الفصل الخامس
ألحّت فريال على زوجها لمرافقتها ذلك اليوم فى ذهابها الى منزل العائلة حيث اعتادت الاجتماع معهم .. لم يكن أهمية وجوده تقل عن الخبر السعيد الذى تودّ أن تزفّه اليهم ولم تكن بقادرة على مواجهتهم بمفردها وخاصة أن الأمر لا يخصّها وحدها.
هل ما تشعر به حقا هو الخجل الفطرىّ الذى ينتاب أية امرأة فى مثل حالتها ؟ أم أنها تعانى نوعا مرضيّا من الرهاب الاجتماعىّ يحول دون انسجامها ببساطة وسط الجموع حينما تتعلّق الأنظار الفضولية بما سوف تتفوّه به من كلمات.
كانت تجلس الى جوار أمها وتلقى برأسها على كتف المرأة العجوز , على كثرة المآسى التى مرّت بها فى حياتها ما زالت صامدة كشجرة عتيقة فى وجه الرياح العاتية ,تشعر بحيرة بالغة كيف تبدأ حديثها ,, قررت أن تطلع والدتها على سرها الصغير بينما يدى الوالدة تربت على ظهرها من الخلف كأنما تهدهد طفلة فى مهدها لا امرأة ناضجة قاربت على تجاوز منتصف الأربعينات .. ستظل بعينيها وقلبها ... طفلتها المدللة .. ابنتها الوحيدة .. أميرة العائلة ,وان كانت حفيدتها قد استولت على هذا الاسم فهذا لا ينفى أنها صورة مكررة من الأصل , فهمست بالقرب من أذنها بصوت يكاد يكون غير مسموع:
-ماما , هناك ما أود اخبارك به .. أنا ..
أولتها السيدة شريفة كامل اهتمامها وحينما أتمّت فريال عبارتها ارتسمت دلائل الدهشة ممتزجة بالسعادة على وجه المرأة المتغضن فكأنها عادت الى الوراء عشرين عاما.
بهذه اللحظة سمعوا رنين الجرس الخارجى معلنا عن وجود زائر , تلتها عدة طرقات مميزة على باب الفيلا الزجاجى ,شهقت ريم بفرحة وهبّت مسرعة نحو الباب وقد خمنت شخصية الطارق المتلهف ,وأشارت لسماح التى أتت بدورها لتقوم بعملها اشارة أن تبقى بمكانها ثم تجاوزتها لتفتح الباب وتروى ظمأها لرؤية الغائب الذى عاد سالما بصحبة زوجته ,وما أن لمحت طيفه حتى ألقت بنفسها دون وعى بين ذراعيه وهى تمطره بالقبلات الصغيرة المليئة بشوق غامر هاتفة:
-اشتقت لك كثيرا يا رفيق.
تلقفها رفيق فى أحضانه وهو يرفعها عن الأرض من خصرها ليدور بها مرتين قبل ان يصيح مختنقا:
-مرحبا حلوتى ,,أنا أيضا افتقدتك يا صغيرتى .. مهلا .. مهلا ..
وأزاحها بلطف حتى يستطيع التقاط أنفاسه وهو يتأملها بعين ناقدة قبل ان يقول بفتور:
-ما الذى فعلته بشعرك ايتها المجرمة ؟
يا له من حوار مكرر حتى بات الملل يتسرب من كل حرف منه ,لماذا يتهمها الجميع بالاجرام لمجرد أن اتخذت قرارا يخص شعرها هى ,الا أنها ما لبثت أن ابتعدت قليلا وهى تحاول أن تتصنّع المرح فقالت بلا مبالاة:
-ما رأيك يا عزيزى ؟ لقد غيّرت تسريحة شعرى ,, قمت بعمل ( نيو لوك ) كما يسمونه ,أليس مناسبا لى ؟
وأخذت تحرّك رأسها يمينا ويسارا باستعراض أمامه بينما عيناه تحاولان اختراق حاجزها الواقى لينفذ عقله الى معرفة ما تخبئه بداخلها.
أجابها ببطء:
-ربما ,ولكننى أفضلّ خصلات شعرك الطويلة.
دار هذا الحديث بين الأخ وأخته غافلين عن أميرة التى وقفت خلف زوجها كأنما هى غير مرئية بالنسبة لهما ,فلوّحت بيديها فى الهواء قائلة بمرح:
-هاى نحن هنا ..
