كاتب الموضوع :
عمرو مصطفى
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: قردة وخنازير (رواية)
(3)
" مقر القيادة "..
وقف على الباب المعدني بانتظار الإذن بالدخول ..
القائد (س ـ 600) ينتظره شخصياً.. لابد أن المهمة هذه المرة غير تقليدية..
غاص الباب في الجدار كاشفاً عن حجرة ضخمة تعج بالروبوتات المتحمسة، التي تنبعث منها أضواء عديدة بحسب الحالة المزاجية لكل منها.. وفي وسط الحجرة يجلس القائد (س ـ 600) على مقعد يشبه العرش .. ذكره مشهده بملكة نحل في وسط الخلية وحولها تحوم اليعاسيب.
ـ مرحباً.. إيهاب..
ابتلع ريقه بصعوبة وتقلصت أحشائه كلما كان مقدماً على مهمة جديدة..
ـ مرحباً سيدي.
كانت أذرع (س-600) الأربعة مشغولة في عدة اتجاهات ..
إحداهما تفحص صورة خارطة ثلاثية الأبعاد، بينما الثانية تحاول ضبط التكييف .. وذراعه الثالثة والرابعة كانتا خاضعتان للصيانة من قبيل فريق من الآليين من القسم الفني لشرطة المكافحة.. طبعاً فالقائد لا يثق في الفنيين البشريين..
لقد ولى زمن الروبوتات التي تقترب لحد مريع من البشر في شكلها الخارجي.. فمن حق الروبوت التميز عن باقي البشر.. حتى وإن كان في الأصل من صنعهم.. اليوم خلقت أجيال من الآليين تم صنعهم بمعرفة آليين أمثالهم.. هؤلاء آليون أبناء آليين.. وكان السيد (س-600) من هذه النوعية المعتزة بعرقها الآلي!..
كان جسده يصدر أضواء بنفسجية هادئة مما يعني أن حالته المزاجية مستقرة..
ـ كيف أنت إيهاب؟
رد بتلقائية :
ـ أحيا بشرف في ذروة المجد البشري..
رآه يلتفت لينهر أحد الفنيين ـ الذي يبدو أنه قد آلمه بشدة ـ ثم عاد لإيهاب قائلاً:
ـ أنت أحد الضباط المميزين بالوحدة وتعرف أنني كروبوت، مولع بالتميز.. لذا فقد اكتشفت أن قرار إحالتك للأعمال المكتبية كانت خطأ محض..
قال إيهاب بدهشة:
ـ لكنه كان قرارك أيها القائد..
ـ لا يمكن إيهاب .. تعرف أننا لا نخطئ أبداً..
يتذكر إيهاب تلك الأيام.. حينما أحاله (س ـ 600) بعد أحداث التمرد الكبير للأعمال المكتبية.. كان يقوم بوظيفة مراقبة شرائح المواطنين في إلوسيوم ..
هناك شاشات مراقبة الشرائح الذكية لآلاف البشر في المقاطعة..
هناك شريحة الهوية المزروعة عند الصدر فوق موضع القلب تماماً طالما هذه الشريحة تضيء بلون أخضر فهذا يعني أن صاحبها مواطن شريف لا يفكر في شر.. وإذا ما بدأ الأخضر يتحول للأصفر فهذا مؤشر غير صحي.. نحن على وشك التفكير في الشر.. هنا يبدأ إيهاب في تسليط الضوء أكثر على صاحب الشريحة.. أما تحول الإضاءة للون الأحمر فهذا يعني وقوع المحظور.. يتم رفع تقرير بالحالة ويتم البت في أمره خلال ثوان.. إما أن يخرج القرار بإعادة تأهيل المواطن من جديد، أو بتحرك فرق المكافحة لشطب اسم المتمرد من الوجود .. وفرق المكافحة هنا ليست إلا الشريحة الذكية ذاتها. تتحول إلى شرائح للقتل الذكي والنظيف .. فلان المواطن أصيب بالسكتة الدماغية فجأة .. فليرحمه الله ..
وهكذا صار من الصعب اليوم التفرقة بين حالات السكتة الطبيعية والذكية!
وهكذا ظل إيهاب يمضي أيامه في إحصاء أنفاس البشر ورفع التقارير التي تساهم في تحديد مصائرهم..
إلى أن جاء اليوم الذي عاد فيه مرة أخرى إلى العمل الميداني الذي يعشقه..
قال :
ـ للأسف النسيان أفة بشرية لا فكاك منها يا سيدي..
