الفصل الثالث
************
هل أتصل به ؟ أم لا ؟
ظلت فكرة اجراء هذه المكالمة تراودها بين الحين والآخر ,لا تجرؤ على الاقدام على هذه الخطوة كما لا تستطيع اقصائها من بالها ,عانت الأمرين مع ابنها بعد كشفه لحقيقة العلاقة القديمة بينها وبين صلاح على الرغم من نقاء هذه العلاقة وخلوها من كافة الشبهات ,وهى تتفهم مشاعر كريم جيدا فهو نشأ دون أب الى جواره وكانت هى بالنسبة له الأم والأب معا ,تعلّق بها بشدة واعتبرها آية مقدسة لا يمكن المساس بها فمن الطبيعى أن يشعر بالصدمة ويغار عليها أيضا ,فيرفض الاعتراف بحقها فى الاحساس بمشاعر الحب مع رجل آخر حتى وهى أرملة لرجل هجرها بارادته واقتسم الحياة بحلوها ومرها مع امرأة أخرى ,أجمل منها وأصغر سنا ... بينما بقيت هى زوجته اسما فقط حتى توفاه الله.
ولا تنكر أنها خائفة للغاية من رفضه لأية صلة بها خاصة وقد سبق وأعلنها صراحة أنه لا يقبل أية علاقة تربط بين ابنته وابنها ... ابن وجدى ,وفى قرارة نفسها تولّد شك رهيب بأنه رافض لوجودها هى بحياته بأية صورة من الصور ... فكيف تجرؤ على الاتصال به لتسأله المساعدة ؟
حسمت هناء ترددها أخيرا وقررت أنه من الخير أن تقوم بالمحاولة وتتحمّل كافة نتائج هذه المغامرة الغير محسوبة العواقب ,,, لا يمكن أن تبقى بهذا الوضع تتقلّب على نار هادئة فلتفعلها والآن ... نعم الآن حتى لا يغلبها التردد فتتراجع مرة أخرى ,, سوف تهاتف صلاح ... وببطء شديد لمست بأطراف أناملها شاشة هاتفها تبحث عن اسمه مسجلا فى قائمة الاتصالات ,وكادت أن تضغط على زر التأكيد لاجراء المكالمة قبل أن تندم على ضياع الفرصة ,فظل أصبعها معلقا على بعد سنتيمترا واحدا وتسمّرت كليا وكأن عقلها قد شل عن التفكير أو القدرة على التصرف ,فقدت احساسها بمرور الوقت وهى على ذات الحال ... ثم تنهدت بعمق وأسبلت جفنيها لتتراقص صورة بخيالها ... صورة وجدى التى أخذت تتضخم وتتضخم بينما تحاول هى يائسة أن تمحوها من ذاكرتها لتحل محلها صورة أخرى لرجل وقور , ربما هو ليس أكثر وسامة بيد أن ملامحه مألوفة وعينيه تشع دفئا ملحوظا وصوته يرن بأذنيها .. حانيا رقيقا ,ثم وبأقل من جزء من الثانية أجرت اتصالها ,ظنت أن صوت الجرس أخذ يرن الى ما لا نهاية ,وأملت أنه ربما لن يجيب على مكالمتها ,تجاهلا منه لها أو ...
-آلو.
صوته الرزين تردد حتى ملأ كيانها وتشعب الى أعماق خلاياها فتسلل الى قلبها الذى كان يدق متسارعا وكأنها عادت فتاة مراهقة تتخفى لترتشف قطرات العسل من حبها الأول ,,, مهلا لم يكن أبدا حبها الأول ,, كان وجدى هو من أسر قلبها الصغير البرئ وكيف لا وهو صديق طفولتها وفتى أحلام مراهقتها ,, الأدق بالتعبير هو أنها كانت مفتونة به الى درجة أعمتها عن رؤية أى شخص آخر ,حملها اعتقادها بأنها بزواجها من ابن عمها سوف تحافظ على نصيبها من الميراث وتنال حقها الذى حرمها منه عمها المتسلّط المتحجر القلب ,لم تدرك أنها بيديها حفرت قبرها ورسمت لوحة بؤسها وشقائها الأبديين فخسرت نفسها.
-آلو ... هناء ؟ هل أنتِ معى ؟
صوته الذى عاد يتردد فى اذنيها أعادها للواقع فابتلعت ريقها بصوت مسموع قبل أن تنجح فى قول كلمة واحدة :
-نعم.
خرج صوتها خائفا مرتجفا يكشف عن مدى توترها وقلقها ..
-هل أنتِ بخير ؟
-نعم ,كيف حالك ؟
-الحمد لله.
-وهديل ؟
اعتقدت بسماعه يزفر بحرقة قبل أن يقول بجمود:
-بخير كما تعرفين.
