9 – مقلب ساخن ..
أحياناً يكون الانتقام شهياً .. خاصة عندما يقوم به زوج غيور ..
المشكلة هنا أن الزوجين هما اللذان استدرجا الفتى لهذا الشرك , وهذه تيمة تتكرر كثيراً فى ألف ليلة وليلة ..
كانت عبير متزوجة .. المكان هو بغداد ..
هناك نافذة جميلة ذات طراز عربى رائع من النوع الذى نسميه عندنا ( مشربية ) , ومنها كانت تطل على زقاق .. الزقاق فيه متجر خياط على الجهة الأخرى ..
كان الخياط جالساً وقد رجلاً على رجل وراح يخيط بعض قطع الثياب , ثم نظر لأعلى فالتقت عيناه بها .. الكهرباء ! .. السحر ! رأت عبير فى عينيه الانبهار المجنون بها , وعرفت أنها على الأرجح ستكون فاتنة فى أغلب هذه القصص ..
هكذا لم يعد يخيط شيئاً تقريباً .. أو للدقة صار يخيط أصابعه إلى بعضها ..
زوج عبير التقط الخيط .. ألقى نظرة على الزقاق وعرف ما هنالك ..
من دون كلمة حمل مجموعة من الأقمشة ونزل للخياط وطلب منه أن يفصل له هذا القماش قمصاناً ..
كان الخياط قد تحول بفعل الهوى إلى إنسان آلى , لذا هز رأسه موافقاً وراح يخيط ويخيط ..
فى نهاية اليوم جاءه الزوج ليأخذ عشرين قميصاً وسأل عن الثمن ..
هنا نظر الخياط إلى عبير فى المشربية , فلوحت بيدها أن لا .. لا تأخذ منه شيئاً ! .. هذه القمصان تخصها .
هكذا لم يتقاض شيئاً.. وقع فى عملية نصب ممتازة تعتصر جهده كله ..
**********
ككل قصص ألف ليلة وليلة لا بد من جارية تأتى للرجل وتخبره أن سيدتها ترغب فى لقياه .. أين ؟ .. فى الطاحونة تحت البيت ..
هكذا دق قلب الخياط واجفاً وعندما جاء الليل اتجه إلى الطاحونة .. الظلام دامس لكن الغرام يجعله شجاعاً ..
ذهب زوج عبير إلى الطحان وطلب منه تلك الخدمة .. هناك ثور آدمى فى الطاحونة وهو بحاجة إلى بعض التأديب ..
هكذا ذهب الطحان إلى الطاحونة فى الظلام , وأمسك بالخياط وربطه فى حجر الطاحون وهو يقول :
هذا الثور كسول برغم أن كمية القمح المطلوبة منى كثيرة .. سوف أربطه فى الحجر حتى الصباح !
وهكذا لم يجرؤ الخياط على الكلام , ووجد نفسه يدير الحجر فى صمت .. بينما تنهال عليه ضربات السياط ..
لم ينقذه إلا الفجر وقدوم الجارية لتحرره .. وتعتذر له , لكنه كان عاجزاً عن الكلام ..
عاد للسوق والمتجر كل عظمة فى جسده تؤلمه , فقرر أن ينسى كل شئ عن الحب .. لكن عبير أرسلت له الجارية كالعادة :
سيدتى مشتاقة لك وهى تقف فوق السطح بانتظارك ..
خرج الرجل متشككاً خائفاً ليكلم عبير .. فقالت له من أعلى :
لماذا قطعت التعامل بيننا ؟.. أقسم بالله إن ما حدث فى الطاحونة لم يكن لى فيه ذنب ..
وقالت له الجارية إن زوج عبير سيبيت خارج البيت هذه الليلة . هذا سيتيح فرص الوصال ..
هكذا ابتلع الثور الأحمق الطعم وذهب فى المساء إلى حيث كانت عبير.. مد يده لها لكن يداً أخرى هوت على قفاه ووجد نفسه يطير فى الهواء ..
