كاتب الموضوع :
SHELL
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: زواج على حد السيف (2) سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان
بعد مرور عام ....
كان واقفا أمام مقابر عائلة زوجته .. بعيدا بمسافة كافية ليمنح المرأة الأكبر سنا والتى نال منها الارهاق والتعب بعضا من الخصوصية التى تحتاج اليها وهى تقرأ الفاتحة على روح أختها الراحلة .. كانت تلك السيدة هى أمه .. منى .. والتى أصرّت على مرافقته بهذا المشوار ,دون أن تعير اهتماما لاعتراضاته التى انهالت وهو يحاول جاهدا أن يقنعها بالعدول عن تلك الفكرة , حتى بعد شفائها التام من مرضها العضال .. يخاف عليها من انتكاسة جديدة وقد حذرهم الأطباء من أنه قد يعاودها الألم من جديد اذا ما ظهر ورما آخر , وهو ما كان غير مستبعدا , كما أن العلاج الكيماوى قد ترك اثرا كبيرا عليها , دون ذكر تساقط شعرها , غزت بعض التجاعيد بشرتها الحريرية والتى كانت يوما مثالا للجمال والحُسن , كما أن عينيها أصبحتا غائرتين توحيان بالضعف والوهن.
تململت الطفلتان الصغيرتان فى عربتهما الصغيرة المزدوجة والتى هى معدّة لمثل حالة ابنتيه التوأم .. وردتان رقيقتان .. أورقت أغصانهما .. وتفتحت أوراقهما .. كانتا تقرقران بسعادة بالغة , دون أن تحملا همّا لغدٍ .. هو فقط من عليه أن يقلق .. فقد ترنحت أمه قليلا وهى تنتحب بحرقة , فتقدّم منها عدة خطوات حتى صار بمحاذاتها .. لمس كتفها برفق وهو ينحنى فوق قامتها الضئيلة مقارنة بطوله الفارع ومنكبيه العريضين .. همس فى اذنها بحنان واشفاق قائلا :
-ماما .. يكفى هذا القدر .. تعالى لأوصلك الى السيارة ..
كان جسدها كله يرتجف وهى تغمغم من بين عبراتها المنسابة على خديها:
-رحمك الله يا سهام وغفر لكِ ... لكم اشتقت لها ..
ربّت على كتفها الآخر وهو يضمها اليه مشيرا نحو الطفلتين اللتين أتمتا اليوم عاما واحدا وهو يقول بفخر وسعادة:
-ولكن الله عوّضنا عنهما بسهام الصغيرة ...
ابتسمت منى رغما عن أحزانها الدفينة وهى تمنح الطفلتين نظرة حب ورضا قبل أن تستطرد برقة:
-وأيضا منى الصغيرة .. أنهما بهجة العين ومهجة الفؤاد ...
اعتدل سيف فى وقفته وهو يهتف بسرعة ونزق:
-حسنا يا امى ... هيا بنا الى السيارة , فأبى لن يرحمنى اذا ما أصابك أدنى قدر من التعب ..
مدّت يدها تتناول منديلا ورقيا أخرجه سيف من جيب سترته الخفيفة ثم كفكفت له دموعها قبل ان تعتدل بشموخ وكبرياء لتسير الى جواره ,ولكنها ما لبثت أن توقفت بغتة وهى تضيف فى قلق واضطراب:
-هل ستترك منى وسهام هنا ؟
-لا تخشى شيئا يا ماما , أنها فقط بضعة ثوانٍ ريثما نصل الى السيارة .. أنها ليست بمسافة بعيدة , ثم أنهما برفقة أمهما .. لا تدعى القلق يتملكك.
رنت بنظرة خلفها وهى تشاهد الفتاتين تلوّحان لها بأكفهما البالغة الصغر ,فرفعت يدها ملوّحة بدورها لهما ...
ما أن اطمئن سيف الى أن أمه قد جلست بالمقعد الأمامى فى سيارته فى استرخاء وهدوء حتى عاد متلهفا الى طفلتيه ... والى أمهما.
