-هيا يا عمى فلتذهب أنت لتنل قسطا من الراحة ,يبدو عليك الارهاق ,كما أن آذان الفجر على وشك أن يُرفع.
انطلقت العبارة من بين شفتى رفيق بمزيج من الاشفاق والحزم وهو يتطلع الى ساعته الأنيقة مشيرا الى عمه , فهز عادل رأسه نفيا عدة مرات وهو يجيب بتقرير:
-لا يا رفيق .. سأبقى هنا مع سيف , لن أتركه قبل أن تفيق زوجته ونعود جميعا الى البيت.
ثم استطرد قائلا:
-لمَ لا تعود أنت الى المنزل ؟ فزوجتك لا بد قلقة عليك .. وأنت أيضا يا كريم .. لقد قمتما بأداء الواجب وأزيد ...
فقاطعه كريم محتجا وهو يهتف معترضا:
-لا يا عمى .. لن نفارق سيف نحن أيضا حتى نطمئن على مها .. هو بحاجة الى وجودنا الى جواره فى هذه اللحظة الحرجة .. ونحن لسنا غرباء حتى تصرفنا بهذه الطريقة يا عمّاه .. وبقاؤنا ليس من باب الواجب ولا التعاطف .. نحن عائلة واحدة .. اخوة ..
أمّن رفيق على كلام ابن عمه وقال مؤيدا بينما ابتسامة خفيفة تزيّن شفتيه:
-كريم محق يا عمى , أعتقد أنه يمكنك الاعتماد علينا فى هذا الشأن ,أرجوك يا عمى عادل .. لا ترفض .. يبدو على ملامح وجهك التعب .. ألا تثق بقدراتنا ؟
ولوى فمه بحركة مازحة تعبيرا عن غضب مصطنع مما دفع عادل لأن يضحك بقوة رغما عن همومه وأحزانه ,ثم قال بجدية بعد أن توقف عن الضحك:
-حسنا يا رجال .. البركة والخير فيكم .. سأعود أنا الى البيت لأطمئن على منى ,فهى تحادثنى كل نصف ساعة لتعرف الأخبار الجديدة ,ولن تهدأ ولن يغمض لها جفن الا اذا كنت معها.
أطلق كريم صفيرا طويلا من بين شفتيه وهو يتلاعب بحاجبيه قائلا بهزل:
-انظر يا رفيق .. هذا هو الغرام الذى لا يقُاوم .. اللهم اوعدنا يا رب , أخبرنى يا عمى كم مرّ على زواجكما ؟
وأخذ يمد يديه متضرعا الى السماء فلكزه عادل فى خاصرته بخفة وهو يقول بزهو وفخر:
-يا حبيبى هذه قدرات خاصة .. كما أن الحب كالآثار تزداد قيمته ويصبح أثمن بمرور الزمن .. ويتغيّر ايضا ..
سأل رفيق باهتمام :
-كيف يتغيّر الحب يا عمى ؟
قال عادل بصوت رزين اكتسب الحكمة والمعرفة من سنوات عمره التى تجاوزت الخمسين:
-بمعنى أن الحب فى بدايته كالطفل .. يبدأ صغيرا فضوليا .. تؤجج نيرانه الغيرة وحمية الشباب ,ثم يتحوّل الى الهدوء .. والثبات والاستقرار بمنتصفه ,الى أن يمتد شامخا عاليا كشجرة ضخمة ذات جذور عميقة .. كالجبل لا يهزّه ريح .. ولكن تظل أفرعها المتشعبة ليّنة تتلاعب بها النسمات من حين لآخر ..
نظر كلا من رفيق وكريم بانبهار فاغرين أفواههما حتى بعد أن فرغ العم عادل من حديثه .. أنه يتحدث عن الحب الحقيقى الصادق الذى ينمو بمرور الوقت ويؤكّد وجوده وأهميته .