ضاقت عينها وهى تقول بتمعن:
-ما هو الذى أعرفه ؟ هل ألم بها شئ ما ؟
-أتحاولين خداعى أم اقناعى بأنكِ لا تعرفين حقا يا هناء ؟
-ما هو الذى أحاول خداعك بشأنه ؟ صلاح أنا لا أفهمك .
-بخصوص هديل ... لقد قام ابنك بازاحتها من طريقه فنقلها الى قسم آخر لا يتناسب معها أبدا ألقاها بعيدا كلفافة من القمامة حتى لا تلوّث مكتبه.
-ماذا تقول ؟ هل أنت جاد ؟
كان صوتها مستنكرا صريحا فعلى ما يبدو أنها صادقة فى نفيها لمعرفتها بالأمر حتى أخذت حدة لهجته تخف تدريجيا فاستطرد بهدوء:
-نعم هذا ما حدث فعليا.
-وما هو السبب ؟
-لا أكاد أصدق نفسى ,, هل تمزحين معى ؟ السبب ؟ السبب بسيط هو ينتقم منى بازدرائه لابنتى الوحيدة ... قرة عينى .. يؤذيها هى ليؤلمنى أنا ... ولو كان رجلا حقا لواجهنى شخصيا دون اللجوء لمثل هذه الطرق المتدنية ...
- مهلا يا صلاح .. ربما ليس الأمر كما تتصور ..
-أرجوكِ يا هناء .. لست غرا حتى لا تصلنى الرسالة الغير مكتوبة ,أنتِ لا ترين كيف هو حالها الآن ,لن تعرفينها بلا شك اذا مرت الى جوارك ,أصبحت صامتة مكتئبة , تأكل بالكاد ما يكفيها لتعيش وبعد الحاح وضغط منى ,,, لم تعد ابنتى التى أعرفها حتى ملامحها تغيرت .. وبعد هذا كله تقولين أن الأمر ليس كما أتصور.
-أقسم لك أننى لك أكن أعرف بما جرى ,صلاح ... أنت لا تظن بأننى أنا وراء هذا القرار ؟
كان فى صوتها رنة استعطاف ورجاء أن يبرئها من هذه الجريمة بحق وحيدته فأجابها ببطء :
-لا يهم يا هناء من كان وراء هذا القرار , كل ما يعنينى هو ابنتى ,أننى أفقدها كل يوم ... أريد استعادة هديل , أريد ابنتى التى أعرفها ...
وكانت آخر كلماته صراخا وكأنه يستجير بها لتنقذ غاليته من الضياع ,فشهقت هناء متألمة ثم أردفت قائلة بنشيج باكٍ :
-صلاح أهدأ بالله عليك , لا تفقد تماسكك وثباتك فهديل الآن بأمس الحاجة لمساندتك ودعمك ,,, لا أدرى ماذا اقول ولا كيف أتصرف ,أنا نفسى لم أعد أصدق تصرفات كريم هذه الايام ,صار شخصا غريبا عنى ليس هذا ولدى الذى ربيته بيدى ,بحياته لم يؤذِ أحدا عن عمد ...
قاطعها صلاح هادرا:
-ولكنه مع ذلك أذى ابنتى , مع سبق الاصرار والترصد.
هتفت هناء بلا وعى :
-هو يحبها ...
ردد صلاح مذهولا:
-يحبها !! كيف تريدين منى التصديق ؟
-نعم ,أنا متأكدة من ذلك ,هو اعترف لى بنفسه ...
-بالرغم من عدم اقتناعى بما تقولينه الا أنه هذا لا يفيد بشئ ,فما نفع هذا الحب اذا ما كان دافعا لالحاق الأذى بها بهذا الشكل ؟
أغمضت هناء عينيها وقالت بصوت مرتعش:
-أحيانا نؤذى من نحب بدون ارادة منا ,أو على الأقل نتصرف هكذا باضطرار.
-لااااااا ,عندما نحب حقا نضحى من أجل من نحبهم ,نبذل النفيس والغالى من أجل اسعادهم ,ربما يصل الأمر الى حد ايلام النفس حتى نحميهم من الأذى , ولو وصل الأمر الى اتخاذ قرار الابتعاد عن حياتهم ولو كان هذا هو الموت بعينه.
عبارته اصابتها فى الصميم مباشرة ,أنه يتحدث عن مشاعره نحوها التى دفنها عميقا حتى لا يؤثر على حياتها مع وجدى بعد أن فضلّته عليه ... كان جرحه ينزف بغزارة رافضا الالتئام حتى مه مرور كل هذه السنوات ... غاضبا منها ومن قرارها الظالم بحقه .. اعترفت ببساطة:
-أحيانا ... نتصور أننا نحميهم بهذا القرار والعكس هو الصحيح ,ربما كان علينا أن نقاتل من أجلهم بدلا من الانسحاب.