كان يخاطب طفلتاه بمزيج من الحب والشغف وهو يسألهما:
-أتنتظرانى هنا أن تأتيان معى لنرى ماما ؟
انتظر برهة ينصت لمحاولة ابنته الكبرى منى وهى تتأتئ بحروف مبعثرة ,ونظر الى الصغرى سهام وهى ترنو اليه بنظرات بريئة ممتلئة بكثير من المعانى وهى ترفع ذراعيها عاليا فى محاولة للفت انتباهه حتى يحملها كعادتها كلما لمحته مبتعدا عنها ,, لمدة عام كامل تولّى هو رعايتهما بدون أن يشعر بأى قدر من التعب أو الملل .. أنه يجدد طفولته الضائعة بمعايشة كافة التفاصيل الدقيقة معهما .. كان رافضا لأية مساعدة من أمه أو جدته , لأنه أراد أن يحتفظ بكل الذكريات لأول سنة من عمر ابنتيه له وحده .. وما زال يفعل حتى هذه اللحظة باصرار عنيد.
قال أخيرا لالهاء طفلته التى بدأت فى البكاء حينما تجاهل دعوتها الصريحة ليحملها وهو يدفع بالعربة أمامه:
-حسنا .. لن اترككما بالطبع , كنت فقط أمزح .. بابا لا يمكنه الاستغناء عن أيا منكما ..
توقف أمام قبر آخر صامتا للحظات فى خشوع , تلا الفاتحة ثم استغفر ربه وهو يناجى زوجته قائلا:
-مها .. حبيبتى .. لقد اشتقت لكِ كثيرا ,, والبنتين أيضا .. لا تتركيننا فى الانتظار .. سوف نذهب الآن.
وعاد أدراجه مسرعا نحو السيارة المتوقفة امام مدافن عائلة الراوى حيث تهفو روحه بالقرب من هذين القبرين .. وضع الطفلتان فى مقعديهما المخصصين للسيارة وتأكّد من ربط حزام الأمان لكل واحدة ,ثم استقرّ فى مقعد القيادة بينما والدته تتساءل باهتمام:
-هل وضعت هديل طفلها ؟
أجابها سيف بنبرة خافتة متوترة:
-ليس بعد , فقد هاتفت كريم منذ أقل من نصف ساعة وكانت ما زالت تعانى من آلام المخاض .. حتى أننى قد سمعت صوت صراخها الحاد ,كما أن كريم كان فى حالة يرثى لها حقا.
تنهدت منى بحرقة وهى تتمتم قائلة :
-بالطبع يا بنى , ان الولد غالٍ ,, وغلاوته تأتى من تلك الآلام الرهيبة التى تعانى منها الأمهات أثناء الولادة ..
رفع سيف حاجبا واحدا بطريقة مسرحية وهو يقول بمغزى:
-هذا بالنسبة للأم , ومن أين تأتى غلاوته فى قلب الأب اذن ؟
-لا يشعر الرجل حقا بأبوته الا حينما يحمل طفله بين ذراعيه أما المرأة فهى تحمله تسعة اشهر بالقرب من قلبها ,وتشعر بكافة حركاته ,,وسبحان الله فالأمومة غريزة طبيعية تنشأ منذ البداية .. ولكنها تنمو وتتغذى مع مرور الوقت .. بعد الانجاب.
تناهى الى سمعه صوت انفتاح الباب الخلفى للسيارة ثم بصفعة قوية يُغلق قبل أن يتسلل صوتها العذب الشجىّ مغردا فى وجدانه قبل أذنيه وهى تقول:
-آسفة حبيبى .. هل تأخرت عليكم ؟ بناتى الحلوات .. هيا بنا.
وانطلقت السيارة تشق طريقها نحو العمران مبتعدة عن طريق المقابر بسكونه ووحشته .. حاملة أفراد الاسرة جميعهم.
**************
|