حينما حاصرها كريم باصرار فرّت بارادتها الحرة قبل أن يقع القناع المزيّف التى تحاول التمسّك به حتى تستر به ضعفها البالغ وجرحها العميق ,ولكن الى أين المفر يا ريم ؟ اذا هربتِ من العالم بأكمله كيف لكِ أن تبتعدى عن عواطفك ؟ ماذا تفعل بقلبها الخائن الذى ما زال ينبض بعشقه حتى وهى تعلم بخداعه لها ,حتى وهى تراه أمام عينيها الآن واقفا متجمّد الملامح وهو يكوّر قبضتيه معتصرا بقوة ,لماذا يبدو غاضبا بهذا الشكل وهو ينظر اليها ؟ صرف جاسر على اسنانه بعنف وهو يشاهد معذبته على مرمى بصره ... فاتنة جدا ... هشة جدا ... والأدهى أنها ترتدى ثوبا قصيرا جدا ... يكشف الكثير من أجزاء جسدها البض ,كان يتأمل تفاصيلها بتمهل حتى وصل الى وجهها فارتفع نبض عرق بصدغه ,ثم أخذ يتقدم منها وهى تشعر كالفريسة التى تمت محاصرتها ,حاولت أن تفلت من بين يديه الا أن قدميها خانتها فكأن لا وجود لهما ,تسمّرت بذهول مكانها حتى دنا منها على بعد سنتيمترات معدودة وتحركت يده لمصافحتها وهو يقول مرحبا:
-أهلا ... ريم ...
كادت أن تستسلم لرغبة دفينة بداخلها حتى لا تصافحه الا أن عينيه الزرقاوين امتلأتا بغضب أعمى ترسلان تحذيرا صامتا لها بألا تتجاهل يده الممدودة فتركت نفسها تتصرف بحرية وقامت بحركة جريئة تقترب من جاسر وهى تقول ببشاشة مصطنعة :
-مرحبا جاسر ...
تصلبّت عضلات جسده حينما مست بشفتيها خده الأيمن تطبع قبلة خفيفة قبل أن يقبض على ذراعها بقوة مبعدا ايّاها لمسافة كافية حتى تواجهه وهو يهتف متساءلا:
-ما الذى فعلته للتو ؟
استطردت بثرثرة حتى تخفى دوافعها:
-لا بد أنك مندهش ,,, أتعنى تلك القبلة على خدك ؟ آه أنها عادة سيئة لا استطيع التخلّص منها للأسف , فأنا حينما أحيي سيف وكريم أفعل بالمثل ,, وأنت الآن أصبحت قريبا لنا , أليس كذلك ؟
ضافت عيناه لا ارادايا مما تناهى الى مسامعه ,هل تجرؤ على الاعتراف بهذه الجرأة والوقاحة أمامه بأنها تقبّل ابناء عمومتها بهذا الشكل الحميم كلما التقتهم ,والأكثر اثارة للغضب أنها تعتبره مثلهما ,اشتعلت نارا مستعرة بقلبه ,, هو يغار وبجنون , ألهمنى يا ربى الصبر والقدرة على التحمّل حتى لا أقدم على خنقها بيدىّ.
عض على شفتيه حتى كاد أن يدميهما وهو يقول مهددا بعنف:
-سبق وأخبرتك من قبل يا ريم لا تجرؤى على مقارنتى بالآخرين .. أنا .. جاسر اذا كنتِ لا تذكرين أستطيع أن أنعش ذاكرة السمك خاصتك بطريقتى .
شعرت برهبة من لهجته القاسية الا أنها تمادت باندفاع أحمق لاغاظته فقالت بتؤدة :
-هل أفهم أنك تريد معاملة خاصة ؟ ربما امتيازا آخر ؟
لم يكن قد أفلتها بعد فسحبها بعنف حتى أصبحت ملامسة له قبل أن يهمس بأذنها بصوت كالفحيح:
-احذرى يا ريم من استفزازى بهذا الشكل ,وتأكدى بأننى على قدر التحدى الذى تريدينه .
ارتعشت رغما عنها بفعل قربه منها وشدت نفسها من بين ذراعيه لتقف أمامه بتحدٍ واضح وهى تقول بحنق:
-ولماذا تظن أننى أتحداك ؟
نظر لخصلات شعرها القصيرة المتماوجة ثم الى عينيها المتسعتين عن آخرهما وهو يقول بضيق:
-أنتِ تستحقين الشنق بسبب جريمتك النكراء.
