ولكنها لم تعد متأكدة من ذلك . الآن وذلك لشيء واحد, وهو انه كان فارع الطول. كان وجهه مليئاً بالخطوط القاسية, كما كانت شفتاه قاسيتين وهو يراقبها . كان وجهه يوحي بسهولة الابتسام, ولكنه لم يبتسم , وهو ينظر إليها , كما لو انه عرف شيئاً فظيعاً عنها وذلك بنظرة واحدة.
لم يكن ذلك معقولاً . ولكنها لو لم تتقدم تلك الخطوة الاخيرة نحوه. كانت كلما نظرت إليه من فوق المسرح , تشاهد ذلك العبوس , تلك العينين . الرجل الذي سبق ورفض الجلوس إلى الناحية الاخرى من الأضواء. لقد أخافها.
كان ذلك وهماً . تلاعباً من ميكيل بالإضاءة, وهذا لن يحدث مرة اخرى. لقد كانت هذه ليلتها الأخير في ذلك المطعم. وفي الاسبوع القادم كان عليها ان تغني في الكرنفال . ثم ترحل بعد ذلك. إنه لن تراه ابداً مرة اخرى, إنه لم يعد, بعد الآن, خطراً عليها أكثر من كل تلك المئات من المشاهدين من الرجال الذين كانت نظراتهم تتخطى حدود الأدب واللياقة . عليها فقط, ان تجتاز هذه الليلة ومن ثم تصبح آمنة منه.
حاولت ان تنظر بعيداً.منتديات ليلاس
وتمتم مضيفها وهو يشير إليها بالتقدم " أقدم إليك الدكتور ريكاردو سوان. وهذه لاجيتانا , غجريتنا"
وانحنى الدكتور سوان قليلاً بابتسامة تهكمية , فانحنت هي بدورها باحترام . ومد هو يده إليها وقد ظهر في عينيه وكأنه يأخذ لحركتها هذه معنى ما.
ولم تشأ ان تدعه يلمسها , ولكن لم يكن لها خيار.
وببطء, رفع أصابعها إلى شفتيه وعيناه في عينيها . لم تستطع تحويل نظراتها بعيداً.
سألها بصوت عميق منخفض النبرات إلى درجة بدا معها وكأنه يبدأ في الغناء " هل انت غجرية حقاً؟"
كان في لغته الاسبانية لكنة خفيفة لم تلاحظها. ولمست شفتاه ظهر يدها بخفة لم تلحظ معها اللمسة . شعرت فقط برعشة في جسدها وهي تسحب يدها من يده, قائلة بصوت أبح بدا فيه شيء من الضيق " الغجر حالة ذهنية"
اضاف السيد ديسكانسو " وهذا ساحر القيثارة , اميليو كونسرتا "
وضاقت عينا الدكتور سوان , وانحنى اميليو بتكلف . وبدا تصرف اخيها ضعيفاً امام شخصية الدكتور سوان القوية المسيطرة الواثقة , ان هذا النوع الواثق من نفسه من الرجال , لم يكن يعجبها.
لقد اخبرتها عيناه عما يريده منها.
كان قد ارسل إليها وروداً حمراء . ولو استطاع لرقص معها بعد ذلك, وربما يحشرها في زواية ليطلب منها اشياء بصوت هامس , بحيث لا ترضى امرأة محترمة بأن تستمع إليه.
لقد كان اسمه ريكاردو سوان , نصف لاتيني , والنصف الآخر من اميركا الشمالية. لابد انه غني . كانت واميليو , هما المحتفى بوجودهما , اما الآخرون فكانوا موجودين بفضل ثرائهم او شرف انسابهم .

رفعت عيناها قليلاً لتلتقيا بعينيه. واستطاعت تمييز مافيهما . لم تكن هي المرة الأولى التي تميز مافيهما . ولم يكن اول رجل قوي الشخصية تشعر بالسرور تجاهه لوجود شقيقاها إلى جانبها . لم تكن ماريا ساذجة , ذلك انها تدرك جيداً غاية رجل غني مثقف من مطاردة لاجيتانا الغجرية.
