الفصل الحادى عشر
-صباح الخير يا أمى.
قالها عادل بعد أن دلف الى غرفة والدته وانحنى على يدها يقبّلها بحنان فيما هى تشده الى حضنها تستقبله بوجه بشوش وصوت رقيق:
-حمدا لله على سلامتك يا بنىّ .. آسفة أننى لم أستطع رؤيتك البارحة , تعرف أننى أخلد الى النوم مبكرا , لم تعد لى طاقة على السهر الى ما بعد العشاء.
ابتعد قليلا عنها وهو ينظر الى وجهها بمزيج من اللهفة والقلق .. كان صوتها متهدجا وتتنفس بصعوبة , ما جعله يشعر ببعض التوتر لحالها , أهى مريضة الى درجة كبيرة ؟ أم أنه يتوهم فقط لشعوره بالذنب بسبب ابتعاده عنها لفترة طويلة ولكنها لم تكن رحلة اختيارية .. أبدا.
-اشتقت لكِ يا أمى كثيرا.
توسد المكان الى جانبها وهو يتكأ بمرفقه على جانب الفراش بينما يتلمس وجهها المتغضن والذى ازدادت تجاعيده عمقا كاشفة عن عمر طويل انقضى ولم يكن سهلا .. انحدرت دمعتان غادرتان على خديها ,مسحتهما بأصابع معروقة بكبرياء وشموخ ..
-أتبكين يا أماه ؟
-كلا ,هذا فقط مجرد .. تأثر لرؤيتك يا حبيبى ,فقد غبت عنّا كثيرا ,لأول مرة بعمرك تغيب عن عينىّ حتى بعد أن تزوجت وصرت أبا , كنت دوما الى جانبى .. لم أحتمل أن تذهب .. فبعد سفر فريال الطويل ووفاة وجدى - رحمه الله - لم يتبق لى فى الدنيا سواك أنت وأخيك ,ولست مستعدة لخسارة أيا منكما .
ربت عادل بحنان على كتفى أمه المتهدلين وهو يحيطها برعايته واهتمامه واعدا ايّاها:
-لا يمكن لأى منّا أن يستغنى عنكِ يا ست الكل ,نحن نعيش فى ظلك وتحت جناحك .. مهما بلغنا من العمر كبرا أو خط الشيب رؤوسنا .. كما أن فريال قد عادت أخيرا و...
قاطعته شريفة برزانة:
-أختك بحاجة الى الراحة فيكفيها تعب حملها ومشقته عليها.
فوجئ قليلا بحديث والدته الا أن الشك قد تسلل الى ذهنه بالأمس فعلا بخصوص غرابة أطوار شقيقته التى لم تكن تتحرك كثيرا ورفضت تناول المشروبات معهم ,صاح بانفعال وهو ينهض واقفا:
-فريال حامل .. أوليست بمعجزة ؟
تفهّمت شريفة صدمته لدى سماعه للخبر ,وكيف لها أن تلومه فهى بنفسها قد سبق وأحست بما يعتمل فى نفسه حين خصتها ابنتها بهذا السر دونا عن الجميع حتى أنها صرّحت بخوفها من معرفة أميرة وتوجست من ردة فعلها الا أن الفتاة طارت من الفرحة لدى علمها بهذا الحمل المعجزة ..
-أنها فرحة غامرة يا عادل لنا جميعا ,, كما أنك ستصبح جدا عن قريب .. فمبارك لك أيضا.
انعقد حاجباه بشدة وهو يلتفت بحدة ليواجه أمه فى غضب قائلا:
-أكنتِ على علم بزواج سيف من وراء ظهورنا ؟ هل شجعته يا أمى على عصيانى ؟
قالت السيدة العجوز بتأنٍ وحكمة اكتسبتها بمرور الزمن:
-اهدأ يا ولدى , واعرف أنه لا ضرورة لهذا الغضب الجارف .. ما فعله سيف لم يكن بالشئ الصواب طبعا ونحن لم نعرف الا بعد وقوع الأمر .. جاء الينا وهى بصحبته يخبرنا أنه قد تزوّجها وأخفى عنّا الأمر لسبب فى نفسه .. بالتأكيد قمت بتأنيبه على ما أقدم عليه فلم يعجبنى أن يتصرف هكذا على هواه بمسألة خطيرة كالزواج وخاصة أنه لم يستشر عمه أيضا وقد كان محمد ثائرا أكثر منك .. الا أننى نصحته بألا يتسرّع فى حكمه عليهما وأن ننتظر رجوعك حتى نتشاور بالأمر جميعا ونصل الى قرار حكيم.
قال عادل مستهزئا:
-وهل يفيد الآن ؟ لقد صارحنا وبكل وقاحة أن زوجته المحترمة ابنة الأصول .. حامل , ها هو يضعنا أمام الأمر الواقع ,وعلينا أن نقبل بها كنّة وأم لحفيدنا .. لم يجد من بين جميع الفتيات سوى هذه ليقترن بها.