وسرعان ما وجد الزوج يحمله إلى صاحب الشرطة – وهو الاسم القديم للمخفر- فتولوا ضربه علقة ساخنة بالسياط , ثم أركبوه جملاً وطافوا به شوارع بغداد .. طبعاً هذه كانت أسعد لحظة فى حياة الصبية الذين تولوا ضربه بالطوب وسكبت النساء الماء القذرعليه ...
لم تنته آلامه لأنه سقط من فوق الجمل فكسرت قدمه .. هكذا صار أعرج ....
هذه هى القصة كلها ! ....
مقلب لا بأس به لكنه لا يصلح لكى يكون حكاية .. دعك من أن الحب كما هو واضح لا ينتصر أبداً فى قصص ألف ليلة وليلة هذه ..
كانت عبير تشعر بمزيج من التوتر وخيبة الأمل وهى تنطلق لتعيش قصة أخرى ....
*********
هكذا راحت تجمع القصص .. تصغى وتتابع وأحياناً تشارك ..
لاحظت أن هناك مجموعة من القصص تتشابه كثيراً .. هناك شاب وسيم فى متجر , تاجر أو خياط , ثم تظهر له فتاة فاتنة تذهل عقله .. بعد هذا يتورط الفتى فى شئ ما .. هناك عدد أكثر من اللازم من الأطراف المبتورة .. أكثر منشاب فقد يده لأنه اتهم بالسرقة ..
هل هذا يحمل بصمة مؤلف واحد ؟ ...
مثلاً القصة التى كانت تعيش أحداثها هذه الأيام وكانت تدور فى مصر بالذات , كانت أحداثها كما يلى :
هناك شاب وسيم فاخر الثياب يأكل مع تاجر مسيحى , والملاحظ أن الشاب لا يستعمل سوى يده اليسرى مما يثير فضول المسيحى ..
سأله التاجر :
لماذا تأكل بيدك اليسرى ؟ .. هل باليمنى عاهة ما ؟
ككل واحد من أبطال ألف ليلة وليلة كان الشاب جاهزاً ببيتى شعر :
خليلى لا تســــــــأل على مابهم حتى
من اللوعة الحرى فتظهر أسقام
وما عن رضا فارقت سلمى معوضاً
ولــكــن للـــضــــرورة أحــكـام
طبعاً مقطع شعر ردئ .. معظم أشعار ألف ليلة وليلة رديئة لكن لها تأثير السحر على الأبطال , الذين يغشى عليهم أو يشقون ثيابهم أو يصرخون من الطرب فترتج القاعة من هول صرختهم ..
ثم إن الشاب أخرج ذراعه المتوارية خلف ثيابه فاتضح أنها مبتورة ..
بدأ يحكى قصته .. معظم أبطال ألف ليلة وليلة لهم قصة طويلة معقدة ...
لقد جاء الفتى من بغداد ليبيع القماش , وذهب إلى مكان يدعى قيصرية جرجس حيث حاول أن يبيع بضاعته مرة واحدة .. لم يستطع سوى أن يحصل على أمواله بالتقسيط ... وموعد القسط هو الاثنين والخميس من كل أسبوع ..
دخلت الحمام يوماً من الأيام وخرجت إلى الخان ودخلت موضعى , وأفطرت على قدح من الشراب , ثم نمت وانتبهت فأكلت دجاجة وتعطرت , وذهبت إلى دكان تاجر يقال له : بدر الدين البستانى فلما رآنى رحب بى وتحدث معى ساعة فى دكانه
هنا ظهرت عبير كالعادة ..
فتاة فاتنة تذهب العقول جاءت لتأخذ قطعة من القماش المشغول بالذهب . سوف تنقد بدر الدين ماله بعد أيام , لكن بدر الدين طلب ماله حالاً .. لأن الفتى جالس ينتظر وهذاموعد حصوله على القسط الأسبوعى الخاص به ..