صاحت بانفعال وهى تتراجع للخلف خطوتين:
-ماذا فعلت لك ؟
زم شفتيه استياءا وهو يشير الى رأسها قائلا:
-لم تكن جريمتك بحقى أنا , ماذا فعلتِ بشعرك ايتها الحمقاء ؟ لقد جززته كالعشب الضار ... لماذا ؟
شعرت ريم باندهاش حقيقى وهى ترى أمارات الجزن والألم مرتسمة على وجهه فأخذت تحاول الدفاع عن نفسها قائلة:
-لقد قصصته ,مثلما تفعل الكثير من الفتيات غيرى , لا أرى فى هذا موضوعا يستدعى كل هذا الانفعال ...
ثم استدركت بعد أن وعت محاولتها للتبرير له غاضبة من نفسها التى ضعفت أمامه:
-ثم أن هذا شعرى أنا , وأنا حرة أفعل به ما أريد ,واذا راق لى الأمر ربما أحلقه تماما ...
بترت عبارتها بغتة حينما أمسك بها مجددا يعتصر كتفيها بفبضة من فولاذ ثم أخذ يهزها بعنف ناهرا ايّاها:
-ايّاكِ يا ريم ومجرد التفكير بهذا الأمر ,لا تحلمى بأننى سأتركك تتصرفين على هواكِ لتحطمى أجمل ما فيكِ ... على جثتى.
تساءلت ريم بمرارة لم تنجح فى اخفائها:
-أتعنى شعرى ؟ هذا هو أجمل ما فىّ !
-لم أقصد هذا المعنى بالضبط ...
-ماذا تعنى اذن ؟
تسللت لهجتها المتوسلة الى داخله فعلا دبيب قلبه معلنا عن مدى جهلها بقيمة نفسها فقال محاولا أن يمحو بؤسها الشديد:
-أنتِ تمتلكين العديد من المقومات المميزة التى تتمناها اية فتاة.
-أنت مجامل حقا.
هتفت به ساخرة فأردف بصراحة:
-أنتِ جميلة حقا ,ولا داعٍ كما أعتقد لأن أخبرك بأننى لا أجاملك فهذه هى الحقيقة الواضحة كالشمس.
أخذت تحاول التلهّى عنه بالنظر الى ما حولها فلعن نفسه بسره على تردده حتى حسم أمره فقال ببساطة وكأنه يحادث نفسه:
-لقد عنيت جمالك الداخلى الكامن فى براءتك فى رقتك ,فى اهتمامك باسعاد من حولك ,أنتِ تتفننين فى ابهارى كلما عرفتك أكثر.
أدارت رأسها نحوه ببطء تحاول التأكد من أنه قد تفوّه بهذه العبارات التى سمعتها منذ لحظات فوجدته محدّقا بعينيها برجاء صامت ,ولكنها رفضت ان تمنحه أى أمل فتساءلت هازئة:
-هل عرفتنى حقا يا جاسر ؟ لا أظن ذلك , كنت منشغلا بالتودد الىّ حتى تستغلنى وصولا الى مرادك.
وقبل أن يحاول تصحيح خطأ مفهومها عن طبيعة العلاقة التى ربطت بينهما فى السابق ,رأى الجميع يتجه الى منتصف القاعة بعد أن أعلن مقدّم الحفل عن افتتاح الرقص ...
فوضع يده على خصرها بسيطرة محكمة ليجبرها على الانضمام اليه كثنائى فى الرقصة الأولى على أنغام الموسيقى المنسابة عبر ارجاء القاعة الواسعة فلم تتمالك نفسها من الشعور بأنها دمية تتلاعب بها الايادى كيفما تشاء وكأنها بلا ارادة ,أدارها بقوة لتمسك بيده وتلقائيا رفعت يدها الأخرى تلقيها فوق كتفه وهو يمسكها بحزم بالغ كأنه لا يثق بأنها لن تحاول الهرب منه ,كان يمكنها أن تفلت منه بعزم شديد اذا ما أرادت الا اذا لم تكن ترغب باثارة ضجة فاضحة هى فى غنى عنها.
قالت متأففة بصوت خفيض:
-لماذا تصرفت هكذا ؟ كان يمكنك أن تطلب منى بتهذيب أن اراقصك ! دون الحاجة لأساليب رجل الكهف هذه.
همس لها بدوره وان كان غاضبا:
-وهل كنتِ ستقبلين ببساطة ؟ أم كنتِ ستتمنّعين رافضة !
-ولو ! أليس هذا من حقى ؟
-ثم ما أدراكِ بأساليب رجل الكهف ,أننى حتى الآن أتعامل معكِ برفق ولين , أحاول جاهدا التحكّم بأعصابى حتى لا أؤلمك.
-حقا ! لا تؤلمنى ! فلتأتِ أحدثك عن الألم.
-لست أنا من ... آذاكِ ,أنه ذلك الحقير ابن عمك التافه ,ذلك الذى يدّعى خطبتك ثم يرمى بنفسه على واحدة أخرى ليتزوجها.
