الفصل السادس
لو ... تلك الأداة المكوّنة من حرفين فقط ,, لو نملك من القوة ما يجعلنا نتراجع مفكّرين اذا استطعنا تغيير الواقع ,محو الأخطاء ,العودة الى الوراء حتى نتصرف بشكل مغاير لما قمنا بفعله ,هل كنّا حقا سنمتلك تلك الشجاعة لنمنع وقوع كوارث أو احداث أضرار ,ربما لو عاد الزمن ثانية لكررنا ما فعلناه بقدم ثابتة وفكر موحد ... عشرات المرات ,هكذا كان يفكّر كريم أنه ما كان عليه أن يتسرّع بالحكم على أمه خاصة فيما يتعلّق بالماضى الملئ بالعلاقات المتشابكة ,, والقرارات المصيرية ,, والتى كان منبعها الكبرياء والعناد وربما أيضا الرغبة فى ايذاء الغير والنفس على حد سواء ,تصوّر وهمىّ بأننا نعاقب المذنب فى حقنا وننسى أننا بهذا نقوم بجلد للذات .. نحرّم على أرواحنا الاستقرار فتظل هائمة على وجوهها ,والعاقل هو من يتمكّن من انتشالها من بئر الظلمات الدامس ,اعترف لنفسه : أنت أنانى لم تفكر سوى بنفسك ,بماذا تشعر ؟ هل نعمت براحة البال ؟ الاجابة ظاهرة تسد عين الشمس فقط لا يمكن حجبها الا اذا أصررت على ادّعاء عدم الرؤية باغلاق عينيك والغوص فى وحل الأوهام .. لست سعيدا.
تطارده الهواجس المرّة نهارا وتزدحم لياليه بالكوابيس المزعجة ,ما باتت لديه القدرة على تجاهل نبض قلبه الصادق ,, أمك ليست مذنبة , أنها امرأة من زمن مضى ,, زمن الوفاء والاخلاص .. امرأة لكل العصور ,أم رؤوم لم تبخل عليك أبدا بعطائها اللا محدود .. قامت بدور مزدوج لتعويض غياب الأب ,والحق يقُال أنها تفننت لتشعره بأنه شخص طبيعى لا يقل عن أحدا من أقرانه ,وحافظت على اطار الصورة المثالية الباهتة لوالد تغيّب قسرا أو بارادته لم يعد يهمه ولا يشغله ايجاد المبررات والأعذار لتخلّفه عن مكانته فى حياة ولده الوحيد ... هل يعتبر هذا تصالحا مع النفس المشتتة ؟
أخذ يفنّد فى الخيارات التى كانت متاحة أمام والدته بعدما هجرها الزوج والحبيب وابن العم ووالد طفلها ,, عرض عليها جده أن يجبر ابنه على تطليقها اذا ما أرادت الانفصال مع احتفاظها بكافة حقوقها ومكانتها بمنزل وعائلة الشرقاوى ,فهى على كل حال ابنة أخيه وأم حفيده ... الجميع شهد لها اهمالها لنفسها على حساب الآخرين ,فضلّت مصلحته زاهدة فى الدنيا ومآثرها .. قبلت بلقب زوجة .. بلا زوج ,ثم حملت لقبة الأرملة وحيدة.
لم ينسَ ذلك المشهد الذى اثار ريبته قبل دهشته بعد رجوعه الى البيت .. رأسين لامرأتين متقاربين وحديث ودىّ للغاية يدور بينهما .. كانت أحداهما أمه والثانية ... يا للعجب مها ,لكن مهلا لا يبدو أنها بخير .. تلتمع عيناها بغيوم مائية مترقرقة كأنها طفلة تائهة تبحث عن ملاذها .. يبدو انه قد فاته الكثير .. رفعت الأم بصرها تلقائيا تحو ابنها الذى كان واقفا يحدّق بهما بفضول ممزوج بالاستياء فقالت تخاطبه بصورة وديّة:
-كريم .. جئت أخيرا ,عمك سأل عنك كثيرا.
-عمى !! هل عاد اليوم ؟
وخبط بكفه على جبهته العريضة وقال باعتراض:
-يا لى من غبىّ ,هل تصدقين لقد نسيت تماما موعد الرحلة .. لن ترحمنى أنّا سوف تلومنى على تقصيرى واهمالى.
-ورفيق ايضا.
-لا ,لم يخبرنى بموعد طائرته , كيف ؟
-أراد أن يفاجئنا.
-أين هو عمى الآن ؟
اشارت هناء الى الأعلى وهى توضح:
-عاد مرهقا من السفر وكان بحاجة الى النوم , فصعد الى جناحه كما فعل الآخرون.
أخفت بتعمّد التفاصيل الأخرى المتعلّقة بثورته على الشابين الآخرين لن تزيد من هموم ابنها ,, كما أنها لن توبّخ ابنها الرجل الناضج على مرأى ومسمع من مها , فى الصباح الباكر سوف تعلمه بكافة الأحداث التى دارت.
