادل تجي تشوفك..
قاطعها حاكم بنبرة تهديد: ياويلك إن قلتي لأحد.
ارتعشت نبرة ريم ما إن نطقت وهي ترى نظرته الساخطة التي اعتلت وجهه الشاحب: حاكم ذا نزيف ماهو رعاف شف شلون المناديل تغرقت بدمك.
حاول حاكم بصعوبة أن يفتح قبضة يدها التي كانت تشد على المناديل بقوة، ويده الأخرى تشد على معصمها مما جعل أصابعها ترتخي بألم من شدة ضغطه.
نجح بإمساك طرف قبل أن تعاود إغلاق أصابعها على الآخر بعناد، وما إن سحبه حتى وتمزق لنصفين بينهما.
حاكم وهو يصرخ بحدة وانفعال غير مبرر: ريم عن الاستهبال قلت لك رعاف عادي لا تكبرين الموضوع!
شدت ريم على فكها وهي تشعر بأن المواضيع تراكمت عليها، وأن كل هذا كثير ليحدث في يومٍ واحد حتى وصلت حد اللا تحمل، لدرجة أنها أجهشت تبكي من نبرته المرتفعة في وجهها -على الرغم من أنها ليست المرة الأولى-، تحرر يدها من قبضته بغضب وتصرخ بانفعال قبل أن ترمي المناديل التي بقت في يدها عليه: قلعتك!
تأفف حاكم بضيق وصداع مرعب يهاجمه ما إن أغلقت الباب خلفها بقوة ليدوي صوته في الشقة الهادئة كالإنفجار.
بقى جالسًا في مكانه يضم كفيه أمامه ويهز قدمه بتوتر لم يستطع أن يقاومه، يحاول أن يتمالك نفسه، ويرتب أفكاره قليلاً بصعوبةٍ بالغة، آلام رأسه المتكررة في الآونة الأخيرة واضحة ومتعبة، زفر بتشتت، يعني ماذا؟!... يرفع كفه من وقتٍ لآخر لأنفه يتحسسه كي يتأكد من أن لا شيء يسيل منه قبل أن يقرر أخيرًا وبصعوبة وبعد معاناة ومضي دقائق ثقيلة أن يتحرك من مكانه لدورة المياه ليمسح الدم المتخثر.
فتحت الجادل باب الشقة بهدوء، تدخلها بصمت وحذر وهي تبحث بعينيها عن حاكم الذي كان يجلس معيدًا رأسه للخلف ويسنده على حد الأريكة بعينين مغلقة بإتجاه السقف.
تنحنحت كي لاتفزعه قبل أن تنطق السلام بنبرة خافته فهي تتوقع من سكونه هذا أنه نائم رغم وضعيته الغير مريحة. لكنه فتح عينه ما إن وصله صوتها الذي أخرجه من دوامة أفكاره، ورفع رأسه، يبتسم ابتسامةً واسعة ما إن التقت نظرته بها، ينطق بلهفة: ياهلا والله ومرحبا.. أخيرًا جيتي!
تقدمت نحوه بخطى حثيثة ونظرة متفحصة وقلبها يشتد نبضه وكأنها لم تصدق أنه يتكلم معها، ثم جلست بجانبه وهي تخلع حجابها وتشعر بيده التي مدها لها منذ أن رآها تلتف حول أكتافها وتشدها له بحضنٍ جانبي جعلها تقول بضحكة رغم أنها قطعت الزيارة وعادت مبكرًا جدًا: ليه كنت تنتظرني؟
همهم كإجابة وقبّل صدغها وهو يحرر شعرها من مشبكه، والذي ما إن وقعت خصَله كالشلال متناثرةً على ذراعه حتى ودفع أنفه الذي بدأ جولة رعاف أخرى توقفت قبل أن تأتي بدقائق -ولله الحمد- بين خصله، يستنشق رائحتها باحتياجٍ غريب وكأنها ستسكن قلقله: وش أخبار أهلك؟
الجادل: بخير ويسلمون عليك.
حاكم: وجدي وجدتي؟
الجادل بابتسامة صغيرة: الحمدلله مايشكون باس.
أبعد رأسه عنها ونطق بهدوء وهو ينظر لوجهها: جات ريم وقلت لها.
سكتت الجادل قليلاً ثم سألت تجاريه: صدق؟؟
همهم بخفوت، ومدت شفتيها بتعاطف : وش كانت ردة فعلها؟ تلاقيها زعلت ياعمري عليها.
حاكم بتنهيدة ضيقّة: كابرت في البداية ولو إنه كان باين إنها تضغط على نفسها لكنها بالأخير انفجرت وقامت تصيح.
وعلى الرغم من أن ماقاله كان تحويراً للحقيقة التي تعرفها الجادل نوعًا ما من ريم التي اتصلت عليها ما إن خرجت من عنده، إلا أنها قالت على كل حال بصدق: مكتوب ومقدر، الله يعوضها ويرزقها بولد الحلال.
تمتم حاكم ب"آمين" خافته وأصابعه أخذت تلف خصلاً من شعرها بشرود، ليقول بعد أن ساد الصمت لثوانٍ قصيرة وعينه لازالت على الخصلة بين أصابعه: تدرين وش أول شي فكرت فيه بعد ماقفلت من عبدالله؟
أرجعت الجادل رأسها للخلف لتجد ذراعه لازالت هناك تمتد على حد الأريكة فأسندته عليها، تنظر له وبصرها يتنقل بين ملامحه وكأنها تبحث عن شيءٍ ما فيها: وش؟
زم حاكم شفتيه قليلاً قبل أن يحرك بصره ويتعمد وضع عينه بعينها هذه المرة وهو يقول بنبرة بدت درامية نوعًا ما: لو أنا مكانه وتحاليلي أنا وأنتِ اللي ماتطابقت وش كنتي بتسوين؟
ضحكت الجادل بخفة من أسلوبه واسئلته التي دائمًا مايطرحها في أي موقف أو حدث سواء كان حقيقي أو مشهد من فيلم و مسلسل، تجيبه بثقة وبدون تفكير أو تردد وهي تراه يضع طرف شعرها فوق فمه كالشارب بترقبٍ حاول إخفاءه بحركته هذه: كنت بتزوجك وطز بالتحاليل وكلام الدكاترة اللي لا يودي ولا يجيب.
ضحك بقوة متفاجئًا من إجابتها: من جدك!
ارتفع طرف فمها بابتسامة تحدي: طبعًا من جدّي أجل وش! تظن إني بستسلم وأربط مصيري بكم شخموطة على كم ورقة؟
حاكم والضحكة لازالت بصوته: يا أمي الكم شخموطة على قولتك هي اللي بتحدد مصير عيالنا بعد الله.
رمقته ونطقت بنبرة مزدرية: مجرد إجراء روتيني مستحدث ولّا هذا هم جدي وجدتك تزوجوا بدون تحاليل وخرابيط والحمدلله جابوا ذرية سليمة وأحفاد زي القمر.
ارتفع حاجبيه وهو يتأملها بإعجابٍ واضح ما إن رفعت حاجبيها بغرور، لينطق بتنهيدة مبالغ بها وهو يشد على أعلى تيشيرته: ياويلي ويلاااه أنا أشهد أنهم جابوا قمر أربع طعش لعب بحسبتي لعب،، الله يعزك ياخالد بن عزام يامصنع الكيك ولا يقطع نسلك.
ضحكت بصوتٍ مرتفع ضحكةً مذهولة وهي تبعد رأسها عن ذراعه، تقول بذات مبالغته وهي تشد أعلى عباءتها: ياويلي ويلاه أنا مهوب أنت... وربي أستاذ بالغزل المبتذل.
ضرب حاكم جبينها بسبابته بخفه، يهتف بنبرة ممازحة: والله طالع من صمصومة قلبي ذا الكلام ماهو مبتذل يالكيكة.
الجادل بضحكة تداري خجلها وهي تصرف بصرها عنه وتدفن يدها في حقيبتها: أقول بس شف وش جبت لك معي.
ثم أخرجت حبة خوخ تحت نظرته الفضولية، ليضحك باستنكار: وش ذا؟
الجادل ببشاشة وهي تحركها أمام عينيه: خوخ ياخوخة فؤادي.. ذقتها في بيت أبوي وقلت لازم أذوقّك.
حاكم: وش سرقتي من بيت أهلك بعد؟
ضحكت بقوة وهي تراه يسحب حقيبتها ويفتش فيها، لتهتف ممازحة: والله فيه عنقود عنب أخضر يستاهل بؤّك بس خفت يفقدونه وانقفط! إن شاءالله المرة الجاية القى عندهم منقا...
قهقه وأخذ حبة الخوخ منها وقضم منها قضمة قال بعدها غامزًا وهو يمضغها: أجل كبري شنطتك الزيارة الجاية ونوعي لنا.
تكركرت الجادل بخفة ووقفت تخلع عباءتها قبل أن ترميها جانبًا وتعاود الجلوس مكانها، تهتف بنبرة حاولت أن تكون عادية وهي تقابله: صح قبل لا أنسى ترى أخذت لك موعد مستشفى آخر الأسبوع الجاي.
توقف فكيه عن الحركة ونظر لها بحاجبين معقودين بتساؤل، لتوضح بهدوء: أرسلت لي ريم تقول خشمك رعف وغرّق الدنيا!
زم شفتيه بحنق قبل أن يبتلع لقمته: وريم ذي ماتعرف تمسك لسانها كل شي تصبه بإذنك؟
الجادل بعتب: ليه وأنت كنت ناوي تخبي علي شي مثل ذا يعني؟
زفر بضيق: استغفرالله العظيم وأتوب إليه. ماله داعي مستشفى رعاف عادي يجيني من وأنا بزر.
الجادل بعناد: إلا له داعي ونص.. أساسًا من زمان كان المفروض تروح.
حاكم باعتراض: وليه من زمان؟ مافيني إلا العافية قدامك.
تنهدت الجادل بضيق وصحته الأيام الأخيرة باتت تقلقها: حاكم شف نفسك أي عافية تتكلم عنها وأنت ماتنام من الكتمة والصداع؟ شف حتى تحت عينك وارم.
زفر حاكم يغمض عينيه ما إن شعر بأصابعها تتلمس الانتفاخ البسيط تحت عينه اليمنى برقّة، يقول بيأس: قلت لك الجيوب...
قاطعته الجادل بإصرار: جيوب أو غيره ماعليه روح عشان نتطمن، أنت من وش خايف؟
فتح عيناه ونطق بسرعة واستنكار: ماني خايف!
ضمّت وجهه بين كفيها وقالت بنبرة متوسلة وهي تنقل بصرها بين مقلتيه المتعبتين: أجل تكفى روح خلني أتطمن الله يخليك.
تحلطم حاكم بعدم رضا: وتشوفين فالأخير بيطلع خوفك ماله داعي وكل ذا من الجيوب وبيعطيني حبوب حساسية مامنها فايدة وبرجع.
شدت الجادل شفتيها بحيرة، تتمنى أن يكون الموضوع كما يقول مجرد التهاب حاد في الجيوب الأنفيه علاجها حبوب حساسية لاتنفع، وألا يكون هذا الإعياء الذي انتبه له الجميع وسأله عنه ليسكتهم بقوله"التهاب الجيوب ماغيره" شيئًا خطيرًا.
همست برجاء وخوف: يارب.
.
.
كان الارتباك واضحًا عليها رغم محاولاتها اليائسة بأن تظهر عكس ذلك، تجلس على كرسي أمام المكتب الكبير، بظهرٍ مستقيم ونظرة واثقة وشعر أحمر مجعد جمعته للأعلى بشكلٍ مشدود. ترفع حاجبًا بتعالي وترمق الجالس خلف مكتبه بتحدي وهي تشد على قبضتها كي لا تتضح له رجفتها.
أرخت بصرها لاسمه المخطوط بعد (رئيس السجن) على اللوح الصغير في مقدمة المكتب، تنطق بنبرة ثابتة وهي تعاود النظر له: سيد شميدت.
ارتفع طرف فمه بابتسامة نزقه، ونطق بنبرة ساخرة: نعم، آنسة شارونيت؟
ابتلعت ريقها من ملامح شميدت الغليظة الجامدة، متكئًا بظهره على كرسيه ونظرته المسلطة عليها دون أن يرمش تزيد من توترها، أخرجت ورقةً من حقيبتها وضعتها في منتصف طاولة المكتب، غير قادرة على الإمساك بها مرفوعة من الضغط على أعصابها الذي سببه الهدوء والجو المخنوق في الغرفة الكئيبة.
ابتسم شميدت ناطقًا باستخفاف دون أن يكسر النظرة: ماهذا؟
نطقت بتلبّك: إذْن يسمح لي برؤية السجين ذئب.
شميدت بحاجب مرفوع: لست بحاجة له فلا يوجد سجين تحت هذا الاسم!
زمت شفتيها بغيظ : أرجو أن تتعاون معي سيد شميدت، الإذن الذي بحوزتي رسمي.
أدار رأسه للجهة الأخرى يصد عنها وهو يحك أرنبة أنفه بشكلٍ عرضي بسبابته وكأنه يهدئ نفسه كي لا تنفلت عليها.
يعم الصمت للحظات قبل أن يعتدل جالسًا بعد أن كان مرتخيًا ضجرًا، يأخذ الورقة ويفتحها، يمرر نظرهُ عليها بسرعة قبل أن يسفطها كما كانت ويشقها لنصفين قائلاً ببرود: والآن لم يعد بحوزتك شيء، تفضلي اخرجي.
خرجت من المكتب تضرب الباب خلفها بغيظ وقهر، ثم من حدود السجن الكبير يقودها اثنان من الحراس قبل أن يعودا أدراجهما مغلقان البوابة المعدنية الكبيرة خلفهما.
جلست على الأرض دون أن تكترث بالتراب الذي سيلوث بنطالها باهظ الثمن، وأخرجت هاتفها من حقيبتها وهي تكتم بكاءها، ولكن ما إن سمعت صوت الطرف الآخر يجيب بحنو مدللاً اسمها حتى وبكت: أبي...
انهت اتصالها بوالدها بعد أن أخبرته بما حصل، تطلب منه أن يجد لها حلاً حالاً بالاً، ورغم أنه حاول ثنيها عما تنوي فعله قائلاً بنبرة مستعطفة: عودي للمنزل حبيبتي لنتفق معًا على وسيلة تسمح لك برؤيته... مم؟؟
إلا أنها رفضت، وزمجرت، وأخبرته بعناد طفولي أنها لن تتحرك حتى تراه فهي لم تصدق أن تعرف مكانه بعد أن قبضوا عليه في تلك الليلة.
أغلق والدها الاتصال باستسلام وهو يعدها بأنه سيتصرف حالاً بالاً. وعلى الرغم من تجبّر شخصيته مع الناس إذ تقشعر الأبدان بمجرد سماع اسمه، ونفوذه الذي يرعب أكبر الرؤوس ويثير مخاوفهم، إلا أنه مع ابنته يجد نفسه ضعيفًا لا يستطيع أن يرفض لها طلبًا لدرجة أنه قلب الدنيا بحثًا عن ذيب عندما أغلقت الباب على نفسها حزنًا لا ترى أحدًا لأيام.
وبعد اتصالات طويلة وتحويلات من غرف مظلمة عرف أنه تم القبض عليه وزُجّ به في أحد السجون شديدة الحراسة.
يعترف بكل رضا وحبور أنه دللها وافرط بدلالها حتى تجبرت عليه.
لم تهدأ حركتها وهي تمتر المكان ذهابًا وإيابًا بتوتر أمام الباب الأسود الكبير، ترفع يدها لتنظر لساعة معصمها كل دقيقة وهي تتأفف بقل صبر.
توقفت والتفتت ناحية البوابة بسرعة وبعد مايقارب الخمس عشرةَ دقيقة عندما وصلها صوت صريره، تتسارع نبضات قلبها وهي ترى حارسًا يشير لها كي تقترب هاتفًا بنبرة مرعبة: تعالي معي.
ابتلعت ريقها، ولحقت به، تتوقع في عقلها الساذج وتفكيرها المحدود أنها ستجد ذيب ينتظرها في أول غرفة، لكنها هتفت بجزع ما إن وجدت نفسها تقف أمام باب مكتب شميدت مجددًا: لماذا نحن هنا؟
فتح الباب متجاهلاً سؤالها ونبرتها الحادة، يتبادل نظرة مع الحارس الآخر بجانب الباب وهو يُمسكه مفتوحًا لها بإشارةٍ منه كي تدخل، لتنظر للحارسَين من فوق أنفها بتعالي وهي تتمتم بغرور: هه.
: آنسة شارونيت.
توقفت فورًا ما إن وصلها صوته مرحبًا بنبرة ودودة أكثر من اللازم عندما خطت أولى خطواتها لمكتبه. وابتلعت ريقها وتطاير الخيلاء في نظرتها وهي ترى ابتسامته الواسعة وهو يشير للكرسي أمامه: أهلا بك مجددًا آنسة شارونيت. تفضلي تفضلي.
ضخمٌ مخيف، هذا كل ما استطاعت أن تفكر به وهي تجلس حيث أشار، ترمقه بنظرة سريعة حاولت أن تزرع فيها ثقةً قدر المستطاع.
لامست رؤوس أصابعه بعضها ليُشكل هرمًا صغيرًا على سطح مكتبه بكفيه، ينظر لها بابتسامة مغلقة أربكتها وكانت كفيلة بأن تجعلها تنطق بغباء: هل أتاك اتصال من والدي؟
ضاقت عيناه عمدًا بابتسامة متصنعة: أتمنى أن تسمحي لي، لكن من هو والدك بدون مؤاخذه؟
سكتت قليلاً، ثم وضعت قدمًا على قدم تتحامى باسمه بثقة: دانيال.
هز رأسه وهو يخفضه قليلاً ، يزفر تمتمته بضحكة خافتة: آه،، دانيال..
ضوقت عيناها بتوجس، وسألت بشك: أنت تعرفه، صحيح؟
نظر لها هاتفًا بنبرة: بالطبع، الجميع يعرفه.
هزت رأسها بثبات وقلبها سكن قليلاً: جيد.
شميدت بنبرة شبه مزعوجة وبعد ثانية صمت: اعتذر وبشدة عما حدث قبل قليل.
ابتسمت بتكلف، يرتفع معدل الثقة للذروة: أيًا كان ماطلبه منك والدي لتفعله، فقط افعله ولا تكثر الكلام.
شد على شفتيه، وامتلأ وجهه غيظًا حاول أن يزفره وهو يقول بنبرة تحمل تحذيرًا خفيًا: فقط للتوضيح.. هذة ليست لعبة، هذة حقيقة وأنتِ لا تع..
قاطعته بضجر: استعجل من فضلك فلا وقت لدي.
ضحك بتعجب وهو يسند ظهره لكرسيّه يستريح بجلوسه باستسلام: عنيدة.. لكن لا بأس.
.
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تتجول ببصرها في الغرفة الخالية من كل شيء إلا كرسي معدني في أحد الزوايا بشكلٍ حزين وبائس.
هدوء شديد يخيم على المكان لدرجة أنها تستطيع سماع تردد أنفاسها السريعة في صدرها.
مسحت كفها الذي لا تعلم منذ متى وهو يتعرّق بهذه الكثرة ببنطالها، وهي تسمع صوت خطى تقترب جهتها.
شهقت بهلع وعدم تصديق ما إن ارتمى جسده أمامها، بعد أيام من البحث لم تتوقع أبدًا بأن ماستجده هو جسد مدمي تفوح منه رائحة الموت، ركضت ناحيته، نزلت على ركبتيها أمامه، تضرب خدّه بخفه خشيةً من أن تؤذيه مما بلل كفها باللون الأحمر الذي لازال يسيل من رأسه. غير قادرة على تحديد المكان بالضبط, هل هو أنفه؟ أم المليون شق في خده؟ فمه؟ أو ربما عينيه المتورمتين!
تتسارع أنفاسها وتتصاعد بحدة حتى بدأت تبكي، لا حروف تخرج، تعاود ضرب خده بقوة هذه المره وليتأذى المهم أن يستيقظ.... لكنه لم يتحرك.
تنطق بصعوبة وفزع: ذيب.
تتحسس صدره بكفين مرتعشين وكأن ماسًا كهربائيًا يعبرها.
تحاول أن تبحث عن أي إشارة، دقة قلب حتى وإن كانت ضعيفة، نفَس حتى وإن كان مقطوعًا قصيرًا،
أي شيء يخبرها بأن ذيب لازال حي، رفعت رأسها للحارس الذي أحضره مع حارسٍ آخر، خرج الثاني وبقى هو واقفًا على رأسها كالمارد، تستنجد باكية: أرجوك ساعدني أنه يموت.
انحنى بجسده الطويل يمسك ذراعه: سآخذه للعيادة.
شارونيت بجزع: لالا إنه يحتاج لرعاية طبية ساعدني بنقله للمشفى.
قال بهدوء محاولاً طمأنتها: لا تقلقي سيساعده الطبيب بالعيادة،
ثم أردف بخفوت: شارونيت.
تحركت عيناها حائرةً عليه، فأوضح: اتصل علي والدك وطلب مني الاهتمام بك، يجب أن تخرجي من هنا حالاً فهذا المكان لايصلح لمن هن مثلك.
احتدت أنفاسها بوجل: وذئب؟
ليجيبها بتأكيد: لا تقلقي سيكون بخير... هيا بسرعة.
قالها وهو يرفعها من على الأرض لتقف، ثم ينادي باسم أحدهم، ليدخل الحارس الثاني الذي اختفى من دقائق، يمد يده ليأخذ ذراعها منه لكنها انكمشت على نفسها بهلع.
فقال بنبرة مطمئنة: لا تقلقي سيتأكد من خروجك دون تعرضك لأي مضايقة.