التفتت ريم اليها قبل أن تغرقها فى حضنها بقوة وهى تقبّل وجنتيها قائلة بحماس:
-مرحبا بالعروس الجميلة ... زوجة أخى .. حمدا لله على سلامتكما.
بادلتها الأحضان وهى تقرصها بلطف فى ذراعها قبل ان تهتف مؤنبة:
-زوجة أخى .. هه ماذا قلنا سابقا يا فتاة ؟ أنا أميرة ,,واذا كان ضروريا أن تجدى لى لقبا مناسبا فليس هناك أفضل من ابنة عمتى.
تشاركتا الضحك سويا وريم تمازح أخاها قائلة بينما تقود أميرة من ذراعها الى الداخل:
-ها قد بدأت زوجتك بالتسلّط واتخاذ القرارات .. لماذا لم تخبرا أحدا بموعد عودتكما ؟
أخذت سماح جانبا وهى تتمتم بسعادة:
-حمدا لله على السلامة.
أجابها رفيق بينما يتأبط ذراع زوجته من الجهة الأخرى:
-أردنا أن نفاجئكم ,سلمك الله يا سماح , كيف حالك ؟
أجابته وهى تتجه لتحمل الحقيبة الكبيرة قبل أن تمد يدها لتغلق الباب:
-بخير حال عندما رأيتكما.
صاحت ريم وهى على أعتاب غرفة الجلوس بصوت عالٍ:
-مفاجأة ... انظروا من حضر !
انتفضت فريال بصدمة وهمّت بالنهوض لملاقاة ابنتها العائدة وقد أضناها الاشتياق والحنين الا أن أمها منعتها بحزم وهى تهمس:
-اهدأى قليلا , فالتوتر ليس مفيدا فى حالتك هذه ,وتصرفى برويّة.
همسة متضائلة من أمها:
-أميرة , ابنتى.
لم تمهلها ابنتها الفرصة لتنهض من مجلسها بل قطعت المسافة بينهما فى ثوانٍ معدودة وهى تجثو على ركبتيها بالقرب منها لتعتصرها بين ذراعيها وهى تقول بصوت متهدّج تتخلله عبرات تساقطت رغما عنها تحكى قصة شوقهما:
-ماما ... أوحشتنى كثيرا , كثيرا.
-أنتِ .. أمام عينىّ .. حبيبة قلبى وقرة عينى .. لا تغيبى عنى مجددا يا اميرة.
بينما حاولت الجدة أن تزيحها قليلا عن جسد أمها لتعطيها مساحة للحركة والتنفس بأريحية قائلة بحنان حازم:
-حمدا لله على سلامة الغاليين , حبيبتى ... خففى من احتضانك لأمك , على الأقل اسمحى لها أن تتنفس بحرية.
ابتعدت بحركة عنيفة وهى ما زالت تتحدث بعفوية من آثار نشوتها بلقاء أهلها بعد غياب شهرين متواصلين:
-آسفة يا أنّا لم أنتبه ... حبيبتى .. لكِ وحشة كبيرة.
وعانقت جدتها ثم عمتها هناء التى استقبلتها بترحاب وقالت بغبطة:
-مرحبا بأحلى عروس فى العائلة .. وجهك كالبدر فى تمامه.
هتفت فريال بانقباض:
-ما شاء الله ! قولى ما شاء الله يا هناء !
رفعت هناء حاجبا واحدا وهى تزم شفتيها باستياء واضح قائلة:
-وهل أحسد ابنى أخى يا فريال ؟ أنها بمثابة ابنتى التى لم أنجبها.
ورمت ابنة عمها بنظرة سوداء ,فابتسمت أميرة مجاملة لها وهى تقول بصوت مهتز لتغيّر مجرى الحوار:
-أين كريم وسيف ؟
بينما كان رفيق يضم مجدى الى صدره وكلاهما يربت على ظهر الآخر بصداقة ومودة قبل أن يقول الأخير بعتاب:
-عود أحمد يا عريس ,ولو لم تخفِ عنّا خبر عودتكما لكنّا الآن فى شرف استقبالكما بالمطار.
قال رفيق مقررا بينما يتبادل الأدوار مع زوجته ليمنح عمته قبلة على جبينها ثم يلتفت الى جدته يقبّل يديها وهى تمسح على شعره بحنانها المعهود:
-أردنا أن نصنع مفاجأة لكم , كما اننا لم نشأ أن نزعجك أنت فأنت الآخر عريس أيضا.