شهقت بقوة قبل أن تقول ساخطة:
-انظروا من يتحدث ! السيد المثالى الذى أخفى حقيقته عنى ,وادّعى ببراءة اهتمامه بى ليصل الى غرض دنئ ,ثم كيف تتحدث عن الخداع وقد سبق وأخبرتنا انك وليلى مخطوبان لنفاجأ بأنها مرتبطة بشخص آخر , أنت ... أنت لا أجد وصفا ملائما لأمثالك.
-اهدأى ! فالجميع سوف ينتبه لنبرتك الغاضبة وربما تتلاعب بهم الظنون حول ما أفعله بكِ.
-أف لكم , أنتم معشر الرجال ,أنانيون متحذلقون.
ارتسمت ابتسامة جذابة على محياه وهو يقول بتسلية:
- يا الهى ! أنك حادة الطباع الى درجة مخيفة , لم أكن اتصور أنه خلف قناع الرقة والعذوبة الذى أراكِ به تخفين هذا الكم من الغل والحقد على الرجال ... من فعل بكِ هذا ؟ هه ؟
صاحت باندفاع وهى تود لو استطاعت أن تمحى هذه الابتسامة التى تضايقها:
-أو تجرؤ على سؤالى ! يا لك من غشاش منافق !
قال وهو يحاول كتم ضحكاته المتعالية:
-لم أعرف ايضا أنك سليطة اللسان الى هذه الدرجة , ما كل هذا الكم من السباب المهذب !
-أكرهك !
كادت تقسم أنها تجمّدت مكانها من الرعب بسبب ما قرأته فى عينيه الزرقاوين من غضب صارخ وتهديد قوى ,لم تحلم بأنها سوف يتأثر لهذا الحد بكلمتها البسيطة كما تبادر الى تفكيرها المحدود ,ولم يستغرق الأمر أكثر من عشرة ثوانٍ قبل أن يكسو الجمود ملامح وجهه كالصخر وعاد ليراقصها بشكل آلى كأن لا حياة تنبض بداخله وهو يهمس معترفا:
-صدقيننى وأنا أيضا مثلك.
دفنت وجهها فى صدره حتى لا يرى مدى حزنها باعترافه أنه يكرهها هو الآخر وقالت تهنئ نفسها بوصولها الى هذا الانتصار : ألم يكن هذا هو مبتغاكِ يا ريم ؟ حينما تعاملينه بازدراء فتدفعينه لكرهك حتى يتألم مثلك ؟
ولشدة الغرابة فهى لم تكن سعيدة أبدا بتحقيقها لهذا الانتصار بل كانت على أتم الاستعداد للتنازل عنه حتى يعاود الاعتراف لها بحبه حتى ولو كان كاذبا.
أما جاسر فلم يكن هذا هو ما يعنيه ,أراد أن يبلغها برسالة مقتضاها : أنه هو الآخر يكره نفسه مثلها , لأنه آذاها وآلمها بالرغم من هيامه بها.
انتهت الأغنية الكلاسيكية لتبدأ أخرى ذات ايقاع أكثر سرعة فحاولت ريم الابتعاد عنه الا أنه جذبها مرة أخرى يراقصها ببراعة وهو يديرها حول نفسها ثم يشدّها بقوة الى أحضانه وقبل أن يتلامسا يبتعد دون أن يفلت ذراعها ويحيطها من الجانب الآخر ,كانا يشكّلان سويا ثنائيا مذهلا متناسقا ومتجانسا بتحكراتهما السريعة على الأنغام الراقصة :
قدري اختارني اكون ليها وانا سلمت وقلبي اختار شفت الجنة فى عينيها ازاى اسيبها واعيش فى النار
أصلها بتفرق فى حياتك واحدة
من اول ما تعيش وياها ملهاش بديل
أصلها بتفرق وأنا عاشق واحدة
وبحب ودايب فى هواها وعينيها فى ليل الغربة دليل
حبها فى قلبى ودى اجمل واحدة ملقتش جمالها ف ولا واحدة
والله ملهاش بديل
أصلها بتفرق فى الشوق والوحدة
ف حياتى وهى هنا معايا الدنيا بحالها مبتسعنيش
أصلها بتفرق وأنا روحى فى واحدة
وبفكر ليل ونهار فيها والشوف بيزيد ما بينتهيش
أصلها بتفرق من واحدة لواحدة .. في واحدة بتنساها بواحدة
وواحدة مبتتنسيش
...........
