كاتب الموضوع :
عمرو مصطفى
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: قردة وخنازير (رواية)
(7)
ركب إيهاب حوامة الشرطة وهو يسب ويلعن..
هذه المرة ستكون مهمتك مختلفة.. لن تسعى خلف المتمردين في قلب النطاق النظيف.. بل ستذهب لتتسلم أحدهم من على مشارف غابات القطاع البري.. وتعود به سالماً إلى الوحدة..
لم ير إيهاب غابات حقيقية من قبل هذه المهمة.. ولم يتخيل أن يكون هناك بشر أثرياء أسوياء قد قرروا ترك العمران والحياة على الطريقة البرية .. لكن مازال النطاق النظيف يتحفه كل يوم بمفاجأة..
هبطت الحوامة بالقرب من مجرى مائي صغير ينطلق كالأفعى بين الأشجار صاعداً إلى أعلى.. في بقعة خالية من الأشجار حيث وقف بالأسفل مجموعة من الرجال والنساء يرتدون أسمالاً بالية ، وأحدهم تم تقييده بحبال غليظة من ليف.. وكان فمه مكمماً بخرقة ربما كانت كم قميص مزقه أحدهم ليصلح ككمامة..
هبط إيهاب وبدأ تعارف سريع بينه وبينهم.. هؤلاء مجموعة من الأثرياء المعاتيه يعيشون هنا في البرية على طريقة الإنسان البدائي الأول.. لكنهم لم ينسوا واجبهم تجاه النظام العالمي الذي سمح لهم بهذا، فقاموا بالقبض على ذلك المتمرد المكبل وجاءوا به هنا لتسليمه..
تفرس إيهاب في وجوه النسوة فلم يعثر على وجه هالة للأسف..
قال له أحدهم وهو يركل المتمرد :
ـ إنه خطر جداً.. كان القبض عليه أصعب عملية صيد واجهناها..
رمق إيهاب الرجل المكبل.. كان يرتدي نفس الأسمال من باب التنكر طبعاً، في عينيه نظرة خاملة تقول أنه قد خسر كل شيء ولم يعد لديه ما يخشى عليه..
قال إيهاب :
ـ لننهي إجراءات التسليم سريعاً..
قال أحدهم وهو يلوح برمح في يده :
ـ بلغ تحياتنا للسيد (س-600)..
تساءل وهو يضغط على أسنانه :
ـ أتعرفونه؟
ردت إحدى النساء وهي تهرش تحت إبطها كالقردة :
ـ إنه من ألطف الروبوتات..
حرك إيهاب فكه يمنة ويسرة وهو يرمقها بعين لا تطرف..
ـ تخيلي يا سيدتي هذا هو رأينا كلنا في وحدة مكافحة التمرد..
الوغد الألي يجامل هؤلاء على حساب راحته.. لكن لا بأس.. ستكون هذه أخر مهمة له مع ذلك الأخطبوط المعدني القبيح..
ساعدوه على حمل المتمرد إلى الحوامة التي تدار ألياً، ثم وقف إيهاب يلوح بكفه متمنياً لهم أن يصادفوا فيلاً غاضباً يسحق عظامهم جميعاً..
أقلعت الحوامة وبدأ إيهاب في حل قيود المتمرد ليستبدلها بقيود الشرطة المصنوعة من الألياف المرنة..
ـ معي تصريح بقتلك عند أي بادرة سوء..
قالها للمتمرد محذراً.. فرمقه الأخير بنظرة خاوية ولم يرد طبعاً بسبب الكمامة التي ظلت على فمه.. فقط تركه يحل قيوده بلا أدنى مقاومة.. لم يكن هناك غيرهما بالحوامة التي تدار آلياً بواسطة عقل إلكتروني لذا لم يستغرق الأمر سوى دفعة قوية وخاطفة، وجد إيهاب نفسه يطير ليرتطم رأسه بجدار الحوامة.. وحينما أفاق من الدوار والمفاجأة، ونهض مستلاً سلاحه، جحظت عيناه وهو يرى المتمرد يعبث بأزرار الحوامة بطريقة سريعة وخاطفة و.. ومحترفة..
ـ توقف وإلا..