حسنا, فلتدعه يطارد, فهذا لن ينفعه بشيء, فإن وجود ميكيل واميليو بينها وبين رجل مثله , لايترك لها سبباً فلشعور بالخوف والتوتر. ولاشيء يجعلها تظن ان مثل هذه النظرة من رجل ما, تختلف عن نظرات غيره من الرجال الذين يصفقون لها بعد نهاية العرض.ريحانة
واتجهت نظراته إلى ثوبها الساتان وهو يقول بالاسبانية " إن رقصك يغلب عليه الطابع الأندلسي , ولكنه ليس بالرقص الفلامنغو الخالص"
قالت بهدوء " اذا كنت تجد رقصاً فلامنغيا خالصاً, فلن تجد اثنين يتفقان على ذلك"
وانتقل هو بخفة إلى الكلام باللغة الانكليزية قائلاً" هل تظنين انك تؤدين فنك هذا بشكل شعبي سليم؟" هل كان يختبرها ليرى مقدار ثقافتها وعلمها باللغات ؟ كان يبتسم وكأنه يسخر منها.منتديات ليلاس
اجابت هي بالانكليزية " إن رقص الفلامنغو لا يمكن ان يفهم خارج نطاقه التاريخي . ذلك ان الموسيقى والرقص الشعبيان هما اشياء موجودة حية " ورفعت انظار التلقي مباشرة بعينيه . وكانت هذه غلطة منها. ادركت ذلك حين تشابكت نظراتهما, ولم تستطع هي ان تحول نظراتها بعيداً.
عاد يقول " ولاجيتانا ؟ من تكون؟" ولكنها تجاهلت السؤال قائلة " إن لي السرور بمعرفتك يا دكتور"
دكتور بماذا ؟ وارتجفت وهي تتصور نفسها معه وحدهما في غرفة الكشف.
وقال برقة "ادعني ريكاردو"
فقالت دون ان تكرر الاسم"شكراً للأزهار التي ارسلتها. هل ارسلت زهوراً؟وروداً؟"
اجاب " وسأعاود الارسال"
واخبرتها عيناه انه صمم على انشاء علاقة معها اقوى من مثل هذه العلاقة في حفلة السيد ديسكانسو . يجب ان تأخذ عطلة عندما تدخل نظرة في عيني رجل إلى اعماقها بهذا الشكل, إن ثمة شيئاً خطراً بالنسبة لهذا الرجل, خلاف غيره من الرجال.منتديات ليلاس
وسأله اميليو " هل انت دكتور في الطب؟"
وتنفست ماريا بعمق. لقد جعلتها هاتان العينان البنيتان تنسى اين هي. إنها حفلة هادئة في منزل في ماريدا. واخوها بجانبها يسأل الدكتور سوان بشكل مهذب , ولكنه كان حارسها , وكان هذا اجتماعا شكلياً تماماً.
واجاب دكتور سوان " انني دكتور بعلم الآثار"
فكرت هي , علم الآثار؟ هذا معناه انه هنا في يوكاتان إنما ينقب عن تاريخ المايان. لقد كان يبدو اكثر من ذلك! بمثل هذه الشخصية المسيطرة والقوة في هذه الملامح . قوة مخيفة , إنه رجل يعرف انه سينتصر.
كان السيد ديسكانسو يتحدث , فاغتنمت ماريا الفرصة شاكرة, لكي تتحول عن الرجل الذي اشعرها بمثل ذلك الضيق. وقادها مضيفها نحو امرأة شقراء ترتدي ثوباً فضفاضاً من الساتان , وهو يقدمها إليها بقوله" السيدة كاتلينا جينان دي كورسيكا"

كانت هي المرأة التي كانت تجلس إلى مائدة الدكتور سوان, تلك الليلة الأولى , لقد كانوا ثلاثة, وكانت هي بينهم بالتأكيد. واخذت تتحدث إلى ماريا باسبانية طليقة.
نسيت ماريا للحظة ان اخاها بجانبها كان يتحدث إليها , وسألت المرأة الشقراء" هل تسكنين هنا في ماريدا؟"
فأجابت " كلا, بل اسكن في سان فرانسيسكو . وانا بانتظار قدوم زوجي إلى هنا" وانتقلت نظراتها إلى ذلك الجمع وكأنها تتوقع ان ترى زوجها في اية لحظة, ثم اضافت قائلة بابتسامة دافئة" خاطبيني باسم كاتي"
معنى هذا انها متزوجة! وانتقلت عينا ماريا الى دكتور سوان. لقد كان في تلك الليلة الاولى في الملهى, يتحدث معها ويضحك. لقد رأتهما ماريا قبل ان تعتلي خشبة المسرح .ريحانة
واخذ السيد ديسكانسو يقدم ماريا إلى اشخاص آخرين مماسمح لها بأن تترك مكانها إلى مكان آخر, ليتبعها اميليو بعد لحظة, ثم مالبث ان غاب عن عينيها , ولكن ذلك لم يعد يهمها . في ذلك الوقت , كانت ماريا جالسة آمنة بين اربع سيدات. واحضرت لها خادمة, شراباً. وفي الزواية , كان هناك رجلان يعزفان على القيثارة برقة . لم يكن ثمة رقص, وإن كان من المحتمل ان يكون ذلك فيما بعد. وربما يطلب من ماريا ان تغني.