صمتت والدته قليلا لتسترجع ذكريات ماضية .. وقالت بصوت غريب:
-أتذكر منذ ما يقرب من ثلاثين عاما ؟ حينما تعاملت مع رفض أبيك لزواجك من منى بذات الطريقة , ألم تتزوجها دون ارادتنا وتمسكّت بها أكثر بعد أن عرفت بحملها ؟
هتف عادل بغير تصديق:
-ماما .. كيف تساوين ما فعلته أنا بما قام به سيف ؟ وكيف تسمحين بالمقارنة بين منى وهذه الفتاة ؟
-وما الفارق ؟
-الفارق كبير , شتان بينها وبين زوجتى .. على الأقل لم تكن هى من عائلة تكن العداء لنا , وأنا أحببتها بصدق وجئت متوسلا لوالدى حتى يوافق على خطبتى لها , هو من رفض وباباء لأسباب واهية .. لمجرد أنها كانت تعمل سكرتيرة وتنتمى لعائلة متواضعة ماديا .. أما هذه ... التى تزوجها .. ألا يكفى أنها ابنة كمال الراوى ؟ أين كان عقله وهو يقدم على أمر بغيض كهذا ؟ فهو لم يراعِ مشاعرى أنا وأمه .. كان يعرف جيدا من هى ولهذا فقد استغل غيابنا وخان الثقة الموضوعة به ..
-لأنه كان يعرف باستحالة الحصول على موافقتك اذا ما فاتحك بهذا الشأن .
صاح عادل هادرا بعنف:
-ماما , ماذا تقولين ؟
-لا تريد أن تسمعنى لأنها الحقيقة التى لا تجرؤ على الاعتراف بها ,كنت ستتصرف كوالدك تماما بذات الطريقة الظالمة الاستبدادية التى طالما كنت تشكو منها.
-أهذا رأيك فىّ يا أمى .. أننى أشبه أبى ؟
لم تكن مخطئة فى اعتقادها .. كانت بمثابة ضربة قاصمة له أن يسمع الحقيقة من بين شفتيها , تلك الحقيقة التى يحاول انكارها أو على الأقل تجاهلها .. الا أن جزء صغير من عقله ظل على عناده .. لا يوجد مجال للمقارنة بينه وبين ابنه .. ومها تلك حتما ليست مثل زوجته منى .. الحبيبة.
-لم أقصد التشابه الكلىّ .. رد فعلك الذى تظهره الآن يجعلنى أندهش منك ,لماذا لا تتقبّل أنه أحبها وتزوجها كما فعلت أنت بمنتهى البساطة ؟
-وأرحب بابنة كمال كزوجة لابنى وأتناسى أنه كان ..
وبتر عبارته فجأة وارتسمت على وجهه معالم الأسى والشقاء ,فشعرت شريفة بالشفقة على ابنها وما يعانيه من صراع داخلى .. كيق يقبل بابنة رجل .. كان مرتبطا بزوجته من قبل.
قالت الوالدة فى حزم وهى تعقد ذراعيها فوق صدرها:
-لا أرى سببا يمنعك من المحاولة .. وخاصة فى ظل هذه الظروف الجديدة .
-كيف تطلبين منى ذلك وكأنه شئ عادى ؟
أزاحت الغطاء من فوق جسدها برفق وقامت بمحاولة مضنية لتقف على قدميها بالاستناد على عصا أبنوسية ,سارت بقامتها الضئيلة الى حيث ارتمى عادل جالسا على مقعد بتراخٍ واستسلام أوجع قلبها .. مسدت على شعره الذى غزاه اللون الأبيض .. وقالت بصوت يفيض عذوبة وحنانا:
-من قال أنه شئ عادى ؟ أعرف مدى صعوبة الأمر عليك .. عادل .. لقد أمضينا عمرا كاملا فى عذاب قاسٍ بسبب الماضى الأليم ,وأنت بنفسك اختبرت هذا , فلمَ لا تدعه وشأنه ؟ انسَ يا بنىّ .. ولتمنح لابنك فرصة ثانية للبدء من جديد .. اصفح عن الخطأ .. وتسامح .. لتتصالح مع نفسك.
رفع وجهه نحوها ببطء وابتسم بخفة , ثم ما لبثت ابتسامته أن تحولت الى عبوس قاتم وهو يقول متألما:
-واذا افترضنا أننى أستطيع نسيان الماضى كما تقولين ولو أنه مستحيل ,كيف ستتجاوز منى هذه الصدمة يا أماه ؟ أتعرفين أنه لم يغمض لها جفن طوال الليل من هول ما عانته ؟
جلست الى جواره بتهالك وهى تقول بذات القوة التى تحاول التمسك بها:
-اذا كان هذا هو السبيل الوحيد لسعادة ابنكما فما عليها سوى أن تحاول مثلك .. ألا يستحق سيف منكما بعض التضحية تعويضا عما تكبّده من آلام دامت سنين .. والفضل فيها يعود اليكما , أنه ثمن بخس يا عادل.
-ليس الأمر كما تتصورين يا ماما .. لا أعتقد أن صحتها تتحمّل هذه المشقة.
