كاتب الموضوع :
عمرو مصطفى
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: قردة وخنازير (رواية)
(7)
احتجزوهم في حجرة صغيرة بلا نوافذ أو مقاعد..
طرحوهم أرضاً على وجوههم وقاموا بتقييد أيديهم وأرجلهم..
حينما رفع حسن طرفه بحذر رأى معهم بالغرفة ثلاثة جنود مدججين بالسلاح، كانوا ينظرون إليهما بلا مبالاة..
ترى هل سيحاكمونهما بتهمة الاقتراب من نطاق قاعدة عسكرية؟ أم سيتهمونهما بقتل صديقهم دان ؟..
بالنسبة لحسن كان هناك احتمال ثالث وهو أن يكتشف أحدهم ماضيه وتتم محاكمته محاكمة عسكرية..
بعد قليل سمعوا صوت خطوات ثقيلة تنم عن ثقل ظل صاحبها.. ثم ظهر ضابطاً برتبه، له ملامح أجنبية لوحتها الشمس ويضع على عينيه منظار داكن ويبتسم في لزوجه.. أحضر له أحد الجنود مقعد معدني صغير، فقربه من حسن وليلى وجلس عليه بالعكس..
ـ لوسي.. لقد تغيرت كثيراً.. لم أعرفك في البداية .. النظافة أفقدتك الكثير من جاذبيتك..
توتر حسن وهو ينظر لليلى.. إنهم يعرفونها كذلك بحكم علاقتها بدان.. مال الضابط على ليلى فتحفز حسن وانقبضت عضلاته بشده، سيأكل حنجرته لو تجاوز حدوده معها وليكن ما يكون..
ـ لماذا انقلبت على دان يا لوسي.. من أجل العجوز؟
وازدادت ابتسامته لزوجة ومكراً وهو يضع قدمه على عاتق حسن مردفاً :
ـ لا أفهم سر تفضيلك لكبار السن دائماً..
قال له حسن باشمئزاز :
ـ إنها ابنتي..
ارتفع حاجبي الضابط في دهشة مصطنعة ثم التفت لأحد رجاله ضاحكاً:
ـ أنظر يا بيرت لقد وجدت لوسي الشقي الذي فعلها مع أمها يوماً ما..
هنا كان حسن قد انشب أسنانه في ساق الضابط، فأطلق الأخير صرخة عاتية وركل حسن في وجهه..
ـ كلب عقور!
وانهالت النعال العسكرية على حسن من كل جانب، فصرخت ليلى وهي تحاول حمايته بجسدها رغم القيود..
ـ أبي.. أبي..
نسى حسن الركلات التي تنهال عليه.. تلاشى كل شيء من حوله.. لم يعد يرى سوى ليلى الملتاعة.. والتي كفت عن اللوعة حينما رأته ينظر إليها بثبات وكأن الجنود يضربون شخصاً أخر..
لقد كاد ينسي طعم هذه الكلمة منذ عقود..
(أبي )
لو قتلوه الآن فلسوف يفعلونها وهو في أسعد حالاته.. فقد بيته وكتبه، وسيفقد حياته ضرباً بالأحذية.. لكنه نجح من جديد في أن يكون أباً حقيقياً..
سمع صوت الضابط وهو يأمر جنوده بوقف الضرب.. فعاد إليه وعيه وألمه.. رأى وجه الضابط يطل عليه من أعلى، فخيل إليه أن النخبة الأممية ذاتها قد تجسدت في ذلك الوجه الذي يطل عليه الآن من عل..
ـ لماذا كنتما تطاردان دان؟
لاهثاً أجاب وصدره يعلو ويهبط:
ـ كان مدين لي.. وتم تسديد الدين كاملاً..
التقط الضابط طرف الكلام وبدأ يسأله عن طبيعة هذا الدين..
هنا بدأ حسن يحكى له كل شيء.. حتى حكاية حرقه للشرائح الإلكترونية.. كأنه يتعمد استفزاز الضابط النخبوي.. لكن الأخير ظل يستمع له بوجه بارد خالي من المشاعر..