غمزه بوقاحة وهو يتساءل ببراءة مصطنعة:
-لماذا لم تقررا الحصول على اجازة ولو قصيرة ؟
أجابه مجدى بعد أن عاد الى مقعده قريبا من زوجته التى احتقن وجهها غضبا من جراء تلميح زوج ابنتها:
-لو تعرف بم كانت تفكر حماتك لحمدت ربك على أننى كنت مشغولا بالعمل هذه الفترة.
ثم اضاف بصوت أكثر انخفاضا غير عابئ بنظرات فريال الملتهبة:
-كانت تود مرافقتكما بالسفر ,والحمد لله أننا لم نفعل .. فظروفها الصحية لم تكن لتسمح بذلك.
زجرته هى بعنف:
-مجدى ... ما هذا الذى تقوله ؟
ربت على يدها التى كانت تكوّرها فى حضنها وهو يقول بهدوء:
-اهدأى حبيبتى ,أليسوا عائلتك ؟ لا أجد مبررا لاخفاء الأمر عنهم .
نظرت له أميرة بتساؤل قبل أن تقول بقلق وهى تحيط كتفى أمها بذراعها:
-ما بها أمى ؟ هل أنتِ بخير ماما ؟
همّ مجدى بالتحدث نيابة عن زوجته الا أن جرس الباب دق مرة ثانية ,فقطّب رفيق حاجبيه قائلا بتساؤل:
-هل تنتظرون أحدا ؟
ضربت الجدة شريفة على جبينها بباطن كفها وهى تشهق:
-ياه ! لقد أنستنى الفرحة العارمة برؤيتكما .. أن أخبركم بعودة محمد وسوسن اليوم.
هتفت ريم بنزق:
-أبى وأمى ! أهما قادمان اليوم حقا ؟
هرعت سماح هذه المرة لتصل قبل ريم ففتحت الباب تستقبل العائدين بحرارة.
حينما قام محمد وزوجته بمصافحة الجميع ووصل الى ابنتهما ,نظر لها مندهشا من مظهرها الجديد فما لبث أن قال بصوت غريب:
-ريم .. عزيزتى .. أية مصيبة حلّت بشعرك الجميل ؟
قامت الفتاة جاهدة باخفاء رغبة دفينة تجيش بصدرها أن تضم نفسها اليه لتبثه شكواها وآلامها الجسيمة واكتفت برفع كتفيها عاليا وهى تقول بخفة:
-ليست مصيبة يا بابا , قررت أن أجارى أحدث الصيحات الخاصة بقصة الشعر.
هتف والدها باستغراب بعد أن منحها قبلة أبوية على جبينها:
-عشنا لنرى عجب العجاب.
فيما بعد اتخذ رفيق مقعدا مجاورا لشقيقته ثم اقترب من أذنها هامسا:
-أخبريننى أنتِ ,,, أين شباب العائلة ؟ ما لى لا أرى أيا منهما فى استقبالنا.
ترددت كثيرا قبل أن تجيبه ما جعله يتراجع بمقعده يرمقها بنظرة استفسار ,فقالت بعدم رضا:
-أحوالهما هذه الأيام لا تسرّ عدوا ولا حبيبا.
-هاتِ ما لديكِ أيتها الصغيرة .. بدون مقدمات.
-حسنا .. سوف ترى بنفسك .. كريم نادرا ما يتواجد هنا , أما عن سيف فها هو قادم مع عروسه.
رمت بجملتها الأخيرة وهى تنظر بغيظ الى نقطة ما خلفه.
التفت بكتفه وهو يردد بعدم تصديق:
-عروس من ؟ أهذه هى ؟
كان سيف يتقدم بخطوات واثقة الى الأمام بينما مها تتبعه بصمت مطرقة نحو الأرض وهى تئن بداخلها : لم أكن أعلم أن الأمر سيكون بمثل هذه الصعوبة! كل هؤلاء الأشخاص عليها أن تواجههم دفعة واحدة , سوف تصاب بالاغماء ثانية ,, رباه لماذا صار الهواء شحيحا لهذا الحد ! ماذا عن زوجها لا بد أنه سيتعرض لموقف أشد صعوبة منها ... ساخرة لامت نفسها فهو بكامل لياقته وأناقته وثقته بننفسه لا تتزعزع ,لا تدعى قلبك الطيب يشفق عليه ,أنه ليس بحاجة الى مساندة أو دعم ,أنتِ بمأزق يا مها ,لماذا وافقته على الحضور فى هذا الاجتماع العائلىّ ؟ وهل كان فى يدها أن ترفض ؟ هيهات أن يستسلم سيف لرغبتها , ألم يثبت لها منذ ساعات خلت أنه ينفذ مشيئته متى أراد بل ويرغمها على القبول ... كانت تحاول اخراس صوت صغير يخبرها بأنها لم تكن مجبرة على التجاوب معه .. كانت تريده مثلما أرادها وربما أكثر منه.