قال القائد بانتشاء ألي :
ـ هذه فائدة أن تكون روبوت.. أنت لا تخطئ ولا تنسى أبداً.. الروبوتات هي آلهة العصر بلا منازع.
قال إيهاب وهو يكتم أفكاره السوداء:
ـ إننا نتشرف كوننا نعمل بناء على توجيهاتكم سيدي..
قال (س ـ 600) :
ـ حسناً إيهاب.. مهمتك القادمة ستكون في النطاق النظيف!
يتذكر إيهاب متى ظهر هذا المصطلح لأول مرة.. لقد ظهر بعد حادثة التمرد الكبير مباشرة..
منذ هذا اليوم بدأ الاعتماد على الروبوتات يقل وإن لم يتوقف.. بل بدأ البعض يفكر في أن التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي يمثلان تهديداً للأمن والسلم العالمي..
من هنا بدأ الأثرياء من الشريحة ب يفكرون في إنشاء نطاق خالي من التكنولوجيا الحديثة..
وهكذا ظهر في العالم مصطلح النطاق النظيف.. هناك قطاعات صممت على الطراز الروماني واليوناني والفرعوني.. وبعض القطاعات يعتمد على الحياة البرية في الغابات..
لابد أن تكون مواطن من الشريحة ب كي تتمكن من الذهاب إلى هناك كسائح أو مقيم.. أما أبناء الشريحة جـ فهم بحاجة إلى وساطة كي يذهب الواحد منهم إلى هناك ضمن العمالة التي لا يستغني عنها الأثرياء في أي نطاق كانوا..
في البداية لم يهتم إيهاب بشأن النطاق النظيف.. إنه لا يعرف كيف يعيش المرء بلا شرائح ذكية تحصي عليه أنفاسه.. أنت بدون تلك الشرائح في العراء وبلا غطاء.. كيف يستغني المرء عن العين التي تحرسه ليل نهار..
لكن رأيه هذا تغير حينما قررت هالة الذهاب إلى هناك..
***
هالة كانت تملك أجمل عينين وتقيم روحها في وحدة قلبه..
إنه الحب في ذروة المجد البشري..
في ذلك اليوم الموعود، حلقت روحيهما ساعة بين المروج الخضراء وفوق قمم الجبال الشاهقة.. ساعتها فكر إيهاب في أن الشريحة واحدة والمقاطعة واحدة.. فلماذا لا يتحد قلبانا إذن في وحدة سكنية واحدة.. حتى يتم حرق ذراتنا بفرق التطهير العضوي بعد عمر طويل؟..
السبب وجيه جداً وقد صرحت به هالة في ذلك اليوم..
ـ أنا أطمح في الذهاب إلى النطاق النظيف..
فتقول لها بدهشة :
ـ هل هبطت عليك ثروة؟..
ـ لا.. تعرف أنهم هناك يحتاجون بشدة للأيد العاملة من الشريحة جـ..
ـ ولماذا لا نقنع بحياتنا هنا؟
ـ القناعة بالموجود سبة في جبين المجد البشري..
ـ أنا لا أستطيع ترك عملي هنا لألحق بك هناك .. معنى هذا أننا سنفترق..
تبتسم لك هالة في ود مفزع وتقول :
ـ ستكون هذه فرصة جيدة ليبدأ كل منا من جديد..
تلاشت صورة الجبال والهضاب والمروج الخضراء حينما ضغط إيهاب على ذر وقف بث صور الخلفيات الطبيعية.. كانا منذ البداية في وحدة التنزهات الخلوية الافتراضية.. ووقف هو مصدوماً يتأمل هالة كأنه يراها للمرة الأولى..
قالت لك وهي تمسك بساعدك فيرتجف في يدها:
ـ إيهاب لقد سئمت شريحة ألعاب الفيديو هذه..
تبعد يدها عنك في رفق وتقول هامساً :
ـ أنت لا تعرفين ما الذي قد تجدينه هناك ..
ـ بل أعرف.. والكل هنا يعرف.. هناك النقيض لكل ما نحياه هنا.. هناك لفظوا التقنيات الحديثة بكل أنواعها وعادوا للماضي.. لا ملوثات ولا أمراض سلالية.. حياة مديدة بلا ملل ولا أوجاع العصر الحديث..
كانت تتكلم بحماس ملتهب كأنها رأت ما تحكي عنه رأي العين .. يبدو أنها قد تلقت عرضاً ما من أحدهم.. تمنى لو عرف هذا الوغد ليأكله بأسنانه.. للأسف قد لا يستطيع المساس به أصلاً لو عرفه..