نظرت عبير إلى الفتى نظرة من تلك النظرات التى تذهل الرجال , وابتسمت .. وكانت تعرف ما سيحدث .. الشهامة سوف تتحرك به إلى درجة أنه سيعرض عليها أن تأخذ ما تريد وتسدده فيما بعد .. فيما بعد .. ربما بعد ألف عام ..
إن رجال ألف ليلة وليلة يضعون الحب والجمال فى المرتبة رقم واحد . وهم أقرب إلى البلاهة يسهل خداعهم .. إن هرموناتهم هى صاحبة الكلمة الأولى فى أى قرار يتخذونه ..
لما رحلت الفتاة ظل الفتى يحدق فى الفراغ مذهولاً , ويبدو أنه نسى أين هو .
قال التاجر بدر الدين بلهجة العارفين :
إنها غنية .. هى ابنة أمير , وقد ورثت ثروته ..
الآن يعود الفتى إلى الخان الذى يقيم فيه , فيمارس أهم دور لأبطال ألف ليلة وليلة .. لا ينام .. لا يأكل .. مقروح الجفن لا خليل له سوى لواعج الغرام وتباريح الهوى ..
ومن جديد تأتيه الجارية لتبلغه أن سيدتها تهيم به حباً , وأنها تدعوه للقائها .. عليه أن يصلى الجمعة ثم يتوجه إلى باب زويلة ثم يسأل عن قاعة بركات النفيب المعروف بأبى شامة .. هذا هو عنوانها .. لا تنس أن الفتى عراقى والوصول لهذا العنوان مشكلة ..
خليط عجيب من التدين والصلاة والخمر والعربدة .. خليط لا يمكن فهمه فعلاً , لكننا اعتدناه فى صفحات ألف ليلة وليلة ..
*********
دق الفتى الباب ففتحت له جاريتان كأنهما قمران , وقالتا له :
ادخل .. إن سيدتنا تموت شوقاً لك ..
كانت الفاعة مغلقة بسبعة أبواب , وفى دائرها شبابيك مطلة على بستان فيه من الفواكه جميع الألوان , وبه أنهار دافقة وطيور ناطقة , وهى مبيضة بياضاً سلطانياً يرى الإنسان وجهه فيها .. وسقفها مطلى بذهب وفى دائرها طرزات مكتوبة باللازورد , قد حوت أوصافاً حسنة وأضاءت للناظرين , وأرضها مفروشة بالرخام المجزع , وفى أرضها فسقية , وفى أركان تلك الفسقية الدر والجوهر مفروشة بالبسط الحرير الملونة والمراتب ..
هذاهو وصف الأماكن غالباً ... كل مكان مذهل يذهب بالعقول ..
أما عن الطعام الذى قدمته عبير فهو كالعادة :
سفرة من أفخر الألوان من محمر ومرق ودجاج محشو ..
بعد الأكل قدموا له الطست والإبريق فغسل يده ثم تطيب بماء الورد والمسك .. هذه هى الطقوس ..
فى الليلة التالية عاد الفتى .. وقد غلبته عادة سيئة هى أن يترك لها فى كل مرة منديلاً به دنانير , كما أنه يعد فى فى كل يوم عشاء فاخراً ويرسله لعبير مع ( حمار ) . الطريقة القديمة لخدمة الدليفرى .
يوماً بعد يوم بعد يوم ... لقد أفلس الفتى ..
إن الإفلاس مع الرغبة فى البذخ مع الحب عوامل ثلاثة تقود المرء إلى الجنون ..
والجنون الذى وقع فيه الفتى هو أنه كان ذاهباً للقاء حبيبته , عندما اصطدم بجندى .. لا أحد يسرق جندياً ما لم يكن مجنوناً , والفتى مجنون .. مد يده إلى صرة المال المعلقة فى نطاق الجندى وأخذها ..