صاحت باستسلام وهي تتوسله برجاء: أرجوك اعتني به جيدًا.. سأتصل بك لاحقًا من هاتف والدي. أرجوك لا تتركه.
هز رأسه بثقه وهو ينحني لذيب، بهمسٍ حذر دون أن ينظر لها: سيتم نقله لأحد المعتقلات المخفيّة في فارسوفيا، يجب عليكِ أن تتحركي قبل أن يتم نقله وإلا سيختفي للأبد.
ثم ابتعد خارجًا من المكان بعد أن رفعه بخفّه لفوق كتفه كقطعة قماش لا حول لها ولا قوة.
.
.
أخرج هاتفه من جيب ثوبه بعد أن كاد اهتزازه الصامت يسبب صدعًا في عظامه، يمرر لسانه على شفتيه التي جفت وهو يرى اسمها يزين شاشته، وظل على حاله لاينوي الرد حتى فقدت الأمل وأنهت الاتصال ليضاف رقم للمكالمات الخمسة التي لم يرد عليها.
زفر بقهر، وأدخل هاتفه في جيبه، يمسح وجهه بيديه معيداً شعره للخلف بأصابعه وهو يشعر بنظرات الجالسة بجانبه تكاد أن تذيب جمجمته من الخوف المركّز فيها.
أخذ نفسًا آخر ووقف، ينطق بنبرة محتقنة وهو ينظر لها بحزن على حالها قبل حاله: خلاص أنا بمشي تأخرت، غادة احرقت جوالي ههه.
تعلقت عيناها به، وكانت تريد أن تشد فمها بابتسامة مواسية لكنها لم تستطع، فنطقت عوضًا عن ذلك بإرهاق: الله يحفظك،
ثم أردفت بتنهيدة: لا تزعل فهد ولا تفكر بالموضوع وتضيّق صدرك، مافيه شي بيدك عشان تسويه يا أمي.
هز رأسه، ودنى منها يضع كفه على كتفها ويقبل رأسها قبلةً طويلةً قال بعدها بامتنان وهو يرى نواعسها التي ذابت بدموعها: جعلني فداك وأخذ ضيمك يمه كاني طول عمري سبب دموعك.
سارة بنبرة تغرق حب: أفداك أنا ياحبيبي أنت وأفدى أخوانك واحد واحد، الله يجبر خواطركم ولا يذوقني حزنكم يارب.
ابتسم لها بدفء أذاب قلبها من كمية العاطفة فيه وهو يضغط بيده على كتفها بخفه أوصلت كل شيء عجز في التعبير عنه.
سارة بتردد: بتقول لغادة؟
زفر فهد بعمق، ينطق بنبرة متعبة: أكيد...
ثم أردف ببؤس: خلاص يمه، كذبة وحدة تكفي مستحيل أغشها بذا الموضوع بعد.
ابتلعت سارة ريقها وأومأت رأسها بتفهم: من حقها تعرف بس اختار الوقت المناسب وعلمها، وصدقني غادة بتجبرك ماهي بكاسرتك، أنا أعرفها زين.
أشاح بصره عنها وأدار رأسه للجهة الأخرى وهو يهزه بشك، غير متأكد كيف سيكون موقف غادة في هذا الموضوع ولا يلومها بأي ردة فعل تتخذها ولن يلومها فهو ظلمها بما فيه الكفاية.
سارة بهدوء: طلعت نتايج ريم وعبدالله.
نظر لها بسرعة، وسأل بلهفة: بشري..
قوست شفتيها بأسى وهزت رأسها بخيبة لتصل الإجابة دون الحاجة لنطقها،
ارتخت ملامحه بعطف: ياحبيبتي ياريم.
سارة بتنهيدة مثقله: خيره إن شاءالله.
سكت فهد قليلاً قبل أن ينطق: الله يكتب لها مافيه خير ويرزقها ويعوض عبدالله، والله إنه هو الخسران.
خرج من بيت والده بعد جملته هذه وعلى الرغم من أنه كان ينوي رؤية ريم إلا أنه غير رأيه فحالته حاله ومافيه يكفيه.
مشى خطىً مثقلة في ساحة المنزل حتى وقف أمام شقته، وشد نفسًا عميقًا حبسه في صدره لثوانٍ قبل أن يزفره ببطء، يأخذ آخراً عله يشرح قلبه الذي ضاق عليه وكأن أضلعه تُطحن، يحرك المفتاح في القفل ويفتح الباب، يدخل، يغلقه خلفه بخفه دون أن يحدث أي جلبه في المكان الهادئ إلا من صوت خافت قادم من المطبخ.
رفع يده والصوت يجذبه ليمشي له، يمسح في خطاه المثقلة على شعره ويبتلع ريقه وكأنه يبتلع العلقم، وهو ولأول مره في حياته يستثقل الدخول لبيته، يستثقل لقاءها والحديث معها والنظر لعينيها المليئة بالحياة. الحياة التي سيطفِئوها قربه.
كانت غادة تقف أمام الفرن وتعطي الباب جانبها الأيمن، ترفع الملعقة وتمسح عليها بسبابتها قبل أن ترفعها لفمها وتتذوقها، تكرر الحركة وتبتلع الطعم أكثر من مره بحاجبين معقودين بتركيز.
إتكأ فهد بعضده على إطار الباب، متأملاً، ينظر لها ترمش أكثر من مره قبل أن تعبس من الطعم الذي تذوقته ليبتسم بمودة رغمًا عنه عندما وصلته تمتمتها بشكلٍ واضح.
كانت غادة في قمة تركيزها تتذوق طعم الصلصة الذي بدَا وبشكلٍ غريب بدون طعم(؟!): ملح، ينقصه ملح. يارب يرقّع هالطعم الملح.
تمتمت بها تحت أنفاسها بنبرة منتحبه وعبوس ملامحها اشتد، وما إن التفتت لتبحث عن علبة الملح حتى وفُجعت بالذي يقف متكئًا عند الباب يتأملها بصمت،
انتفضت بفزع لدرجة أن الملعقة وقعت من يدها على الأرض، تنطق بأنفاس متسارعة ويدها على قلبها: حسبي الله على إبليسك فجعتني.
اتسعت ابتسامة فهد لكنها لم تصل لعينيه، وشيء بسيط عادي جدًا كهذا أثار في نفس غادة الريبة وجعلها تتنقل ببصرها على ملامحه لتلاحظ الاختلاف فيها، فسألت بشك وقلبها لازال متأثرًا ينبض بقوة: وين كنت؟ وليه أدق ماترد علي؟
فهد بهدوء: وش قاعدة تسوين؟
رفعت حاجبها ولاحظت أنه تجاهل سؤالها، مع ذلك انحنت ترفع الملعقة عن الأرض وتجيبه: العشا،
ثم تردف بنبرة مشاكسة وهي تستقيم بوقوفها: سويت ولأول مره باستا إن شاءلله تقدر تاكلها ههه.
سكت فهد ولم يعلق وهو يتأملها بنظراتٍ لم تفهمها، جعلتها تعيد خصلاً من شعرها خلف أذنها بتوتر رغمًا عنها، فعيناه ستبقى تربكها مهما تأملتها وانقضى عليها العمر تتأملها.
مع ذلك لم تقطع النظرة التي طالت بين عينيها المتسائلة وعينيه الذابلة إلى أن قطعها فهد بنفسه وهو يعتدل واقفًا، يقول بهدوء قبل أن يبتعد: رايح أتروش أعطيني خمس دقايق وأرجع لك.
مضت أكثر من خمس دقائق، بل ربع ساعة كاملة حاولت فيها غادة أن تجعل من الباستا شيئًا يؤكل، وما إن نجحت حتى ووضعت صحنه الذي ملأته وصحنها في صينية كبيرة مع كأسين أفرغت فيهما مشروبًا غازيًا.
وما إن خرجت من حدود المطبخ حتى والتقت بفهد أمامها وهو يهم بالدخول إليه، بشعرٍ لازال رطبًا تأثير الفوطة واضحٌ عليه وملابس بيت مريحة و وجهٍ لا تعبير فيه.
رفعت حاجبها وقالت بابتسامة: هذا اللي يقول خمس دقايق!!!
بادلها ابتسامةً مقتضبة بصمت واقترب يأخذ الصينية منها، وقبل أن يبتعد عن حدودها قبّلها قبلةً بشفاهٍ مرتجفة وشعورٍ ملخبط وأحاسيس ضائعة تحكي الكثير مما لا يستطيع البوح به، يأخذ نفسًا مسموعًا وهو يبتعد عنها ويصّد بظهره دون أن ينطق بكلمة، ليتركها خلفه بملامح متفاجئة وقلب يكاد يخرج من محله.
جلس فهد على الأريكة بعد أن وضع مابيده على طاولة الضيافة أمامه، وبقى ساكنًا في مكانه لثوانٍ يستجمع أنفاسه التي ثارت قبل أن يلتفت لغادة التي لازالت تقف مكانها، ينتبه للعقدة البسيطة التي تشكّلت بين حاجبيها، وعينيها الحائرة التي التقت بعينيه ليصرف بصره عنها فورًا قائلاً بهدوء: تعالي كلي قبل لا يبرد.
ابتلعت غادة ريقها بقلق وهي تشعر بالغرابة والثقل يستحوذان على نبضات قلبها، بشكلٍ مربكٍ،، وقاتم!
يسود الصمت أرجاء البيت الصغير بعد جملة فهد، يطول رغم أنه غير معترف بوجوده من الأساس في نمط حياتهما، فالصمت لم يكن شيئاً يحصل بين الجدران الأربعة، فهما إن لم يجدا شيئًا مهمًا كان أو سخيفًا يتحدثان عنه بهدوء، كانت هناك نظرات صاخبة متبادلة مع ابتسامات واسعة وضحكات مفاجئة تُخلق من العدم لا سبب لها.
شعرت غادة بشيءٍ من القلق تستفتح به تلك الليلة. شعور دخيل مبهم بالإختناق وكأن الهواء ساكن لا يتحرك. صاحب السعادة وصانع البهجةِ الخاص بها أتى أخيرًا بعد غياب ساعات تجاهل فيها اتصالاتها ولكنه وعلى غير العادة بدَا موجوعًا بعينين ذابلتين وأنفاسٍ ثقيلة وفوق كل هذا نظر غير مستقر يحاول ألا يحط عليها، يصرفه بعيدًا عنها ما إن التقت الأعين.
هكذا أحسّت، ولم تستطع أن تحدد ما اعتمل في قلبها في تلك اللحظة، شعور جديد عليها لم تحس به من قبل ولم تتمكن من تحديده. لكنه غير مريح ولم يعجبها وتتمنى أن تنزعه من داخلها!
زفرت بخفوت، وتقدمت لتجلس بجانبه تلتصق ركبتها بركبته، ليشعر فهد بأنها رتبت فوضاه وبعثرت شكواه فقط لأنها بجانبه.
تمر الدقائق دون أن يتبادلا نظرة، أو كلمة، لتضطر غادة أن تنطق بحماس مصطنع وهي تمد له ملعقته عندما بدَا وكأنه لن يُقدم على هذه الخطوة: ذوق وأعطيني رايك بس ارفق علي وحط في بالك أنها أول تجربة.
جاملها بابتسامة وإيماءة رأسٍ طفيفة وهو يأخذ الملعقة منها رغم أن لا رغبة لديه بتناول شيء، يتنهد بعمق وكأنه يحاول أن يزيح ثقلاً يجثم على صدره. ثم بدأ يأكل بصمت، يتصنع ذلك إن كانت الكلمات قادرة على أن تصف بدقة، يعبث بملعقته يمينًا ويساراً يبعثر الطعام ويجمعه في صحنه.
أي كلمة قادرة على أن تصف شعوره؟ أيوجد وصف لذاك الشعور أصلاً؟ الإحساس وكأنك فقدت كل شيء من مرة واحدة؟ العجز والاستسلام وكأنك وصلت لقمة الانهاك الجسدي والنفسي والعصبي لدرجة أنك تستثقل الحياة وتعيشها دون رجاء وبلا أمل.
رمقته غادة بطرف عينها بتوجس، أكثر من مرة، نظرة مشوشة على التلفاز منخفض الصوت يعرض مباراة لفريقين لا تعرفهم ونظرة أخرى مركزّة عليه.. هنا وهناك.. تنتظر منه أن يتكلم من تلقاء نفسه كما اعتادت منه، أن يثرثر دون أن يسكت، أن يضحك ويبتسم ويغرقها بخطوط عينه الدافئة لكنه خيّب ظنها وسكت، وبقى ساكتًا يأخذ أنفاسه بثقل وكأن داخله مزدحم.
تركت ملعقتها وسألت علها تصنع حوارًا: كيف بالله؟
خرج فهد من شروده، وقال بهدوء وعينه لازالت مثبته على صحنه: لذيذ تسلم يدك.
نطقت بإحباط وهي ترى طبقة كما كان: واضح.
أدار رأسه ناحيتها بسرعة، وضحك بدون نفس وهو يرى تبرمها: أقسم بالله رهيب بس أنا شبعان بطني مليانة.
أمسكت غادة رأسه بكفيها قبل أن يديره هاربًا به للأمام، وتفحصت وجهه بنظرةٍ صريحة لم تحاول استراقها هذه المرة، وعلقَت نظرتها على عينيه وآثرت الإختلاف البادي عليها بوضوح،
كانت... كانت عيونه حزن!
ولم يكن فهد هو ذات الفهد الذي تعرفه، هذا الفهد كان..منهكًا جروحه كلها مكشوفه تستطيع أن تراها رأيَ العين في وجهه..
تمتمت: بالعافية.
ثم أردفت بقلق وهي تتأمله مجددًا وتمسح على خديه بخفه: وش فيك تافل العافية ومو على بعضك، صاير شي؟
نطق فهد بعد سكوت قصير، بتنهيدة: منهد حيلي ذي قومتي من الصبح.
غادة بنبرة مستغربة وهي تضوق عينيها: تعال صدق، أنت حطيتني في البيت بعد الدوام ورحت، ماتقولي وينك مختفي من العصر؟... هاه!؟
لم يجد فهد الشجاعة الكافية لينزع الكلمات من صدره ويخبرها الحقيقة، فكل شيء سيتغير بعدها، ستنقلب موازين حياته كلها بعد أن استقرت، لا شيء سيكون كما كان من قبل، وهو جبان بما يكفي ليخاف من هذا التغيير.
حرر رأسه، ووضع لقمةً في فمه، وبدأ يمضغها على أقل من مهله يتعذر بها بينما يفكر بإجابة مقنعة، تدور الأعذار في رأسه، تدور وتدور لكنه لم يجد شيئًا ليقول على مضض في نهاية المطاف بنبرة بدت اعتيادية حتى كاد يصدق نفسه لوهله: كنت مع حاكم ندور على المعارض.
رفعت حاجبيها بتشكيك: ماكنت أدري إنك بتغير سيارتك!!
رمش بهدوء، وبدأ يحرك ملعقته بعشوائيةٍ في صحنه: هو. رحت عشانه وطلع بالأخير ماعنده سالفة وضيع وقتي على الفاضي.
ضحكت بخفة، تتنفس الصعداء مادام الموضوع هكذا مجرد إرهاق وتعب فلا بأس: أخوك ذا قاعد يسرقك مني وياخذ من وقتي على فكرة... ملاحظ أنت؟
لانت حدود عينيه بابتسامة دافئة وهو ينظر لها: تطمني لا هو ولا غيره يقدر ياخذني منك وأنتِ سارقتني حتى من نفسي.
قهقهت ضحكةً مرتفعة بحرج بعد أن غمز لها يشاكسها، وقالت بنبرة تداري خجلها وهي تلكم عضده: ايييه يبوي هذا فهودي اللي أعرفه مو اللي ماد بوز قبل شوي... اقلقتني عليك والله!
ثم رفعت ريموت التلفاز ترفع معه الصوت: شوف بس شوف المباراة ناار.
ضحك فهد رغمًا عنه وقلبه الخامد ينبض راقصاً على أنغام ضحكتها التي سمعها بجميع حواسّه هذه المرة وشعر بها ترممه.
أكل لقمتين زيادة عن خاطرها، ثم ترك ملعقته وأعاد ظهره للخلف براحة، ينطق بابتسامة وهو يشير عليها بكأسه قبل أن يرتشف منه: تسلم الأيادي... إذا تجربة أولى وطعمه خطير كذا أجل لو كنتي متمرسة كيف بيطلع؟
مدت شفتيها بامتعاض: على أساس أكلت شي!! صحنك مليان شف من يطبخ لك مره ثانية.
فهد بنبرة وهو يرمقها بطرف عينه: عاد أنتِ تبينها من الله مايحتاج.
وقفت غادة ترفع الصينية معها: إيه والله كأنك تدري ههه، اقسم بالله المطبخ يكرهني وأنا أكرهه مشاعر الكره عميييقة ومتبادلة من الطرفين يارب اليابانيين يعجلون علينا ويختروعون طريقة يطبخ فيها الأكل نفسه بنفسه.
ابتعدت من جانبه تأخذ طريقها للمطبخ وهي تضحك بقوة واستمتاع على اقتراحها، ليدير فهد رأسه ويتبعها بنظرته وانفاسه التي أخذتها معها، يهتف من قلبه متعمدًا إحراجها: ياشيخة الله لا يحرمني من هالضحكة الحلوة ولا يحرمني من راعيتها.
توقفت في خطاها قبل أن تتعدى إطار الباب، والتفتت تنظر له بحاجب حاولت أن ترفعه بجدية وصرامة لكن الحمرة التي لونت وجهها أحبطت المهمة: افف أخلّص اللي بيدي ثم أجي اتفاهم معك أنت وكلامك الحلو ذا.
ثم صرفت وجهها عنه واختفت من أمامه على صوت ضحكته الذي شعرت معه بأن الغرابة تنقشع، والقتامة تتبدد، والهواء الساكن يتحرك ليهب كالنسيم العليل على قلبها الذي اتسعت حجراته بالراحة بعد القلق، فصاحب البهجة وعرابها بخيرٍ يضحك.
ومادام فهد بخير فكل شيء سيكون بخير.
: اتركي المواعين أنا أغسلها.
قالها فهد بخفوت وهو يقف خلفها بعد أن اختفت في المطبخ تتعارك مع الصحون لمدة ليست قصيرة، يلف ذراعيه حول خصرها بخفه وعينه على المغسلة المليئة بأطباق العشاء وكل ما احتاجت لإعداده وأجلّت غسله لهذه اللحظة التي شعرت معها بالإنهيار من الصلصة الحمراء التي تلتصق بقاع القدر ولا تريد أن تفارقه.
وعلى الرغم من أنه باغتها باقتحامه مساحتها الشخصية في حين غفلة منها إلا أنها وبشكلٍ ما لم تفزع، بل أحسّت وكأن موجة دافئة من السعادة تحاوط قلبها، تبث فيه أمانًا لا حد له.
أخذت نفسًا حادًّا وأطلقته براحة: مو مشكلة أنا بكملها، روح الصالة كمل المباراة شوي وأجيك.
فهد بابتسامة مشاكسة سمعتها بصوته: شوي وين يابنتي وأنتِ مطلعه لي كل القدور اللي بالدولاب!
ثم أردف : وبعدين المباراة إعادة وأنا ما أشجع الأندية المحلية.
غادة بنبرة: نظامك دولي أجل!
ضرب فهد كتفه بكتفها من الخلف : الله الله.
ضحكت بخفة، ثم نطقت بتبرم وهي تدعك القدر بقوة وغضب وكأن بينهما ثأر: والله أذكر إنها كانت صحنين بس، لكن مدري وش فيها تكاثرت.
قهقه فهد باستعجاب ونطق بنبرة متهكمة: سبحاان الله. هذا وهي باستا أجل لو أطلبك مفطح وش بتسوين!
التفتت برأسها قليلاً تنظر له بتكشيرة: خلني أعرف أوزن موية الرز أول ثم طالب بالمفطح.
هتف فهد ممازحًا وهو يراها تعاود الدعك بقوة: حرام عليك بشويش قتلتي القدر.. أنتِ مافيه مثلك بس الله يسامح أمك هي اللي أفسدت مهاراتك بالدلال.
ضحكت بقوة حتى غطت الغمازتين نصف خديها: إيه والله هي دلعتني لين صرت رفلا.
لم يستطع فهد أن يقاوم الإلحاح الذي سرى في أطرافه ورفع يده يدخل سبابته في الحفرة العميقة على خدها بعد أن قبّلها، يتمتم بضحكة: الله عليك ياسمسم.
زفرت وهي تبتلع ريقها بارتباك: طيب روح للصالة يااخي وخلني اتفاهم مع ذا القرابيع الله ياخذها.
فهد: وإن قلت ماني رايح؟.
ضحكت بخفة وهي تشعر به يشد عليها أكثر: فهود أترك العناد، اطلع جايتك خلني أركّز.
تجاهل طلبها، واسند ذقنه على كتفها يأخذ أنفاساً هادئة اربكت نبضها مما جعلها تغلق صنبور المياة وتقول بضحكة مرتعشة وهي ترمي سلك المواعين في القدر: أقول شكلنا مابنخلص اليوم.
قبّل كتفها بخفّه: إلا قولي شكلي بجيب لك غسالة مواعين تفكك من ذا الشغلة لأن واضح مالك فيها.
ضحكت غادة : وتدري وش الشغلة الثانية اللي مالي فيها بعد؟
فهد: عاد ذي واضحة وضوح الشمس شوي وتكتبينها على جبهتك.
غادة: أحسنت... جيب طباخة مع الغسالة قبل لا نتسمم يرحم أمك.
فهد بمودة وهو يعاود تقبيل كتفها: ونجيب طباخة ومالو، سمعًا وطاعة يابنت رماح.