وفكرت بسخرية انها ستغني بدل عشائها. ولكن السيد ديسكانسو طلب منها ذلك بلهجة تستطيع معها ان ترفض . ولكنها وافقت بالطبع.
ولكنها ستتناول عشاء خفيفاً, قبل ذلك, فقد قال مضيفها هذا, وهكذا ستكون في غاية الجوع عندما تعود إلى منزلها . كانت تعلم ان الدكتور سوان سيأتي إليها قبل ذلك.
اختلست نظرة إلى حيث كان, ولكنها لم تجده, وتمنت, مرة اخرى , لو ان ميكيل جاء معها هذه الليلة. كان اخوها الأكبر ماهراً في التخلص من الرجال الذين كانوا يظنون ان بإمكانهم اصطياد الصورة التي يرونها على المسرح.منتديات ليلاس
كان قد ورث طول قامته عن جدتهم الأميريكية. ايضاً, كان يبدو عليه الجد التام وهو يشير بأنها اخته, ذلك ان وجوده بجانبها كان يبعد عنها الجميع.
امرأة جميلة شابة من مدينة مكسيكو بدأت تسأل ماريا عن اصل اغنية ( حب في لشبونة ) وسألتها الفتاة العادية الجمال التي بجانبها عما إذا كان لها زوج.
واجابت ماريا " انني مشغولة جدا عن الزواج" فضحكن جميعاً , وتساءلت احداهن عما إذ كان ثمة امرأة مشغولة عن الزواج .
وقالت واحدة منهن تدعى كونسيلو" معظم الرجال هنا متزوجون" قالت ذلك وهي تنظر إلى ماوراء ماريا.
وبحركة لا إرادية, ادرات ماريا رأسها , كان واقفاً على بعد ثلاثة امتار تقريبا. وقد استغرق في حديث عميق مع تلك المرأة الشقراء التي تدعى كاتي.
فقالت كونسيلو " هذا الرجل لي أنا " فضحكت النساء الأخريات . وقالت المرأة التي من مدينة مكسيكو " إنها تتمنى ذلك . إنه مرتبط بآثار شعب المايان وربما هو يتمنى ان يتزوج المرأة الشقراء , لقد ظننا جميعاً في الصيف الماضي انهما سيتزوجان"

" ومن هي تلك المرأة ؟"
" إنها زوجة جوان كورسيكا ؟ إنه ثري جداً وايضا .." واشارت بيدها ما اوحي بأنه وسيم جداً كذلك. واستطردت " إنها اميريكية, وزوجها سيأتي الأسبوع القادم . وكما ترين من مظهرها , تبدو حاملاً. وهي ايضا. دكتورة مثل دكتور سوان , تعمل بالتنقيب عن آثار المايان. اما ذلك الرجل , فهو من كل مكان. إن كونسيلو ليست هي الوحيدة التي ترجو ان تلفت انظاره"
وضحكت النساء وكأنها كانت نكتة مألوفة .منتديات ليلاس
وقالت كونسيلو " ربما كان يريد لاجيتانا . لو كان لي مثل جمالك" وحركت وجهها بإشارة ذات معنى, وعلا الضحك مرة اخرى. وامكن ماريا , بشكل ما , ان تبتسم لمزاحهن هذا معها . وقالت احداهن" إنه من اسرة راقية جداً. ولكنه ليس .." واشارت بوجهها إشارة ذات معنى.
وهزت كونسيلو كتفيها قائلة " ربما كان حقاً يحب تلك المرأة الشقراء , او ربما وعد فتاة بالزواج في الاكوادور"
قالت ماريا لمجرد السؤال وإن لم تكن تهتم بالجواب" هل هو من الاكوادور؟"
فاجابت كونسيلو" امه من هناك ولكنه يتنقل دوماً إلى كاليفورنيا إلى الاكوادور إلى بلاد اخرى , من يعلم ؟"
قالت الفتاة الجميلة " إن كونسيلو تحلم . إنها دائمة التردد على اماكن الآثار مادام هو هنا, ويمتلكها الحزن عندما يسافر"
وعزفت الموسيقى . نظرت كونسيلو إلى شخص ما وراء كتف ماريا , وعندما التفتت هذه , ورأت السيد دسكانسو, وعاد قلبها إلى خفقاته الطبيعي .
وتمتم قائلاً" هل لك ان تمنحيني هذه الرقصة يا لاجيتانا؟ انها الفالس فقط فأنا لا استطيع ان ارقص الفلامنغو , ولكن إذا اردت ان تمنحيني هذا الشرف"
ابتسمت وهي تقوم معه إلى حلبة الرقص, ورأت انهما سيكونان اول الراقصين, لقد كان هو مضيفها, وابتدأ الرقص مفتتحاً الحلبة مع مضيفته الشهيرة.