التفت إليه المتمرد بسرعة ورفع كفيه مستسلماً وهو يقول بابتسامة بريئة وقد تخلص من الكمامة التي أخرسوه بها:
ـ لا بأس.. لقد انتهيت..
صرخ فيه إيهاب:
ـ ماذا فعلت أيها التعس؟
هز كتفيه قائلاً :
ـ لقد غيرت مسار الرحلة.. سنخترق النطاق النظيف بحوامة ألية.. هذه جريمة في عرف النظام العالمي عقوبتها تصل للإعدام على الخازوق النيوتروني كما تعلم..
***
إيهاب لم يكن يفقه شيئاً في كيفية التعامل مع الحوامات التي تدار ألياً..
فقط هو يركبها وهي التي توصله للمكان الذي تمت برمجتها عليه.. الآن يدفع ثمن جهله في مواجهة ذلك الموقف الصعب..
قال له المتمرد باسماً :
ـ حتى لو قتلتني فلن تستفيد شيئاً.. أنت تعرف عقوبة خرق النطاق المحظور بشريحة ذكية فما بالك بحوامة شرطة..
قال إيهاب وهو يجذب إبرة إطلاق النار:
ـ أنت تثير حماستي فعلاً..
أشار له المتمرد بسبابته قائلاً :
ـ لكن لو أبقيت على حياتي فربما أخرجتك من هذا الموقف الحرج مثل الشعرة من العجين..
ـ تريد مساومتي؟
ـ أكيد!
هنا سمع إيهاب صيحة القائد الألي الباردة تنذرهم بأنهم يخترقون النطاق المحظور لقطاع الحياة البرية.. نظر للمتمرد في رعب وقال :
ـ ماذا تريد بالضبط؟
فرك المتمرد كفيه ومط شفتيه قائلاً :
ـ الانتقام!
لم يفهم إيهاب في البداية لكنه استدرك :
ـ تنتقم من النخبة طبعاً.. هذا هو هدف كل متمرد..
هز الرجل رأسه كأنما يخاطب طفلاً..
ـ أنت كأغلب شريحتك لا تجيدون سوى دور الببغاء.. يردد كل ما يتلى على مسامعه بدون إعمال للعقل..
لوح إيهاب بالسلاح في وجهه وهو يقول بسخرية لا تخلوا من رنة سخط:
ـ مرحى .. لأول مرة أقابل متمرد من شريحة راقية..
ـ لا يوجد متمردين هنا أيها المغفل الكبير.. نحن مجموعة من أثرياء الشريحة ب جئنا إلى قطاع الحياة البرية للاستمتاع بالحياة على طريقة الإنسان الأول..
ضحك إيهاب بافتعال، وهتف متجاهلاً إنذارات القائد الألي المتكررة والمستفزة :
ـ خدعتك تلك لا تنطلي على طفل صغير..
واصل الرجل كأنه لم يسمعه :
ـ كنا نجري مسابقة في الصيد رصدنا لها مكافأة من الذهب الخالص.. وكنت على وشك الفوز لولا الغش في اللعب..
بدأ إيهاب يتوتر.. ما معنى هذا كله؟..
ـ لقد دبروا لي تلك المكيدة.. لا أدري هل رؤسائك في الشرطة مشتركون فيها أم لا، لكن أقسم بشرف عائلتي أن يدفع كل من تورط في هذه العملية القذرة الثمن غالياً ..
قال إيهاب بجزع :
ـ يعني.. لا يوجد متمردين؟!..
قهقه الرجل قائلاً:
ـ المتمردون أسطورة اخترعتها عقلية النخبة الأممية للسيطرة على العامة..
ـ لكنني واجهت العشرات منهم بنفسي..
قال الرجل بسخرية لاذعة :
ـ هل اطلعت على أرواقهم الثبوتية.. قالوا لك أقتل الحثالة فقتلت بلا وعي.. الحقيقة انه لا يجرؤ أحد على التمرد الحقيقي في هذا العالم.
ـ لكنني شاركت بنفسي في مواجهة تمرد الآلات الكبير..
ـ بالضبط.. لا يوجد بشر متمردين.. لأنهم لا يستطيعون ذلك أصلاً في ظل قبضة النظام العالمي المحكمة.. أما تمرد الآلات المزعوم فقد يحدث هذا فعلاً، من قبيل الخلاف العائلي..