حاولت أن تتحرر منه ما إن شعرت بأن قلبها سيذوب من كمية الرقة في لمسته، لكن فهد لم يُرخي من شدة ولا بمقدار بسيط حتى بل بدَا وكأنه لم يتأثر مما جعلها تزفر بقل حيلة ويأس وهي تعاود تناول كتلة السلك المعدني ودعك القدر: تدري الحركة ذي ذكرتني بوشو؟
ابتسم على ضحكتها التي خرجت بخفة مع آخر جملتها: وش؟
غادة بابتسامة واسعة: يوم بغيت توقف قلبي بلندن وأنت تتسحب مثل الحرامي عشان تعتذر وكنت بتصرعني مره ثانية من الخوف.
ارتخت عينا فهد بمودة على تلك الذكرى، وقال بضحكة: الله على أيام لندن، يبي لها سفرة قريبّة ولاّ؟
غادة بتنهيدة: والله لو ماعندي دوام كان قلت يلا.
فهد: اسحبي عليهم وأنا بسحب على اللي عندي ونسافر من بكرة لو تبين.
غادة بنبرة مشاكسة: نسحب؟ قصدك نهرب يا الخبير الدولي!
أخذ فهد نفسًا بطيئًا ونطق بعده بنبرة متعبة: وهذا اللي أنا أبيه، أبي أهرب من هالعالم لدنيا ثانية معك.
عقدت غادة حاجبيها بخفه من القشعريرة المربكة التي سرت في قلبها وهي تشعر بكفه يمسح على بطنها بخفّه، وبأضلع صدره تدفع عضلات ظهرها بعد شهيقٍ آخر أخذه بثقلٍ واضحٍ ولم يزفره: انتظر إجازة الصيف تجي وبعدها بففف، أوعدك نفقع أنا وأنت بس حتى شناط مابناخذ معنا.
ضحك وهو يبتعد عنها خطوة: ماشي، بس خليك قد كلمتك.
ابتسمت غادة عندما وقف بجانبها يفتح الماء ويبدأ بغسل الأطباق المغطاه بالصابون، تنطق بهمس وهي تتأمله بحب ولين ومودة: قدها وأنا بنت عبدالله.
مرت الليلة على فهد دون أن يخبر غادة بشيء، أو أن يفكر في حضرتها بشيء، بل تعمّد أن ينسى كل شيء بكل أنانية، وأن يخلع رداء الضيق مع أنه يلتصق به.
غادة ورغم قصر معرفته بها إلا أنها أصبحت ملاذًا لروحه تستطيع بابتسامة وهلالين في منتصف خديها أن تبدد كل ما أعتمل في صدره من حيرة وتوتر وقلق وترفع عن كتفيه كل أعباء الدنيا وكأنها لم تكن.
على عكس ريم التي كانت تشعر بالضيق وعدم التصديق، تدخل في مرحل استنكار عشريني عنيف فهي منذ أن دخلت هذه الحقبة العمرية لم تعتد المآسي وكانت تتجاهل الحزن حتى وإن طرَق بابها. إلا هذه المرة فهو أقتحم المكان يكسر الجدران ولا يأبه لأي بيبان.
دخل عليها والدها غرفتها في وقتٍ متأخر تلك الليلة بعد أن قرع الباب، يبتسم لها ابتسامة ضيقة لم تتعدى حدود شفتيه ما إن رآها ترتفع من تمددها وتجلس، تمرر يدها على شعرها المنكوش وترتبه وهي تنظر له بتفحص، يقترب منها حتى جلس أمامها يسأل بنبرة حانية: هاا وش أخبار بنتي؟
ريم بهدوء: الحمدلله. أنت وش أخبارك، زين؟
هز رأسه بابتسامة صغيرة نطق معها: لا يضيق صدرك وأنا أبوك.
ضحكت بارتباك ونطقت بغباء: أنت دريت؟
سلمان: إيه كلمني عبدالله وعلمني. زعلان الضعيّف مادريت إنه يبيك هالكثر.
اتسعت عيناها بصدمة من كلام والدها الذي قاله ممازحًا، واستطاعت بملامح مرعوبة كهذه أن تسرق ضحكة من بين شفتيه، تنطق بحرج على صوت ضحكته: يبه عيب وش هالكلام! تكفى لا تخليني انقهر إنه راح علي ههه.
قربها سلمان بين يديه يحتضنها، يشد عليها وهو يمسح على ظهرها بصمتٍ وهدوء، يميل عليها بضعف ولأول مرة تشعر ريم بأن والدها يحتاج العناق أكثر منها، وكأنه بميلانه هذا يطلب منها أن تطبطب عليه وتواسيه.
ارتعش قلبها بألم وهي متأكدة من أنه عرف عن فهد، وأن موضوعه هو من أثقل عاتق والدها هكذا وحنَا أكتافه وكسر ظهره.
لفت يديها حوله، تطبطب عليه وهي تبتلع عبرتها: جعلني قبلك يبه لا تزعل كله مكتوب ومقدر عند الله من قبل لا يجي.
سكت، ثم تمتم بزفرة وهو يبتعد عنها بعد ثوانٍ قليلة: الحمدلله الذي لا يحمد على مكروه سواه، الله يعوضه ويلطف به هالولد تعذب بحياته واجد.
ريم بأسى وهي تتأمل وجهه بقلق: اللهم آمين.
نظر لها وابتسم بضيق: روحي لأمك الغرفة تبيك .
ريم : وأنت يبه؟
سلمان: أنا بنزل أشوف لي شي أشربه.
ريم: تبي أسوي لك شي؟
قبّل يدها التي كانت تمسك كفه، وهتف بحنو: لا يابعد راسي أنا بروح أحوس بالمطبخ فرصتي أطلع مواهبي دام أمك ماهي حولي والعاملة نايمة.
انحرجت من قبلته وسحبت يدها بخفه: طيب بس انتبه لا تحرق علينا البيت ياسمسم.
ضحك بضيق: إن شاءالله، بس أنتِ طلعي رقم المطافي من النت احتياط...
ثم أردف وهو يقف بعد أن ضحكت له: سيرّي على أمك لاتنسين تراها تنتظرك.
وقفت معه ريم تعقد حاجبيها بخوف من هذا الإصرار، ومشى كلاهما للخارج: أمي وش فيها؟
سلمان بتنهيدة: ضايق صدرها شوي ومرتفع ضغطها.
زمت شفتيها قبل أن تنطق بتردد: عشان فهد؟
توقف وتوقفت معه، يسألها باستنكار: أنتِ شلون عرفتي؟
ريم بضحكة مرتبكة: الصدق الصدق...
ابتسم: ايه؟
لفت ريم يدها حول ذراعه، وتحركت معه: كنت واقفه عند الباب وهم يتكلمون وقطيت إذن.
هز رأسه بقل حيله وضحك بخفة قبل أن يتفرقا هو للأسفل وهي ناحية غرفة والديها، تفتح الباب بتردد وخوف وعبرتها تصعد بشكلٍ سريع حتى كتمت أنفاسها وأصبح نشيجها مسموعًا وصل لسارة التي كانت تسند ظهرها على السرير بشعرٍ مجموع للخلف في ربطة لم تستطع أن تمسك كل الشعرات القصيرة فتناثر بعضها بعشوائية على جانبي وجهها، وعينين مغلقة وأصابع مرتعشة تدلك صدغها ببطء.
أبعدت يدها وهي تفتح عينها تنظر لها بعينين تتلامع، تنطق بابتسامة ضائقة ونبرة منهكة: هلا ريومة حبيبتي.
اصطدم فكي ريم ببعضهما وخرجت شهقتها بحدة ما إن رأت النظرة التائهة الحائرة الحزينة التي تعتلي وجهها، تقترب منها وتجلس بجانبها قبل أن تضمها لصدرها بقوة وصمت، لتنطق سارة بصوتٍ مخنوق: معوضة خير ياقلبي.
ريم ليست حزينة على نفسها أو موضوعها أبدًا فإن لم يكن نصيبها مع عبدالله فهو بالتأكيد مع غيره، ريم لا تعرف كيف تواسي, فالمكسورة هنا هي أمها التي اعتادت على أخذ المواساة والطبطبة منها، ولا تعرف ماذا تقول وهي تشهد انهيار والدتها التي اعتادت منها القوة، كانت الأرض الصلبة التي تثبت أقدامهم جميعًا ودائمًا، يقفون عليها وهم على ثقة بأنها لن تميل بهم. ولكنها الآن وهي تتشبث بريم التي بدأت تمطر رأسها بالقبلات بدت هشّةً وبلا روح. تردد بضعف وكأنها تحمل نفسها خطأ كل شيء: وش أسوي لفهد؟.... شلون أساعده؟
لم تنم ريم في تلك الليلة، بل بقت جالسةً تراقب والدتها بأسى وخوف من أن تفقدها فهي وإن كانت تحملت ماحصل بالماضي بكل شجاعة وقوّة، فلن تستطيع تحمل أي موضوع آخر مهما كان الآن. فالإنسان القادر على تحمل كل الضربات القوية والتصدي لها ببسالة، ينهار عند ضربة صغيرة واحدة.
ارتفع أذان الفجر، وتحركت ريم تخرج من المكان لتتفاجأ بوالدها يجلس على اريكة الصالة العلوية، لايبدو أنه نام أو أغمض جفنه حتى: يبه كان دخلت داخل ترتاح أحسن لك من الكنب.
ابتسم لها بتكلف: مايخالف كنت أبي أنتظر الصلاة، وش أخبار أمك؟
قوست ريم شفتيها ببؤس: نايمة، بروح أصلي ثم أصحيها تصلي.
وقف وهو يزفر بعمق: اقنعيها ما تداوم ولا بتطيح على البنات.
هزت ريم رأسها ونطقت بتنهيدة: ماهي مداومة خلتني أرسل اعتذار لقروب الشعبة، باين تعبانة حتى لو كابرت.
سلمان بحنو: الضغط لاعب فيها لعب.
ريم من قلب : الله يعافيها ويخليكم لي.
تبسّم سلمان بمودة: ويخليك لنا يافرحة البيت أنتِ، خلاص روحي صلي ثم نامي وارتاحي أنا بصحيها وأقعد عندها.
ريم : طيب بس إن بغيت أي شي ناديني يبه.
هز رأسه مؤيدًا وهو يربّت على كتفها بصمت قبل أن يبتعد تاركًا المكان.
نامت ريم أول ماوضعت رأسها على الوسادة ورغم أن نومتها لم تكن مريحة أبدًا، إلا أنها امتدت لما قبل صلاة العصر.
دخلت غرفة والدتها لتتطمن عليها ووجدتها نائمة مما جعلها تخرج وتغلق الباب خلفها بهدوء، ترفع هاتفها وتتصل على والدها الذي كان بعمله وهي تنزل السلالم ببطء لتسأله عنها. وما إن أخبرها بأنه تأكد من أن أوضاعها مضبوطة قبل ذهابه حتى وتنفست الصعداء التي كانت تحبسها.
خرجت من البيت للساحة الخارجية بعد نصف ساعة قضتها بدون أي أعمال تذكر، قتلها الملل والهدوء داخل المنزل فقررت الذهاب للجادل علها تؤنسها لكنها توقفت في خطاها وهي ترى الواقف عند باب الشارع يعطيها ظهره.
: يعطيك العافية.
هتف بها فهد وهو يغلق الباب بعد أن أخذ الكيس من مندوب التوصيل، يستدير بجسده ويتقدم ناحية بيته دون أن ينتبه لريم التي كانت تقف جانبًا تتابع تقدمه: ارحمنا بنظرة على الأقل ياهوه.
ابتسم متفاجئًا ما إن لمحها، و وقف أمامها ينطق بهدوء: هلا ريّوم.
لم تستطع أن تضع عينها بعينه، فرمقته بنظرة من الأعلى للأسفل وهي تشير بسبابتها باستنقاص لما يرتدي رغم أنه كان كله طبيعيا ابتداءً من 'الهودي' الكحلي الواسع لشورته الأسود الذي يصل حد ركبته، لكن شحاطة غادة الفستقية بمجسم فلامنجو وردي عند مفرق الأصابع كانت ماتقصده ريم: طلعت تاخذ الطلب كذا؟
فهد بضحكة: كنت مستعجل ولو إن المندوب أعطاني نظرة ماعجبتني ههه. وش تسوين بالحوش هالوقت؟
تأففت بضجر: طفشت ماغير اتحذّف من كنبة لكنبة تقل قملة مصقوعة، ليتني وقفت بوجه أمي يوم جات تزوجكم ورى بعض.
ضحك: الله يقلع شيطانك.
لم تستطع أن تقاوم التصدد أكثر ورفعت عينها له، والتقت بعينه والتعب الواضح عليها مع ذلك كانت تبتسم لها بمودة جعلتها تندفع ناحيته وتحتضنه بلف يديها حول خصره، تنطق بتأثر رغمًا عنها: الله يسعدك يافهد الله يسعدك ويجبر قلبك يارب.
ضمها إليه بيدٍ واحدة لازال يمسك الكيس بالأخرى، يضحك متفاجئًا من هذا الاندفاع ولا يدري سببه، ولم تتوتر ريم هذه المره ولم تشتد أعصابه: ويسعدك ويجبر خاطرك وقلبك ياقلب أخوك أنتِ.
ظن فهد أنها ستبتعد وأبعد ذراعه، لكنها تشبثت به أكثر تشد عليه بقوة لثانية أو اثنتين قبل أن تحرره.
فهد وهو ينظر لعينيها: لا يضيق صدرك ربي بيعوضك بالأخير منه.. نصيبك مابعد جا،
"ياعمري أنت" : مايضيق صدري وأنت فوق راسي ياتاج راسي.
ابتسم بخفة ما إن أرسلت له قبلة في الهواء تتصنع المرح: أنا وغادة مابعد نحط غدانا تعالي تغدي معنا.
ريم: عليكم بالعافية توني فاطرة خبرك عطالة.
ثم أردفت وهي تنظر للكيس : غير إن ذا المطعم مايعجبني.
ابتسم وهو يلف يده حول كتفها ويمشي بها ناحية شقته: ماعليه تعالي اقعدي معنا.
ريم: فهد ممكن سؤال؟
ابتسم: ممكنين.
ريم بظرافة: ركبتك بيضا أبيض من قلبي ماشاءالله، وش طريقة عنايتك فيها؟
ضحك فهد وهو يفتح باب شقته ويدخل، تتبعه ريم التي انتبهت لغادة الجالسة على الأريكة ببنطال بيجامة ولازالت بقميص العمل الحريري بتشجيرات ناعمة لأحد الماركات، والتي اتسعت ابتسامتها ما إن رأت الداخلة عليهم.
نطق فهد بمرح وهو يضع الكيس على الطاولة بمنتصف المكان: شوفي مَن لقيت يحوّس بالحوش لحاله مثل القملة المصقوعة.
ارتمت ريم جالسةً على الكرسي المفرد أمامها: مو لازم نسلم كل ماشفنا بعض صح؟
ضحكت غادة وهي تنظر لها: أهلاً بالعروسة.
ريم بعبوس: مافيه عروسه خلاص، رجعت سنقل برنقل.
عقدت حاجبيها بعدم فهم وأكملت ريم بابتسامة صغيرة: تفركش الموضوع، التحاليل ماتطابقت.
تراخت ملامح غادة بصدمة: أوه،
ثم التفتت برأسها تنظر لفهد الذي استقر جالسًا بجانبها، والذي قوّس فمه قليلاً ورفع لها كلا حاجبيه بحركة واحدة يؤكد ذلك بقل حيلة.
سكتت غادة وصرفت بصرها عنه، تنظر لريم وابتسامتها المتصنعة بشكلٍ واضح، تقول فجأة: أنا قبل فهد خطبوني ثلاثة تدرين؟
شدّ الموضوع فهد، وشدّت نظرة فهد الفضولية ريم التي قالت وهي لازالت تنظر له: اووولّه ثلاثة مره وحده!!! أنا واحد وبغيت انهبل.
ضحكت غادة: شفتي كيف..
ثم سكتت لثانية قبل أن تتابع: المهم أقولك، كان الموضوع على قولتك يتفركش من بدايته ومن أول مكالمة مو عشان تحاليل أو غيره، لا لا كانت المرحلة ذي مستحيلة الوصول ههه.. كانت الأم تنسحب بطريقة محزنة تفشل وكنت أزعل وأتضايق لأن المشكلة تكون مني والرفض يكون منهم لدرجة إن موضوع الارتباط ذا صار شي مستحيل بالنسبة لي وشلته من بالي وقررت أشغل نفسي عنه بأي شي عشان ما أفكر كثير، بس الحين أحمد ربي مليون مره إن ولا واحد منهم تم نصيبي معه تدرين ليه؟..
ريم: ليه؟
رفعت غادة كلا حاجبيها وقالت بعينين متسعة تتلامع مقلتيها بشغف: لأن ربي جاب لي فهد ولأني لو أخذت غيره ماكنت باخذه.
صفّرت ريم بضحكة: اوووه من قدك فهودي.
انحرجت غادة وانتبهت لنظرته المتسلطة على جانب وجهها: ترى فيه أمور كثيرة تصير وتزعلين منها ولا تتم، وتقولين ليه وين الخيره فيها وهي جايبه لي كل ذا الحزن والضيقة، لكن فيها لطف خفي من ربي أنتِ ماتعرفينه، ترى كل خسارة مهما كانت كبيرة وراها عوض من الله، وكل صبر نهايته فرج مثل ماكان نهاية صبري أخوك هالجنتل مان.
تساءلت ريم بينها وبين نفسها إن كانت غادة عرفت بموضوع فهد البارحة، لأن كلامها هذا كان كالرسالة التي تريد أن توصلها له أكثر من أن توصلها لها، كلام تريد أن تقنعه به وتنقشه في دماغه.
ابتلعت ريقها وقالت بنبرة مرحة أكثر من اللازم تخفي خلفها تأثرها: جنتل مووت أنا أشهد، الله يرزقني واحد مثله قلبًا وقالبًا.
نطقت غادة بنبرة حب: آمين يارب، والله لو جاك واحد مثله بتعيشين برضا وسعادة طول ما أنتِ حيّة.
ابتسمت ريم بخفه وهي تنظر لفهد الساكت لازال ينظر لغادة ذات الأذن المشتعلة: أتوقع راس فهد كبر بما فيه الكفاية الله يعينه مهوب قادر يرفعه.
ضحك فهد يخرج من عالمه الذي أسكنته فيه كلمات غادة وشدها لا إراديًا ناحيته، يقبل المكان قريبًا من عينها حيث استقرت شفتيه رغمًا عنه، ورغم وجود ريم التي قالت باحراج فهي وعلى أنها معتادة على مزاح حاكم مع الجادل لإغاضتها إلا أنها لم تتوقع هذه الحركة من فهد الذي من الواضح فعلها بشكلٍ عفوي: أنتم يالمتزوجين بتذبحوني بالجفاف العاطفي. ارحموا عزيز قوم ذل يرحم أمكم.
تحركت غادة تبتعد عنه بسرعة وهي تتنحنح: بروح أجيب السفرة.
قامت واختفت بلمح البصر، وبقى فهد يجلس مكانه، يرفع يده لحيث كان كتفها يستريح على أضلعه قبل لحظات عندما مالت عليه، يضغط على صدره سارحًا شاطبًا ريم الجالسة أمامه من الوجود.
ثوانٍ قليلة عبرت أو ربما أقل، بالكاد زفرت فيها ريم أنفاسها قبل أن تصلهم صرخه تبعها صوت زجاجٍ يقع على الأرض ويتكسّر، أخرَجت فهد من شرودِه وأفكاره ليقفز من مكانه بسرعة ويصل لغادة قبل أن تسكت عن صرختها حتى، يتلقفها بين ذراعيه في الوقت المناسب قبل أن يرتطم رأسها بالأرض الصلبة عندما مال جسدها للخلف بتصلب وهي تفقد السيطرة عليه بأكمله بسبب نوبة صرع.
وضع فهد ذراعاً تحت راسها وآخرًا على خصرها وثنى ركبتيه ينزل عليهما ببطء وينزلها معه بحذر خوفًا من أن تتكسر حطامًا بين يديه وهو يشعر بجسدها مثل لوح الخشب إلى أن استوى به ممددًا على الأرض، تتقطع أنفاسه بشكلٍ قصيرٍ مربك وهو يشعر بارتعاشها القوي يكاد يسحق ذراعه تحتها، يبتلع ريقه ويرفع كفه المرتجف الآخر، يسمّي ويمسح برقه على قبضتي يديها المشدودتين قريبًا من صدرها حيث كانت تنتفضان بجنون.
تسمّرت ريم التي كانت تقف عند الباب في مكانها، تتابع الحاصل أمامها بعينين مشدوهتين وقلب ينتفض بفزع. تتعلق عينيها باقدام غادة التي كانت ترتطم بالأرض بتشنجات سريعة وكأن ماسًا كهربائيًا ينفضها، يصل لمسمعها صوت صراخها المكتوم حتى بدَا كأنين جريحٍ موجوع.
تصرف بصرها لظهر فهد الذي كان ينحني عليها، ثم للكأس الذي تكسر بقطع زجاج كبيرة تناثرت قريبًا منها دون أن يصيبها.
وبقت تنتفض حتى سكنت حركتها تمامًا وارتخت أقدامها وباقي جسدها واختفى صوتها.
فتحت غادة عينيها رويدًا رويدًا بوهن لتجد وجهه يبتسم لها بحنو وكأنه أبصر بعينيها الحياة. ثم مسح لعابها الذي سال بيده قبل أن يمسح باقي وجهها بذراعه، يهمس: بسم الله عليك.. الف لا باس عليك ياحبيبة قلبي.