صاح مهللا بترحاب بالغ وهو يحتضن عمه بقوة ثم يتجه نحو رفيق فيفعل بالمثل:
-وأنا أتساءل عن مصدر هذا النور كله ,حمدا لله على السلامة .. ولكن لماذا لم تخبروننا بموعد قدومكم كنت انتظرتكم بنفسى فى المطار؟
بعد تبادل العبارات التقليدية والتحيات العميقة كان سيف الوحيد الذى يتحدث بأريحية تامة دون أن ينتبه للصمت المطبق الذى حل على الجميع وهم يحدجون مها بنظرات تكاد تصرخ هاتفة بها : من أنتِ ؟ وما الذى حشرك بيننا ؟
كانت سوسن أول من استطاعت أن تتغلّب على دهشتها وهى تمنح الوافدة ابتسامة حانية تذيب القلب وهى تتساءل بفضول:
-من أنتِ ؟
-أنا ... مها ... سيف ...
وأشارت الى زوجها بيأس واحباط علّها ينقذها من حرجها.
-سيف يا عزيزى ... هل جاءت معك ؟ أوه , أعتقد أن أمك ستسعد كثيرا , وأخيرا ...
قالتها بغبطة وتركت بقية جملتها معلّقة فقد وضح أنها استنتجت أن سيف قد اصطحبها معه الى منزل العائلة لتعريفها اليهم كخطيبته المستقبلية .
وفعت الجدة يدها فى الهواء لتشير للجميع بالصمت بعد أن تعالت الهمهمات الغير واضحة من الجالسين حولها وقالت بتأنٍ ورزانة:
-مهلا يا جماعة ... احم ... أود أن أعرّفكم الى كنّتنا الجديدة ... مها .. زوجة حفيدى سيف.
غمغم محمد بتوتر وهو يتراجع بمقعده:
-زوجته ؟؟
بينما اندفع رفيق هائجا نحو ابن عمه يمسكه من تلابيبه وصاح مهددا بعنف:
-أيها الأخرق .. ماذا فعلت بنفسك وبنا ؟ تزوّجتها هكذا بمنتهى البساطة ؟
حال بينهما صوت العم الصارم هاتفا:
-رفيق ... اترك ابن عمك وشأنه.
التفت الشاب الى ابيه وهو ما زال قابضا على ياقة قميص الآخر يقول بصوت متهدج:
-بابا .. أنت لا تعرف ... هى ..
وأشار بسبابته نحو مها التى انكمشت على نفسها بخوف واضح تحاول البحث عن ملجأ لها تحتمى به مما جال بخاطرها أن ينالها على يد ذاك الغاضب المتهور والذى كان فيما مضى رئيسا لها.
استطرد رفيق بعد أن قام سيف بانتزاع نفسه من بين أصابع يده:
-هى تلك ال.. لا أجد لها وصفا ملائما .. بقاموس المفردات اللائقة .. كيف استغلّتك لتحقيق مرادها ؟ أم تراك كنت ساعيا خلفها منذ البداية ؟
هتف سيف بانزعاج وهو يشيح بذراعيه بلا مبالاة:
-وما شأنك أنت يا رفيق ؟ من فضلك لا تتدخل فيما لا يعنيك .. أنها زوجتى ,ومنذ الآن فصاعدا عليك معاملتها باحترام.
نظر لها رفيق شذرا قبل أن يقول متهكّما:
-أها .. الآن السكرتيرة المطرودة صارت سيدة المنزل وعلينا احترامها .. هل يكفى أم علينا الانحناء حينما تمر وتقبيل يديها ؟
قال سيف بمرارة:
-أنت سبق واخترت زوجتك دون أن تشاورنا بالأمر ,وفرضت علينا القبول بها واحترامها ,ولا يخصك اذا ما كنت سكرتيرة أم عاملة نظافة ؟
وضع رفيق سبابته امام أنفه محذرا وهو يقول منذرا:
-ايّاك ووضعها بالمقارنة مع زوجتى ,فليست ابنة الحسب والنسب من تنتمى لعائلة الشرقاوى تشبهها بهذه الفتاة التى .. أقل ما توصف به أنها متسلقة وخائنة ,,, ويكفى أنها ابنة كمال الراوى.