وابتسمت وهي تنساب بين ذراعيه , واراد ان يسعدها فلم يحضنها بشدة ولم يسألها أي سؤال . وعلى كل حال , كانت تفترض انه يعلم كل شيء عنها تقريباً من الاستديو. فقد كانت حياتها تخلو من الاسرار.ريحانة
وسألها " هل اعجبتك مدينة ماريدا , ياسنيورا؟"
قالت " نعم , خصوصاً اثناء الكرنفال "
فضحك وهو يميل بها حول عمود كان في طريقهما , ثم قال " أحقاً؟ إنك المغنية التي سيحضر كل شخص لكي يراها , هذه السنة, أليس هذا عملاً مرهقاً لك؟ لابد انك تمارسين هواية ما "منتديات ليلاس
شيء ما في ابتسامته ذكرها بعمها. واعترفت قائلة " إنني اخرج متخفية اثناء النهار "
فقال " وهو يوميء برأسه متفهماً"إنني افعل نفس الشيء في منزلي خارج مدينة مكسيكو. إذ ادعي انني رجل فقير فأستطيع بذلك ان ازوال واسرتي المسرات البسيطة . ماذا تفعلين عندما تهربين من شخصية لاجيتانا؟"

قالت " افعل مايفعله أي شخص آخر اثناء الكرنفال. اسير في الشوراع. ازور حوانيت الفنانين. اشتري البوشار" وآكله في الطريق. اتفرج على الأولاد الذين يتجمعون لرؤية الساحر"
فهز رأسه وهو يقول " إن صورتك في كل مكان على الاعلانات في ماريدا. وستكون ثمة مظاهرة عندما يميزونك في الشارع"
قالت " لن يميزني احد. سأكون متنكرة"
فضحك مسروراً , ثم قال " هل تأتين لتناول العشاء معنا, أنا وزوجتي , عندما تحضرين إلى مدينة مكسيكو الشهر القادم"
فسألته " هل يمكنني إحضار اخي معي؟".ريحانة
اجاب " بالطبع يمكنك ذلك, إن زوجتي هي كما تعلمين بريطانية , ولكن والدها ..." وابتسم كأنه يقدم إليها هدية بقوله " كان والدها غجرياً من الاندلس , إنها ستسر بك كثيراً"
فهزت ماريا رأسها قائلة " إنني فقط اقوم بدور الغجرية. وستكتشف زوجتك ذلك"
فقال " انك تقومين بهذا الدور ربما بشكل افضل مما تدركين . آه, هاهو ذا قادم .."
سألته " من هو؟"
قال برقة وهو يبتسم لها وكأنما هي ابنته " ومن غيره؟ لقد كان يراقب الباب إلى ان جئت, ثم ابتدأ يراقبك"
ولم تستطع ان تراه. ولكن انفاسها احتبست في صدرها. ليس الآن .. إنها بحاجة إلى دقيقة, بل ثواني لكي تهيئ نفسها للقائه, إنها بحاجة إلى قناع الغجرية, ففي هذه اللحظة لا يتملكها سوى الشعور بالعصبية نحوه كرجل.
وسألها مضيفها " هل يمكنني ان اقدم هذه الرقصة له؟ يا سنيوريتا ؟ إنه على كل حال .."
هزت رأسها بيأس وهي تقول محاولة التملص" علي ان ابحث عن اميليو"
فقال " إنه يرقص مع ابنة اختي. إنني متأكد من ان ابنة اختي في غاية السرور بمراقصتها لعازف القيثارة للاجيتانا. وستكون في السوق غداً لتشتري كل تسجيلات اغنياتك . اين تعلمت لغتك الانكليزية الجيدة هذه ؟ آه .."
لقد كانت بنفس طول السيد دسكانسو , ولكن كان عليها ان ترفع رأسها لكي تنظر إلى عيني ريكاردو سوان, كان واقفاً خلف مراقصها ووضع يده على كتفه , قائلاً بأدب " أتسمح؟"
وتنهد السيد دسكانسو وابتسم لماريا قائلاً" سنيوريتا, إنني سأتذكر هذه الرقصة إلى الأبد, لقد اعدت الرجل العجوز إلى شبابه"
اخذ ريكاردو سوان مكانه . اخذ ماريا بين ذراعيه . لقد انتقلت من رجل إلى آخر , من الأمان إلى الخطر , كانت تفكر بذلك بعنف وكأنما ... ولكنها كانت رقصة... إنها رقصة فقط. مجرد اداء صعب , وهذا كل شيء .منتديات ليلاس