وبآخر مقطع بالأغنية أخذ يدور بها وهو يحيط بخصرها رافعا ايّاها عن الأرض ثم أفلتها ليجثو على ركبتيه تحت قدميها ممسكا بأناملها الرقيقة صارت جميع الأنظار معلّقة بهما دونا عن العروسين ,ثم أخذ يتأملها بشوق ولهفة قبل أن يعلن بجرأة :
-أود أن أعلن للجميع أننى قد تقدمت طالبا يد الآنسة ريم سليلة عائلة الشرقاوى ,وقد شرّفتنى بالقبول.
ثم أخرج من جيب بنطاله علبة من المخمل الأحمر وفتحها عن آخرها ليخرج منها خاتما من البلاتين مكونا من قلبين متقابلين من الماس الأزرق تحيط بهما عدة فصوص صغيرة من الألماس الأبيض ودسّها ببطء وثقة فى خنصرها الأيمن وهى على حالها من الوجوم والذهول غير قادرة على أن تتحرك قيد أنملة ,تشعر بأن العالم كله قد خلا الا منهما وعيناها تتساءلان تبحثان عن اجابات لأسئلة متشابكة تتوسلّان اليه حتى لا يمزّق روحها بهذا الشكل ,لن تحتمل صدمة أخرى منه هو بالذات ... جاسر ... ما الذى يهدف اليه بهذه الكذبة ؟ أنه لم يطلب منها الزواج وهى بالتأكيد لم تمنحه موافقتها.
كان جميع الحضور يصفقون بسعادة وانهالت المباركات فوق رأسيهما الى جانب النكات التى أطلقت بشأن ازدواج حفل الخطبة الواحد الى اثنين ... وقفت ريم شاردة تشعر بأن البساط قد انسحب من تحت قدميها ... وحيدة ... بلا عائلتها ... بلا والديها ... بلا أخيها ... بلا سند ... عليها أن تقرر مصيرها بنفسها ... كان عليها أن تختار بين الانصياع لرغبة جاسر بالتلاعب بها وبعواطفها مجددا وبين الرفض الذى هو قطعا الحق الأمثل والأكثر واقعية الا أنه أكثر اثارة للجدل والفضائح لسمعة العائلة وأفرادها ... نظرت اليه تواجهه بحدة وكأنها تستنجد به أن يرحمها من عذابها وألّا يجرحها بهذه الصورة فجراحها ما زالت تنزف ولم تلتئم بعد ,أتستمد منه هو قوتها ؟ أتناشد جلّادها بانقاذها ؟ وهل يعقل هذا ؟
راعها اختلاف نظراته عمّا توقعته ,, كانت تنتظر رؤية الشماتة والانتصار واضحين بعينيه ,الا أنها شعرت به خائفا مترددا وهو ما زال جاثيا على ركبته فى انتظار اشارتها بالموافقة على كلامه ,كان يتأملها كمن يراها المرأة الكاملة الوحيدة ويدرك أنها هى فقط من يتمنّاها دونا عن النساء الأخريات ... امرأة حياته ... حبه الأزلى ...
تزلزل كيانها وانهارت قشرتها الواهية التى تظاهرت بصلابتها وهى تحيط نفسها بها , عادت لوهلة الى سيرتها السابقة .. ابتسمت ببطء وبشكل مدروس وهى تهز رأسها بحركة خفيفة فنهض جاسر على قدميه ليحيطها بذراعيه وكأنه يهدف الى حمايتها من الجميع الذين اخذوا يتهافتون عليهما للتهنئة ,الا أنه فى قرارة نفسه كان يحاول حمايتها من اندفاع مشاعره نحوها فها هى كان لديها القدرة على رد الصفعة الى وجهه بتكذيبه او على أقل تقدير اعلان الرفض ,وبالنهاية اختارت أن تجاريه بلعبته , قالت لنفسها : اذا كنت تريد اللعب بهذه الطريقة فلا بأس ,أنا مستعدة للمباراة.
لم تتحمّل رؤية الغضب ماثلا فى عيون أبناء عمومتها ,فلا بد أنهما يعتقدان بأنها قد أخفت هذا الأمر عنهما عن سبق اصرار ... وانكمشت على نفسها حينما دنا منها سيف وكأنه يبارك لها فقال مؤنبا:
-ريم .. ما الذى تفعلينه بنفسك ؟ فلا ضرورة لالقاء روحك الى الجحيم بسببى ...
قبل أن تستطيع اجابته بكلمة واحدة ( مغرور ) كان الرد جاهزا على لسان جاسر الذى أخذ يضمها اليه بحماية قائلا بحزم:
-شاكرين لك نصيحتك ولكننا لسنا بحاجة اليها ,فاحتفظ بها لنفسك.
