لم يعد كريم معهم الى المنزل بل انطلق بسيارته ليقلّ هديل الى البيت ,ولم يخفَ على سيف أن يلمح السعادة الناطقة تقفز من عينى ابن عمه وهو يتأبط ذراع الفتاة الجميلة قبل أن يختفيا تماما عن أنظار الجميع ,وما هى الا غمزة سريعة أعلمته بأن كريم قد وصل الى مبتغاه .. وتأمل ريم هى الأخرى تسير مبتعدة الى جوار خطيبها جاسر متمتمين باعتذار واهٍ لم يفهم منه حرفا واحدا عن انفرادهما ببعضهما .. ولم يتبقَ سواه هو ورفيق ليرافقا زوجتيهما فى طريق الرجوع الى منزل العائلة.
فتح الباب لزوجته وساعدها لتجلس بأريحية على المقعد المجاور له قبل أن ينطلق الى الجهة الأخرى مستقرا على مقعد السائق ليقود بهما الى حيث بؤرة الصراع الدائر فى حياته الآن .. والده ينتظره على أحر من الجمر ليعلنه بقراره النهائى بالنسبة لزواجه من مها .. وهو أكثر من قلق على حالة زوجته الغير مستقرة .. كانت تضحك من قلبها على مزحاته التى أطلقها متندرا وهما جالسان سويا بجوار أشجار الياسمين يتنسمان شذى أزهارها الفواحة وان أيقن أنها كانت متوترة بشدة تحاول أن تبدو خالية الذهن غير مهتمة بما يجرى حولها .. وكأن الأمر لا يعنيها من قريب ولا بعيد ,لكنها تعلم أن مصير زواجهما لم يعد بيده ولا بيدها بعد عودة والديه ,وخاصة بعد رفض أمه القاطع واستقبالها الغير حافل لوجودها تحت سقف واحد معها .. تلك التى أطلقت عليها .. ابنة كمال وسهام .. وكأنها سبّة بذيئة ..
هى الأخرى كانت شاردة بأفكارها الخاصة .. حقا كان يوما جميلا بحذافيره ,اضافة الى أن معاملة سيف لها قد تبدلت تماما ,أنه يحنو عليها ويبادر الى مساعدتها حتى ولو لم تكن بحاجة اليها ,لمساته أكثر رقة وتحمل معانٍ تبطن أكثر مما تظهر ,مجرد تصرفات بسيطة لكنها أدخلت البهجة الى قلبها الحزين, يتعمّد اطالة الوقت الذى يستغرقه ليغلق سحاب فستانها ,يسألها بلباقة عمّا تريد فيلامس يدها بحنان عندما يناولها كوب الماء أو العصير ,يطيل النظر اليها باعثا برسائل غير مقروءة تتضمّن الكثير ,ولا يترك يدها أبدا عندما يسيران جنبا الى جنب وكأنه يعدها بصمت ألّا يتخلّى عنها فهما روح واحدة فى جسدين .. وجاء هذا دليلا على صفاء نيته من ناحيتها وصدق كلامه , تحمّله للمسؤولية الملقاة على عاتقه بعدما أصبح محاصرا بين خيارين أحلاهما مرّ : ارضائه لوالديه ,وحرصه على انجاح زواجهما خاصة بعد علمه بنبأ حملها المؤكد.
-ماذا ستفعل الآن يا سيف ؟
لم تنتبه أنها أطلقت هذا السؤال بصوت مرتفع ,التفت سيف نحوها متسائلا قبل أن يعيد انتباهه الى الطريق أمامه وقال مجيبا وقد التقط المعنى الخفىّ لسؤالها الغير محدد:
-تقصدين رفض والدىّ للقبول بزواجنا ,أعتقد أننا نستطيع تجاوز هذه الأزمة بالصبر والحكمة .. فلنمهلهما بعض الوقت للتكيّف مع الوضع الجديد ,الصدمة لم تكن سهلة .. خاصة على أمى.
ولم يخبرها بقلقه على صحة والدته فقد انتابته الوساوس حول اعيائها الواضح ,كان من المفترض أن تكون رحلتهما للاستجمام والراحة ,ولكن على ما يبدو أنها لم تأتِ بنفع يعود عليهما سوى الارهاق والتعب.
-حسنا , وماذا عن وضعى أنا ؟
-ماذا به ؟ أنتِ زوجتى ,وستبقين كذلك.
سألته بارتباك :
-حتى بعد أن ألد الطفل ؟
ران عليهما الصمت لحظات ,مرت بطيئة .. طويلة .. مليئة بالتوتر والترقب ,ترى ماذا سيقول ؟ هل يخبرها بالحقيقة أم يكذب عليها ؟
-ماذا تعنين يا مها ؟
قالت تذكّره باتفاقهما القديم :
-ألم يكن اتفاقنا على الطلاق بعد أن أمنحك ولدا ,, وريثا ؟
ضغط بقوة على مكابح سيارته فتوقفت السيارة واطاراتها تصدر صريرا مخيفا جراء احتكاكها بالأسفلت ,وقد كادت مها أن تصطدم بالزجاج أمامها لولا حزام الأمان الذى يصر عليها سيف أن تربطه كلما كانا معا.
بينما اندفع سيف نحوها بغضب أعمى يمسك بمرفقها مدنيا رأسه من وجهها ويصيح منفعلا:
-أتريدين الحصول على حريتك بعد الانجاب ؟ كيف تجرؤين على هذا ؟ أبعد كل ما تحمّلته من أجلك ؟ أبعد مخاطرتى برضا أبى وأمى ووقوفى متحديا لجميع افراد عائلتى الذين لم يقبلوا بزواجنا ؟ تكون هذه المكافأة جزاءا لى ! أهكذا تقابلين الاحسان بالاساءة يا ابنة الأصول ؟
ارتعشت أهدابها مرفرفة بقطرات الدمع من عينيها الخضراوين ,وانكمشت على نفسها تحاول تخليص ذراعها من قبضته التى زادت قوة وضغطا وهى تئن مذعورة:
-سيف .. أرجوك اترك ذراعى ,أننى أتألم ..