كانت عبارته الأخيرة بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير بالنسسة لمحمد ,, فهو الوحيد من بينهم على دراية تامة بقصة كمال الراوى وعلاقته بعائلة الشرقاوى وشراكته لوالده.
فهتف مرددا وأمارات الذهول بادية على وجهه المتقلّص الملامح:
-ابنة كمال الراوى !! هل سكرتيرتك يا رفيق هى ابنة كمال ؟
كان الوالد يعرفها حق المعرفة بحكم رئاسته السابقة لمجلس ادارة الشركة وكانت هى تعمل سكرتيرة لابنه فتعوّد على رؤيتها كثيرا ولم يخطر بباله يوما أن يسألها عن اسمها بالتفصيل مكتفيا باسمها الأول ,وأضاف بلهجة حانقة:
-اجبنى يا رفيق هل كنت تعرف أنها ابنة الراوى ؟
تساءلت الجدة وقد استشعرت بالخطر يهدد استقرار عائلتها من جديد:
-ما القصة يا أولاد ؟ ومن هو كمال هذا الذى تتحدثون عنه ؟
بينما غطّت فريال فمها بيديها لتمنع صرخة مكتومة أطلقتها وهى ترتعش:
-أهى ابنة كمال وسهام ؟
رمتها مها على الفور بنظرة مترجية فهى الأولى التى تأتى على سيرة أمها الراحلة , اذن فهذه العائلة حقا كانت على معرفة وثيقة بوالديها أو على الأقل لم تكذب أمها حينما حدثتها عن شراكة أبيها للجد المتوفىّ ..
صاح محمد هادرا بعد أن هب على قدميه:
-رفيق !!
أطرق الابن براسه نحو الأرض خجلا من مواجهة أبيه فتمتم بوهن:
-هى ابنته ,ولكننى لم أكن أعرف حينما استلمت العمل.
هز الوالد رأسه يمينا ويسارا وهو يقول بصوت محتقر:
-خيّبت أملى فيك يا بنىّ ,للأسف لم تكن على قدر المسؤولية التى وضعتك بها.
رفع رفيق رأسه ببطء وهو يتحرك نحو والده يطلب الصفح قائلا بأسى:
-أبى .. اقسم لك أننى حينما عرفت بالحقيقة طردتها من الشركة بأكملها ..
أوقفه محمد باشارة حازمة من يده قبل أن يقول ناهرا ايّاه:
-قف مكانك .. لا أريد سماع مبرراتك الواهية , أنت لم تحافظ على الأمانة التى سلمتك ايّاها بل وكدت تتسبب بانهيار صرح شامخ باستهتارك وضعفك ..كيف سمحت لهذا ان يحدث تحت بصرك ؟
قاطعه سيف محاولا الدفاع عن ابن عمه وصديقه فقال بتردد وهو يتقدّم بدور نحو عمه:
-عمى .. أنا السبب فى كل ما حدث , لا تلقِ باللوم على رفيق ,, أنا من أخطا وليس هو.
رمقه محمد بنظرات نارية وهو يخاطبه بحدة:
-أنت ؟؟ هل كنت تعرف بهويتها الحقيقية حينما عيّنتها ؟
طأطأ راسه خجلا من اعترافه بخطئه الشنيع منذ البداية ,مما حدا بمحمد أن يتقدم منه ليرفع رأسه مجبرا ايّاه على معرفة مدى فداحة فعلته وهو يلقى بالكلمات فى وجهه كطلقات مدفع تصيبه فى الصميم:
-حسنا , الصمت خير دليل على الاعتراف , أنت الآخر لم تكن على قدر المسؤولية .. هل تدرك ما الذى يمكن أن يصيب أباك اذا عرف بزواجك من هذه ... هذه الفتاة .. تكلّم ... لا تقف كاللوح الخشبىّ ... تكلّم ...
-آسف ...
تمتمة مرتعشة حوت على ثلاثة أحرف كان كل ما يملكه سيف للدفاع عن نفسه وهو متأكد من عدم جدوى أسفه .