كاد سيف أن يحطم وجهه بقبضة يده الا أن كريم قد سبقه فأحكم سيطرته على ذراعه ليجبره على خفضها بينما غمغم ببضعة عبارات مجاملة فارغة حفاظا على المظاهر الاجتماعية فزفر سيف غضبا وقال مهددا:
-سوف تدفع الثمن غاليا يا هذا ,,, فنحن لن نسمح لك بايذاء ابنة عمنا أو استغلالها لمصالحك الشخصية.
-هذا هراء ! أنا أحب ابنة عمك وأرغب بها زوجة لى.
-حتى تحصل على أكثر من نصيبك بميراث العائلة ثم ترميها بعد ان تنال غرضك.
-أنت مخطئ للغاية , أنا أريدها شريكة لحياتى حتى ألفظ أخر أنفاسى.
ثم استطرد بصرامة:
-واذا كنت أنت لا تعرف الأصول وتجهل كيف تصون جوهرة نفيسة مثل ريم فأنا غيرك ... أقدّرها جدا.
-كفى ! أرجوكما ... لا نريد أن تصبح سيرتنا علكة تلوكها الألسن.
توسلّتهما ريم بصوت مرتعب خشية أن تتناثر الأقاويل حولهما هنا وهناك ,فشدّها جاسر اليه أكثر وهو يهمس بأذنها:
-لا تخشى شيئا وأنا الى جوارك فلن أسمح لمخلوق بأن يأتى على ذكر سيرة زوجتى ولو بحرف واحد.
نظرت له بعمق وهى تقول بأسى:
-اذا كنت جادا بكلامك فلمَ اقدمت على هذه الفعلة من الأساس ؟
انعقد حاجباه بقوة وهو يسألها باندهاش:
-ماذا تقصدين من كلامك ؟
-أنت تفهم ما الذى أعنيه ,هذه التمثيلية بدءا من الرقصة وعرض الزواج وانتهاءا بالخاتم.
ثم حدّقت بالخاتم الذى كان يلتمع تحت الأضواء متلألئا بقوة وأنكرت على نفسها اعجابها بذوقه الراقى فى الاختيار ,فأدارها نحوه قبل أن يضع يده تحت ذقنها ليرفع وجهها الذى اخفضته تنظر الى الأرض قبل أن يقول بجدية:
-من قال بأنها تمثيلية ؟ الرقصة كانت أكثر من رائعة وقد استمتعت بكل ثانية منها وعرض الزواج حقيقى بلا جدال أما عن الخاتم فقد سبق وابتعته لأنه راق لى.
أجابته بصوت مرتجف:
-أنت لم تطلب منى الزواج ؟ ولا أنا وافقت ؟
تراقصت ابتسامة متلاعبة على شفتيه قبل أن يهتف :
-وماذا حدث للتو اذن ؟ لقد شهد علينا أكثر من مئة شخص ويمكننى الاستعانة بشهادة أقرب الناس اليكِ على موافقتك , هل تريدين التخلّى عنى الآن يا ريم بعد لحظات من اعلان خطبتنا ؟
-أنت مجنون بلا شك ! لقد ...
-لقد وافقتِ يا حبيبتى على الاقتران بى ونحن الآن بحكم المخطوبين كليلى وخالد تماما ,بل واجرؤ على القول بأننا قد خطفنا منهما الأنظار وقد ارتديتِ خاتمى قبل العروس صاحبة الحفل.
كان يتشدّق امامها بحصوله على موافقتها دون مراعاة لأية اعتبارات أخرى فقالت تتهمه:
-كنت مجبرة على مجاراتك.
رفع حاجبا بنزق وهو يقول مصرحا:
-كان يمكنك الرفض ...
-كيف ؟ وأثير فضيحة علنية لعائلتى ؟
-حبيبتى لا تنكرى أنكِ أردتِ الموافقة بداخلك حتى ولو كنت تحاولين اظهار العكس ,أنا فقط اخترت التوقيت المناسب لا أكثر ولا أقل.
-يا لك من مخادع حقير ! أتدّعى أننى أنا من سعيت لهذا كله ؟
حدّجها بنظرة قاتمة وهو يضغط على مرفقها ليدمدم من بين اسنانه:
-اسمعى يا جميلتى من الآن فصاعدا لن أسمح لكِ بالتجاوز معى بهذه الألقاب التى تطلقينها علىِ بلا هوادة ,لقد نفد صبرى معكِ ... أنتِ حقا طفلة أفسدها التدليل ... ولكننى أعرف كيف أروّض الوحش الصغير بداخلك ,وعليكِ منذ هذه اللحظة أن تعامليننى بمنتهى الاحترام فأنا خطيبك وسوف اصبح عمّا قريب زوجك حتى يفرّقنا الموت.
صاحت باندفاع على الرغم من ألمها:
-عشم ابليس بالجنة !