لم يجد شيء يرد به عليها فسألها :
ـ و ماذا ستعملين هناك؟
تتسع ابتسامتها وهي تداعب خصلات شعرها فتفهم..
ـ لا يهم .. المهم أن أصير هناك وكفى.
شعر بقبضة من حديد ساخن تعتصر قلبه.. مشكلة إيهاب أنه مازال يحمل بداخله مشاعر كادت أن تنقرض.. ربما وجوده هو الذي يمنعها من الانقراض..
تمنى لها إقامة سعيدة في نطاقها النظيف، وتمنت له حياة سعيدة في نطاقه المسموم.. ووقف وحيداً يراقبها وهي تبتعد .. وتبتعد ..
حتى ابتلعها الزحام.
رباه.. ماذا لو تحليت بالصبر يا هالة..
***
ـ هل أنت معي يا إيهاب؟
انتفض قائلاً :
ـ معك سيدي.
أدار (س ـ 600) صورة الخريطة ثلاثية الأبعاد ليريه الموضع الذي سيذهب إليها.. بدا له المشهد كحفل تنكري أسطوري لا يمت لذروة المجد البشري بصلة.. إنه أقرب لجو ألف ليلة..
ـ هذا حفل سنوي يعقده أثرياء الشريحة ب في قطاع الأساطير.. قطاع الأساطير !.. الحفل هذه المرة على شرف ثري يدعى جعفر..
قال لنفسه : أكيد ستكون هالة هناك.. إنها أقرب لحسناوات ألف ليلة فعلاً.. مؤكد سيلقاها هناك..
وضع كفه على قلبه كي لا يصل صوت دقاته العنيفة إلى أذن القائد فائقة الحساسية.. لكنها حتماً ستصل للوغد الذي يراقبه في قسم الضمير الشرطي.
قال له القائد وهو يصفع أحد الفنيين الآليين على قفاه كي لا يسرح أثناء عملية الصيانة :
ـ إن مهمتك ستكون الاندساس وسط الحفل ولتكن مستعداً للتدخل في أي لحظة لإنقاذ السادة الأثرياء ..
انتهى عمال الصيانة من عملهم فقام بفرد ذراعيه وثنيهما عدة مرات قبل أن يقول بلهجة آلية راضية :
ـ تعرف أنا أشفق على البشر لأن لهم ذراعين فقط.. أنت لم تجرب أن يكون لك أربعة أذرع مثلي..
قال إيهاب منافقا:
ـ هذا قصور بشري لا شك فيه..
حرك القائد رأسه المستدير وأضاءت عينيه كناية عن مشاركته نفس الرأي..
ـ إن عملي هنا يتلخص في معالجة قصوركم البشري هذا.. مهمتك تلك ما هي إلا معالجة للقصور البشري الناتج عن رغبة بعض الأثرياء في التخلص من التكنولوجيا والعودة للماضي.. كنت أتمنى أن يقوم بهذه المهمة روبوت من لحمي ودمي.. لكن هذا محال في النطاق النظيف كما هو معلوم.. لذا سنعالج هذا القصور البشري بعنصر بشري..
ثم أردف:
ـ لا تنس أن عقوبة من يدخل للنطاق النظيف بوسائل تقنية حديثة، قد تصل لحد الإعدام على الخازوق النيوتروني ..
قال في توتر وقد قرأ ما بين السطور :
ـ هذا يعني أنني سأعمل بمعزل عن أي دعم خارجي..
قال القائد برنة ألية ساخرة :
ـ طبعاً هذا محال.. ستظل محتفظاً بشرائحك وأسلحتك سراً.. وفي الوقت المناسب لن يلومك أحد لو استعنت بالشيطان نفسه من أجل حمايته من خطر محدق..
ـ والخازوق النيوتروني؟
ـ كل قانون وله استثناءات كما تعرف.. لكن لو انكشف أمرك قبل الأوان، فربما كانت نهايتك على يد رجال جعفر الأشداء أسوأ من الإعدام على الخازوق النيوتروني.. إنهم قوم يبغضون التكنولوجيا كالعمى.
ـ إذا كان لديهم أمنهم الخاص فلم لا يتعاملون هم مع متمردي الحفل؟
قال (س ـ 600) بسخرية ألية:
ـ هؤلاء المجانين يمنعون حتى أمنهم الخاص من استعمال التقنيات الحديثة في عمليات التأمين..
ثم أردف بشراسة مفاجئة:
ـ إنها فرصتنا لنثبت لأثرياء الشريحة ب أن النطاق النظيف ليس نظيفاً كما يدعون.
***
|