أرتعش فكها قبل أن تغص ببكاءٍ مكتوم، جعل فهد يسأل بقلق: فيه شي يوجعك؟
ثم مرر يده على جسدها يتفحصه بحذر وعينه على الزجاج المتناثر: جاك شي؟
هزت رأسها تنفي وهي تحاول أن ترفع يدها الخدرة لتمسح دموعها، لكن أصابع فهد كانت أسرع، يمحي عن وجهها آثار البكاء، ينظر لعينيها الغائمتين بحب وعطف حتى هدأت، ليسأل بذات الهمس بعد لحظات وإبهامه يمسح على حاجبها المتراخي برقة: أخذتي علاجك ليه صار كذا؟
حاولت غادة أن تبتسم وبالكاد خرجت منها ابتسامة صغيرة: هذا عقاب من الله لأني كنت أهايط على ريم قبل شوي.
وحاولت أن تضحك، لكن ماحصل كان عكس ذلك فتقوست شفتيها بحزن جعله يقول بنبرة أذابت قلبها كالشمع: الحمدلله إن ولا واحد من هالثلاثة تم موضوعك معه ولا كنتي بتروحين علي.
غادة: من سوء حظك.
اتسعت ابتسامته حتى شعرت بأن عينيه قادرة على أخذ كل البؤس الذي استوطن قلبها: إلا من بختي وكبر حظي... تقدرين تقومين؟
هزت رأسها وهي تبتلع ريقها الذي جف: اسندني بس.
ساعدها تقف، وابتعدت ريم عن المكان بسرعة خوفًا من أن تحرج غادة وعادت تجلس مكانها وعينها على الباب الذي خرجا منه.
ابتسمت بتوتر لتبادلها غادة الابتسامة وتنطق بصوت منهك خالطته بحّة: بغير بلوزتي بدل ما أنا مرقعه كذا وأجي، تغدوا لا تنتظروني.
تابعها فهد حتى اختفت خلف الباب الذي أغلقته، وتنهد بعمق وتعب قبل أن يعود بخطاه للمطبخ.
دخلت عليه ريم بسرعة قبل أن ينحني ليلتقط القطع الزجاجية الكبيرة: اتركه فهد أنا بكنسه.
غيّر فهد وجهته مباشرةً ليأخذ قارورة ماء باردة من الثلاجة علها تروي عروقه التي جفت، يفتحها ويشرب قليلاً منها وهو ينظر لريم التي بدأت تكنس الزجاج بمكنسة اليد الموجودة خلف الباب،
تبتلع ريقها بارتباك أكثر من مره قبل أن تسأل بتردد: هي غادة فيها صرع؟
أجابها فهد وهو يعاود الشرب من قارورته: مم.
رفعت حاجبيها باستنكار: ماكنت أدري! أمي ماقالت.
أغلق فهد العلبة بغطائها قبل أن يتركها على الرف، يجيب باختصار: أنا أدري.
ريم بشفقة: الله يعافيها يارب.
ثم تابعت بإحراج واضح: أحس جيت بوقت غلط.
ابتسم وهو يضع يديه على خصره رافعًا حاجبه بتنهيدة: ليه؟
رمت ماكنست في القمامة، وأعادت المكنسة لمكانها وهي تهتف بتعاطف: فشلة من غادة يمكن ماتبيني أشوفها بالحالة ذي، أحسها قامت تسبني في قلبها.
فهد بضحكة رغمًا عنه: شدعوة، ماهو عيب ولا غلط هاللي فيها.
تمتمت ريم وهي تتمنى أن تنشق الأرض وتبلعها: حتى لو الواحد مايبي أحد يشوفه وهو بأضعف حالاته..
ثم أردفت بنبرة أعلى: وينها تأخرت؟ روح شوفها ليكون صار لها شي وأنا برجع البيت خلاص.
دخلت غادة المطبخ على هذه الجملة، ترتدي القطعة العلوية من بجامتها وتجمع شعرها بشكلٍ عشوائي أعلى رأسها وعلى وجهها ابتسامة واسعة نطقت معها ببشاشة: تروحين وين، والغدا؟
ارتبكت ريم ولا تعرف سبب هذا كله: عليكم بالعافية قلت لفهد من قبل ما أبي.
سحبت غادة السفرة البلاستيكية التي قطعتها باكرًا: مايخالف اقعدي افتحي نفسنا على الأكل.
ابتسمت ريم واتسعت إبتسامتها حتى تحولت لضحكة، تهتف بخبث وهي تلحق بهما للصالة: ول يالكلام الغرقان عسل بعذر فهد ساحب على أم القبيلة.
ورغم أن ريم أبدت رفضها بالأكل إلا أنها شاركت فهد طعامه بعد أن أصرّ عليها والذي كان يشرب من علبة مشروبه الغازي وهو يسمع غادة تسأل باهتمام: وش فيها مس سوسو ماداومت اليوم ليكون تعبانة؟
نظرت له ريم بسرعة بحركة خرجت لا إرادية، وقالت ترقع هذا التصرف الأحمق وهي ترى حاجبيه ينعقدان بقلق: صحت الصبح ولا كان لها خلق ورجعت سحبتها نومه بنت عزام، خذيها قاعدة لا التزام أكاديمي ولا بطيخ قدام النوم.
غادة بضحكة: تعجبني، مير لها فقده بسم الله عليها المكتب نايم من غيرها!
رمقت ريم فهد بنظرتها تستشف شيئًا من ملامحه لتجده ينظر لعلبة المشروب الزرقاء في قبضته بشرود، ولم تجد شيئًا تعلق به سوى ضحكة باردة وهي تقف وتنفض يديها مما التصق بها: اغناكم الله وكثر خيركم، خلاص لازم أرجع بيتنا.
تعلقت بها عينَا غادة المتربعة أمام فهد على الأرض وتفصل بينهما سفرة الطعام: وين؟ اقعدي وبعد المغرب روحي.
رفعت ريم حاجبها وقالت بنبرة: ليه وش عندكم بعد المغرب وتبون تصرفوني؟
ضحك فهد: ياشينك ماعندنا شي.
نظرت له ثم جلست على الأريكة، تضع قدمًا على الأخرى بتحدي: بقعد لبعد العشاء أجل.
قهقهت غادة ببهجة واضحة: خليني أخلص غداي وبسوي لك كوب قهوة ماقد ذقتي مثله بحياتك.
فهد بنبرة ودودة وهو ينظر لها بمودة جعلت ريم تتنقل ببصرها بينهما وكأنها تنظر لمشهد سينمائي: ياقلبي ترى بيتنا كله ماله بالقهوة ماهو بس أنا. كوب شاهي عمّال ثقييل كفيل بأنه يجيب راسنا من أكبرنا لأصغرنا.
ضحكت ريم: وياسلاام لو تجيك معه ورقتين نعناع مع اكسترا شوقر،، بووم يضرب بالنخاع على طول، لكن مايمنع نجرب قهوتك.
ثم قالت وهي تأخذ نفسًا عميقًا وأطلقته: ريحة بيتكم ريحة مقهى تفتح النفس.
غادة بثقة: أوعدك تدمنين شاريه بن جديد عليه مدح ماهو صاحي.
ثم نظرت لفهد وقالت تمازحه: وأنت جبت لك بودرة كاكاو بسوي لك حليب شوكولاطة ولا بالأحلام.
رمقته ريم بإزدراء وقالت بنبرة متهكمة تمازحه: فشلتنا يافهد الله يفشلك، ورع أنت!!
ضحك فهد من أعماق قلبه ما إن راقصت له غادة حاجبيها بتشفّي، يرد على ريم وبصعوبة استطاع أن يصرف عينه عن وجه الجالسة أمامه: فاضية ذي ماعليك منها مسوية مدركة جو الباريستا ومابقى آلة قهوة ماشرتها وهي ماعندها سالفة.
رفعت غادة حاجبها بتهديد مازح: لا والله، أنا ماعندي سالفة!....قد كلمتك ذي؟؟
اتسعت ابتسامة ريم بخبث وهي تتقدم بجسدها وتضم كفيها أمامها بحماس: قدها ونص، فهد رد عليها لا تسكت.
ضحك فهد وقام بعد أن انهى طعامه: أعوذ بالله منك يا ابليس أنا رايح أتوضى مابقى شي ويأذن العصر.
ريم بحنق: أنا ابليس؟؟ الحين ذا ردك يالذروق!!
خرج فهد للمسجد بعد أن توضأ، وبقت ريم تصلي العصر في منزله لتقف بجانب غادة بعد أن انتهت الأخرى من صلاتها أمام ما اسمته غادة "كورنر القهوة" والموجود في أحد الزوايا. تتنقل ببصرها على الأجهزة المتعددة بمختلف الأشكال والأحجام قبل أن تقول بذهول: صدق فاضية عز الله اللي طفّرت يافهيد.
ابتسمت غادة وسحبت كوبين باستمتاع: أقولك الموضوع صار هوس وصدقيني بتطيحين معي بعد ماتشربين أول كوب.
ريم بنبرة ممازحة: أخاف قلبي يوقف ترى أثقل شي شربته كان مشروب طاقة حق مراهقين المتوسط كودرد اكيد تعرفينه!! الله وكيلك جاب لي خفقان نفضني نفض.
ضحكت غادة وهي ترى ريم تأخذ بعض حبات البن من علبتها قبل أن ترميها في فمها وتكسرها بين أسنانها بدون إحساس، تعد لنفسها كوب قهوة سوداء وأخرى بحليب ورغوة لريم التي علقت بحماس: ارسمي على الوجه سوي حركات.
غادة بضحكة وهي تسكب الحليب بحركات بهلوانية: بس ارسم!! ابشري ماطلبتي شي.
ثم تنفجر ضاحكة على ملامح ريم المتهكمة بسخط على الرسم الذي لا يعتبر إلا خرابيط لا رأس لها ولا رجلين.
ارتشفتا قهوتهما بروقان ومواضيع متفرقة تدار بينهن، وكانت غادة أكثر من متلهفة لسماع رأي ريم التي لم ترتشف إلا رشفةً واحدة علقت بعدها بعبوس: حار خليه يبرد شوي حرق لساني.
ابعدت ريم عينها عن شاشة هاتفها بعد مضي دقائق ما إن شعرت بهدوء غادة المفاجئ لتجدها تنعس بجلوسها الغير مريح هذا، تسند رأسها بكفها والذي كان يميل قبل أن تعاود رفعه بعينين مغمضة تفتح في كل مرة، ضحكت: الله لا يعذبنا ادخلي داخل نامي.
رمشت غادة أكثر من مرة وهي تنزل قدميها عن الأريكة وتقول بابتسامة خدرة: ما أحب أنام العصر بس جسمي خدَر بعد النوبة.
ابتلعت ريقها بارتباك ولم تدري ماذا تقول فوقفت: مايخالف خذي لك غطة.
غادة بسرعة: وين وين، والقهوة!!
ضحكت ريم وقالت بنبرة مرحة: يابنتي قهوة مين بغت تطيح ضروسي وش ذا المرارة اللي فيها هذا وأنا مكثرة سكر!!
كشرت بازدراء: ماعندك سالفة.
ريم على مضض: يكفي أنتِ عندك سالفة، المهم أنا رايحة أمي أرتاعت مالقتني بالبيت تظن إني هجيت.
ضحكت غادة بمودة: سلمي عليها.
: إن شاءالله يلا سلام.
.
.
خرج جوار مندفعًا بإنفعال مغلقًا باب البيت خلفه بقوة، يقف في منتصف الساحة الواسعة رافعًا رأسه للأعلى، يزفر القهر الذي كان مشتعلاً في صدره والصراخ الذي كان يكتمه ويغلفه بالبرود والهدوء من عناد والدته التي لازالت غاضبةً منه، رغم أنه أوصل لها قصة زواجه من عذوب بشكلٍ حزينٍ بائس لدرجة أنه كاد يصدق كذبته ويرحم عذوب شخصياً، إلا أن والدته لم تقتنع ولم ترضى حتى بعد مرور كل هذه الأيام والأسابيع، لازالت غاضبة زعلانة تتصدد عنه كلما رأته وتُبعد رأسها بسخط في كل مرة يدنو ليقبلها عليه.
أخرج كرتون السجائر من جيبه، يشتم البشر جميعًا تحت أنفاسه وهو يُشعل بلهيب ولاعته واحدةً تموضعت بين شفتيه، يأخذ منها نفسًا عميقًا كتمه في صدره لثوانٍ معدودة قبل أن ينفثه في الهواء ببطء، يكرر الحركة أكثر من مرة حتى أحسّ بالنيكوتين يحرق جوفه ويشتته عن انفعاله الذي سيقتله قبل الدخان الذي يرتشفه بجنون.
وبالرغم من اعتقاده بأن لا شيء أفضل من عذوب للتنفيس عن الغضب عندما يبرحها ضربًا حتى تفقد وعيها من شدة الألم، إلا أنه يجد نفسه يلجأ دائمًا للعود الأبيض القاتل لإطفاء النيران التي تشتعل به، خصوصًا بعد أن يبرح عذوب ضربًا، خصوصًا خصوصًا أنها لا تبكي ولا حتى تنكسر، بل تظل ترمقه بنظرات قوية يحتاج بعدها لتدخين باكيت كامل عله يضبب نظرتها الحارقة في ذاكرته، ويصرف شيئًا آخر يقبض نبض قلبه من منظرها الدامي وهي ملقاة أمامه لاحول لها ولا قوة.
تجولت نظرته على الساحة الفارغة أمامه ببطء وهو يشعر بالسواد ينتشر في رأسه وكأن الفراغ يقتات على دماغه، يأخذ نفسَين إضافيين على عجل قبل أن يرمي السيجارة على الأرض ثم يطؤها بحذائه وهو يأخذ طريقه لخلف المنزل حيث الغرفة المنسية الصغيرة، ينتبه باقترابه للواقفة أمام نافذتها التي تتوسط جدارها القصير، تعطيه ظهرها وقد عرفها فوراً ودون الحاجة للتفكير مرتين، فإن كانت والدته المحتقنة غضبًا داخل المنزل، فإن الواقفة بشعرٍ طويلٍ مسترسل بتموجات غجرية هي مها زوجة شقيقه الأصغر محمد، والذي توفّي قبل سنوات قليلة عندما كان جوار بعيدًا يقضي خدمته خارج البلاد كأي موظف مجتهد ونبيل قلباً وقالبًا.
يذكر تلك الفترة جيدًا، عندما وصل له خبر وفاة محمد ليطير مفجوعًا لوطنه تاركًا كل شيءٍ خلفه بما فيهم عذوب التي لم يمضي على زواجه منها سوى نصف سنة أو أقل بأيامٍ لا تكاد تذكر، يطول الفراق قليلاً لأسابيع قضاها مستنكرًا الموت الذي خطف شقيقه فجأة، تمضي الليالي ثقيلة عليه تغرق بالحسرة وهو يعترف بتقصيره معه عندما كان قادرًا على وصله وسماع صوته وحتى رؤيته.
هيَ ذاتها الحسرة التي تقتل الأحياء بعد موت عزيزٍ عليهم، ليجد في صوتها وكلماتها المواساة التي كانت تخفف عنه ضيق كل ليلة وتجعلها تعبر.
عادت مها لبيت شقيقها، وعاد جوار قبلها بأشهر لعذوب التي كانت تستمع بكل شغف لأحاديثه التي لا تتوقف عن فتى وفتاة سرقا قلبه من أول نظرة.
ويبدو أنه كان يقصد ذلك بالحرف الواحد ولم يكن تعبيرًا مجازيًا لوصف تعلقه بهما. بل أنه أثبت ذلك عندما عاد مجددًا لوطنه، بوضعٍ مغاير عن تلك المرّة، فقد كان محطمًا غاضبًا فاقدًا لكل شيء, إذ لم يكن الفراق مجرد أسابيع هذه المرة، بل كان أبديًا، نهائيًا لحياته اللامعة، الخسارة الكبرى بعد التهمة والاعفاء وتلاشي عذوب كفص ملحٍ ذاب. يجد نفسه يخرج من دوامَةٍ ليغرق في أخرى، يتزوج مها دون تفكير لأجل خاطر الصغيرين ما إن أخبرته والدته بالوضع السيء الذي يعيشانه في بيت خالهما وزوجته المتسلطة، يلبي نداء مها عندما استفزعت به لينقذها ما إن نوى أخوها تزويجها لمعدد ستيني يريدها الزوجة رقم أربعة فوق نسائه الثلاثة رغم أن ماديته مُستنزفة من أبنائه الكُثر.
ومها إن لم تجد بديلاً يوازي الحياة الرغيدة التي كانت تعيشها مع محمد أو قريبًا منها على الأقل, فهي بالتأكيد لن ترضى بحياة أقل وبيت شعبي بطابق واحد تتشاركه مع ضرائر.
مها التي كان زواج جوار منها زواجًا صوريًا وافقت عليه والتزمت بمعناه بالحرف الواحد إلى أن قررت تغيير ذلك عندما شعرت بقلبها يحيد عن مساره ويكسر الوعود وينبض له.
سأل جوار بهدوءٍ مرعب وهو يتقدم بخطى ثابتة: وش تسوين هنا؟
التفتت مها بسرعة، تنظر له بذعر وكأنه بصوته أخرجها من عالمها المظلم وسلسلة الأحقاد التي شدّت قيدها حولها رغم أنها لم تكن تنظر إلا لانعكاس وجهها في النافذة الصغيرة ذات التظليل الأخضر.
ابتلعت ريقها وهي تتابعه بعينين ملهوفتين وقلب يستجدي حبًا غيرَ موجودٍ منه، حتى وقف أمامها بقامته المهيبة يرتدي ثوبًا أسودًا زاد هيبته هيبة، يعقد حاجبيه متسائلاً بنظرةٍ كالزمهرير، يعاود النطق بذات الهدوء: أنا ماقلت لا أشوف أحد يقرب من الغرفة ذي؟
ابتلعت مها ريقها مجددًا، تجد أن القوة التي كانت تتصنعها وهي تنظر لمن تقبع في الجهة الأخرى من النافذه تتهاوى كورقة صفراء أمام قوة نظرته الباردة ونبرته الحادة الخفيضة عندما عاد يسأل: قلت ولا ماقلت؟
لطالما كان جوار معروفًا ببروده، مخيفًا مرعبًا بسبب ذلك، وكأنه بركان خامد يخفي داخله حممًا حيّة قادرة على إحراق البشرية.
ورغم أنه لم يتعرض لها يومًا ولم ترى منه شيئًا مشينًا أبدًا إلا أنها كانت تحذر منه ولا تتمادى إلا قليلاً خوفًا من أن ينفجر في وجهها!
نطقت بزفرة: قلت.
سكت وهو يرمقها بنظرة يتضح من خلالها أنه يحاول السيطرة على أعصابه ثم سأل بنبرة تحقيقية جامدة: دام قلت أجل وش موقفك هنا؟
أرخت نظرتها للأرض وهي تمرر لسانها على شفتيها بارتباك، تهتف بخفوت: جيت أشوف إذا عذوب تحتاج شي.
أمال رأسه ونطق بتحذير: مها!!
رفعت بصرها بسرعة، تنطق بشكلٍ أسرع وبدون تفكير وبصوتٍ مرتعش من الغيظ: جوار أدري إنك ما أخذتني إلا عشان زيد وجنى، بس لا تعاملني كأني كرسي في هالبيت.
سكت قليلاً وهو ينظر لوجهها الذي اشتعل بسرعة تحت تأثير نظرته المتفحصة، لا يستطيع أن ينكر أنها تمتلك وجه مثالي يحلم به أي رجل، بملامح مرسومة لا يشبهه إلا القمر الذي يتوسط السماء المظلمة فوقهم، إلا أنه لا يستطيع أن يراها بنظرة أخرى غير نظرة (مها زوجة شقيقه محمد وأم أبنائه).
عقد حاجبيه بخفّة، يهتف بنبرة تساؤل مقصودة: مو ذا كان الاتفاق من البداية؟ أذكر ماكان عندك مانع تكونين كرسي بس المهم تطلعين من بيت أخوك ولاترجعين للضيم اللي ذقتيه عنده!
نطقت مها بقهر رغمًا عنها: حتى وإن كان ذا الاتفاق من البداية، هالشي مايعني إنك ماتحط لوجودي على ذمتك أي اعتبار ومايعطيك حق تدخل علينا ومعك وحدة ماندري من وين طحت عليها..
سكت جوار لثانية وهو يتفحص تعابير وجهها، ارتعاش أهدابها، اهتزاز حدقتيها، شدّها على فكيها وكأنها ستسحق عظامه بين مطاحنها، تنزل عيناه ببطء لقبضة يدها المشدودة جانب جسدها قبل أن يرفعها صعودًا للأعلى بذات البطء حتى بدَا وكأنه ينظر للأماكن البارزة في جسدها، إلى أن توقف عند أنفاسها السريعة المتلاحقة بصوتٍ مسموع وكأنها ستحرقه من حرارتها،
جوار بجمود: أنا ماني ملزوم أرضيك أو أبرر لك تصرفاتي، ومن أول قايل لك لو باخذك بيكون عشان عيال محمد مايعيشون بعيد عن أمهم اللي أخوها يبي يتخلص منها بأي طريقة، ولأني أبيهم يعيشون مثل ماكان يبي محمد، معززين مكرمين بحياته وبعد مماته.. تكفيهم خسارة أبوهم ما أبيهم يفقدون أمهم بعد.
اُصطبغ وجهها باللون الأحمر من شدة الحنق الذي تشعر به: جوار أنا زوجتك حتى..
قاطعها بصرامة هادئة: زوجتي صح، بس اللي بيني وبينك كلام على ورق وماتم إلا برضاك فلا تتوقعين إن فيه شي بيتغير عن اللي اتفقنا عليه, لذلك الزمي حدودك.
ابتلعت ريقها الذي شعرت به كالموس أدمى حلقها، ونطقت بنبرة رققتها قدر المستطاع: جوار لا تدفنِّي بالحياة وتظلمني معك تراك بتتحاسب علي. وقف تشوفني كأني ولا شي بحياتك.