قست قبضته أكثر وهو يتوعّدها قائلا :
-اذن أنتِ لا تودّين تسهيل الأمور علينا ,, ألم أخبرك أن تكفّى عن نعتى بهذه الألقاب السيئة ,,والا ...
-والا ماذا ستفعل ؟ هل ستضربنى ؟
ضحك ساخرا من سذاجتها واقترب منها أكثر هاتفا بحنق:
-كلا , سأفعل هذا.
قبل أن يغرفها بعناق قاسٍ حاولت جاهدة أن تدفعه عنها الا أنه كان أكثر قوة منها فاستسلمت مرغمة حتى ينتهى من عقابه لها والذى تحول مع الوقت الى عناق اشد حرارة من صيف أغسطس ,ثم أزاحها بعيدا عنه بخشونة وهو يردف بصوت متهدج تأثرا بما حدث:
-أنتِ رأيتِ بنفسك ما يمكن أن يوصلنا اليه عنادك فلا تبدأى باختبار طول بالى على تصرفاتك الطفولية ,لأننى بالمرة المقبلة قد أفقد السيطرة على نفسى ولن أتوقف عند هذا الحد ... هل تفهميننى ؟
ارتبكت احراجا مما يعنيه فأشاحت بوجهها بعيدا ,الا أنه أصرّ على الحصول على جوابها فصاح قائلا :
-لم أسمع جوابك.
كزّت على أسنانها بحقد وهى تقول:
-حسنا.
-وشئ آخر ؟
-ماذا هناك ؟
أشار بيده اليها من قمة رأسها الى أخمص قدميها بمغزى قم قال بصوت كالرعد:
-عليكِ أن تغيّرى من طريقة ارتدائك لهذه الملابس , لا أثواب قصيرة ولا أكتاف عارية بعد اليوم.
نظرت له فاغرة فاها وهى تقول بصوت متقطع من الانفعال:
-هل سوف تتحكّم بملابسى منذ الآن ؟ هذا تجبّر وظلم ,لماذا تريد منعى من ارتداء الملابس التى تليق بى ؟
-ليست المسألة تحكم ولا تجبر أنا فقط أغار ... لا اريد لأحد أن يرى منكِ شعرة واحدة ولو كان الأمر بيدى لأخفيتك عن عيون البشر ,واذا كان على هذا النوع من الملابس فاذا كنتِ ترغبين باقتنائه فلا بأس يمكنكِ ارتدائه لى أنا وحدى .
غزا الاحمرار وجنتيها بعد أن غمزها بوقاحة وهى تضرب كفا بكف قائلة:
-لا أصدق نفسى هل من يتحدث هنا رجل يعيش بالألفية الثالثة ؟ أنت تريد العودة بنا الى عصر الجوارى ,حيث السيد المطاع الذى يأمر وينهى وعلى امرأته السمع والطاعة العمياء.
ضاقت عيناه قبل أن يقول بصوت عذب:
-سوف أتمتع جدا بتنفيذ كلامك هذا بنفس الصورة التى رسمتها ,والأيام بيننا يا ريم لأثبت لكِ صدق كلامى.
-هل من أوامر أخرى ؟
-نعم أمر أخير ... ممنوع منعا باتا أن تعبثى مرة أخرى بخصلات شعرك ,ستتركينه حتى يستطيل أكثر مما كان عليه سابقا ,مفهوم ؟
- يا ربى ! أنت لا تطاق !
-ماذا ؟
-حاضر , أية خدمات أخرى ؟
-الى اين أنتِ ذاهبة ؟
اشارت نحو جدتها الجالسة على مقعد وثير بالقرب من الجد عبد الله وقد اندمجا بحديث ودىّ وقالت باختناق:
-سوف اذهب لأرى أنّا شريفة ,أم أنه علىّ أن أستأذن قبل أن أتحدث الى أحد ؟
جذبها اليه وهو يقول بجدية:
-كلا اتركيهما لحالهما , ولا تقاطعى حوارهما.
سألته وقد أحست بأن هناك أمرا يخفيه عنها جاسر:
-لماذا ؟
-لا بد أنهما يتحدثان بأمر خاص ,ثم ألا تتفقين معى على أنه من الأجدر بالعروس السعيدة أن تبقى الى جوار خطيبها بدلا من التنقّل هنا وهناك ,هذا حتما سوف يترك مجالا خصبا للشائعات.
-.............
-هذا أفضل حتما.
وتأبط ذراعها مزهوا قبل أن يوجهها نحو والدته لتقبّلها بمودة وهى تشير نحو ابنها الذى ابتعد قليلا ليتحدث الى أحد الضيوف الذى استوقفه قائلة:
-ها هو جاسر يفاجئنى من جديد ,أرجو يا عزيزتى ألا يضايقك ما قام به.