انتهى حسن من الكلام فتنهد كأنما تخلص من حمل ثقيل فوق كاهله..
سأله الضابط :
ـ لماذا أحرقت الشرائح ؟
جاهد حسن كي يبتسم في تشفي..
ـ إنها مسألة مبدأ..
خلع الضابط منظاره الداكن ودعك عينيه الزرقاوين وهو يقول:
ـ أي مبدأ؟
أجاب حسن وهو ينظر للسقف بثبات :
ـ لا شرائح.. لا تكنولوجيا.. لا نخبة..
ـ أنت متمرد؟
ـ أنا لا منتمي..
هز الضابط رأسه متفهماً، وقال ببرود:
ـ أنت كسائر بني جنسك تدفعكم النعرات والشعارات لارتكاب الحماقات.. تتخيل نفسك في هرمجيدون.. لكنك بحسابات المكسب والخسارة.. لم تحقق أي شيء ذي نفع.. خسرت بيتك.. وحياتك.. وحتى من تحب..
قال حسن وهو يبتسم بارتياح عجيب :
ـ لقد انتقمت لبيتي الذي احترق.. استمتعت جداً وأنا أرى اليهودي ينسحق أمام عيونكم على الرمال.. فإذا مت الآن فلسوف أموت راضياً..
قال الضابط :
ـ من أجل هذا كان عليكم أن تندثروا منذ زمان بعيد.. لكنكم بالرغم من ذلك كنتم مفيدين لنا عبر العصور.. أصحاب تلك النعرات يسهل سحبهم من عواطفهم إلى المحارق.. صحيح أنكم سيطرتم يوماً ما على شطر العالم، وخيل إليكم أنكم على شيء.. لكن ميزان العالم سرعان ما انضبط.. ورجحت كفتنا.. كفة النخبة الحقيقية.
لاحظ حسن بريق الظفر الذي أطل من عيني الضابط النخبوي وهو يتكلم.. كان يشعر بالحسرة لأنه لا يستطيع رد كلامه..
قال:
ـ لم يعد هناك ميزان أصلاً..
ـ الميزان هو قانون النخبة الأممية..
ـ ميزان مطفف.. ومعيار شيطاني..
قال الضابط في خبث :
ـ أنتم يا معشر الزواحف تنسبون كل شيء إلى الشيطان.. والحقيقة أن الشيطان لا وجود له في هذا العالم.. إنه المعادل الخرافي لبواطنكم المكبوتة..
ـ لقد بذلتم الكثير حتى تقنعوا العالم بأن الشيطان لا وجود له.. وأنتم غارقون معه حتى النخاع في حلفكم الأسود البغيض..
قال الضابط وهو يهتز من شدة الضحك :
ـ نظرية المؤامرة؟..
قال حسن في بغض :
ـ لم تعد هناك مؤامرة..
عضت ليلى شفتيها في قهر ..
ـ لماذا تقول له كل هذا؟
قال لها :
ـ نهايتنا مسألة وقت يا ليلى.. مسألة وقت..
ثم نظر للضابط وأردف :
ـ وهي نهاية توقعتها منذ زمان.. الحقيقة أنها تأخرت كثيراً..
قال له الأخير :
ـ المهم هو كيف ومتى أيها العجوز..
ثم أومأ لرجاله مردفاً :
ـ وسنحاول أن تكون نهايتكم طويلة وبطيئة وغاية في الإيلام..
تهللت وجوه الجنود كأنهم مقبلين على إجازة.. وفهم حسن ما يرمون إليه فقال لهم بلهجة حازمة:
ـ تصرفوا كجنود رجال وتخلصوا منا بطريقة رحيمة..
التفت إليه الضابط فرأى في عينيه الزرقاوين بريق شهواني مخيف..
ـ نحن جنود .. لكننا لسنا رجال..
اهتز الجنود بالضحك، بينما أغمض حسن عينيه مغمغماً :
ـ نسيت أنكم جنود النخبة ..
ـ إلى القبو..
قالها الضابط لجنوده فقاموا بجرهم خارج الغرفة.. ساروا بهم عبر ممر طويل ينتهي بباب حديدي ضخم ، قام أحد الرجال بفتحه ليظهر وراءه سلم حلزوني يهبط لأسفل..