نجح كريم أخيرا فى أن يهتف مشدوها :
-أيعنى هذا انك ما زلت تشعر بالحب نحو تنت منى كما كنت فى أول تعارفكما ؟
هز عادل رأسه نفيا وهو يجيب بمودة:
-كلا , لقد توطد حبى لها أكثر وازدادت غلاوتها فى قلبى .. اذا سألتنى أأحبتها فى الماضى ؟ سأقول نعم وولكن ان سألتنى اليوم هل أقوى على فراقها ؟ سأجيبك بكلمة واحدة : مستحيل .. أتعرف لماذا ؟ لأنها حياتى ,وهل يستغنى أحد عن النفس الذى يتنشقه يوميا ؟
انتبه الرجال الثلاثة الى وجود سيف فى هذه اللحظة فقط .. وعلى ما يبدو من معالم وجهه المذهولة أنه قد استمع الى حديث أبيه الأخير كله ,فقد ظل واقفا يحدّق فى وجه عادل وكأنه يحاول استكشاف ما وراء قناعه الجامد الذى كان دوما يرتديه فى معاملته لزوجته حتى كان يخيّل اليه أمه يكرهها الى أبعد حد ولا يطيق رؤيتها .. وقد ظهرت دلائل العشق واضحة على محياه وهو يتحدث عن حب عمره وشريكة حياته بهذه القوة .. معلنا عن حب أقوى من الزلازل .. ابعد من حدود السماء .. أنقى من قطرات الندى .. أوسع من محيط البحار .. حب خالد.
-بابا ؟
وارتمى فى أحضان والده يستمد منه الشجاعة والمؤازرة فى محنته , الأمر ليس سهلا .. فشدّد عادل من احتضانه لولده بذراعيه القويتين اللتين لم تفقدا بعد عزم الشباب ..
-تجلّد يا بنى , وتحلّى بالصبر .. هذا اختبار من الله .. كما أنه عليك الرضا بالقدر مهما كانت النتائج .. أفهمت ؟
ثم أبعده عنه برفق قائلا بصوت جاهد أن يخرج ثابتا على الرغم تأثره البالغ:
-علىّ أن أكون الى جوار أمك الآن .. تعلم أنه ليس هيّنا علىّ أن أتركك فى هذا الوقت العصيب ,,ولكن منى تحتاجنى أكثر منك.
ضافت عينا سيف لا اراديا وهو يتراجع قليلا حتى يفسح مجالا لوالده متسائلا بفضول:
-بابا .. أتخفى عنّى شيئا ؟ وجهك يقول أن الأمر أخطر مما تحاول تصويره لى ؟
أخفض عادل بصره غير قادرا على مواجهة نظرات ابنه المتوسلة التى تخترق شغاف قلبه كسهام حادة ,ثم أطلق زفيرا حارا وهو يقول بتأنٍ:
-كنت أنوى اخبارك بالوقت المناسب .. لم يعد بامكانى اخفاء الأمر عنك .. أمك مريضة جدا يا سيف ,مرضها خطير للغاية ...
قاطعه سيف بلهفة وهو يمسك بمرفقى والده مناشدا:
-خطير ؟ ما هو هذا المرض بالضبط ؟ تكلّم يا أبى.
-منى ... تعانى من ورم بصدرها.
-سرطان ؟؟
هتف سيف مصعوقا قبل أن ينهار مستندا على الجدار خلفه حتى افترش الأرض متربعا وهو يدفن وجهه بين يديه يتمتم لنفسه بلوم وعتاب:
-أنا .. لقد تسببت لها بآلام جسيمة تفوق احتمالها .. لم أكن أدرك معاناتها الخاصة ,يا أمى .. سامحينى .. ضغطت على جرحك النازف مرارا دون أن أعلم .. لم أرحم ضعفك .. وبدلا من أن أطيّب جراحك كالبلسم الشافى .. كنت كالسم الزعاف الذى يلسعه ويجعله مميتا ..