غمغمت ريم بتوتر:
-لا بأس.
كانت قد تعرّفت الى والدة جاسر مسبقا وتآلفت معها سريعا فوجدتها سيدة رقيقة تتمتع بالأناقة والذكاء اضافة الى خلقها الراقى الذى يتمثل فى سلوكها المرحب ونبرتها الودود على عكس شقيقتها والدة العروس والتى صافحتهم جميعا بتكبّر وخيلاء بكلمات مقتضبة ,فلم تشأ أن تسبّب لهذه السيدة الجميلة الخلق أى ازعاج حينما وافقتها على قولها:
-أعرف بأنكما متفقان على كل شئ منذ مدة وهو كان يتحيّن الفرصة المناسبة لاعلان ارتباطكما ,, ولكننى لمته بشدة فكان عليه الانتظار حتى رجوع والديكِ من السفر,ولكن تسرّعه غلبه أخيرا أو لنقل أن الغرام هو السبب.
-غرام ؟؟؟
ربتت السيدة شريفة والدة جاسر على كتفى كنتها المنتظرة بحنان الأم وهتفت بجذل:
-نعم يا حبيبتى فجاسر أخبرنى بلقائكما السابق ,, هذا شئ فى منتهى الرومانسية أن تتقابلا وتقعا بالغرام دون أن تعرفا بالصلة التى تربطكما سويا .
لم تنتبه المرأة لشرودها فواصلت ثرثرتها المتواصلة قائلة:
-لا تعرفى كم كانت سعادتى حينما ذهب الى الجواهرجى منذ أربعة اشهر ليوصيه من أجل اعداد هذا الخاتم الذى يتألق باصبعك.
-آسفة , لم أنتبه جيدا لما قلته .. منذ اربعة أشهر ؟
-نعم يا عزيزتى ,لقد كان يعد الأيام لينتهى جده من الشؤون المتعلّقة بالميراث حتى يتقدّم الى والدك ...
-أمى ...
صيحته القوية أفزعت ريم التى انتفضت بشدة فيما أضاف بصوت أكثر نعومة وهو يرسم على وجهه ابتسامة دبلوماسية لوالدته التى بترت عبارتها:
-أعتذر اذا أجفلتك يا أمى ولكننى أرى خالتى واقفة هناك تحاول لفت انتباهك .
-حسنا ساذهب لأرى ما تريده فريدة , بعد اذنك يا بنيتى.
تمتمت ريم بصوت يكاد يكون مسموعا:
-تفضلى.
وهى تحدّق بوجه جاسر المتصلّب الذى أخذ يتساءل عن كم الأسرار التى باحت بها والدته خلال الدقائق المعدودة التى غابها عنهما هى وريم راجيا الله ألا تكون قد تمادت كثيرا فأخذ يحاول أن يستشف من ملامحها أية دلالة على معرفتها بسره الغالى وحينما أخفق فى معرفة ما حدث سألها مباشرة:
-هل كنتما تتحدثان عنى ؟
تصنّعت ريم البراءة وهى تقول بعفوية بصوتها الرقيق:
-لم أكن أنا ,والدتك هى من تبّرعت برواية كافة التفاصيل.
-هل تحاولين اخبارى بأنه لم يراودك أى فضول بخصوصى ؟
اعترفت ببساطة وهى تعض على شفتيها خجلا:
-لم أقل هذا ابدا ...
خصّها بابتسامة رقيقة وهو يداعبها بلمسة خفيفة على خدها قائلا:
-جيد فاذا كنتِ أنكرتى لكان لى معكِ شأن آخر.
كانت عيناه تغازلانها بنظرات خاصة تحمل الكثير من المعانى الخفيّة مما اضطرها لأن تخفض بصرها حياءا مما أثاره بداخلها من أحاسيس ظنّت أنها قامت بدفنها بفعل خداعه لها ,مما أكّد لها أن هذا الحب الذى تكنّه له لن يموت أبدا.
سمعته يحدّثها بأمر ما الا أنها كانت شاردة البال فلم تميّز جيدا ما قاله حتى أعاد عبارته ثانية:
-ريم ...
نظرت له بفضول وهو يتلفظ باسمها بهذه الطريقة الساحرة:
-نعم يا جاسر.
-عليكِ أن تعديننى بالتزام الحدود المتعارف عليها فى التعامل مع كريم وسيف.
تنهدت بعمق وهى تتساءل باشمئزاز:
-أتصدق عنى أننى قد أتجاوز مع أيا كان ؟ لقد نشأنا معا فى بيت واحد والى الآن نحيا سويا وبالرغم من اعتقادك السيئ الا أننى أعرف حدودى جيدا.