هنا نقول من جديد إنه ما من أحد يحاول نشل جندى وهو لم ينشل فى حياته ما لم يكن مخبولاً , والفتى مخبول .. هكذا شعر الجندى بيد الفتى الثقيلة وهى تنتزع ماله ..
هوى على وجهه بصفعة ثم اثنتين .. وسرعان ما التف الناس حول المشهد المهيب وتلقى الفتى علقة ممتازة .
حدث هذا أثناء قدوم الوالى ..
كانت السرقة ثابتة , والشهود كثيرون .. وهكذا أصدر الوالى أمره بقطع يد الفتى اليمنى ..
هكذا وقف الفتى ينزف وقد فقد يده اليمنى للأبد .. ورق له قلب الواقفين , حتى أن الجندى ترك له الكيس بما كان فيه من مال .. وقال له إن السرقة حرام , فأنشد الفتى :
والله ما كنت لصاً يا أخا ثقة
ولم أكن سارقاً يا أحسن الناس
ولكن رمتنى صروف الدهر عن عجل
فزاد همى ووسواس إفلاسى
يجب على المرء أن يتحلى بالصبر .. هذا الفتى قطعت يده منذ عشردقائق , ولا شك أنه يتألم كأنه فى الجحيم , وينزف بلا توقف , لكنه قادر على أن يتكلم شعراً .. دعك من المنطق الغريب .. والله لم يسرق ؟ .. إذن ما هو تعريف السرقة ؟
لقد عاد الفتى إلى عبير ولم يخبرها بما حدث له .. قال إنه مرهق ويريد أن ينام ..
يبدو أنه من السهل فى ألف ليلة وليلة أن تخفى أن يدك مقطوعة . لقد قلقت عبير وجاءته بشئ من الطعام والطعام كالعادة هو : سفرة من أفخر الألوان من محمر ومرق ودجاج محشو ..
لماذا لا تتكلم ؟ .. احك لى عما حدث لك اليوم ..
قدمت له كأساً من الشراب فرأته يتناوله بيده اليسرى ..
لماذا تستعمل يدك اليسرى ؟ .. هل تغير مركز التحكم فى مخك ؟
لكن الفتى أصر على ألا ترى يده ..
بعد عدة كئوس نام الفتى نوماً عميقاً .. هكذا مدت عبير يدها إلى كمه تعبث .. هكذا رأت يده المقطوعة .. وفى حزامه وجدت كيس المال .. بما ان النساء عباقرة فقد استنتجت على الفور أنه سرق وقطعت يده .
لم تنم ليلتها بل ذهبت لتذبح له أربع دجاجات ليعوض الدم الذى نزف منه ..
كانت الآن تشعر بشفقة حقيقية عليه مع زهو أنثوى مزعج .. الرجل الذى يحب امرأة لدرجة أن يبدد كل ماله ويسرق وتقطع يده , لهو عاشق لا تلقاه المرأة كل يوم .. هى لا تبالى بالمال .. لديها أكثرمن حاجتها لكنها بالفعل بحاجة إلى الحب ..
واستدعت الشهود كى تكتب كتابها على الفتى .. ثم قالت لهم :
اشهدوا أن جميع مالى الذى فى هذا الصندوق وجميع ما عندى من المماليك والجوارى لهذا الشاب ..
المفاجأة هنا هى أنها لم تنفق مليماً من المال الذى كان يعطيه لها .. كانت تحتفظ به فى صندوق من أجله .. هكذا صارت السرقة وقطع اليد وسيلة للحصول على الحب الأبدى ... يبدو أن الحب من غير يد يمنى له مذاق ألذ ...
المفاجأة الأجمل هى أنها ماتت بعد ذلك بخمسين يوماً فتركت له ثروتها كلها .. لقد صار الفتى ثرياً !
**********
10 – يجب صنع قصة ..
تجمعت القصص عند عبير .. قصص كثيرة جداً ..