قهقه محمد ساخرا وهو يقول مقلّدا ابن أخيه حتى ان زوجته نفسها قد تعجبّت من ردة فعل زوجها فهذه هى المرة الأولى التى تراه هازئا:
-آسف .. بهذه السهولة ؟ يا ليت الأمر يتوقف على اسفك يا سيد سيف .. ولا تتوقع يا رفيق أنك ستفلت من نصيبك أنت أيضا , فالحسنة تخص والسيئة تعم ,ولا تحاول أن تتهرّب من غلطتك .. فلا يشفع لك جهلك بالأمور , أنت تدير مؤسسة ضخمة تقدّر بملايين الجنيهات وهفوة واحدة كهذه تذهبك وراء الشمس ..
وأشار بأصابعه الى نقطة بعيدة عاليا نحو السماء واستكمل مردفا بضيق:
-وتذهب الجميع معك ,, يا لخيبة أملى فيكم أحفاد الشرقاوى !
اعترض رفيق على الرغم من احساسه بالذنب قائلا:
-أبى .. أيمكننا مناقشة هذا الأمر على انفراد ؟ فلا ضرورة لأن يشهد الجميع على حوارنا .
رفع محمد حاجبيه دلالة الاستياء الشديد بينما قالت سوسن بهدوء يتناقض مع الغليان بداخلها وقد شعرت بالرأفة لحال زوجها الذى كان محمر الوجه من فرط انفعاله:
-محمد ... فلتهدأ ,كل الأمور يمكن أن تعالج بروية وحكمة .. لا نريد أن يرتفع ضغط دمك فلقد سبق وحذرك الطبيب من مغبة هذا الانفعال .. رفيق .. لا حاجة بك لمواصلة هذا النقاش ,ألا ترى كيف يشعر والدك بالاعياء ؟
كان محمد فى هذه الأثناء يحاول التماسك جاهدا وقد شعر بأن رأسه على وشك الانفجار من شدة التفكير فسقط جالسا بمقعده تلحق به ريم التى جثت الى جوار قدميه تربت على كتفيه وتمسد على رأسه بحنان بالغ وهى تهمس بقلق:
-بابا .. حبيبى .. ارجوك لا تفكر بالأمر نهائيا , كل ما تريده سيكون ولكن رفقا بنفسك وبنا.
فكرت الابنة أنها أرادت اللجوء الى أبيها لتعلمه بما صار معها فى غيابه حتى يتفهم تصرفها ويساعدها لتتجاوز أزمتها ,ولكن نظرة واحدة مجددا نحو وجهه المكفهر وقد بدا أكبر بسنوات من عمره الحقيقى ,تسلل الى قلبها شعور بالشفقة نحو هذا الرجل العظيم بنظرها وقررت أنه لا ضرر من تأجيل موضوعها لما بعد فيكفيه المصيبة التى ألقاها سيف فى وجهه حتى أثقل كاهله ,,ولكن أبوها يبدو غاضبا لسبب آخر .. ليس لمجرد أن ابن أخيه قد تزوّج من سكرتيرة وضيعة كانت تعمل لديهم ,يبدو أن هناك سرا خطيرا وراء غضبه العاصف .. لم تره يوما منفعلا بهذه الصورة.
دوما كان والدها مثالا للرجل الهادئ الأعصاب رابط الجأش ذى الرأى السديد والحكمة المجسّدة فى قراراته ,تولّى شؤون عائلته وترأس مجلس الادارة حتى قبل وفاة جدها بعدة سنوات .. فالأخير عانى من صعوبة بالحركة بعد اصابته الأخيرة بنوبة قلبية شديدة لازم على اثرها الفراش لبضعة اشهر ممنوعا من الانفعال والمجهود الزائد ,وحتى بعد تعافيه لم يعد مجددا ذات الرجل الصلب قوى الشكيمة , وأكبر دليل على تغيّره كان قراره باشراك الحفيدة .. لابنه المنبوذ سابقا بالوصية .. ترى لو كان جدها ما زال حيّا هل كان تجرأ أيا كان عليهم يوما ما ؟
تجمعت الدموع بمآقيها فحركت يدها تمسح عينيها بظهر كفها فى حركة أسرت قلبه على الفور .. أنها زوجته وحبيبة قلبه وتوأم روحه .. تشعر بما يعتمل فى نفسه فى هذه اللحظات الحرجة .. هل كان يظن أن تدوم سعادتهما الى الأبد ؟ ساذج غر هو من يتوقع الحصول على كل شئ دون أى خسارة .. أميرته تحاول أن تتظاهر بالقوة ولكنها بالنهاية اقتربت منه بصمت لتلقى برأسها على صدره تنظر له مشجعة فابتسم لها مطمئنا .. وتمسّك بيدها التى التفت أصابعها حول أصابعه متشابكة تضغط عليها بثبات تبثه مساندتها ودعمها .. أنت محظوظ بها يا رجل .. هتف صوت بداخله.