رفع كتفيه هاتفًا ببساطة: تقدرين تطلبين الطلاق وتشوفين حياتك مثل ماتبين الله يوفقك، بس تأكدي إن عيال أخوي بيقعدون في بيته ولا بيطلعون منه لو يحكم لك ألف قاضي بحق الحضانة. مستعد أضيّع عمري وأحفى رايح جاي بالمحاكم ولاّ إن زيد وأخته يعيشون بنقص وذل بعد أبوهم.
زمت شفتيها بحنق تمنعها من أن تتحرك وتكيل عليه سيلاً من الشتائم لاينتهي، واقتربت منه بخطوة ضغطت فيها على نفسها وكبريائها، مستعدة لفعل أي شيء المهم ألا يركنها جوار على الرف، هذا واحد. وألا يتركها لتضطر للعودة لمنزل شقيقها الذي لا يرى في زوجته ومستعد لتصديقها حتى لو قالت أن السماء تمطر ذهبًا، هذا اثنين.
ستحارب الجميع حتى تظفر به وإن كان رجلاً فعلاً سيأتي يوم ويضعف به ويستسلم لمحاولاتها.
نظرت لعينيه التي كان البرود أداة سحرٍ فيها تجعل نبض قلبها يضطرب، يرفع حاجبًا مستفسرًا وهو ينظر لعينيها القريبة منه، يرمش ببطء دون أي تعبير أو تأثر بأنفاسها التي تلفح وجهه، تهمس: طيب وإن قلت ماعندي مانع نخلف هالاتفاق؟
ابتسم جوار وكاد قلبها يتوقف، تتشجع لذلك وتميل برأسها قليلاً قبل أن تطبع قبلةً خفيفةً على خده، ثم تهمس بابتسامة انتصار قريبًا من أذنه: بالأخير زواجنا شرعي يدري عنه الكل مو مثل زواجك أنت وال.. ولا خلني ساكته أحسن.
تنهد بعمق تنهيدةً بدت وكأنه يجاهد نفسه على ألا يقوم بعملٍ ما، شعرت بها مها وسرت رجفة في جسدها بحماس ما إن أحسّت بأنها أثرت عليه ولو بشكلٍ بسيط، وتأكدت من ذلك ما إن لف ذراعًا حول كتفها هامسًا قرب أذنها بخفوت: مها.
اشتدت أنفاسها بتحفز : لبيه.
جوار بهدوء: ابعدي من قدام وجهي دام النفس عليك طيبة.
ثم أبعدها عنه برقة، تعتلي وجهه ابتسامة استخفاف واضحة وواسعة جعلت مها تتنحنح بإحراج وهي تعتدل بوقوفها قبل أن تنطق بثبات وتبادله الابتسامة بغمزة وكأن شيئًا لم يكن: أوكي، بس لا تنسى تفكر بكلامي.
قالتها ثم طبعت قبلة أخرى أعمق على خده وهي متأكدة من زوج الأعين الذي يتلصص بنظراته عليهم قبل أن تبتعد متمايلةً في مشيتها حتى اختفت من أمام جوار الذي أدار جسده يتابع ابتعادها بعينيه.
كان الهدوء ضجيجًا يفجّر طبلة الأذن في الغرفة الصغيرة المغلقة، غرفة لا تتعدى المترين ونصف في مترين وكأنها سجن انفرادي لكن مع حمام صغير يُغلق عليه باب بلفته انسانية يشكر عليها والد جوار، بالكاد تكفي السرير الفردي في زاويتها والذي تتمدد عليه بجسدٍ خائر القوى، تشعر بكل عظمةٍ في جسدها تصرخ من فرط الألم، بشعرٍ أشعث ممزق غير قادرة على جمع خصلاته وشفاه مجروحة وكدمات متفرقة بعد ضربٍ مبرح دون رحمة تكرر لأيام كان يتوقع في نهايته رضوخ لكن ماكان ينتظره شيء آخر تمامًا. ومع أنها غير قادرة على رفع جسدها المتهالك، إلا أنه لو كانت النظرات قادرة على اختراق الزجاج لكان الاثنان المتقابلان أمامها خلف النافذة كعصفوري حب مقتولان يغرقان في دمائهما!
زفرت بغيظٍ وحقد وشعور آخر كانت قد دفنته، زفرةً حارة قادرة على إحراق الكوكب بأكمله كانت تفور داخلها متصنعةً عدم المبالاة إلى أن رأته يأتي ويقف بجانب من كانت تنظر لها لأكثر من عشر دقائق، وكانت عذوب تبادلها النظرة القوية الكارهة رغم وجود النافذة العاكسة التي تفصل بينهما.
صرفت بصرها المثقل بالدموع بعيدًا عن الذي أعطاها ظهره ليتابع التي ابتعدت وكأنه يحرسها بنظراته، ويريد التأكد من أنها وصلت وجهتها دون أن يصيبها خدش، تشعر بتأجج شعورٍ غريب ومكروه في قلبها لا معنى له ما إن تعانقا ليتبادلا القبلات أمامها وكأنهما يريدان منها أن تشهد على وقاحتهما!
تضغط بكل قوة على أصابع يدها التي هي متأكدة من أنها شبه مكسورة فقد قام بلويها حتى سمعت طقطقة عظامها، لتكون الكهرباء التي انتشرت بجنون على امتداد ذراعها سببًا منطقيًا للألم الذي تشعر به بين ضلوعها.
انقبض صدرها وضاق نفسُها وهي تشعر بنبض قلبها يتسارع بغبنه حتى تمنت أن تقتلعه من مكانه عل هذا الإحساس يختفي،
استنكرته واستنكرت استنفاره، أَبعد كل الذي حصل لازال قلبها يشتد غيرةً عليه؟
نعم. أتى الجواب نعم، عرفت الآن أنه نعم، دائمًا للأبد نعم؛
ولن تستطع تكذيب الحقيقة وماتشعر به حتى وإن اشتعلت غضبًا وكرهًا فجوار كان لها لتحبه منذ البداية، ورؤيته مع امرأة أخرى حتى وإن كانت تكرهه تستفز الأنثى الأنانية المنسية داخلها.
لقد ذاقت عذوب الأدهى من ذلك والأمر، منذ أن ولدت وحتى هذه اللحظة وهي في بيته، في موطنه وموطنها، زوجته أمام أهله مثلما كانت تتمنى يومًا. تقسم أن ماذاقته لا يأتي شيئًا عند صفعات جوار وسبائبه وشتائمه، ورغم الغضب الواضح في ركلاته الحانقة على بطنها وأماكن متفرقة في جسدها وضغطه المتواصل على عنقها إلا أنه وبشكلٍ ما كان يحاول قدر المستطاع ألا يقتلها أو أن يتسبب لها بعاهةٍ مستديمة، يريد إيجاعها لترضخ من فرط الألم نعم، يكسرها ليدفعها للإنهيار وينتزع منها تفسيرًا نعم، لكنه كان يتوقف في النهاية عندما تتنحى المقاومة المزعومة جانبًا وتبدأ بمحاولة فاشلة منها أن تكتم صراخها ليخرج لهيثًا موجوعًا رغم كل القوة فيه. تشعر بخوفه ما إن تغمض عيناها بكل استسلام بأنفاسٍ هادئة و وعيٍّ متأرجح يذهب ويجيء،
تحس بانحنائه ناحيتها، يتحسس وجهها، يمسح شيئًا دبقًا يسيل جانب رأسها قبل أن يتأكد من نبضها وأنها لازالت على قيد الحياة، لتخرج منه زفرة عميقة قبل أن يرفعها ويعدلها على سريرها المهترئ ثم يغطيها ويخرج.
مرّت عليها أساليب التعذيب اشكالاً بشعة لم تحمل معها سوى الألم والشقاء، تتراوح بين الضغط النفسي والجسدي والقهر الروحي، تتعرض للإذلال والمهانة والصفع والضرب،*لا تنسى السلاسل التي كانت تقيدها، السياط التي تقع على جلدها بكل قوة حتى باتت شوارعًا حمراء، النيران التي كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تحرق وجهها وباقي جسدها قبل أن يبعدوها ضاحكين باستمتاع على صرخات الفزع والاستغاثة! ذاقت العذاب بشتى أنواعه كي تنهار إرادتها، الشيء الوحيد الذي تملكه بعد أن صار جسدها مستباح، وإن لم تقاتل لتصمد إرادتها، فقد خسرت المعركة.
وفي النهاية, صمدت إرادتها وخسرت المعركة عندما فقدت روحًا كانت في بطنها قبل أن تأتي...
لكن لماذا مايفعله بها جوار أتى أشد وطأة على روحها وقلبها؟
كيف صارت الأمور معقدة هكذا؟ صعبةً بينهما جدًا لهذه الدرجة بعد أن كانا منسجمين يفهمان بعضهما من نظرة؟
كيف انتهت ملحمة العشق التي ظنت بأنها اسطورية بهذا الشكل الهزيل؟ وكيف انتهت الحياة بينهما بهروب ولحاق وضرب وتعذيب؟.... كيف أصبح جوار شيطانًا لا يرحم بعد أن كان الأمان لنوبات الهلع والمنقذ الذي أنقذها من كل شر، حتى شر نفسها على نفسها!
سمعت صوت تدوير المفتاح بالقفل، ثم به يُفتح لتقع عينها بعين الذي رفع رأسه بدخوله، غير قادرة على ابعاد بصرها بعد أن لاحظت طبعة الشفاه الوردية على خده واختفى نصفها في شعر عارضه عندما أعطاها جانب وجهه مغلقًا الباب بهدوءٍ خلفه.
توقّف جوار قبل أن يحرك قدماه عندما انتبه لنظرتها، شيءٌ ما كان كامنًا مخفيًا خلف تلك العيون الغارقة في جمودٍ فضيع، جمود عميق.. وجوار ليس بالأحمق ليجهل كنهه!
وتوقّع أن عقرب رمل مثل مها ستستغل كل الفرص التي تتاح لها، منذ أن بدأت تتقرب منه قبل عدة أشهر ضاربةً بكرامتها وتحذيراته المبطنة عرض الحائط، إلى رآها تقف أمام نافذة عذوب بكامل أناقتها رغم أنها عاكسة.
رفع كفه لخده، يمسح عليه بخفّة ليلفت انتباه عذوب بحركته هذه، ثم يحرك يده لشفتيه ويقبل راحتها وهو يشيد بكيد مها في نفسه ما إن رأى نظرة عذوب تتبدل لشيءٍ آخر غير الكره الذي كانت ترميه به. شيء بدَا وكأن أبراجًا انهارت داخلها.
وقف بجانب سريرها بخطوتين فقط، وبدأت عذوب تجمع جيب لباسها الممزق بأصابع يدها لتستر الظاهر من نحرها، والذي هو بالمناسبة نفس اللباس الذي أتت به من السودان, إذ كانت تغسله وترتديه على التوالي حتى بهت لونه و وبّر قماشه، وعلى الرغم من أنه أتى لها بفستان بقصة واسعة قبل مدة لتبدّل ماعليها، إلا أنه وكما هو واضح ذوقه لم يعجبها ليبقى ملقىً حيث رمته بسخط من تلك المرة.
: لا تحاولين مهتري خلاص.
نطقها بهدوء وهو يلاحظ جروح مفاصلها، والرعشة الواضحة التي تسري فيها، وتجاهُلها لوجوده كذلك... فسكت قليلاً وهو يتأمل محاولاتها التي لا تيأس رغم استحالة تغطية شيء، بعناد هو نفسه الذي تستعمله معه رغم العنف الذي يعاملها به، ولو أنها تخلت عنه منذ أول صفعة لما وصلوا لهذه المواصيل: جايب لك ملابس...
نطقت بحدة تقاطعه وهي متأكدة من أنها لزوجته: ما أبي منك شي.
رفع جوار قطعة القماش من على الأرض، والقى بها في حضنها قائلاً بهدوء: البسي دامي جايك رايق لا تخليني أكسر راسك وأجبرك.
لم تنطق بحرف، فزفر وهو يجلس بتعبٍ بالمساحة الصغيرة الفارغة جانب جسدها، مما جعل نبض قلبها يتسارع بشكلٍ مربك من هذا القرب الساكن، فأول شيءٍ كان يفعله إن دخل عليها هو سحبها من شعرها حتى تقع على الأرض، بدون مقدمات، يسألها سؤالاً بتعالٍ وهو ينظر لها من الأعلى: بتتكلمين ولا للحين راكبة راسك؟
ليجد منها الصمت الذي يكلفها الكثير. تتحمل كل شيء حتى وإن أحرق أهدابها بالنار المهم أن ترى الجنون يتقافز من عينيه من عدم تجاوبها.
نظرت له، تتحكم بانفعالات وجهها حتى بدت وكأنها قطعة جماد لا إحساس ولا شعور ولا حياة، تهتف بتحدي: اجبرني.
رفع حاجبيه ولم يستطع أن يخفي الاندهاش الواضح الذي لوّن ملامحه، يطيل التمعن في عينيها الفاقدتين لكل شيء بعد أن كانتا عينا حبٍ لا ينضب:...
ارتبكت عذوب من نظرته، فنطقت بشراسة: شلون بتجبرني؟ بتمد يدك علي بعد؟ بتضربني زيادة بعد؟
سكت قليلاً قبل أن تخرج ضحكة جافة من بين شفتيه، أحبها بصدق، بدفء، وأحالت كل ذلك لجليد.
مد يده بثقلٍ بعد لحظات لتنكمش على نفسها رغمًا عنها وكأنها تتوقع كفًّا على خدها أو لكمة.. لكن جوار خيّب توقعاتها وأتى بالذي لم تتوقعه منه أبدًا.
أنزل يدها التي كانت تتمسك بأطراف القماش بكل رقّة وكأنه يخشى من أن يؤلمها، ثم بدأ يمسح على كتفيها نزولاً لعضدها وذراعها حتى توقف عند الكفين الرقيقين، يرفعهما لفمه بقبلة هادئة جعلتها تنتفض بوضوح.
يعرف تأثير لمسته عليها، فسحبت يديها بقوة موجعة وسألت بحدة زائفة: وش قاعد تسوي؟
شد جوار على شفتيه، رجل بما يكفي ليعترف بينه وبين نفسه وهو يتأملها تنتفض غيظًا هكذا أن ثورة الغضب التي كانت تسكن صدره ما إن وقعت يداه عليها خمدت، وحل محلها توهان وضياع وتعب تعب تعب فضيع!
ضربَها مره ومليون حتى أرضى جانبًا مظلمًا فيه، وبقى جانب أكبر متعطشًا يطالب بالإرضاء، الجانب الذي أشبعته عذوب حبًا عندما كانت بين يديه.
شعور مُر من الحيرة يقتحم عقله ويكبّله في كل مرةٍ تقع عيناه عليها، إحساس تائه يأسره، يُضعف إرادته ويزعزع ثباته ليصبح عاجزًا تعطلت جميع حواسه.
مرت ثواني صمت اتسعت بعدها شفتيه بابتسامة ضاحكة تعشقها وكانت تختلق النكات فيما مضى كي يعطيها واحدة مثلها أو اثنتين، وجوار الذي أجاب بهدوء يعرف التأثير الذي تعصفه بقلبها جيدًا: أجبرك بطريقتي.
عذوب باندفاع وصوت مرتفع أقرب للصراخ: لا تظن إني بسامحك على اللي سويته فيني.
جوار بهدوء وبذات الابتسامة: ولا أنا صدقيني.
ولم يعطها مجالاً للكلام أو الحركة، وبدأ يُبعد القماش البالي حتى كشف الجزء العلوي منها تحت نظراتها التي تغيرت من قوة مزعومة لفراغ حائر.
ترتخي بجسدها بتشتت وكأن للمسته سحرًا أضعف مقاومتها.
أنساها من يكون في الاسابيع القليلة الماضية حتى باتت لمسة بسيطة من الماضي قادرة على أن تهدم كل دفاعاتها، تطرحها أرضًا، تدخلها في دوامة من الضياع وعدم الاستقرار، تصل بها لآخر حد من السآمة، اليأس، وتغمرها بالحزن...
كانت تراقب حركة أصابعه التي بدأت بفتح الأزرار العلوية للفستان بين يديه بتركيز، تهدجت أنفاسها ونطقت بعد لحظات وكأنها تحارب صوتين في داخلها: أنا مستحيل أسامحك،، مستحيل أسامحك لو تموت.
لم يفتح جوار فمه بكلمة، وللمرة الأولى منذ أن التقى بهذه النسخة من عذوب يسمع صوتها يخرج متجردًا من كل شيء، صار مرتعشًا وكأنه تعرّى من رداء الصمود وهي تنطق السؤال: تسمعني؟
جوار بخفوت وهو يخرج هاتفه من جيبه: ايه أسمعك.
يجري بعد ذلك اتصالاً سريعًا لم تسمع منه كلمة فقد كان عقلها مزحومًا يستحظر الذكرى التي تغير بعدها كل شيء.
البيت الهادئ الصغير في أحد قرى الريف الهولندي، حيث كانت تعيش معه أجمل أيام حياتها بأمانٍ واستقرارٍ أنساها تسع وعشرون عامًا من فزع.
الأمان الذي أسقاها إياه وأسبغ به تبدد وتطاير مع صوت الضرب العالي على الباب، وكأن الواقف خلفه يضرب بيدٍ من حديد.
اللحظات التي تسبق الاقتحام المفاجئ، فزعها وهي تسأل وتكرر مَن فلا أحد يعرف عن هذا البيت سواها وجوار الذي ذهب لعمله صباحًا بعد أن تناولا طعام الفطور، وبعد قبلتين نطق بينهما بنبرةٍ شغوفةٍ تغرق بالحب: الله يصبرني من الحين لين أرجع.
يُخلع قفل الباب قبل أن تأخذ أنفاسها حتى، قبل أن تستوعب حتى. تتسع عيناها بهلع، لم تكن يد واحدة تلك التي كانت ستكسر الباب، لا تعلم كم من الأيدي؟.. واحد اثنان ثلاثة أم أكثر يتوشحون بالسواد، فعينها كانت تتبعهم بذهول دون أن تحسب، من الواقفين بالقرب من الباب، للذين ركضوا لداخل المنزل. تنظر حولها مشدوهة لم تستوعب شيئًا بعد حتى لمحت الذي ظهر من خلف السرب الأسود أمامها، بابتسامة واسعة بكل ثقة بثت في داخلها فزعًا كان أكبر من احساسها بيد الذي ثبتها بكل قوة عندما حاولت أن تهرب.
تبكي بجزع رغمًا عنها ما إن وقف أمامها، بنيته أضعف بكثير ممن هم حولها لكن خوفها منه كان أكبر، ينطق بنبرة هادئة وبطء وهو ينظر لعينيها الفزعه: وأخيراً رجعنا التقينا يابنت ساطي.
حاولت عذوب أن تحرر نفسها، تصرخ مستنجدةً تنادي باسم جوار عله يسمعها بشكلٍ ما وينقذها من الموت المحتم الذي يقف أمامها، والذي تعالت ضحكته بحدة ناطقًا بتشفّي: من هاللحظة انسي جوار للأبد!
تهدج صوتها، واختفت حدة الصراخ منه وهي تسأل بنبرة خوف وبمحاولة فاشلة بأن تحرر نفسها: ليه؟..وش سويت فيه؟.. جوار وش صار فيه؟
ارتفع طرف فمه بابتسامة ولمعت عيناه بخبث: خايفة عليه وهو اللي دلني على مكانك؟؟.. غبية أنتِ ياعذوب طول عمرك غبية.
تيبست بعد أن أنهى جملته وجحظت عيناها بصدمة، يعلَق الصوت في حنجرتها، يأبى أن يخرج مهما حاولت به. تنظر له بعدم تصديق بعد الذي نطقه والدموع تتقاطر من عينيها دون أن ترمش، تفتح فمها وتعاود إغلاقه بمحاولة بحث فاشلة عن صرخة أو حتى تكذيب لكن دون جدوى.
ابتسم في وجهها ابتسامة عريضة وهو يلاحظ تأثير ماقال عليها وتابع بنبرة مستنكرة: وش؟.. ليكون ماتدرين إن جوار يشتغل لحسابي وإن ذا كله متفقين عليه أنا وياه من أول!
اندفعت للأمام لتهجم عليه مجددًا وتسكته، لكن من كان يكبل ذراعيها خلفها شدها نحوه بقوة لتصطدم بصدره الصلب بشكلٍ موجع شعرت معه بأن فقرات ظهرها كُسرت.
أخذت تصرخ وتشتم بشكلٍ هستيري وبكل اللغات التي تعرفها وهي تركل بأقدامها الهواء، تحاول التحرر من قبضته حتى ضاق ذرعًا من حركتها السريعة التي لم تؤثر به ولم تحرك ساكنًا وضرب ساقيها من الخلف بباطن حذائه المدبب وهو يتأفف بضجر.
خارت قوة عذوب وارتخت قدماها واليدين الفولاذيتين شدت أكثر حتى شعرت بعظامها تُصهر في قبضته، فزمجرت باكيةً بغضب يائس: اتركني.. اتتتتركني أقولك شيل يدك ياحيوا...
قاطعها صارخًا بلغةٍ لم تفهمها، وعاد يركل ساقيها مجددًا بقوةٍ أكبر هذه المره جعلتها تنتحب بخوف وهي تشعر بأنها النهاية لا محالة، فمن وعَد جوار بأنه سيحميها منه ويخفيها من طريقة واقف أمامها كشيطانٍ مارد خرج من جحيمه، بنظرة وعيد مرعبة لم تُمحى من عينيه منذ أن دخل.