كانت تشعر بتعاسة لأنها لا تعرف كيف تتحرك .. كان شهريار قد أعطاها إجازة لمدة أسبوعين تحاول فيها اكتساب قصص جديدة .. قصص لها ذات طابع ما كانت أختها تحكيه .. لا يريد قصصاً سخيفة عن مدن أوروبية تجتاحها الثورات , أو صيادى لؤلؤ مكسيكيين ..
عرفت أن المرشد نجح بصعوبة فى إقناع شهريار بالتخلى عن مزاجه الليلى لمدة أسبوعين, ويبدو أنه أعطاه مشغلاً صغيراً للأقراص المدمجة كىيستمتع بمشاهدة الأفلام فى فراشه كل ليلة .. لكن شهريار فظ لا يجيد سوى قطع الرقاب , وقد دمر الجهاز على الفور باستعماله الأخرق ..
هكذا عادت إلى القصر مهمومة كاسفة البال ..
استقبلتها الجوارى فقمن بإدخالها الحمام ونظفن جسدها وعطرنها .. ارتدت ثياباً جديرة بالأميرات , لكنها كانت مهمومة فعلاً .. لا تضيعن وقتكن يا فتيات فى تصفيف شعرى , فهذا الشعر الجميل سوف يستقر على النطع بعد ساعات .. هذه الثياب الحريرية الفاخرة سوف تتلوث بالدم ..
كان أكثر ما يضايقها هو أن تحكى تلك القصص التى تنتهى فجأة .. تقول ( تمت ) بينما المستمع يتهيأ للمزيد فيصاب بخيبة أمل وينظر لها غير مصدق .. هذه هى مشكلة ما لديها من قصص ..
جلست وطلبت قرطاساً وريشة ومحبرة .. هذه أشياء يستحيل العثور عليها فى الحريم , لكن الجوارى استطعن أن يجدن بعضها ..
بدأت تكتب :
1 – الصياد الذى حسب أنه قتل الأحدب بشوك السمك . وكان على ملك الصين أن يفصل فى القضية .
2 – التاجر الذى خدعه الزوجان ووضعاه فى حجر الطحين .
3 – المزين الذى رأى عشرة رجال فحسب أنهم ذاهبون لوليمة وانضم لهم .. طبعاً تبين أنهم ذاهبون كى تقطع رقابهم
هناك قصة مماثلة بالضبط بطلها أشعب الطفيلى .
4 – شاب عاشق تم استدراجه إلى بيت حيث ضربه عبد أسود علقة ساخنة , أصيب بعدها بالفالج .
5 – رجل أعور كان جزاراً اتهم بأنه يذبح الناس ويبيع لحومهم .. المشكلة هى أن الناس رأوا جثثاً معلقة فى متجره ، وكانت هذه لعبة خبيثة من ساحر شرير .
6 – رجل دعاه أحد الخبثاء إلى مأدبة لا طعام فيها .. بل هو نوع من البانتومايم ( التمثيل الإيمانى ) .. وكان يسخر منه لكنه رد له الصاع صاعين .
7 – الفتى الذى سرق من أجل الحب وقطعت يده .
8 – الفتى الذى قطعت زوجته إبهامه لأنه لم يغسل يده بعد أكل الزرباجة !
9 – إلخ ... إلخ ......
سوف تحكى هذا كله من دون حماسة شاعرة بالارتباك وأنها سمجة , وسوف ينتقل هذا كله لشهريار .. يجب على راوى القصة أن يكون أكثر الناس حماسة لها .. تستطيع سماع شهريار ينادى السياف كى يقطع عنقها .. وسوف يبحث فى الغد عن زوجة أخرى .
كانت جالسة أمام المرآة تحدق فى أغبى وأتعس وجه رأته فى حياتها ..
هنا انزاحت الستائر من خلفها ودخل شخص ما ..
شهريار ؟
ليس بهذه السترة السوداء والثياب الحديثة .. إنه المرشد كما هو واضح ..