-تتألمين ! وهل شاهدتِ ألما بعد ؟ سترين يا مها وجها آخر اذا ما عدتِ لهذه السيرة مرة أخرى , أنتِ زوجتى وستظلين هكذا الى أن أقرر أنا العكس , مفهوم ؟
غمغمت بصعوبة بينما شحب وجهها:
-أرجوك .. اشعر بآلام رهيبة .. آآآه , آآآه.
أفلتها بحركة حادة وهو ينظر لها محتقرا ,وكاد أن يعاود انطلاقه بالسيارة لولا ملاحظته لها تمسك ببطنها متألمة وهى تقاوم نوبات متتالية من الاتقباضات التى تهدد استقرار حملها ,فأحاط بكتفيها بذراعه وهو يسألها بهلع:
-مها , أأنتِ بخير ؟ بمَ تشعرين بالضبط ؟
أطلقت صرخة ألم مكتومة وهى تشهق ,ثم تلوّت بمكانها بعنف صائحة:
-بطنى ... أشهر بآلام رهيبة تمزقنى ..
-اهدأى حبيبتى ,, اهدأى وحاولى التنفس بعمق حتى تخف هذه الآلام.
أخذت مها تهز برأسها يمينا ويسارا وهى تقول بخفوت:
-لا أستطيع أنها تنتشر بسرعة .. وتزداد قوة .. آآآآه سيف , أننى أشعر .. آآآه أرجوك انقذنى ..
ربت على شعرها بحنان بالغ وهو يحاول بث الطمأنينة بداخلها وان عكس صوته مدى التوتر الذى يشعر به:
-حسنا ,, مها ,, هل تستطيعين الصمود قليلا ؟ سوف نذهب الى أقرب مشفى وبسرعة.
وأخذ ينظر حوله عدة مرات فتبيّن موقعهما بالضبط ,وقاد سيارته الى مشفى خاص قريب كان على بعد خمسمائة متر فقط .. حمد الله على حسن حظه فقد كانت زوجته تنتفض ألما وازداد رعبه حينما صار تنفسها سريعا ومتلاحقا .
أوقف سيارته قرب المدخل ثم حمل مها بين ذراعيه بخفة وهو يجرى بها الى داخل المشفى حيث استقبلته ممرضة الطوارئ وحينما وقع بصرها على جسد مها سألته عما بها فأجابها بأنها حامل بشهرها الثالث وتعانى من انقباضات مؤلمة فضغطت الفتاة على جرس ما ,وما هى الا دقائق وجاء مسعفان بمحفة متحركة ,طالبت سيف بصوت آمر أن يضع المريضة برفق فوق المحفة ,ثم قام الرجلان بدفعها الى جناح الطوارئ بحرفية عالية ,ظل سيف يراقبهما حتى اختفيا تماما عن الأنظار وكانت الممرضة قد أنذرته بضرورة بقائه بمكانه حيث أنه من غير المسموح له بمرافقتها وكانت قد قرأت فى عينيه تصميما علنيا ففضلّت أن تقطع عليه اية محاولة لخرق قوانين المشفى الذى تعمل به منذ سنوات .. بينما أخذت تملأ بيانات المريضة على شاشة الكمبيوتر وهو يجيبها بآلية وجمود .. ماذا لو اصابها مكروه ؟ هى أو الجنين ؟ هتف صوت داخلىّ : لا يهم لو أجهضت الطفل .. ابنه .. ابنهما - الوريث كما أطلقت عليه , المهم ألا يخسرها هى .. حبيبته وزوجته .. أحقا ؟ نعم فمها لا يمكن تعويضها أبدا ولو بعد عشرات السنوات .. اذا ماتت لن يغفر لنفسه على الاطلاق ولن يتسامح مع أى شخص أضاف لمتاعبها الجمّة .
بعد أن أنهى ملأ استمارة البيانات وقام بالتوقيع عليها ,انسحب بهدوء الى جانب بعيد يراقب المارة بلا انتباه حقيقى .. يسمع بوق سيارة الاسعاف المميز قادما ,ومسعفون يجرون هنا وهناك ,يحملون مريضا ما .. هكذا تستمر الحياة وتدور عجلتها , بالطبع هى لا تتوقف عن أحد ولو كان اهم شخص بحياتنا .. ولكن حياته هو ستتوقف لو غابت مها عنه , لا يتخيّل يوما جديدا لا تكون ابتسامتها الرقيقة هى شمسه التى تشرق .. بل لا يتصور أن يدق قلبه بعدها ,, حتما سيتوقف نبضه الى الأبد .. رمت بوجهه ذلك الاتفاق الدنئ يوم عقد قرانهما .. وذلك الشرط البائس .. أن تمنحه طفلا مقابل حريتها , لم يدرِ أنه سيأتى يوما يتمنى فيه أن تنقطع ذريته من أجل ألا تتركه وترحل ... وها قد أتى هذا اليوم وبأسرع مما كان يعتقد .. من يصدّق أنه سيف الشرقاوى .. سليل تلك العائلة العريقة .. ذو الكبرياء العنيد والقلب المتجمد .. هو بذاته من يذوب قهرا ويتألم عشقا لتلك الحورية ومن أجلها هو على أتم استعداد لأن يفتديها بعمره.
*******************