انحنى بظهره قليلاً حتى أصبحت عيناها الغارقة بالدموع على امتداد عينيه، يتنقل ببصره قليلاً على ملامح وجهها قبل أن يتجول به في المكان وهو يهز رأسه ويقوس شفتيه بتقييم: عذوب أنا أدري بك ساذجة بس مو للدرجة ذي! كان واضح عليه من البداية ولّا واحد مثل جوار بياخذ وحدة مثلك ليه؟
بصقت على وجهه القريب منها بحقد، ثم نطحت أنفه برأسها بقوة ما إن رمقها بنظرة دامية ملتهبة كالنار، وكان هذا أقصى شيء أجبرت نفسها على القيام به وهي بين جبار يقيد حركتها من الخلف وجلمود يقف أمامها تعرف أنه لن يرحمها. تنطق بشراسة ووعيد ما إن صرخ بألم واضعًا يده على أنفه: أقسم لاتندم ياراكا....
لكنه قبض بيده على فكها قبل أن تكمل، يشد عليه بينما أخذ يشد شعرها بيده الأخرى حتى تقطعت خصله بين أصابعه، يهمس بفحيحٍ دامي وصدره يعلو ويهبط بغضب: أنتِ تعرفين أنا مين؟؟ تعرفين منهو راكان عشان تستغبيني؟؟؟.. والله لا أدفعك ثمن استذكائك علي غالي يال*، أنا.. أنا تضحكين علي وتهربين مع جوار؟ عارفة أنا ميين عشان تستغفليني أنتِ وياه!!؟
اغمضت عذوب عينيها بقوة بعد أن صرخ جملته، واستمرت دموعها بالسقوط بخوف حتى لامست سطح كفه على وجهها. فهتف بحدة وهو يهزها بعنف: افتحي عيونك، طالعيني.
شدت على عينيها أكثر تنطق بصعوبة: اتركننن...
ثم تأوهت بألم وهي تشعر بفكها يكاد يتفتت في قبضته ما إن شد عليه أكثر رافعًا وجهها اليه، يقرب وجهه منها ويصرخ: طالعيني قلت.
ارتجفت بين يديه، وفتحت عينها بوهنٍ لتقع بعينه التي تنطق وعيدًا وتُطلق شررًا وهو يهمس بقهر من بين أسنانه يعني كل حرف: والله لا أدمرك..
.
خرجت من شرودها بشهقة خافته وكأنها دفعت نفسها من عالمٍ آخر سبب دمعًا ترقرق على سطح عينيها وهي تنتبه لجوار يتحسس برؤوس أصابعه الكدمات المتوزعة على جسدها تلونه كاللوحة، بعضها بدأ يتلاشى والآخر لازال بنفسجياً داكنًا، تنتقل يده وعيناه لأسفل بطنها حيث الندْب الطويل بخياطٍ واضح، لتسري رجفةٌ بها والشعور القديم إياه يرسل جيوشه ليغزوا أراضيها، لازالت تستشعر الأمان معه رغم الدمار حولها.
عقد جوار حاجبيه مذهولاً من كمية الجروح المتفرقه والعميقة التي شوهت جسدها، لا يذكر أنها كانت موجودة عندما كانت معه، وهو متأكد من أنها ليست منه. فهي قديمة بهتت وتركت أثرًا لا يزول!!!
أمسكت عذوب يده بضعف قبل أن ينتقل لأثرٍ آخر وقلبها عاد يخفق بطريقةٍ غريبة, تمامًا كما كان يحدث في السابق، ليرفع بصره لها وما إن رأى النظرة الملتمعه بالدموع لم يستطع إلا أن يسأل بقهر ممزوج بالألم: وش اللي سوى بك كذا؟
عذوب بحدة طفولية تخفي تحتها توترًا فضيعًا: مالك دخخل.
نطق بغيظ وهو يعض على نواجذه: أسألك باحترام جاوبيني مثل ماسألتك لا تخليني أمد يدي، أنتِ الحين مالك أحد غيري.
ثم أردف ضاحكًا بسخرية: أصلاً من أول وأنتِ مالك غيري.. محد يدري عنك لو أذبحك و أولع بجثتك هنا محد بيدري،، ومافيه أحد بيسأل عنك... علميني ليه سويتي كذا!
عذوب بشراسة وهي تشد على يده بوهن: أنا اللي سويت أو أنت؟
صرخ جوار بعصبية يتخلى عن بروده وهو يلوي كفها الذي كان على يده: وأنا وش سويت؟.. اتركي الألغاز وعلميني أنا وش سويت عشان تطعنيني بظهري كذا!
تأوهت بألم وأرتعشت نبرتها وهي تنظر لعينيه بلوم، تهمس بخيبة: أنت خذلتني!
ارتخت ملامحه المغتاظة، وبرد وجهه. وتبخرت عصبيته. وأخذ بصره المشتت ينتقل بعدم فهم بين مقلتيها التي تكدست الدموع على سطحها، وكأن الشمس التي تتوسط كبد السماء توسطت عيناها.
خيّم صمتٌ رهيب على المكان الصغير، واعتلت وجه عذوب مشاعر متضاربة اختلط فيها الغضب بالخيبة بالعتب والخذلان،، الكثير والكثير من العتبِ والخذلان. غير قادرة على التصالح مع الخذلان الذي أتاها من أقرب المقربين إليها، الشخص الوحيد الذي لم تعرف غيره، من لجأت إليه واحتواها بدون شروط.
يُقرع الباب ليخرج كلاهما مما كانا فيه، فسحبت عذوب يدها من قبضته وهي تنظر للباب الذي قُرع مجددًا بارتباك، خشيةً من أن تكون مها هي الطارقة. وأن تكون مها، ضرتها، تدخل وتراها بهذا المنظر والحال الذليل الذي سببه جوار المشترك بينهن هو أمر يجعلها تتمنى الموت ألف مره. فهي أنثى طبعها غيور حتى لو غُدر بها، واكتشفت ياللأسف وعينها تعاود النظر لخده الذي كان يتلون بروجها في وقتٍ باكر، أن الجالس أمامها لازال يهمها ولو بنسبة قليلة ولا ترضى المشاركة به.
اعتدلت جالسة بصعوبة، وسحبت الفستان الذي لازال في حضنه بقوةٍ لا تعلم من أين أتت، وأدخلت رأسها ويديها في فتحاته متجاهلةً الوخز المؤلم الذي سرى بها قبل أن تجمع شعرها المبعثر على كتفٍ واحد وكل هذا في أقل من ثانية وتحت تركيز جوار الذي لم يفته السبب وراء كل هذا، فزفر يهتف عاليًا: تعالي.
شدت عذوب أنفاسها بتوجس تستعد للمواجهة، لكن سرعان ما اطلقتها عندما رأت العاملة المنزلية تفتح الباب بهدوء، تتقدم ناحية جوار وتعطيه كيسًا يبدو لأحد الصيدليات، ثم تخرج بهدوء كما دخلت بهدوء.
كان الجو الذي هبط عليهما بعد خروجها غريبًا، غريبًا لدرجة أن جوار أخرج القطن من الكيس وبلله بالمطهر الموجود معه، ثم قربه منها يطبطب على شقٍّ واسع لازال طريًا موجود في أعلى حاجبها ولم تصدر من عذوب سوى تأوهات مكتومة من الإحساس الحارق على جرحها المفتوح.
فتحت عينها بعد لحظات وهي تنظر له مركزًا في تطهير جرحٍ بجانب فمها، ونبَض قلبها بضعف واستسلام أجبر عقلها على أن يترجم سؤالاً لحوحًا كانت تدفعه بعيدًا: أنت... تحب مها؟
سكت جوار قليلاً قبل أن يقول بحذر دون أن ينظر لها: زوجتي وبتصير أم عيالي.
تبدلت نظرتها، وتقوست شفتيها بقهر: وهي؟ واضح تحبك... عادي عندك، مع إنها كانت تحب أخوك؟!..
توقفت يده عن الحركة والتقت نظرته بها، حاول أن يتحكم بانفاسه ما إن تسارعت كأنها تنوي الفرار منه، يعرف هذه النبرة، يعشق تلك النظرة: ايه.
قالها وهو يمسح بيده الأخرى على خده بابتسامة خدرة استفزتها،
فدفعت يده عنها وقالت وقد ضعفت مقاومتها، بنبرةٍ أعياها الإرهاق والتعب:.. أنا... ماكنت أعرف أحد، وماكان عندي أحد.. ماكنت أعرف غيرك، بس أنت خذلتني.
نظر إليها متأملاً بنبرة مستنكرة: شلون خذلتك؟ علميني شلون خذلتك وأنا الضحية الوحيدة هنا؟ كيف بعد هالخيانة تتهميني بأني خذلتك؟
عذوب: أنت وعدتني ماتسلمني لأحد.
جوار بقوة : وأنا كنت عند وعدي ولا سلمتك لأحد.
عذوب بنبرة قوية تخنقها العبرة: لا تكذب.. أنت خنتني..لاااا تكذب.. خنتني وقهرتني الله..الله يقهرك.
أغمض عيناه وهو يزفر بقل صبر، يرمي ماكان بيده جانبًا قبل أن يمسح على وجهه وشعره وهو يستغفر تحت أنفاسه كي لا يتصرف معها بالقوة وهو لم يصدق أنها تجاوبت معه.
جذب نفسًا آخر ملأ صدره يتصبّر به ونطق بلين محاولاً تخفيف نبرته العدائية:..طيب وش اللي في خاطرك علي؟ زعلانة مني؟ كنتي تبين تنتقمين لشي سويته وأنا مدري عنه؟ فهميني أنا مو فاهم شي.
ارتجفت شفتاها بتأثر، وتكسدت الدموع حتى غامت نظرتها، فتابع بذات النبرة وهو يلحظ تأثيرها: تجاوبي معي علميني كل اللي تعرفينه وأنا أوعدك أحميك.
عذوب بشرهة: مثل ماوعدتني أول مره!!.
جوار باندفاع ودفاع عن نفسه: وأنا كنت عند وعدي.
احتدت نبرتها وبكت بقهر: علمتهم عن مكاني وتقول حميتني!! كيف؟... أنت سلمتني له دل...
قاطعها جوار بجنون وهو يخرج من طوره ويشدها من شعرها: علمت مَن؟ تكلمي زين وفهميني أنا سلمتك لمن؟.
ثم صرخ ما إن شدت شفتيها بعناد: انطقققي.
نطقت بألم وهي تضع يديها على معصمة كي يخفف من قوة قبضته: رر.. راكان.
صرخ شامتًا بغضب من أعماق قلبه وهو يدفعها بعيدًا عنه، يأخذ علبة المطهر الملقاه بجانبه ويرميها على الجدار لتصدر صوتًا كالإنفجار ما إن كسرت وتناثر مافيها، يزمجر بوعيد ووجهٍ تجمع الدم فيه من شدة الغيظ: كنت حاس إن ال* ورى ذا كله.. الله يل* ياراكان أقسم بالله لا أخليك تتمنى الموت ولا تلقاه. هين يال* هيين والله لا أنهيك والله العظيم لا أخفيك من على الأرض والله.
بدأ يدور حول نفسه في الغرفة الصغيرة كالأسد الجريح بغضبٍ عظيم.. جارف.. غير آبه لقطع الزجاج المتناثره، عروق رقبته كلها بارزة تكاد تنفجر، يداه وشفتاه ترتجفان من الغضب والإحساس بالقهر. كان يشك أن راكان وراء كل هذا فلا خسيس غيره دخل حياته، لكنه كان يحتاج لأن يسمع التأكيد بصوتها.
نظر ناحيتها بحدة، ثم إندفع إليها وبداخله بركانٌ من غضب.
شهقت عذوب بفزع ما إن شدها من ذراعها بقوة، تشعر هذه المرة بأن غضبه لن يتوقف عند حد معين ويرحمها فقد بدا كالوحش تمامًا، أعمى لا يرى أمامه ولا يميّز. يسألها مزمجراً من بين أسنانه وبنبرة صارمة تحمل تهديدًا صريحًا: بسألك للمرة الأخيرة وأبي جواب واضح بدون لف ودوران ولا أقسم بالله لا أدفنك حيه...بقتلك ياكلبة بموتك تسمعين!!!. وين كنتي طول المدة ذي؟ وعند مين؟؟ كنتي عند راكان؟..كنتي عنده؟؟؟ هو اللي رماك بالسودان!!!
نطق أسئلته كلها ببطءٍ مرعب جعلها تهتف لا إراديًا بهمسٍ جاف: معتقل.
اتضحت الصدمة عليه وردد هامسًا: معتقل!...معتقل وش؟
ابتلعت ريقها بصوتٍ مسموع ونطقت برجفة: م.. ما أدري.
جوار بأنفاسٍ متلاحقة: وين؟ مكانه وين؟
هزت رأسها بسرعة: ما أدري، صحيت ولقيت نفسي فيه.
دوى نبض قلبه عاليًا بين أضلعه، وهتف سؤاله مقهورًا خائفًا من الإجابة: لمسوك عيال الكلب؟
ثم هزها بعنف يصرخ بغضب مدمر عندما تقوست شفتيها وارتجف فكها: تكلمي.. أحد منهم لمسك؟؟؟ أحد قرب منك؟
هزت رأسها تنفي بهلع ونطقت بنبرة باكية ما إن فهمت مقصده: لألأ، ض ضربوني بس، كانوا يضربوني طول الوقت وأنا كنت حامل. ق..قلت لهم أنا حامل بس تعمدوا يجيبون ضربهم في بطني.
زفر ناطقًا بحرارة: أي شهر؟
ابتلعت ريقها بصعوبة: الخامس.
سكت، يحسبها في عقله لكن لاشيء كان منطقياً أبدًا فسأل بتوهان وهو يتذكر كلامها بالسودان عندما شككته: كنتي حامل مني أنااا؟ الولد اللي راح ولدي أنا صح؟ وأنتِ كنتي حامل مني أنا صح؟
هزت رأسها بقوة وقالت تبكي بمرارة رغمًا عنها، تعود أربع سنين للوراء وكأنهما تقابلا للتو، لا حقد دفين عليه ولا وعيد بالانتقام منه، بل احتياج وقلب مغمور بالأسى ومنطفئ: جوار تذكر اليوم اللي جيت ومالقيتني فيه؟.. أنا قلت لك قبل لا تروح الصباح عندي لك مفاجأة.. تذكر ولا لأ؟ بهذاك اليوم عرفت.. عرفت إني حاامل.
شد على نواجذه حتى كاد يسحق مطاحنه وهو ينظر لعينيها الدامعة والذكرى لايمكن أن تغيب، لا يمكن أن ينسى صوتها عندما طلبته بدلال ألا يتأخر في عمله وأن يعود باكراً إن كان يريد معرفة المفاجأة التي تخفيها عنه، وما إن عاد حتى ووجد مفاجأتها التي حضّرتها له، مفاجأة حقًا.. تفاجأ فعلاً، فاجأته لدرجة أنه بقى واقفًا كالمسبوه وهو يرى البوليس يطوق منزله ثم يشد الأصفاد على يديه.
دفعها بقوة بعيدًا عنه لتقع ويصطدم رأسها بحد السرير الحديدي، قبل أن يخرج مغلقًا الباب خلفه بقوة. يقفله بالمفتاح مرتين.
يصرخ بغضب صراخًا مرعبًا وصلها وأفزعها، يضرب الحائط بقبضته بقوة عنيفة وهو يتمتم بعبارات تحمل السباب اللاذع والوعيد. يكرر الضربات، يصرخ، أكثر من مره متجاهلاً الألم الذي فتك بعظامه، يضرب النافذة بقبضته ويبتعد عن المكان أخيرًا دون أن يكترث بالدم الذي سال منه ولا بالكسر الذي سببه فيها.
باتت الرؤية واضحة الآن، كلاهما مطعون بنفس الخنجر!
.
.
في الساعة الخامسة مساءً، وأمام أحد البنوك.
دفعت شعاع باب المبنى الزجاجي وخرجت منه، تثبُت واقفةً في خطاها وهي ترى سيارته تقف أمامها مباشرةً في نهاية الرصيف، تحاول أن تهدّئ قلبها الذي صار يدق بعنف وكأنه ينوي الفرار من بين أضلعها، لازالت تحت تأثير الشعور العذب الذي جرفها ما إن اتصل عليها عزام باكرًا هذا اليوم، وشيء نادر كهذا لا يحصل إلا في السنة حسنة جعلها تطلق صافرات الانذار فورًا ظنًا من أن كارثةً حصلت أو مكروهًا حل بأهلها. لكنه أخبرها بنبرة هادئة لمست فيها توترًا وحرجًا غريبًا بأنه سينتهي من عمله باكرًا اليوم فلا مانع من أن يمرّها بطريقة إن كانت لا تمانع؟
وبالطبع والتأكيد وبكل لغات العالم نعم، شعاع لا تمانع، دائمًا وأبدًا شعاع لا تمانع . ليمضي عليها الباقي من اليوم تعد الدقائق والثواني بلهفه تنتظر منها أن تعبر وتنتهي لتلتقي به أمام مبنى عملها.
أخرجها من شرودها الهيمَان الصوت المرتفع القادم من السيارة،
فرمشت أكثر من مره وهي تستعيد نظرتها وتركيزها وتتقدم بخطى واثقة ونفَسٍ عميقٍ أخذته لعزام الذي فتح نافذة الراكب يضرب الهرن بيد ويشير لها متسائلاً ما الخطب باليد الأخرى.
فتحت الباب وركبت بهدوء بعد أن وضعت شماغه الملقى على المقعد بإهمال في حضنها: السلااامُ عليكم.
عزام بابتسامة صغيرة وهو يراها تغلق الباب دون أن ترمقه بنظرة: وعليكم السلام هلا بالمِديرة، وش عندك ساعة واقفة؟
التفتت تنظر له، وفتحت فمها ثم أغلقته وهي تأخذ نظرةً شاملةً عليه وتضيع تضيع تضيع في منظره الرجولي الذي لم تزده النظارة السوداء الأنيقة إلا سحرًا، وثوبه الفاتح بياقته الدائرية والذي أبرز سُمرته، لم ترى في حياتها رجلاً بجاذبيته،
تبتلع ريقها بسباهةٍ لا إراديًا ما إن ارتفع البروز في عنقه قليلاً عندما نطق قائلاً بضحكة مستنكرة خرجت من بين الشفتين الرفيعتين: وش فيك؟
تنحنحت وهي تصرف نظرها عنه، تقول بنبرة ممازحة وهي تربط حزام الأمان: اتأمل إبداع الخالق مو مصدقة المنظر قدام عيني.
ثم تابعت ببشاشة: بصراحة اليوم يتسجل بالتاريخ عزام على سن ورمح جاي ياخذني!!
ضحك عزام وقال وهو يحرّك مبتعدًا عن المكان: لا تخليني أنشب لك وأجيك كل يوم هاه.
تنهدت بعمق تنهيدة مسموعة وهي تنظر من نافذتها، تهتف بنبرة بدت الراحة واضحة فيها: والله ياليييت أقلها ينتهي الدوام وأنا متأكدة إني بلقى شي يفتح النفس وأحبه ينتظرني.
ارتفع حاحب عزام مأخوذًا مشدوهًا بما قالت، وشد شفتيه حتى لا تتسع بابتسامةٍ واسعة تشق خديه، تشبع هذا الجانب فيه وتشعره بقيمته في حياتها حتى أصبح مغروراً معتزًا بنفسه لا يرى أحداً أمامه.
عزام بنبرة وهو يميل ناحيتها قليلاً ساندًا كوعه على المكان بينهما: من قلب هالكلام؟ متأكدة؟ أنتِ شايفة وجهي؟
التفّت شعاع تنظر له وتنتهز قربه الذي بعثرها، تسكن للحظات بعد أن وقف للإشارة ثم تقرّب رأسها مقبلةً خده بسرعةٍ جعلت عزام يلتفت لها بهلعٍ أضحكها: هاا صدقت الحين؟
عزام وهو يتفحص السيارات القليلة حولهم كلاً فيها منشغلٌ بنفسه، ثم يرمقها بطرف عينه: يارب صورنا ساهر والله مايدفع مخالفة الذوق العام غيرك.
شعاع بدلال: سوري ماقدرت أمسك نفسي.
عزام بنبرة ممازحة: قولي هالكلام للحكومة.
أسندت كوعها بجانبه وهي تبتسم باتساع، تسأل باعتيادية: كيف الدوام اليوم؟
ليجيبها عزام وهو يمسك كفها القريب منه ويميل بعضده ليتكئ عليها براحة ويمضي في طريقة. تضحك شعاع مخمورةً على تحلطمه وشتائمه المغتاظة من أبو عارف والعمل معه، بشكلٍ مبالغ به ولأول مره بدون إجابات مختصرة. تجد أنها كلما أرادت سؤاله عن طبيعة هذا العمل يشغلها شيءٌ فيه ويشتتها عما كانت تنوي قوله.
شبكت أصابعها بأصابعه وهي تستريح بجلستها بثقة ويقين من أن عزام لن يتململ حتى يحرر نفسه من قبضتها، إذ أنها فيما مضى كانت تتردد الف مره قبل خطوةٍ كهذه حتى تبطّل عنها.
ومن هذا السؤال وبعد هذه الضحكة الخفيفة بدأت الأحاديث بكل راحة وكأنهما معتادان على هذا الروتين، هذا النهج الجديد الذي سلكاه مؤخرًا كانت شعاع تحلم به وتتمنى حدوثه وقد حصل أخيرًا الآن، بعد أن علّقت عليه كل الأماني وهي متأكدة من أنه لن يخذلها مهما طالت عليها المدة، وعزام لم يخذلها. الحب الذي سعت له سنينًا طوال سعى نحوها أخيراً، الشخص الذي أعطت من أجله قلبها المتعب من ثقل المشاعر، حرر قلبه ومشاعره بشكلٍ مفرط مندفع وكأنه للتو بدأ يشعر بالحب ولهفته،
يحبها بكثرة، يتوق لها، يلجأ اليها ليستريح من عناء هذا العالم وكأن أحمد توفيق كتب فيه 'شخصٌ واحد يندهش بي كل يوم كما لو أنّي أعجوبة' ليعبر عن حالته المستحدثة كلما كان معها.