يتقدم نحوها فى تؤدة وهو ينظر للأرض كما يفعلون فى أفلام الوسترن .. بلغ موضعها أمام المرآة فدس أنامله فى عروة حزامه وقال :
هل أنت جاهزة للسرد ؟
قالت فى غم :
تجربة فاشلة جداً ..
نظر للقرطاس الذى دونت عليه خواطرها , ثم انفجر يضحك .. لم تفهم ما هو مضحك فى هذا كله ..
قال لها :
أنت وقعت على قصص ممتازة .. قصص ألهمت شهرزاد نفسها ..لكن لا بد أنك لاحظت الطابع الواحد .. هذه القصص مصدرها مؤلف واحد بلا شك .. هناك دائماً جو السوق وجو التجار والخياطين والأقمشة .. هناك فاتنة تظهر وتخلب لب رجل ثم يتلقى عقابه .. هناك بتر أطراف وبعض القصص فيها فقء عيون .. يمكننا من هذه اللبنات أن نصنع قصة واحدة طويلة ...
ثم أخرج قطعة طبشور لا تعرف من أين جاء بها , وبدأ يخط على الجدار الحجرى ..
التركيب المعروف لألف ليلة وليلة هو الحلقات المتداخلة .. هناك شكل القصص العنقودى كذلك ..
أولاً : هناك القصة المحورية Wraparound التى تبدأ كل شئ وتنهى كل شئ .. إنها قصة شهرزاد ودنيا زاد ... سوف تبدئين السرد بالطريقة التى تعرفينها ..
ثانياً : هناك قصة محورية أصغر .. هذه هى قصة الخياط الذى يدعو الأحدب ليأكل عنده .. تنحشر شوكة سمك فى حلق الأحدب ويموت .. يتخلص الزوجان من الجثة .. هنا تقع بعض المواقف الطريفة , لأن كل واحد يصطدم بالجثة ويحسب أنه هو القاتل ... يحملان الجثة لجارهما الطبيب اليهودى ويفران .. هنا يجد الطبيب اليهودى نفسه فى موقف عسير .. يتخلص من الجثة فوق سطح جاره المسلم على أمل أن تأكلها الكلاب الضالة.
يأتى الجار المسلم ويحسب الجثة لصاً يتربص به فيوكزها بالعصا .. هكذا يخيل له أن عصاه هى سبب موت الأحدب .
يحمل الجثة ويتخلص منها عند جاره النصرانى .. النصرانى كان عائداً فى الظلام فحسب الأحدب لصاً وراح يكيل له الضربات , هنا مر حارس ليلى وحسب أنه رأى عملية قتل .. هكذا اقتاد النصرانى إلى الوالى .. يقرر الوالى عدم إعدام النصرانى لكن المسلم يعترف بأنه القاتل .. قبل إعدام المسلم يعترف اليهودى أنه الفاعل .. قبل إعدام اليهودى يعترف الخياط أنه الفاعل .. وضع محير ! .. سرعان ما يتصاعد الأمر إلى ملك الصين ونعرف هنا أنه كان يحب الأحدب لأنه مضحكه الخاص .. لهذا هو يريد قطع رقاب الجميع .
ثالثاً : هنا يقرر النصرانى أن يحكى قصة للملك لعلها تروق له .. إن ملوك ذلك العصر يتركون القتلة أحراراً لو كانت لديهم قصة مسلية . عملية الحكم مزاجية تماماً وتخضع لانبساط الرجل
تكوين القصة بهذه الطريقة يشبه أغنية عبد الحليم حافظ الشهيرة مبسوط يا سيدى ؟ ؛ حيث يغنى للباشا أغانى قديمة لعله يصفح عنه ولا يدخله السجن .. وفى كل مرة يصرالباشا على أنه لم يستمتع بما يكفى . سوف يحكى النصرانى أنه استضاف شاباً يصر على الأكل باليد اليسرى .. الشاب يحكى له قصة الغرام الذى دفعه للسرقة .. طبعاً لم ترق القصة للملك .. وهكذا ..