اندفع عادل منحنيا نحو ابنه يسحبه من كتفيه لينهض واقفا على قدميه غير عابئ لمحاولاته الرافضة للتملص منه ,ثم ضربه فى صدره بقوة هاتف بحنق:
-اصمت .. لا مجال لهذا الهراء الذى تتفوّه به الآن .. اصمد .. الرجال لا ينوحون ولا يبكون عند المصائب ..
كان وجه سيف غارقا بدموع ندمه وحزنه على مصاب أمه , فأخرج عادل منديلا من جيبه وناوله لابنه آمرا:
-جفّف دموعك يا بنى .. واشدد عودك .. سنمر من هذه المحنة باذن الله .. لقد تمت معالجة والدتك أثناء سفرنا بالخارج ,وهى الآن أفضل حالا ,لكنها تحتاج لعدة اجراءات تكميلية حتى يتم الله شفاؤها على خير .. وآخر ما تود رؤيته هو ابنها القوى منهارا من أجلها .. علينا أن نساندها بدون أن تخور قوانا .. فهى بحاجة اليك بكامل قوتك وعافيتك , كما أن زوجتك هى الأخرى بحاجة اليك .. لا تترك نفسم فريسة للضعف ابدا .. خذها نصيحة من والدك الذى أدمن الوجع والتلذذ بجلد الذات على مدار السنوات الماضية .. استسلمت للأحزان ولم أقاوم .. وكانت النتيجة التى نعرفها أنا وأنت جيدا .. كدت تضيع منى الى الأبد .. وأنت ابنى الوحيد .. لا تكرر مأساتى.
مسح سيف على وجهه عدة مرات قبل أن ينجح فى الوقوف بثبات وهو يقول بصدق:
-سأفعل يا أبى .. من الآن فصاعدا سترى شخصا جديدا .. وأعدك أن أكون عند حسن ظنكما بى أنت وأمى.
ربت عادل على كتفه بحنان وقال بصوت واضح بينما يساعد للمغادرة نهائيا:
-هذا ما كنت أود سماعه منك .. سنتخطى هذه المرحلة الصعبة .. ونحن معا .. كتفا بكتف .. كعائلة واحدة .
-ان شاء الله .. سأرافقك الى الخارج .
واستأذن الاثنان من الرجلين الآخرين قبل أن ينصرفا سويا .
رفع كريم حاجبا الى أعلى وهو يضم شفتيه قائلا بغبطة:
-يا له من مشهد مؤثر !
نظر له رفيق بتمعن بينما يتأبط ذراعه بمرح وهو يقول محاولا سبر أغواره العميقة:
-أأسمع نبرة حسد هنا ؟ تعالَ لنذهب الى كافتيريا المشفى , ونحتسى فنجانين من القهوة .. يكاد رأسى ينفجر من شدة الصداع.
قال كريم بنعومة:
-كلا يا ابن عمى , أنا لا أغار من أيا منكما .. فأنتما تمتلكان أبا واحدا أما أنا فلدىّ اثنان .. بالعكس أنا أشعر بالسعادة لأجله .. أخيرا ستحقق له ما تمنّاه .. وسيلتم شمل الأسرة.
طلبا اثنين من القهوة المضبوطة .. وأخذا يرشفان السائل البنى قوى الرائحة ببطء واستمتاع على الرغم من رداءة البن المستخدم ,, هتف كريم بامتعاض واضح:
-أين قهوتك يا عبير ؟ هذه لا تقارن بها على الاطلاق.
عقد رفيق حاجبيه مقطبا قبل أن ينفجر ضاحكا وهو يتساءل:
-عبير !! هل غيّرت فتاتك اسمها ؟
أجاب كريم بغموض:
-كلا .. أنها واحدة أخرى.