عقدت شعاع حاجبيها باستنكار ما إن رأت المنعطف الذي أخذه: ليه جاي من هنا؟
ليجيبها عزام بهدوء خادر وعينه على الطريق الفرعي الفارغ أمامه: عبادي يبيني آخذ ميمي.
شعاع: غريبة وش عنده؟
عزام بغمزة مشاكسة وهو يقف أمام العمارة ويرفع هاتفه: مدري وش ناوي عليه خالك!
ضحكت بحرج وهي تفهمه: لا تستبعد منه شي الله يستر. بس مايهمك الحين أجيب لك العلم.
ثم قالت بسرعة تغير الموضوع وهي تخرج هاتفها من حقيبتها: تغديت؟
اومأ برأسه الذي أسنده على مقعده، وسكت ينظر لها تكتب شيئًا بهاتفها. بقى كذلك حتى فتح عبدالإله باب العمارة الذي أصدر صوتًا لفَتهم، وكان يمسك بيد مريم التي ما إن رأت عزام يفتح بابه ليستقبلها حتى وتركت يد والدها وركضت له تهتف صارخةً بحماس: عزاام.
تلقفها عزام بين يديه بلهفة، يرفعها لحضنه وهو يقربها لصدره بشوقٍ مقبلاً خدّها بقوة: هلا هلا وسهلا بالشيخة ميمي.. ويين الناس ليه ماصرتي تجين مع عبادي بيتنا ليكون زعلانة علينا؟
مريم باستحياء: لا مو زعلانة والله بس مشغولة عندي مدرسة.
عزام بضحكة: ياروحي المشغول، وش أخبارك؟
سألها وهو يخلع نظارته الشمسية ويضعها على وجهها لتنزلق قليلاً لأرنبة أنفها الصغير، لتجيبه مريم وهي ترفعها للأعلى بكلتا يديها: كويسة مررة. أنت كيفك؟
عزام بمودة وهو يتأملها بحب: أنا مشتاق لك مشتاااق ميت من الشوق، بيتنا صار شين وأنتِ مو فيه.
اقترب عبدالإله بابتسامة واسعة خدرة بعد وجبة غداء دسمة،
يتبادل سلام حواجب معهما بشكلٍ سريع فهو يزورهم بشكلٍ يومي -كما هدد سابقًا-، قبل أن تضع مريم كفيها على وجه عزام وتديره ناحيتها تستحوذ على انتباهه وتسأله: أحد نام بغرفتي أنا وعبادي؟
عزام وهو يدغدغها: أبْدًا يالأميرة.
تعالت ضحكتها وملأت السيارة وهي تحاول التحرر منه لتنقذها شعاع التي سحبتها بخفه واستقرت جالسةً على أقدامها،
تقابلها مريم وتضحك بإفراطٍ وخدر من القبلات التي بدأت توزعها شعاع على خديها بقوة وشكلٍ متتابع، تهتف من قلب وهي تضغط عليهما بكفيها: وحشتيني ورب الكعبة وحشتييني أسبوع يالظالمة يعدي بدون لاتجين تزورينا!.
خرجت كلمات مريم بصعوبة من بين شفتيها المضمومات: وأنتِ وحشتيني كثيير وحشتيني.
رفعت شعاع النظارة لأعلى رأسها حيث الظفيرة التي بدت كالطوق بشكلٍ متقن، تنطق بانبهار: وااو وش هالتسريحة الحلوة؟...
ثم أردفت وهي تستنشق مريم بصوتٍ مسموع بعد أن سحبتها من ياقة فستانها بقوة لتلتصق بها: اشم اشم... الله حتى ريحتك تهببل..
مريم بابتسامة واسعة وهي تضع كفيها على شعاع وتبتعد عنها قليلاً لتنظر لعينيها: هذا عطر لولو تحطه لي دائمًا لأني أحبه..
كيف شعري؟
شعاع بمودة وعينين تتلامع وهي ترى السعادة الواضحة عليها من مجرد الحديث عنها: يجنن.
مريم بحماس: أنا شرحت للولو التسريحة وهي شافتها باليوتيوب وتعلمتها.
التفتت شعاع لعزام وقالت ضاحكة: والله يا إن البنت متخرفنه على الآخر.
عزام : مو لحالها،
ثم قال بنبرةٍ مرتفعة موجهًا حديثه لعبدالإله الذي كان يتأمل ابنته وكأن حياته معلقه بها، بشفتين متشدقتين بابتسامة حب: شوفي ذا.. هييه سعبولتك يالحبيب.
رفع عبدالإله يده تلقائيًا يمسح فمه الجاف عاقدًا حاجبيه بعدم فهم: وش سعبولتي؟
شعاع بنبرة ساخرة: لااا، العايلة كلها رايحة في خرايطها ياشيخ.
رفع عبدالإله حاجبه، قائلاً بنبرة متهكمة: صرت أنا اللي رايح في خرايطها الحين!! نسينا هاه..
ثم تابع يرقق نبرته يستهزئ بها وهو يفرك ابهامه بالخنصر والوسطى: جنون، هوس....
ضحكت شعاع بصوتٍ عالي وهي تحتضن مريم لا تعرف لماذا ما إن فهمت مايعني، وقالت باندفاع ووجهٍ مشتعل تحمد الله الف مره أنه تحت غطائها: يممه منك مانسيت!!
عبدالإله: ترى حتى ذا اللي سايق الثقل عليك طايح على وجهه، ماسك عليه كلام لو سمعتيه بيوقف قلبك يالريشة.
عزام وهو يحك خلف أذنه: افاا طلع ذا نظامك ههه، علي وعلى أعدائي؟
عبدالإله وهو يرفع يديه: ايه حبيبي وش على بالك أنا في كب العشا معرفش يامه ارحميني.
ضحك عزام بخفه وهو يرمقه بإزدراء: زبّاال وش الجديد.
هز عبدالإله رأسه بوعيد وبدأ ينقل بصره بين الإثنين، يرهف سمعه للصوت الطربي الخافت من المسجل وهو يبتسم ابتسامة ذات معنى فقد لاحظ التغيّر الواضح بينهما في الآونة الأخيرة وكأنهما للتو ارتبطا، ينطق بمودة ونبرة مشاكسة: ماعليه ماعليه الحين صرت زبّال يازومَه هاه!.. ايييه سقى الله ذيك الأيام يوم كنت أصلح ذات البين وأوزع استشارات بالمجان كانه لك ولا للوح اللي قاعدة جنبك.. اثنينكم مديونين لي على فكرة.
شعاع ممازحة: عزام يخوي عطه قطتّه فكنا منه.
ضحك بخفة واكتفى بذلك عن التعليق، وابتسم عزام بامتنانٍ خفِي وصل لعبدالإله جيدًا، لا يستطيع أن ينكر تأثيره عليه لكنه يموت ولا يقولها له في وجهه كي لا يأخذ مقلبًا بنفسه: أقول بس وش تحت راسك مصرّف ميمي؟...وش عندك؟
ضحك عبدالإله ناطقًا ببراءة: ماعندي شي والله بس ميمي مشتاقة لصيتة.
أتى صوت شعاع فجأة بنبرة مكذبة: أمّا عاد!
عبس عبدالإله باتهام: الله ياخذك ياعزام القذر خربت البنت.
عزام: يبوي بنت أختك تخرّب بلد وخّر بس خل نمشي.
قالها وهو يسحب بابه ليغلقه ما إن عاد عبدالإله خطوتين للخلف يتيح له المجال، لتهتف مريم بسرعة: عبادي لا تنسى تمرني بالليل.
مطت شعاع شفتيها ونطقت برجاء وهي تشد خدي مريم بخفة: نامي عندي اليوم تكفيين.
أخذت مريم نفسًا عميقًا وأطلقته قبل أن تقول بإرهاق مصطنع وهي تضع كفيها فوق كفي شعاع باعتذار: والله نفسي بس لازم أرجع أقعد مع لولو بالبيت ما أحب أتركها لحالها.
شعاع بابتسامة ضاحكة: لا دام كذا أجل خلاص مسموحة.
عزام باستهجان حقيقي: والله ما أصدق كل هالطعامه ذي كلها وبالأخير أبوك عبدالإله!!!
صفعة عبدالإله بخفه على قفاه، ناطقًا بجدية وحنق: حبيبي لو ما جيناتي كان ماشفت هالملح والنباهة!
واومأ عزام على مضض وفي داخله يتفق مع هذه الحقيقة ومتأكد منها لكنه وقبل أن يفتح فمه لينكرها فرأس عبدالإله كبير بما يكفي، نطق عبدالإله بسرعة وهو يستمع لطراطيش كلام خافته: أقول شعيّع لاتقعدين تسحبين منها الكلام أعرف حركاتك ترى.
شعاع بنذالة: مايحتاج حبيبي اتصال واحد على المدام والأخبار كلها عندي.
عزام: بتمر علينا البيت اليوم؟
عبدالإله بابتسامة هادئة: تؤ ما أظن .
رمقه عزام بنظرة رافعًا حاجبه، فهتف عبدالإله رافعًا سبابتيه للأعلى باستسلام: اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون.
تبسم عزام وهو يرفع جزءا من النافذة كي يفهم ويبتعد: اللهم آمين. يلا ميمي انقزي ورى،، تامرنا على شي؟
عبدالإله بابتسامة عريضة: سلامتك حبيب قلبي، سلم على صيوت.
ثم هتف بنبرة مبتذلة ما إن استقرت مريم جالسة في الخلف: فاستن يور سيت بيلت.
مريم وهي تغلق حزامها: أوكي.
لوت شعاع فمها يمينا ويساراً، ورمقه عزام بإزدراءٍ جعل عبدالإله يقهقه ضاحكًا وهو يشير باصبعه للأسفل: أرفق ترجمة؟
شعاع بنبرة ساخرة: لا عزيزي اندرستاند.
ثم تابعت بمودة وهي تغمز له: يلا سلام وهاف فن ياقلبي.
ابتعد عزام بسيارته بعد ثواني، يسود الصمت المريح لمدة قبل أن يصلهم صوت مريم بهدوء: لولو مسوية حفلة لعبادي.
تعالت ضحكة عزام من المعلومة المفاجئة، واعتدل جالسًا بحماس وهو يطوّق المقود بكلتا يديه: احح ليه؟
أدارت شعاع رأسها للخلف تنظر لها بذهول: صدق من قال مايطلع فضايح البيت الا البزران، شلون دريتي يالنتفة؟
مريم وعينها اتسعت بتبرير: أنا ساعدتها تسوي كيكة تشوكلت وحطينا عليها شمعة. وترى عادي أقول لولو ماقالت لي إنه سر.
عزام ضاحكًا: دوووس يالشمعة !!
ابتسمت شعاع بمودة: ياحبي له عبادي كان ماسك قضية مهمة وكسبها أمس.
رفع عزام حاجبيه باستغراب: وأنتِ شلون دريتي؟ عبادي ماقال شي.
شعاع: بصراحة جاني فضول وأرسلت اسأل لولو ماقدرت أصبر ههه.
ابتسم باتساع حتى غطت الابتسامة نصف وجهه، يتمتم بمودة: حي راسه، أشهد أنه كفو ذيبان.
يرفع عينه للمرآة الأمامية وينطق وهو ينظر لمريم التي تعقد ذراعيها وتنظر للخارج بعبوس: الكائنات ذي مشكلة والله. كان مسوي تشويق هو ووجهه إن درى بينجلط ههه.
شعاع بزفرة: قنابل موقوتة يارجل. أنا بتفاهم مع مريم خلنا نوصل البيت بس.
رفع كفه بينهما وعينه لازالت على الطريق، ينطق باعتراض مازح: لو سمحتي ترى ما أرضى عليها.
شعاع وهي تسحب يده لحضنها قائلةً بمودة: لو سمحت أنت ترى حتى أنا ما أرضى، هو مجرد توجيه حبيبي وحوااار عقلااني قمة بالرقي قبل لا بكرة نلقى غسيل بيتهم كله منشور.
.
دخلت شعاع للمنزل تسبقها مريم التي ركضت تنادي: عمتتي صيتة،،
وقبل أن تصعد السلالم انتبهت لها تجلس بالصالة السفلية، فاتجهت ناحيتها بسرعة ثم صرخت بسعادةٍ ما إن انتبهت للأخرى الجالسة معها: وعميمة سوسو بعد!!
ابتسمت شعاع وهي تخلع غطاء وجهها: مرحبا ياجميلات.
تبادلن السلام والأخبار، ووجه مريم يتلون خجلاً من الإطراء سواء كان شوق صيتة وأن المنزل من دون وجودها أصبح خاويًا، أو من مديح سارة التي أجلستها في حضنها وهي تتغزل بلباسها وأناقتها وشطارتها بالمدرسة.
تحررت مريم من سارة والتصقت تجلس بجانب شعاع التي وعلى الرغم من سعادتها برؤية عمتها إلا أنها لم تستطع أن تستنكر هذه الزيارة، خصوصًا وأن وجه سارة كان شاحبًا تعطي ابتسامات صغيرة لم تصل للعينين الحمراء الحزينة، ولم تكن خالتها والضيق يرتسم على وجهها بأحسن حال منها، الجو كان ثقيلاً ما إن دخلت لكنها لم تستطع أن تسأل والقلق يعتصر قلبها.
قبل دقائق، أقفل عزام سيارته بالريموت عن بعد وهو يفتح باب المنزل بمفتاحه، يمسكه مفتوحًا بيد لتدخل شعاع ومريم ويخرج هاتفه الذي رن من جيبه باليد الأخرى. ثم يشير لهن ليسبقنه وهو يفتح الخط.
أنهى اتصاله الذي لم يتجاوز الخمس دقائق، وفتح باب البيت داخلاً بملامح جامدة سرعان ما لانت لابتسامة واسعة وهو يراهن أمامه تتوسطهن عمته، يرحب بصوتٍ جهور ليسرق منها ابتسامة لم تصل لنواعسها الحنونة.
جلس بجانبها بعد أن أمسكت بذراعه عندما همّ أن يبتعد، تمطره بالأسئلة، تتطمن عليه، وعزام يجيبها ويبادلها السؤال بمودة.
تسأل صيتة: تبون غدا؟
تأتيها الإجابات متفرقة من عزام وزوجته وحتى مريم ولكن مضمونها كان واحدًا. تقف شعاع بعد ذلك وتدور بالقهوة، ومن خلفها مريم تدور بالضيافة.
نطقت سارة بسرعة ما إن وقفت شعاع ودلتها أمامها: لا تصبين ياقلبي ما أبي.
شعاع بابتسامة هادئة وهي تتفقد ملامح عمتها بحيرة: فنجال بس.
تبسمت لها بمودة: من العصر وأنا وصيتة نقحن فيها خلاص حرقااان الف.
شعاع بحب: ياجعله مداخيل العافية يارب.
تبتعد شعاع لتقف مريم مكانها، بين يديها صحن التقديم الزجاجي، تنطق بلطف: طيب خذي معمول.
قوست سارة شفتيها باعتذار: والله شبعانة ياجميلتي.
مريم وهي تمده بإصرار: وحدة بس.. عشاني.
لم تستطع سارة أن تقاوم العينين التي اتسعت بأمل، فهتفت وهي تقبل خدها بعد أن أخذت حبة معمول بالتمر: وه ياناس أنا البنت ذي بتذبحني، والله لو باقي عندي ولد ما أعرس كان والله والله ماتروح من يدي.
صيتة برقة: ميمي يابخت اللي بياخذها مافيه مثلها بسم الله عليها أحسن بنت في العالم.
تشدقت شفتي عزام بابتسامة واسعة وهو يرى خدي مريم يتوردان بخجل، يقول موجهًا حديثه لشعاع التي كانت ترفع ابهامها برضا للصغيرة التي خطَت نحوها بحرجٍ واضح: شعاع بالله نبي من ذيك القهوة السودا اللي تسوينها.
شعاع بابتسامة عريضة: أبشر وتم من عيوني الثنتين.
ثم تابع عزام ناظراً لعمته، متأملاً جانب وجهها: وسوي لعمتي بأكبر فنجال خلها تقند راسها.
سارة بابتسامة مقتضبة بشكلٍ واضح: مافيه شي يقند الراس إلا المهيلة خل عني هالكلام بس.
شعاع : لا القهوة التركية غير ياعمة بنص الدماغ على طول.
سارة بعبوس: قد شربتها مره ولا عاد كررتها أعوذ بالله ياطعمها.
ضحك بمودة وهو يلف ذراعه حول كتفها: جربي اللي تسويها شعاع ومتأكد إنك بتغيرين رايك، قهوتها غير تقل مقطوع سرها بإزمير بنت ساجر...
صيتة: إذا تركية أنا ما أبي، تسرّي النوم من عيني يابنتي.
طوقت شعاع عضد صيتة بيدها، وأسندت خدها على كتفها تحايلها: بخففها لك مرره تشربينها من هنا ويغط عليك النوم من هنا.
ثم أردفت بنبرة صارمة وهي تقف: ميمي تعالي معي أبيك.
ليقول عزام بصوت مرتفع وروقان وهو يرى ابتعادهن: بشويش على البنت ياشعاع... ميمي إن احتجتي مساعدة ناديني.
ثم التفت لعمته يسأل عن حال حاكم فآخر مرة رآه بها الأسبوع الماضي في بيت عمه لم يكن على مايرام. ورجّح أن يكون هذا سبب انطفائها الواضح هكذا. أو ربما لازالت متضايقة من موضوع ريم والخطبة التي لم تتم لكن سرعان ما استبعد ذلك فالموضوع مر عليه مايقارب الأسبوعين غير أن عمته ليست ناقصة عقل لهذا الحد وتعلم أن كل شيء قسمة ونصيب.
أجابته سارة بتنهيدة مثقلة: الله وكيلك راح قبل أمس موعده بالمهاوش قد الجادل تستفزع بسلمان.
عزام بهدوء وهو يلاحظ ذبولها: أفا، ليه؟
أعادت خصلاً من شعرها خلف أذنها بتعب: أنا أدري عنه الله يصلحه يقول مايحتاج.
عزام باهتمام: طيب وش قالوا له؟ عسى خير.
سارة بابتسامة صغيرة وهي تنظر له بمودة: أبد يقولون اللحمية عنده وارمه وحددوا له موعد يشيلها. بس عمومًا أموره طيبة الحمدلله.
صيتة بمواساة: الحمدلله.. قدامه العافية يارب، ماتخوف اللحمية وعمليتها هينه.
هز عزام رأسه مؤيدًا قول والدته، يشد على عمته ويقربها منه ويقول بحنان بعد أن طبع على رأسها قبلةً رقيقة ما إن لاحظ التماع عينيها: مايشوف شر، بسيطة إن شاءالله لاتخافين .
عادت سارة لمنزلها بعد أن اجبرها عزام أن تتناول طعام العشاء معهم، ورغم أنها تعذرت وحاولت الذهاب في وقتٍ أبكّر إلا أنه لم يسمع منها أي أعذار. يصل السؤال لطرف لسانه قبل أن يبتلعه وهو يتبادل النظرات القلقة مع شعاع، فكل شيء بعمته كان مختلفًا هذه الليلة، ابتساماتها مختلفة، أحاديثها مختلفة، ملامحها مختلفة، كل شيء كان لا يشبه سارة السارّة.
وقد مر عبدالإله متأخراً تلك الليلة ليأخذ ابنته، يحمل بين يديه طبقًا مغطى فيه ثلاث قطع كيك شوكولاته بمذاق أسطوري.
صعد عزام السلالم بعد أن أغلق الأبواب، يغلق خلفه الأنوار، واتجه لغرفة والدته كعادته. يسامرها قليلاً قبل أن تنام. يتبادلان أطراف الحديث، تتكلم صيتة عن يومها ويسرح هو في وجهها متأملاً بحب. نبرة صوتها لوحدها تحييه.
لم يدرك بأنه كان شاردًا بتفكيره حتى سأل قاطعًا ماكانت تتكلم به: يمه عمتي سارة تشكي من شي؟
سكتت صيتة، وعقدت حاجبيها وأجابته باختصار: مافيها إلا العافية ليه تسأل؟
تقوس فمه بتفكير: مدري كن خاطرها ماش! حتى شعاع لاحظت،
ابتسمت صيتة رغمًا عنها وعلاقة ابنها بشعاع في هذه الفترة شيء لايمكنها أن تصفه، والشكر بعد الله لحفيدها المنتظر: وأنت وشعاع ماوراكم شي غير مطالع خلق الله! التهوا بنفسكم ودعوا الخلق للخالق.
تبسم بتكلف: أقول يمه لا تصرفين،
ثم أردف بتردد: فهد فيه شي؟
ارتفع حاجبيها بتعجب، وسكتت قليلاً قبل أن تنطق بهدوء: ليه ربطت حالتها بفهد يعني؟ ليه مو حاكم ولا ناصر أو حتى ريم؟ وش معنى فهد ماني فاهمة؟
عزام بعقدة حاجبين طفيفة، وقال مكرهًا: بصراحة لأن الضيقة ذي ما أشوفها على عمتي إلا لا صار شي يخص فهد.
زفرت صيتة بضيق: حبيبي تطمن بس عمتك متغلقة عشان سالفة صايره معها بالدوام.
عزام بنبرة مشاكسة: وجاتك تفضفض يعني؟
رمقته صيتة بطرف عينها ونطقت بغرور مازح: طبعًا.. ترى سارة ماترتاح إلا لي، ومو بس سارة حتى البنات بالدوام، أنت مستهين بأمك ياولد ولا وش؟
ابتسم بقوة حتى اختفت عيناه، مقبلاً يدها أكثر من مره ينطق من بين قبلاته: يعني منتي ملاذي لحالي بس؟...