رابعاً : يحكى له المسلم قصة الشاب الذى لم يغسل يده بعد الزرباجة . لكن الملك ما زال مصراً على أن يعدم الجميع .. هكذا ..
خامساً : يحكى له اليهودى قصة عن شاب يوشك على الزواج من فتاة حسناء , ويحضر المزين ليحلق ويشذب شعره .. المزين ثرثار جداً كعادة الحلاقين .. لا يكف عن الكلام ثانية واحدة ..
سادساً : يحكى المزين قصته عندما رأى عشرة رجال فحسب أنهم ذاهبون إلى وليمة . تبين أنهم ذاهبون للخليفة كى يقطعأعناقهم .. بعد قطع أعناق عشرة وجد الخليفة العدد زائداً فطلب من المزين أن يحكى قصته .. يقول المزين للخليفة إنه رجل طيب وإنه أفضل واحد من أخوته الخمسة :
الأخ الأول هو الأحمق الذى ربطوه فى حجر الطاحون ..
الأخ الثانى هو الذى كاد العبد يفتك به وأصيب بالفالج .
الأخ الثالث هو الأعور الجزار الذى اتهموه ببيع لحوم البشر .
الأخ الرابع هو بطل أو ضحية محاولة نصب أخرى .
الأخ الخامس هو الذى تلقى دعوة للعشاء مع ممثل بانتومايم .
سابعاً : يسر الخليفة بالقصة ويعفو عن المزين .
ثامناً : نعود إلى ( ثانياً ) .. ما زلنا عند ملك الصين , وما زالت جثة الأحدب سؤالاً ينتظر الجواب . هنا يمد المزين يده فى حلق الأحدب وينزع الشوكة .. فيعود الأحدب للحياة ..
تاسعاً : نغلق الدائرة ونعود لشهريار ودنيا زاد ! .. التى تبدأ قصة أخرى .....
أهنئك .. لقد انتهيت لتوك من تأليف قصة الخياط والأحدب .
هتفت عبير مصفقة بيديها :
أنت بارع حقاً !
قال فى غرور :
طبعاً .. هذه القصص تمنحك عشر ليال على الأقل .. أنت تفهمين الآن كيف تنسجين قصص ألف ليلة وليلة ..
********
عندما جاء المساء كانت عبير جاهزة ..
وعندما دخل شهريار المخدع بقامته الفارعة وعطره وجثته العملاقة , وتمدد على الفراش ينتظر القصص التى ترضى شهوة السمع بعدما نال شهوة الطعام والنفوذ ..
هنا كانت عبير مستعدة لتحكى بصوتها الذى استعارته من زوزو نبيل , مع صوت موسيقى كورساكوف الساحرة التى بدأت تكتمل :
بلغنى أيها الملك السعيد , أنه كان فى قديم الزمان وسالف العصر والأوان فى مدينة الصين , رجل خياط مبسوط الرزق يحل اللهو والطرب , وكان يخرج هو وزوجته فى بعض الأحيان يتفرجان على غرائب المنتزهات , فخرجا يوماً من أول النهار ورجعا آخره إلى منزلهما عند المساء , فوجدا فى طريقهما رجلاً أحدب رؤيته تضحك الغضبان , وتزيل الهم والأحزان , فعند ذلك تقدم الخياط هو وزوجته يتقوزان عليه ثم أنهما عزما عليه أن يروح معهما إلى بيتهما لينادمهما تلك الليلة , فأجابهما إلى ذلك ومشى معهما إلى البيت , فخرج الخياط إلى السوق وكان الليل قد أقبل , فاشترى سمكاً مقلياً وخبزاً وليموناً وحلاوة يتحلون بها , ثم رجع وحط السمك قدام الأحدب وجلسوا ........................
************