قال لهم الضابط كأنه مقبل على فقرة ترفيهية :
ـ لدينا بالأسفل كنز حقيقي.. نحن نحتفظ بوسائل التعذيب القديمة من آثار القرون الوسطى.. إنها تراثنا الذى لم نتخل عنه.. هؤلاء قومنا كانوا بارعين في فنون التعذيب لدرجة تثير الرجفة حتى في قلبي أنا..
شعر حسن بدرجات السلم المعدنية القاسية تضعضع عظامه وهم يجرونه عليها كالجوال.. لم يشغل باله سوى ليلى.. كيف ستتحمل كل هذه القسوة الكاسحة للضمائر والعقول؟..
هؤلاء الجنود مجموعة من الساديين المولعين بالتعذيب.. لابد أن الحياة في قاعدة صحراوية قد أودت بعقولهم.. ويبدو أنهم لا يجدون كل يوم فرصة كهذه لإشباع ساديتهم..
للمرة الثانية يا حسن تضيع من تعول..
انتهوا بهم إلى قبو مظلم عطن الرائحة، سرعان ما بدد الجنود ظلمته بإيقاد بعض المشاعل المعلقة على الجدران ، وعلى أضواء المشاعل رأوا هناك براميل خشبية وفئران أزعجتها الأضواء، وهناك غرفة موصده بباب خشبي عتيق وقف أحد الجنود يعالجه على ضوء المشاعل..
انفتح الباب بصرير قوي فقط لتتسرب إلى الأنوف رائحة عفنة غامضة. نظرت ليلى لحسن وقالت عيناها المتسعتان أنها لا تريد أن تدخل لترى ما بالداخل.. حاول أن يبتسم لها مشجعاً رغم الألم الذي يشعر به في كل عظمة من عظامه.. ماذا يقول لها ؟.. سنموت ميتة ملحمية يا ليلى.. سنصير بعد قليل في عداد الشهداء.. أرجوك تجلدي ولا تفزعين.. والأهم لا تتألمي ! فالألم يزيدهم جنوناً.
***
المكان بالداخل كان حافلاً..
الغرفة مبنية بالأحجار الضخمة التي تظهر عليها آثار دماء ضحايا سابقين. ربما هذا يفسر سر الرائحة الغامضة.. لم يدخل حسن مسلخاً بشرياً من قبل، لذا كانت الرائحة محيرة قليلاً.. والأهم هنا هو متحف الآثار الجامع لكل أدوات التعذيب التي ابتكرتها عقول البشر المريضة في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ أجداد النخبة..
القوارب البابلية.. تابوت السيدة الجميلة .. قفص الدماغ الحديدي..
وهناك في الركن تقع منضدة مستطيلة، مرصوص عليها مجموعة من السكاكين والسواطير بأشكال وأحجام مختلفة، يسيل لها لعاب أي جزار..
هذا ديوان تحقيق كامل مقام أسفل تلك القاعدة العسكرية..
التفت حسن لليلى وبدا وكأنه يملأ عينيه منها قبل الرحيل.. همس لها بحنان:
ـ أنا سعيد لأنني فزت بابنة مثلك قبل أن أموت..
قالت له في شحوب:
ـ وأنا سعيدة لأنني فزت بأب مثلك.. قبل أن أموت.
أما الجنود فكانوا مشغولون بحوار أخر.. بمن نبدأ؟.. الرجل أم الفتاة؟
حسناً لنقترع يا شباب.. لكن الضابط قال بلهجة حاسمة :
ـ سنبدأ بالعجوز.. ولنترك الفتاة للنهاية فمازال اليوم طويلاً..
ـ هل نبدأ بالقوارب البابلية أم؟..
قال الضابط بشبق عجيب :
ـ بل بالسيدة الجميلة ..
وكان حسن يقول لليلى :
ـ سنتألم لبعض الوقت.. لكننا في النهاية سنغيب عن الوعي.. سننام ونصحو لنجد أنفسنا في عالم أخر.. عالم ليس فيه نخبة أممية..
***
|