سألته وقد انتابها قليل من التوتر:
-لماذا ؟ أتشعر منى ببعض التوعك ؟
دفن وجهه مجددا بين راحتى يديه وهو يئن بصوت يقطع نياط القلوب ,قال بعد برهة:
-توعك ! يا ليت الأمر يتوقف على بعض التوعك , أمى .. ان منى مريضة .. مريضة جدا.
اتسعت عيناها عن آخرهما وهى تسأله بلهفة قلقة:
-ماذا بها يا عادل ؟ تكلم .. تكلم.
قال من بين شفتين ترتجفان ألما بصوت خفيض:
-منى ... مصابة بمرض خطير .. اكتشفنا أنها تعانى من السرطان.
شهقت فزعا قائلة:
-سرطان ! لا حول ولا قوة الا بالله ..
أغمضت عيناها التى اغرورقت بالدموع وهى تشيح بوجهها منتحبة بألم بالغ:
-يا للمسكينة ! ولكن يا بنى هل تأكدتم من هذا .. التشخيص ؟ ربما اختلط الأمر على الأطباء.
ابتسم ابتسامة مريرة من محاولة أمه لتبرير الأمر من وجهة نظرها , فعقلها يرفض استيعاب ما حدث , كما صار معه بالضبط أول مرة يستمع للطبيب الذى أكّد له بما لا يقطع الشك أن زوجته تعانى ورما خبيثا ,, بعد اجراء العديد من التحليلات .. ساوره القلق عليها أثناء رحلتهما بالخارج حينما لاحظ شرودها الواضح وازداد الأمر خطورة بعدما لمحها خفية تتفحّص ابطها فى المرآة دون أن تعى أنها تحت المراقبة .. كان متورما بشكل فظيع ,قاطعها بشكل مفاجئ وكانت تكتم آلامها عنه بصبر ..ما دفعه الى اصطحابها لأفضل الأطباء المعروفين بالبلد الأجنبى الذى كانا يزورانه .. وهناك اصطدما بالواقع المرير .. زوجته وحبيبته ,, منى ,, مريضة بسرطان الثدى.
-أخبرنى يا عادل .. أليس محتملا أن التشخيص ...
-كلا , يا أمى , أرجوكِ .. توقفى عن محاولاتك هذه , فلا فائدة ترجى منها , لقد أجريت علاجا اشعاعيا لها ونحن بالخارج .. وقد تطلّب الأمر وقتا أطول مما كنا نعتقد ليطمئن الأطباء المعالجين على استقرار حالتها حتى نتمكّن من العودة الى مصر.
-ألهذا السبب أمددتما الاقامة هناك ؟ ونحن الذين تخيّلنا .. أنكما ..
قاطعه بأسى:
-أننا استمرأنا الوضع وقررنا تجديد شهر عسلنا .. نعم فى البداية كان الامر كذلك .. وساء الوضع أكثر .. كانت متعبة للغاية , فجلسات العلاج الاشعاعى ليست هيّنة على الاطلاق .. كانت ترجع كل مرة منهكة القوى .. اضافة الى أن الطبيب قد أوصى باستكمال العلاج الكيميائى.
-ربنا يشفيها ويعافيها ,لماذا لم تخبرنا يا عادل من قبل ؟
-لم أشأ أن أزعجكم قبل أن أتأكد من قابلية الورم للعلاج ,وبالنهاية رضخت لرغبتها باخفاء الأمر عنكم حتى لا يصل الخبر الى سيف , كانت قلقة جدا بشأنه .. ولم أجرؤ على مخالفة ارادتها نظرا لحالتها النفسية المتدهورة.
-كل هذا الهم تحمله وحدك يا عادل ..
-وجاء سيف بك ليجهز علينا بهذه الزيجة , أيمكن أن تتخيلى مدى الاحساس بخيبة الأمل الذى أصاب منى وهى ترى ابنة كمال أمامها .. والأنكى أنها صورة مصغرة عن أمها .. سهام .. التى عادت كالحرباء المتلونة فى صورة ابنتها لتنتزع ابننا من بين أحضاننا .. لماذا يا سيف ؟ فعلت بنا هذا ؟ رحماك يا ربى !
-كل الأمور تناقش بالهدوء وكل الصعاب تهون بمرور الزمن .. لا تتسرّع فى حكمك عليه.
-الا هذه المشكلة , الأمر تجاوز حدود التصديق , عقلى يكاد ينفجر من شدة التفكير.
-وماذا عن منى ؟ كيف حالها الآن ؟
-لقد تركتها نائمة بعد أن ظلت مؤرقة طوال الليل , لم تنم سوى بعد صلاة الفجر .. والله أعلم بما سيكون عليه الحال بعد أن تستيقظ لتعود الى أرض الواقع بمرارته وآلامه.
-ربنا ييسر الأحوال , أنه قادر على كل شئ .. باذن الله سنجد وسيلة ما للوصول الى حل وسط يرضى جميع الأطراف.
-أتمنى ذلك يا أمى ,, أتمنى.
*****************