وأولته ظهرها بنفور واضح فأحاطها بذراعه خشية ان تفر منه الا أنها ظلّت ثابتة بمكانها لا تنظر الى وجهه , فقال بصوت هادئ:
-لا يمكننى أن أظن بكِ شيئا ,فقط مجرد هذا الخاطر الذى ترددينه ببساطة عن حياتك معهم بذات البيت يثير جنونى الى أقصى الحدود ,وأنا أتخيّلكِ تقضين يومك بأكمله فى رفقتهم تبتسمين , تتحدثين , تشاركينهم فرحهم بينما أنا ... بعيدا جدا عنكِ.
وفجأة انهمرت الدموع غزيرة من عينيها مما جعله يمد يده ليمسح آثارها التى بللت وجنتيها بلمساته الحانية فقالت من بين نحيبها:
-أنت لم تكن يوما بعيدا عنى.
-اذن لا قبلات ولا أحضان من أى نوع ولو كانت أخوية.
ضحكت على الرغم منها بسبب حديثه ,أيعقل أنه قد صدّق ادعائها السابق ؟
فعاد يسألها باهتمام:
-يا ترى هل يمكنك أن تشرفيننى بمعرفة سبب ضحكك الآن ؟
لم ترد عليه بل استغرقت أكثر فى ضحكاتها التى بدات تتحوّل الى نوع من الهستيريا فهزها بعنف حتى تهدأ معاودا سؤاله هذه المرة بحدة أكبر:
-ريم ... ما الذى يدفعك لهذا الضحك ؟ نحن نتحدث هنا بجدية.
أخذت تشير له من حين لآخر وهى تقول بصوت متقطع من أثر الضحك بينما تعد على اصابع يدها الواحدة:
-لأننى لم أقبّل رجلا بحياتى سوى اثنين هما : أبى وأخى ... اممم انتظر , وأظن جدى ربما قبّلته مرة أو اثنتين أما عمى فلم يحدث قط.
بدأت البسمة تعلو وجهه بينما يجاريها بالحديث حتى يصل الى الحقيقة التى ترضيه فقال :
-ألم تنسى أحدا فى تعدادك ؟
قطبت حاجبيها الرقيقين قبل أن تغمغم :
-أتقصد سيف وكريم ؟لا أعتقد أنك تصدق هذا عنّا فلا أبى ولا عمى كانا سيسمحان لنا بتبادل القبلات حتى ولو كانت أخوية كما تقول.
نظر لها بابتسامة ظافرة قبل أن يضيف منتشيا:
-نحن لا نتحدث هنا عنهما ... أنا أتكلم عنى أنا.
حاولت أن تتذكر ما الذى يدفعه لهذا الحوار حتى شهقت فزعا حينما راودتها الذكرى فحاولت أن تتوارى عن مرمى بصره الا أنه كان أسرع منها فسبقها يسد عليها المخرج الوحيد المتاح للهروب ووضع يديه بخاصرته قبل أن يقول مشاكسا:
-اذن فأنا الوحيد الذى نال شرف الحصول على قبلة منكِ بغض النظر عن أبيكِ وأخيكِ وجدكِ.
-جاسر !
هتفت به مؤنبة ثم استطردت بحرقة:
-أرجوك يا جاسر دعنى أذهب.
أمسك بمرفقيها وهو يغالب فكرة شيطانية تختمر بذهنه ألا يسمح لها بالمرور أبدا قبل أن يحصل على اجابة شافية فبادر بسؤالها مجددا:
-ليس قبل أن تروى فضولى ,, هل أنا مميز لديكِ الى هذه الدرجة لتمنحيننى أنا وحدى هذا الشرف ؟
أجابته متصنّعة اللا مبالاة:
-كنت أحاول اغاظتك فقط ليس الا ...
- ريم !
حذرتها لهجته المتوترة بألّا تكذب عليه فأضافت ببساطة:
-وعلى كل حال لقد كانت فعلا قبلة أخوية.
-ريم !
نظرت له ناعسة وقالت بعد أن عرفت موطن قوتها الجديدة:
-واحزر ايضا لن يتكرر هذا الأمر مرة ثانية.
-حتى ولا بعد زفافنا ؟
-يمكنك أن تحلم كما شئت فالأحلام مجانية.
زيّنت وجهه نظرة رضا تام بعد أن أدرك لعبتها فأفسح لها مجالا للخروج وهو يشيّعها بنظراته الوالهة قائلا:
-حسنا يمكنك الهروب الآن ولكن لا تظنى أنه سيكون بوسعك الاستمرار على هذا المنوال ,سيأتى يوما لن تهربى الا لتسكنى الىّ أنا فقط.
############