قال بسخرية مريرة:
-الحب ليس معركة ... طرف يفوز والآخر خاسر ,,, أنه اتحاد روحين ,تؤامة قلبين ,اندماج عقلين ,توافق كيانين سويا ,, ينتصر الطرفان معا أو يهزم كلاهما ...
قالت بأسى:
-أنت محق .. ولكن الندم لا يفيد ولا يعيد ما كان.
صاح وكله أمل ورجاء:
-هل أنتِ نادمة يا هناء ؟
اكتست ملامحها بالحزن وهى تجيبه بهدوء:
-نحن لا نتحدث عنى يا صلاح.
قال بجرأة:
-حقا ظننت لوهلة أنكِ ... تحاولين الاعتذار.
تساءلت هناء مدعية البراءة:
-لمن ؟
-لى.
-وهل أنا مدينة لك باعتذار ؟
أجابها بصراحة:
-أنتِ مدينة لى بحياة كاملة يا هناء.
لم تكن تريد أن يأخذ الحوار منحى شخصيا خاصا بهما فكامل اهتمامها كان منصبا بالأساس على كريم وهديل وعلاقتهما المستحيلة.
-لا أظن ذلك.
-لماذا تتصلين بى اذن ؟
تهربت من الرد بذكاء فبادرت بالقول:
-اسمعنى جيدا يا صلاح ,أنا لم أتصل لهذا الغرض ,كنت أود أن أقدم لك عرضا ,, وأعتقد أنك لن تستطيع رفضه.
قال مستنكرا:
-الى هذا الحد أنت واثقة ؟ ما هو هذا العرض ؟
-اذا التقينا يمكننى أن أشرحه لك تفصيليا.
-واذا أخبرتكِ أننى غير مهتم بهذا العرض المغرى.
-أعتقد أنك ستندم اذا لم تفكر بكلامى ,فلتعطِ لنفسك فرصة لاتخاذ القرار السليم ,كما ان هذا العرض سوف يساعدك على استعادة هديل.
لا ينكر صلاح أنه شعر باغراء شديد لمعرفة كنه هذا العرض الذى تقدمه هناء كما أنها قد أثارت فضوله واهتمامه أكثر حينما أتت على سيرة ابنته ,ما الذى يمكنه أن يعيد اليه هديل المرحة الباسمة مجددا ,والأهم هل يستطيع قبول مثل هذا العرض ؟
-أما زلت معى على الخط ؟
قال وهو يشعر بضيق بالغ :
-طبعا ,حسنا سوف أقابلك لأرى ما تعرضينه علىّ وان كان يستحق التفكير أم لا ,وأحذرك من مغبة التلاعب بى وبابنتى ,فأنا لن أتهاون فى حقها بتاتا.
تسللت ابتسامة خفيفة الى شفتيها وهى تقول بحبور:
-لا تخش شيئا فأنا الأخرى لا أقبل بالمساس بهديل ,مقامها غالٍ لدىّ وأعتبرها كابنة لى.
وأضافت فى سرها : مقامها غالٍ مثل أبيها.
-حسنا ,أين تحبين أن يتم اللقاء ؟
قالت حالمة بصوت خفيض:
-أفضل نفس المكان الذى التقينا فيه سابقا ,هل هذا يناسبك ؟
-وبنفس الموعد ؟
-وهل تذكره ؟
-لا أنسَ شيئا يخصك يا هناء.
غزا الاحمرار وجنتيها رغما عنها وحمدت ربها أنه لا يستطيع رؤيتها وهى على هذه الحالة من الخجل الا أنه يبدو كمن استشعر ما يجرى لها فأضاف بثقة:
-أراهن على أن خدودك قد صارت مثل ثمار الخوخ الطازجة ,هل أنا مخطئ ؟
تمتمت معترضة:
-صلاح ... لا يصح أن يقال هذا الكلام.
-ولمَ لا ؟
-لأنه ... لأننا ...
وعقدت الحيرة لسانها فلم تفلح فى اكمال عبارتها حتى أنقذها هو بقوله مباشرة:
-لأننا سنلتقى وحينها يمكننا أن نتحدث بحرية وجها لوجه.
-أنت غير معقول !
ورنت ضحكتها القوية فى أذنيه مما حدا به أن يتخيّلها كصورة حقيقية مرئية أمام عينيه وود لو استطاع أن ينزع عنها قناع الحزن الذى يكسو ملامح وجهها على الدوام فتكافئه بابتسامة دافئة تنير دربه فنادرا ما كانت تبتسم بالآونة الأخيرة على ما يتذكر.
-لنرَ من هو الغير معقول بعد الاستماع الى عرضك.
-حسنا , اتفقنا.
-الى اللقاء اذن.
وبعد أن أغلقت هاتفها ظلت تحتضنه بصدرها وكأنها تتمسك بآخر بصيص من الأمل لها لاستعادة حياتها الضائعة وابنها الشارد.
أنها تعلّق آمالا واسعة على قبول صلاح بما تريد فهو منقذها الأخير.
#############