تردد كريم قليلا حيث أراد البقاء مع والدته حتى يتحدث اليها على انفراد ريثما تنتهى من هذا الحوار المثير للتساؤل ,عوضا عن ذلك اكتفى بمنحها ابتسامة لطيفة وهو يتمنى لها مساءا طيبا ,متوجها نحو الدرج ,استوقفه سؤالها الذى يفيض حنانا:
-هل تناولت العشاء أم أحضّر لك شيئا لتأكله؟
توقف بمكانه وأدار رأسه بنصف التفاتة مجيبا بصوت هادئ:
-سلمتِ يا أمى , لا حاجة لأن ترهقى نفسك أنا لست جائعا.
لم تعقّب هناء على رده فهى بنفسها لاحظت قلة شهيته ليس الى درجة خطيرة ولكنه صار يكتفى بالقليل وأحيانا كثيرة يتجاهل تناول الوجبات برفقتهم.
اضافت برقة لا مثيل لها:
-حسنا يا حبيبى كما ترغب.
وأولت الفتاة الى جوارها كامل اهتمامها مرة أخرى مكتفية بأنه قد تراجع عن مقاطعتها فى الآونة الأخيرة وبات يعاملها بشكل مهذب بارد.
ولم تتخلّف والدته عن القاء خطبة عصماء بصباح اليوم التالى عن مدى سوء تصرفه ولا مبالاته بعائلته.
دافع عن نفسه بحماسة وهو يقاوم شعورا تسلل اليه بأنها حقيقة ليست منزعجة من نكوصه عن دوره العائلىّ بقدر ما هى متكدرة من غيابه الدائم عن المنزل:
-نسيت .. كنت منشغلا للغاية بعدة أمور فنسيت موعد عودة عمى ,لم أرتكب جرما ,يصدف أن ينسى الكثير منّا أشياءا تعتبر هامة ويجد له الآخرون الأعذار ,,, الا أنا طبعا ,الوحيد الذى يحاسبه الكل على أقل هفوة ,هل تعرفين لماذا ؟ لأننى نشأت كاليتيم ,اعتدت على رؤية الشفقة مجسدة فى عيون العائلة ولكن مع ذلك لأنه لا أب لى فمن الأيسر القاء اللوم علىّ ,فرفيق لا يمكن أن يمسّه أحد بكلمة واحدة أنه الحفيد البكرىّ حامل الراية .. راية الشرقاوية ,وسيف .. الجميع يحتمل أخطائه ولو كانت فظيعة لأنه ما زال صغيرا بالسن ومصيره الى التعقّل يوما ما , أما كريم فهو المسكين الذى لا حول له ولا قوة فلنحمّله فوق طاقته على الاحتمال.
سارعت هناء بوضع يدها على فمها تكتم أنّة صارخة كادت تفلت منها ,انفطر قلبها على وليدها أيعقل أنه يشعر بهذا الكم من المرارة ويخفى عنها ألمه الجسيم ,دفعت يديها الى رأسه تحاول جذبه الى أحضانها وقد تقلّص الفارق الكبير بين قامتيهما بفعل معجزة فها هو الابن الشارد يخضع مجددا لسلطة أمه وأخذت تمسح على شعره العسلىّ المجعد تقول مستنكرة:
-لا ترثى حالك يا حبيبى , أنت أفضل بكثير من غيرك ,على الأقل حظيت بعم كمحمد ربّاك وعاملك كواحد من أبنائه , الله يشهد أنه لم يفرّق يوما بينكم.
لثم ظاهر يدها بعد أن أمسك بها مشددا قبضته حولها يبثها امتنانه واعترافه بفضلها قائلا بصوت مرتجف:
-وأنتِ يا أمى كنتِ وما زلتِ أفضل أم بالكون ,أنا حقا رجل محظوظ بوجودك فى حياتى لولاكِ ما كنت أنا ,ضحّيت بالغالى وارتضيتِ بالنذر اليسير من أجلى.
اعترضت هناء بقوة وهى تشيح بوجهها عنه حتى لا يرى دموعها التى غلبتها وانهمرت على خديها قائلة:
-لا تقل هذا ... لا تقل هذا ,أنت ابنى الوحيد فلذة كبدى وذكرى حب خالد لن يموت .
نظر لها باستجداء يتحيّن اعترافها الصريح وهو يقول برجاء:
-أحقا يا أمى ؟ أما زلتِ تذكرين أبى ؟ بعد كل ما صار بينكما!
أجابته بمزيج من الخوف والرهبة تسترجع ذكرياتها الماضية:
-أذكره بقلبى مهما طال الزمن ويكفى أنه قد وهبنى قطعة غالية منه .. أنت ... أجمل هدية وأثمنها على الاطلاق ,هو زوجى ووالد ابنى ,,, ألا يكفى هذا ؟
احتضنها بين ذراعيه بحيطها بحبه واهتمامه كأنما هى الابنة وقال هامسا برقة بالغة:
-يكفى ويزيد يا ست الكل .. أنتِ وردتى الجميلة وحبيبتى الوحيدة.