نظرت له وقد داعبت كلماته أوتار قلبها فابتسمت ابتسامةً واسعة قالت معها بمرح وهي ترفع حاجبيها بثقة: لأ، قدامك أمم, زحمة مراجعين ياحبيبي..
قهقه عاليًا، يمط شفتيه ناطقًا بتبرم: أجل الحمدلله إنك أمي لحالي بس.
ملأت ضحكتها المكان براحة وحبور تحمد الله أكثر منه أنه ابنها، ليضمها عزام إليه يقبل رأسها متمنياً لها ليلة سعيدة قبل خروجه.
.
.
مضت الأيام سريعة، كأنها لحظات..
لم تتوقف عند حزن أحدهم ظن أن الحياة انتهت من شدة ضيقة، ولم تتسارع لفرط سعادته.
إلا عليه، الليالي عبرت عليه وهو يصارع انكساراته وخساراته. يُسدل ستار الظلام عليه، ولا يغمِض عيناه إلا وهو مرهق من شدّة ما أعتمل في صدره، وعقله. تكبر الندبة بداخله حتى أصبحت أكبر من قلبه، ولولا اليقين بأنه سينالُ أجرًا على كل ما أصابه من قهرٍ وابتلاء، لما تحمّل صدره كل هذا الحزن.
يتلوّى في تأنيب الضمير كلما وقعت عيناه على ثغرها الباسم، المعجزة التي أرسلها الله له، لتبدد عتمة انكساراته، وتُلاشي كل حزنٍ يجثم على صدره..
تسأله وتكرر السؤال عليه كلما اوجعها صمته: حرام هالعيون اللي مليانة حنان تزعل، وش اللي مضايقك؟
ولايجد لضيقه إجابة تصفه، يؤلمه الكلام، يتمنى أن يزول كل هذا فقط..
.
مساء السبت، وفي صالة انتظار أحد المستشفيات،
كانت غادة تجلس على الكرسي المعدني وتهز قدمها بتوتر, وكأنها زيارتها الأولى لطبيبتها التي تتابع حالتها الصحية منذ نعومة أظافرها، تتلفت حولها وتحاول أن تجد شيئًا يشغل تفكيرها. تتفكّر بالموجودين حولها وهي تتمنى أن يعود فهد الآن رغم أنه لم يمضي على ذهابه سوى ثواني عندما دخل وقت صلاة العشاء وذهب لأداء فرضه مع الجماعة في مصلى المستشفى الموجود بأحد الطوابق.
يُنادى اسمها في الممرات بعد لحظات من اختفائه لتقف بارتباك تأخذ طريقها لغرفة الطبيبة.
عاد فهد ولم يجدها فعرف أنها دخلت، وبقى ينتظرها حتى فُتح باب العيادة لتخرج امرأة لا تبدو كغادة مما جعله يبتعد عن المكان متصلا عليها لتُعلمه أنها في المختبر.
: طلبت مني تحليل دم.
كان هذا أول مانطقت به غادة ما إن التقت به خارج غرفة سحب الدم، ليسأل فهد بقلق: ليه؟
سحبت نفسًا عميقًا وقالت وهي تزفره: تقول تبي تتأكد من شغله.
عقد حاجبيه بتساؤل: شغلة وش؟
لم تجبه، وقالت عوضًا عن ذلك: يلا خلنا نمشي خلصت.
فهد: والنتيجة متى نستلمها؟
غادة بهدوء وهي تتأمله: هي قالت لي أول ماتطلع بتتصل علي وتبلغني.
ضحك بخفّة يرفع حاجبًا بتهكم: الله!! وش هالميانة؟
فأجابت بعينين باسمة: ذي دكتورتي من يومي بزر عشرة عمر أنا وياها تعدينا مرحلة الرسميات من زمان.
فهد بابتسامة هادئة: طيب وش قالت لك؟ وش سبب النوبات المتكررة؟
صرفت بصرها عنه وقالت بنبرة مخنوقة: خلنا نطلع من هنا أول انكتمت من ريحة المستشفى.
فهد بعجل: يلا مشينا البيت أجل.
: لا ما أبي البيت عادي نروح مكان ثاني؟
زم شفتيه وقد بدَا التوتر واضحًا عليه: وين؟
غادة بنبرة حاولت أن تكون اعتيادية: أي مكان، فيه كلام بقوله لك وشغله أبي آخذ رايك فيها.
اشتد نبض قلبه وهو يتنقل ببصره بين مقلتيها: عسى ماشر؟
مسكت غادة يده ومشت معه: ماشر إن شاءالله.
فهد بنبرة يشوبها القلق: شي مو زين؟ لازم أخاف يعني؟
ضحكت بضيق: لأ. أبيك راايق على الآخر.
خرجا من بوابة المستشفى، وما إن انطلقا بعيدًا عن المواقف حتى وشعر فهد بأن ارتباك غادة التي غرقت بصمتها يصله ويغرقه معها. تعقد ذراعيها على صدرها وتنظر للشوارع التي يعبرونها، تهز قدمها بشكلٍ سريع متواصل حتى بدت وكأنها علّقت.. وصمت.. ولا شيء سواه. واحترم فهد صمتها ولم يسأل شيئًا رغم الخوف الذي أربك نبضه.
رمشت غادة أكثر من مرة ما إن ثبت تركيزها على المكان الذي وقف عنده، أمام نافذة الطلبات الخارجية لمحل القهوة المختصة الذي تتغزل به ليلاً نهاراً.
التفت له بنظرة متسائلة، ليجيبها بابتسامة هادئة بعد أن أعطى العامل الطلب: المود واضح مُش ولابد نحتاج نرفعه.
ضحكت باقتضاب ولم تعلق أو حتى تنكر اتهامًا يقدح بشخصيتها البشوشة هكذا.
أخذ فهد كوبها بعد أن مده له العامل متمنيًا لهما أمسية سعيدة، يجد فهد نفسه يؤمّن على أمنيته الصادقة في داخله وهو يفتح غطاء الكوب الأسود، يرتشف من القهوة القليل تحت نظرتها الهادئة، يحوِل عيناه ما إن ذاق مرارته: ياااوك.
ضحكت بخفة، تأخذه منه: جيب جيب اترك القهوة لأهلها بس.
زفر فهد نفسًا عميقًا أخذه، وانطلق مبتعداً لا يعرف أين يذهب حتى انتهى به المطاف يقف على جانب طريق تعبره سيارات قليلة، هو وغادة والصمت الثقيل والغريب ثالثهما.
انتظرها حتى أنهت قهوتها، تضع الكوب الفارغ بمكانه المخصص بينهما، تفتح النافذة وتخلع غطاء وجهها وهي تشعر بأن أنفاسها لا تعبُر.
توقع أن تتكلم الآن، لكنها لم تنبس ببنت شفه، فاستنكر فهد صمتها الذي طال و وضعها كله: غادة..
عاد ينادي رافعًا صوته واضعًا يده على ذراعها المعقودة مالم تجبه: غادة؟؟
أدارت وجهها له، ولمح نظرةً غريبةً في عينيها، فإبتسم سائلاً بضيق: وش فيك؟
راقب فهد ملامح وجهها الذي سرق فؤاده.. يبتسم رغمًا عنه لعبوسها والذي من شدته ظهرت غمازتيها وغطت نصف خديها.. لكن ما إن حطت عينه على ثغرها المشدود علها تمنع ارتعاشه، حتى وتلاشت ابتسامته: الدكتورة قالت لك شي؟
ابتلعت ريقها بصوتٍ مسموع، تهتف بعد ثانية صمت: قالت كلام كثيييير ماعجبني وخلاني أتأكد إنها سبّاكة.
ضحك: هذي آخرت الميانة... تقول اللي تقوله بكيفها، المهم صحتك زينة؟
إبتسمت بتكلف: الحمدلله، حتى أدويتي بقت نفس ماهي ماغيرت شي.
فهد: طيب زين الحمدلله، بس وش سبب الألم اللي صرتي تحسين به بعد النوبة ماقالت؟
سكتت قليلاً واعتدلت بجلوسها حتى صارت تقابله، تهتف وقد صفحت كفها له: ممكن تعطيني يدك؟
مد يده وعلّق ممازحًا عله يخرجها من جوها الكئيب ومزاجها المتعكر: ليه ناويه تخطبيني؟
تبسمّت ابتسامة تحدي صغيرة وأجابت في ثقة:*عاد تصدق لو ماسبقتني وتقدمت لي كان أنا تقدمت لك! يبوي حنا مقدّرين لبعض مافيها كلام.
رفع حاجبيه بضحكة متعجّبة جعلت غادة تتمتم بمرح رغم الفتور الواضح في عينيها: كنا بنلتقي بشكل أو بآخر، بتصير صدفة تجمعنا وتحطك بطريقي، يمكن نلتقي بشارع واقفين عند نفس الإشارة، اصنصير مستشفى، حوش بيتكم مثلاً إذا عزمتني مس سارة ههه، أو حتى في حلم.. وساعتها أنا متأكدة إني بحبك من أول نظرة بعد.
اتسعت ابتسامته حتى اضاءت وجهه كاملاً وسأل بحبور: إعتراف ذا..؟
سبلت عينيها ورفعت كتفيها قائلةً بنبرة تتصنع التهكم فيها: شي بديهي كان المفروض تعرفه من نفسك بدون اعتراف .
لفّهم السكون لوهلة قصيرة وعيني فهد تتأملها بمودة: ترى الكلام ذا يخوفني مايطمني وش السالفة؟
بهتت نظرتها، وتلاشت ابتسامتها، تصمت قليلاً قبل أن تنطق بزفرة مبعدةً بصرها عنه: هو شي أنا سامعه عنه من كبرت وبديت أثقّف نفسي بحالة الصرع اللي فيني واقرأ عنها، بس ما اهتميت اسأل أو بمعنى أصح ماكنت أبي اسأل لأني أخاف من الجواب.
ثم مررت لسانها على شفتيها وأردفت بارتباك بعد أن مسحت وجهها بكفها: بس يوم تأخرت علي اسبوع ونص خفت وحسيت إن الموضوع جد، فالدكتورة شكّت وطلبت تحليل حمل.
فهد بهدوء مميت: يعني مازرتيها لأنك تتوجعين بعد النوبة؟
ابتلعت ريقها بصعوبة، وهزت رأسها تنفي، وبررت: الدكتورة خايفة أكون حامل لأن وضعي الصحي مايسمح خصوصًا إن حالتي بالصرع متقدمة شوي ماهي بسيطة ونوعية الأدوية اللي آخذها تحتاج استشارة طيبة قبل أي خطوة.
زفر هامسًا بغبنه: غادة.
تشبثت بكفه بكلتا يديها، وقالت بإندفاع ونبرة باكية: لكن أنا مايهمني، لو كنت حامل صدق مستحيل أنزله حتى لو كان هالشي بيضرني أو كانت نسبة إنه يكون مشو..
نهش الحزن قلبه بين ضلوعه، وقاطعها بنبرة مهزوزة: غادة أنا ما أجيب عيال.
ساد صمتٌ مميت بعد أن أنهى جملته، وصفعت الصدمة بشكلٍ واضح ملامحها، سكنت حركتها وهي تحدّق في وجهه بعدم استيعاب وكأنه تحدث بلغةٍ لا تفقهها، تتشكل عقدة قوية بين حاجبيها هامسةً باستنكار ودموع حارة: كيف؟
ارتخت عينا فهد بحسرة وهو يشعر بارتخاء قبضتها على يده: أنا عقيم، ما أجيب عيال.
.
.
قبل ثلاث ساعات،
توقفت سيارة عزام المسرعة أمام بيته ليصدر صوت احتكاك العجلات بالأسفلت صوتًا عالياً ومزعجاً تردد بالحي الهادئ.
خرج منها على عجل، يتجه لباب المنزل وهو يغلقها في طريقة،
يسابق خطوته حتى بدَا وكأنه يركض، ينادي بصوتٍ مرتفع ما إن دخل وهو يصعد الدرج بضحكة آخذًا كل درجتين في قفزة: يممه.. يممه..
لينتصف الصالة العلوية قبل أن تعتدل شعاع المتمددة على الأريكة جالسة، أو أن تستوعب صيتة صراخه كي تجيبه.
سلّم بنبرة مبتهجة وابتسامة واسعة، يقبّل رأس أمه قبل أن يجلس بجانبها ويمسك كفها بين يديه، يدنو عليه مقبلاً إياه أكثر من مرّة، بقوةٍ جعلت صيتة تضحك: وش بلاك ياولد مستلج؟
لم يجبها عزام، وقربها منه يضمها لصدره حتى كاد يفتت أضلعها مما جعلها تسأل بريبة: عزام!!
لم يجبها، لازال يضغط عليها بين ذراعيه لتقع عينها القلقة بعيني شعاع من فوق أكتافه وهي تشعر بدقات قلبه السريعة والقوية تضرب أضلعها.
ابتعد أخيرًا بعد ثواني وعلى وجهه ابتسامة غريبة لم تفهمها. لكنها أراحتها من القلق قليلاً لتسأل وهي تتفحص وجهه: وش صاير لك بسم الله عليك؟
حاول عزام أن يتحكم بنبرة صوته ولم يستطع، فخرجت كلماته مخلوطةً بضحكةٍ عذبة: جوعان... تغديتوا؟؟...وش غداكم؟
قالها و التفت لشعاع على الأريكة خلفه بنصف جسده،
رمشت شعاع مستنكرةً حاله: مند..
ولكنها لم تكمل كلمتها ما إن وقف عزام مندفعًا بتقدمه، يمسكها من ذراعها ويسحبها خلفه على الدرج نزولاً للدور السفلي: علميني وأنتِ تغرفين لي.
يصله صوت أمه ضاحكةً بحبور: اترك الرجّه عنك ترى المرَه حامل.
تعدّى عزام المطبخ وفتح باب البيت يخرج للفناء، لتهتف شعاع بصعوبة وهي تحاول مجاراته بخطواته: بشويش ياعزام بطيح.. وين موديني أنت؟؟
تجاهل أسئلتها ليأخذها خلف المنزل، يتوقف ويوقفها أمامه محررًا ذراعها من قبضته.
شعاع بخوف وهي تراه يدور حول نفسه، واضعًا يديه على رأسه: وش فيك عزام؟..
لم يجبها وهو يحاول السيطرة على نفسه، واقترب منها عندما لم يُفلح، يمسك وجهها بين كفيه ويغمره بالقبلات..
وضعت يدها على صدره ودفعته قليلا للخلف باستنكار: عز..
لكنها سكتت وهي ترى الدموع تبلل وجهه ولازالت تسقط من عينيه، سألت بهلع رغم ابتسامته المتسعة: تبكي!!!!
ارتعش فكّه وتقوسّت شفتيه رغمًا عنه، يومئُ برأسه ويؤكد ماهو واضح.
هزتها دموعه وآلمتها فهذه المره الثانية التي تراها فيها، سحبته ناحيتها بقوة وجزع وقلبها ينبض بسرعةٍ رهيبة حتى كاد يتوقف، تدفن وجهه في كتفها، تسأل برعب وأنفاس متقطعة: ليه تبكي؟ وش صاير؟
نطق عزام بصعوبة: أبوي.
نزلت على الأرض ببطء وأنزلته معها فلم تعد أقدامها قادرة على حملها، نظرت له بترقب وبكت والخوف مما ستسمع يعتصر قلبها: وش فيه عمي؟
أجهش عزام باكيًا ففي داخله فرحة إن لم تخرج ستفجّر قلبه: أبوي ياشعاع طلع حي.. حي صدق ياشعاع.. حي.
.
.
في نفس الوقت وبأحد المنازل.
رجل في عمره الستين، بثوب بيت سكري وشعر أبيض خفيف خالطه بعض السواد مسرّح بترتيب وشارب بلحية قصيرة، ينطق سائلاً للمرة الثانية: هذا مَن؟
تأتيه الإجابة بصبر من الجالس بجانبه: يبه ذا زميلك راكان.
عاد يسأل: راكان سالم؟
أخذ نفسًا عميقا واطلقه: لا يبه راكان سعد.
عقد حاجبيه والتفت ينظر له بحنق: وراكان سالم وينه؟ ادعه لي.
مسح وجهه بكفيه قبل أن يزفر بضيق: يبه واللي يخليك راكان سالم عطاك عمره من ثلاث سنين. قد مات وشبع موت!
ارتخت ملامحه بصدمة وتغيرت نبرته: ولد سالم مات!! متى؟....
تمتم ابنه بقل صبر تحت أنفاسه وهو يسمع نحيب والده: لا حول ولا قوة إلا بالله..
يهدأ النحيب بعد ثوانٍ قليلة ما إن نسى سببه، تلتقي عيناه بالجالس أمامه ينظر له بابتسامة.. فهمس لابنه يعاود السؤال للمرة الثالثة: هذا مَن؟
لم يستطع راكان أن يمنع ضحكته من أن تخرج حادةً مرتفعة، يهتف بعدها بأسى: لك الجنة يا أحمد.
تبسم أحمد بضيق: الله يعافيه ويرفع عنه مثل منت شايف حالته كل مالها تسوء.
راكان بابتسامة وهو يلاحظ أن أحمد ينظر لساعته بين دقيقة وأخرى: شكلك مشغول.
تبسم أحمد بحرج: لا أبد فاضي.
راكان: لا تربط نفسك فيني روح ماني غريب.
زم أحمد شفتيه بتردد، ينظر لوالده الذي بدأ رأسه يتحرك يمينًا ويساراً بنعس ثم لراكان الجالس أمامه:...
راكان بابتسامة: تراني أعرفه قبل لا يصير أبوك.
أحمد بضحكة مجاملة: أنا خايف يأذيك بس.
ليهتف راكان بنبرة مطمئنة: ماعليك بقعد أسولف عليه لين ترجع.
سكت أحمد قليلاً يفكر، وبعد نظرة سريعة لساعته هتف بصوتٍ عالٍ قريبًا من أذن والده: يبه أنا ماني مطول رايح مشوار سريع وراجع، إن بغيت شي دحومي داخل ازهم عليه وبيجيك.
نظر له والده وعقد حاجبيه سائلاً باستنكار: أنت من؟
زفر بقل حيلة ووقف، يودع راكان ويؤكد عليه بأنه لن يتأخر وأن يأخذ راحته فالبيت بيته قبل أن يخرج من المجلس مغلقًا الباب خلفه.
ساد الصمت لدقائق، قبل أن يقطعه راكان قائلاً بجدية: يخرب بيتك أنا انفقع قلبي كيف عاد الولد.
ضحك بخفة: متعود علي ماعليك.....
ثم أردف بتهكم واضح : وش عندك من مصيبة المرة ذي؟
راكان بنبرة ضائقة: الكلابة كثرت حولي يابن عوجان.
عقد حاجبيه بضجر: والله إني ما استبشر خير بجيتك أبد.. تكلم وش عندك؟
راكان بقهر: عذوب رجعت.
تطايرت عيناه بدهشة: شلون رجعت ذي؟
راكان بحنق: مدري عنها الله ياخذها، البلا إنها مع جوار وفي بيته.
تحرك فمه أكثر من مرة لينطق أخيرًا: ولع**!
زم راكان شفتيه حانقًا بينما يهز رأسه بعصبية لم يستطع السيطرة عليها: اترك عذوب على جنب...ولد الكلب يانايف قاعد يحفر ورى أبوه.
سكت نايف قليلاً قبل أن يسأل: أي كلب فيهم؟
راكان بنبرة مغتاضه: ذيب،، عزام ولد ذيب.
ارتفع حاجبه بابتسامة باردة: خله يحفر من هنا لبكره ماهو لاقي شي.
انفعل راكان بغيظ: ذا الكلام تسكتّني به لاصار يحفر لحاله.
ثم أردف موضحًا بذات الانفعال ما إن بدَا عدم الفهم على وجه الآخر: واحد من العيال اللي حاطهم عند بيت جوار شافه طالع منه.
نايف بدون تردد: خلص منه.
راكان بقوة: أوقفه؟؟ أمنعه؟؟
نايف بحزم: لأ، اقتله.
سكت راكان قليلاً ثم نطق ببطء: اقتله؟... شلون؟
نايف وقد تقوس فمه بسخرية وأجابه بتهكم واضح: أنا أعلمك شلون؟
ثم تابع بجمود وهو يشير بكفه: بس قبل سو به معروف وأجمعه بأبوه ثم اذبح الإثنين .
لو كانت الصدمة تقتل لكان راكان في عداد الأموات الآن، لكنه لازال حيًا يرزق ينطق بهلع وعدم تصديق: تبيني أرجّع ذيب السعودية؟ انهبلت أنت؟
نايف بنبرة غير مبالية: ايه رجعه إلى متى بيقعد برى؟
راكان: عساه يقعد إلى أن يموت دامه مو حولي.
نايف: تعرف مكانه؟ تقدر ترجعه؟
راكان: ايه بس معصي مابعد انضرب على عقلي.
نايف بابتسامة جانبية: لا تصير جبان رجعه وخلنا نغير جو ونستانس شوي.
رمقه راكان باستنكار وحنق: لااا أنت مخك انلحس صدق مو بتمثيل.
ضحك نايف ضحكة هادئة مستمتعة قال بعدها: شف أنت كنت مرتاح لأنه مع نوعام وجماعته وكانوا مقفلين عليه حيل ورجعته مستحيلة، بس بعد غدرة نوعام الخسيس خوفك ترجع له ذاكرته بأي وقت ويرجع وساعتها مابيرحم أحد لا هو ولا ولده.
تمتم راكان بغيظ وهو يشد على أسنانه: الله يزيلك يانوعام صدق صهيوني نذل ماله أمان لا هو ولا جماعته.
لينطق نايف بابتسامة ساخرة: اسمع مني بس، اضرب الكلب يستأدب الفهد.
.
.
.
.
# نهاية الفصل الثالث والعشرون
نلتقي قريبًا إن شاءالله ❤
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ♡.
|