قال محمد بعد ان هدأ قليلا وكان يتبادل نظرات ذات معانٍ كثيرة مع أمه:
-اسمعوننى جيدا وأنصتوا لى جميعا .. لا أحد .. أكررها وأعيدها .. لا أحد بعد الآن .. يتخذ قرارا دون الرجوع الىّ ,, فى كافة الشؤون .. مفهوم ؟
-طبعا .. طبعا يا بنىّ لديك كل الحق.
كانت والدته صاحبة الاجابة الأسرع والتى تهدف الى تهدئة غضبه وتطييب خاطره.
بينما تمتمت ريم وهى تحاول اخفاء أصبعها الذى يحمل خاتم جاسر الماسىّ ,وعلى ما يبدو أن أحدا لم يلاحظه على الرغم من بريقه الذى يلمع مشعا فقد كان الجميع منشغلا بالعاصفة الهوجاء التى اثارها كلا من سيف ورفيق:
-حاضر يا بابا.
واكتفى الرجلين السابق ذكرهما بالايماء ايجابا برأسيهما ,فأشار هو لهما قائلا بصرامة بالغة:
-وأنتما الاثنان .. اتبعانى الى غرفة المكتب .. لنا حديث لم ينتهِ بعد.
متجاهلا محاولة زوجته لاثنائه عن الاتيان بأى مجهود
وقف على قدميه مجددا متجاهلا محاولات زوجته لاثنائه عن الاتيان بأى مجهود فأخذت تتبعه وصوتها يتردد يائسة من عناده:
-محمد .. أرجوك اسمعنى , أتوسل اليك .. فلترتاح قليلا ثم تناقش معهما فى الصباح كما يحلو لك.
لم يجبها وانما توجه على الفور نحو غرفة مكتبه وقبل ان يختفى طيفه بالداخل قال بصوت مرتفع:
-رفيق ... سيف .. أريدكما على جناح السرعة .. لا تتأخرا ..
رمق الأول الثانى بنظرة لائمة وقد زم شفتيه استياءا وهو يدمدم لاعنا:
-هل تشعر الآن بالراحة يا سيف ؟ أين كان عقلك ؟
ضافت عينا سيف لا اراديا وهو يجيبه باحباط بينما يسيران جنبا الى جنب نحو مصيرهما الغامض:
-أنت لا تفهم ما حدث , لم يكن بيدى .. الأمر أقوى منى.
وضع رفيق اصبعه أمام فمه وهو يهتف مغتاظا:
-اششش .. توقف عمّا تفعل ,ولا تحاول استدرار العطف نحوك ,فما قمت به لهو التهور بعينه ... ثم أين هو ابن عمك العزيز ؟ لماذا يختفى دائما فى هذه الأوقات العصيبة ؟ حسابه معى فيما بعد .. كيف لم يمنعك من ارتكاب حماقة أخرى ؟
توقف سيف بغتة عن متابعة السير وهو يلتفت بحدة نحو مرافقه قائلا:
-أنا لست طفلا صغيرا لأنتظر الاذن منك أو من كريم ,, وما قمت به لهو أمر شخصى يخصنى أنا فقط ..وان كنت لزمت الصمت سابقا فكان هذا احتراما لعمى الكبير .. ولست خائفا ولا نادما .. لقد تزوجت ,, لم أرتكب جرما.
ابتسم رفيق ساخرا بزاوية فمه وهو يهتف بغضب ممتزج بالأسى:
-أنت أجرمت فى حقنا جميعا .. وصمت العائلة بعار لن تمحوه الأيام .. هيا الى الداخل لنرى ما الذى ينتظرنا يا ايها الناصح.
ولكزه بمرفقه فى جانبه يدفعه الى داخل الغرفة قبل أن يصفق الباب ورائه.
##########