شدت نفسها من بين أحضانه لتدفعه فى صدره بلطف وهى تقول مداعبة:
-أنا ؟؟ حبيبتك الوحيدة ؟؟ أيها المنافق الكبير !
قلب شفتيه بحركة طفولية اعتادها منذ صغره وهو يهتف مدعيا الاستياء:
-جرحتِ قلبى فى الصميم يا حبيبتى , أتشكّين فى حبى الخالص ؟
-لا بل أشكّ فى كونى الوحيدة بقلبك يا عزيزى ,ألم تعترف سابقا بالوقوع فى الحب ؟
كانت تعرف بأنها ربما تخاطر بمصالحتهما وتجازف بعلاقتهما الهشة الجديدة ,ربما هى واقعة ببحر رمال متحركة فلزاما عليها أن تتحسس خطواتها بعناية ,لم يكشف وجهه عن أى دليل على التأثر ,فاحتفظ برباطة جأشه وهو المحترق بنيران شوق لا يلين ,وعدّل من ياقة قميصه للأعلى ناكرا لأى نقطة ضعف قد تسجّلها ضده بفعل أى تصرف طائش يصدر عنه وقام بتغيير الحوار بذكاء شديد متسائلا:
-الى أين وصلتِ بمشروعك الخيرى الذى تزمعين تنفيذه ؟
راقبته مطولا وهى تدرك سبب هذا السلوك الغريب , ابنها الذى ربته وأنشأته وتعرف سكناته وخلجات نفسه يخشى الاعتراف بالحب حتى لا يُتهم بالضعف ,وتأبى نفسه الاعتراف بعجزه الواضح عن جهاد قلبه العاصى الذى يرفض غياب حبيبته بل ويزيد من تأنيبه ليلا نهارا على تصرفه المشين بحقها ,استلمت طرف الخيط فقالت تحاول مجاراته:
-كل شئ على ما يرام ... على فكرة .. أتعرف من الذى سيتولّى ادارة هذا المشروع ؟
مط شفتيه دلالة عدم المعرفة وقال ممازحا:
-وكيف لى أن أعرف ؟ أأضرب الودع ؟ أم أقرأ الفنجان ؟
قالت بجرأة وهى تتحاشى النظر مباشرة الى عينيه حتى لا تتراجع عن قرارها الذى اتخذته لتعترف بالحقيقة وتنهى الصراع الدائر بين عقلها وقلبها:
-لقد كلّفت صلاح بهذا الأمر ,وقمت ايضا بتوقيع التوكيل الرسمىّ له للتصرف فى كافة الشؤون المتعلّقة بهذا المشروع ,وهو بالمقابل رفض أية نسبة من الأرباح المتوقعة ,, هو شريك فقط فى الادارة.
ردد مذهولا:
-صلاح .. صلاح السنهورى شريكا لكِ , هل قبل بذلك ؟
-نعم.
أطبق فمه على الكلمات التى كادت أن تفلت منه دون تريّث ,عاد ليتحكم بانفعاله ,لن يضايقها مجددا باتهامات ظالمة أو عبارات جارحة .. هذا وعده أمام نفسه وضميره .. هى أمه ... ومن حقها أن تحيا كيفما تشاء بعد سنوات قضتها فى الحفاظ على صورة الأسرة البائسة فى نظر الكل ,من أجل أن تصون كرامة ابنها الوحيد ,, لن يعارضها بأى قرار تتخذه منذ الآن ,,, حتى ولو كان الثمن سعادته وراحة باله ,, سيقدّمه تحت قدمى هذه السيدة العظيمة فداءا رخيصا لتضحياتها السابقة من أجله.
قام ناهضا وسار نحو الباب دون أن تحين منه أدنى التفاتة الى أمه ,فهمست بصوت متهدج تأمل ألا يردّها:
-كريم ... أهذا هو كل ما لديك لتقوله بخصوص الموضوع ؟
أسبل جفنيه بألم يدفن صرخاته المكتومة قبل أن يقول بصوت غريب:
-اذا كنتِ قررتِ ونفذتِ .. فلا فائدة ترجى من حديثى .. أنت حرة التصرف فى أموالك وحياتك .. أنتِ أمرأة حرة الآن بلا قيود ,افعلى ما شئتِ يا ... أمى.
وغادر مسرعا كما فعل بالمرة السابقة اثر مشادتهما الكلامية والتى انتهت بسقوطها لتصيب كاحلها ,وحتى الآن يعاودها الألم على هيئة نوبات متفرقة كلما تحاملت على نفسها وأجهدت ساقها بالوقوف لمدة طويلة , ولكنها هذه المرة لم تحاول اللحاق به فهى تدرك أن الجرح هذه المرة أعمق وأكثر مرارة وقسوة ... بيد أنها تحرّرت من قيودها أخيرا ,هل هى فرحة بهذه الحرية الجديدة ؟ أم أنها ألفت البقاء حبيسة السجن مسلوبة الارادة ؟
###########