-حقا ؟!!! ومن هى ؟
-صانعة القهوة الممتازة .. لا بد أن تتذوقها من صنع يديها ,وبعدها لن تستطيع احتساء هذا الكوب.
-على العموم أنا أتفق معك أن هذا السائل بشع المذاق ,ولولا اننى أحتاج الى جرعة الكافيين تلك حتى أحتفظ بصفاء ذهنى وقدرتى على المواصلة لقذفته فى وجه عامل الكافتيريا, ولكن ما حكاية تلك صانعة القهوة .. ما اسمها ..
-عبير.
انضم اليهما سيف وبيده هو الآخر كوبا ورقيا تنبعث منه رائحة النعناع العطرية ,جلس بأريحية تتناقض مع مشاعره السابقة وقال بتعجب:
-من عبير هذه ؟ هل فاتنى شئ هام يا رجال ؟
اشرأب كريم بعنقه متأملا الكوب بيد ابن عمه وسأل بضيق:
-ماذا تشرب ؟ شاى ! منكّه بالنعناع ! كيف فعلت هذا ؟
-لا شئ فقط طلبت شايا ,واذا كنت ستموت فضولا على كيفية وصول النعناع الى كوبى ...
وأخذ سيف يعدّل من هندامه ويسوّى خصلات شعره الناعمة التى تهدلت على جبينه قائلا بغرور:
-فقد استعملت سحرى الخاص .. بمجرد أن أشرت الى الفتاة العاملة الى أننى لا استطيع تحمل مذاقه بدون النعناع سارعت لاحضار بعضا من الأعواد الطازجة ..
-لو كنت أعلم لطلبت أنا أيضا.
ألقى كريم عبارته بمزيج من السخط والتبرم واستطرد وهو يرمى ابن عمه بنظرات حقودة:
-فهذه القهوة لا تطاق .. مجرد رائحة بلا مذاق.
اقترب سيف بوجهه من كريم وهو يرفع أصبعا محذرا فى وجهه قبل أن يغمزه بخبث قائلا:
-لا تحلم بأن تهرب من الاجابة .. من عبير هذه , أهى تخصك ؟ أم ..
وترك جملته معلّقة وهو ينظر الى رفيق بطرف عينه بمغزى مفهوم ,مما دفع الأخير لأن يرفع يديه باستسلام وهو يهتف:
-لا , لا تنظر الىّ ... أنا رجل متزوج الآن .. ومخلص جدا لزوجتى .. اسأل هذا الفتى اللعوب عن فتاة القهوة .
-فتاة القهوة ؟
-يا الله منكم ! لا تلبثوا أن تصنعوا من مزحة بريئة قصة وحكاية ,, لا شئ من هذا الذى يدور بخيالكم القذر .. أنها مساعدة صديقى كما سبق واخبرتك يا رفيق .. وبارعة فى صنع القهوة التركية.
اعترف كريم صاغرا وقد احمرّت أذناه وهو يحاول التبرأ من تهمة التلاعب والعبث الذى رماه بها رفيق ,الذى قهقه عاليا وهو يحك ذقنه مفكّرا ثم شخر ساخرا:
-أهذا فقط كل ما يمكنك أن تقوله عنها ؟ لا شئ آخر تخفيه يا خبيث , لك الحق فى اللهو قليلا قبل ان تدخل الى القفص الذهبى مثلنا.
وأشار بسبابته اليمنى الى نفسه ثم سيف تباعا الذى صرخ عاليا وهو يضرب كريم على كتفه:
-يا لك من محظوظ ! فأنت الوحيد بيننا الذى ما زال محافظا على حريته حتى الآن ,ولكن الى متى ؟ ستقع قريبا ..وتنضم الى شلتنا.
واندفع الثلاثة يتمازحون ويلقون النكات حول هذا الموضوع متناسيين دقة الموقف .. أو بالأحرى يحاولون التشاغل عنه , فالأمر ليس بيدهم .. تاركين القدر يأخذ تدابيره.
********************