حك إيهاب قذاله بكعب مسدسه وقال في غباء:
ـ لا أفهم..
ـ النخبة التي تحكم العالم، ما هي إلا آلات فائقة الذكاء..
شعر إيهاب كأنه تلقى لطمة عاتية على وجهه.. الحقائق أحياناً تؤدي نفس عمل الصفعات المؤلمة، حتى أنه تخيل وجهه الآن أحمراً كالطماطم ..
ثم شيئاً فشيئاً بدأ يسترجع ذكريات قريبة.. بعد تمرد الآلات الشهير عاد ليجد روبوت متربع على وحدة مكافحة التمرد.. نفوذ الروبوتات المريب استمر رغم حادثة التمرد إياها.. لكن لابد أن القيادة ترى وتسمع هذا الحوار الآن.. أن كل نفس يتنفسه يصلهم عبر شرائحه الذكية..
ما معنى هذا كله؟..
في تلك اللحظة كانت الحوامة تهبط بسلاسة إلى المكان الذي حدده لها الرجل الغريب في قلب غابات القطاع البري..
قال الغريب لإيهاب وهما يغادران الحوامة كصديقين:
ـ إنه النظام العالمي الجديد يا فتى.. صفقة عقدت منذ عقود بين أغنياء العالم المتنفذين والآلات الذكية.. ستعمل الآلات على إدارة العالم وإحكام السيطرة على البشر من الشريحة جـ .. وينعم الأغنياء من الشريحة ب بالثروات في النطاق النظيف بعيداً عن التكنولوجيا.. أما حادثة التمرد إياها فكانت خلاف عائلي بين الروبوتات وبعضها البعض.. أو سمه خطأ تقني تم تداركه بمعرفة الإدارة الألية نفسها.. وانتهى الأمر..
تساءل إيهاب بصوت كالبكاء :
ـ ومشاهد إعدام المتمردين اليومية على الخوازيق النيوترونية؟
ـ كلها جزء من العوالم الافتراضية التي تقنع بها شريحتك البائسة..
ـ و.. وهيدز؟!
ـ هيدز الحقيقية ليست تلك التي كنت تشاهدها عبر الشاشات، هيدز الحقيقية هي كل ما حولك، العالم كله هيدز ..
كان إيهاب في أسوأ حال ممكن.. لا يمكنه تصديق الرجل وفي نفس الوقت لا يستطيع تجاهل عشرات الأسئلة التي تنهش رأسه، ولا يجد لها إجابة إلا من خلال تصديق نفس الرجل.. هنا تنبه لنقطة مهمة فهتف كمن وجد قشة في خضم الغرق :
ـ لكن لحظة.. لماذا تخبرني بكل هذه الحقائق التي ينبغي إخفائها عن أمثالي؟
هنا شاعت ابتسامة ماكرة على وجه الرجل..
ـ هذا هو الذكاء الذي يأتي متأخراً جداً.. الإجابة ببساطة هو أنك لن تعيش يا مسكين بعد كل ما سمعت..
لم يكد يقولها حتى رأى إيهاب عشرات الرماح تحاصره من كل جانب، ووراء كل رمح وجه إنسان بدائي ملطخ بالأصباغ التي تثير الرعب في القلوب..
وسمع الرجل يكمل وهو يتمطى متنفساً هواء البرية :
ـ هؤلاء أصدقائي من السكان الأصليين هنا.. ويؤسفني أن أقول لك أنهم لن يتركوك تخرج من هنا قطعة واحدة.. لديهم طقس وثني لا يكتمل من غير أضحية بشرية كما هو معلوم.. لا أنصحك باستعمال سلاحك لأنه سيزيد من مأساتك..
هكذا إذن..
لقد فهم إيهاب أخيراً حقيقة اللعبة التي أقحم فيها.. لعبة الأثرياء من الشريحة ب التي أتت به إلى هنا.. واللعبة الأكبر التي يدار من خلالها العالم..
إنه الآن في قمة الرضا عن النفس.. صحيح أنه لن يلتق بهالة أبداً في هذه الحياة، لكنه على الأقل لن يموت حماراً!
" فشلت المهمة "
ظلام.
***
|