لم يجد سيف زوجته بغرفتهما , فتش عنها بكافة أنحاء الطابق العلوى بدون جدوى , شعر فجأة بخوف قوى يسيطر على مشاعره .. ترى هل فرّت مها من المنزل ؟ ولكن كل ثيابها واغراضها الشخصية ما زالت موجودة ,لن يهدأ له بال أو يرتاح الا عندما يعثر عليها .. أتظن أنها تستطيع الهرب والاختباء منه وهى حامل بطفله ؟ لا , سيكون ملعونا لو سمح لها بهجره خاصة بعد أن اكتشف عمق المشاعر التى يكنّها لها بغض النظر عن الماضى الأسود الذى يربط أسرتيهما بلعنة الكراهية والحقد .
هى الوحيدة التى نجحت فى ازاحته عن الخط المستقيم الذى رسمه لمسار حياته بعد علاقته السابقة بليلى والتى انتهت نهاية مأساوية ,ورغم أنه قد عرف بالحقيقة الا أن أحساسه بها قد اختلف تماما , لم يتأثر كثيرا لرؤيتها وهى تصارحه بصدق حبها له فى ذلك الوقت الذى آمن فيه بخيانتها ,لا ينكر أن شعورا عارما بالراحة قد اجتاحه بعد اعترافها , فكبرياؤه كرجل لم يتحمّل فكرة أن تخدعه امرأة وتتلاعب بعواطفه الصادقة آنذاك , الا أن هذه العواطف صارت باهتة وأصبحت تمت للماضى فقط.
-مها ... مها .
أخذ صياحه يتعالى وهو ينزل الدرج بخطوات رشيقة , عيناه تدوران فى محجريهما تبحثان هنا وهناك ,وقد بدت ملامح الجزع واضحة على محياه فقد باتت شكوكه أكيدة .. هذه المجنونة هربت منه بلا شك , وأقسم بداخله أن يجعلها تدفع ثمن فعلتها تلك غاليا ولكن عليه أم يجدها أولا .. قرر أن يخرج للبحث عنها .. أين يمكنها الذهاب ؟ لا يوجد سوى شقتها القديمة .. لا , لا هذا هو أول مكان تعرف أنه سيفتش عنها فيه , سيجوب الطرقات ويتفحص الفنادق واحدا تلو الآخر .. وقبل أن تصل أصابعه الى مقبض الباب , أحس بلمسة رقيقة على كتفه وصوت هش يقول:
-سيف .. أكنت فى طريقك للخارج ؟ هل ستتركنى هنا وحدى ؟
تنهد ارتياحا والتفت على الفور الى زوجته الواقفة خلفه تنظر له بعينين وجلتين تستجديه ألا يخذلها ,فابتسم بصورة محببة وهو يتناول كفيها الضئيلين فى راحة يده الضخمة ,أحنى رأسه قليلا ليلثم أطراف أناملها برقة واحدا بعد الآخر مؤكدا لها ودون كلمات أنه باقٍ من أجلها .. شعرت مها بساقيها تهتزان وترنحت قامتها الهيفاء مما دفعها لتستند الى صدر زوجها وقد اطمأنت بعض الشئ لسكونه ,قالت بصوت ضعيف ترجوه:
-سيف , لا تتركنى أبدا مهما حدث , لن أحتمل هذا.
مسح على شعرها بحنان وهو يتمنى فى قرارة نفسه أن يدوم الانسجام بينهما على هذا المنوال بعد أن تنقشع الغيوم من علاقتهما , وهمس لها بصوت دافئ :
-لم يعد هذا ممكنا .. من الآن فصاعدا لن نبتعد عن بعضنا ,لم يعد لكِ الخيار فى ذلك , أنتِ تنتمين لى وحدى .
ثم وبحركة مباغتة مسح بخفة على بطنها وقد طغت على ملامحه دلائل السعادة والزهو ,فانتابتها موجة من المشاعر المتضاربة بين الشعور بالأمان والخوف حينما أضاف بصوت ينضح بعاطفة قوية:
-كما أنه اصبحت هناك بذرة لحياة تنمو بأحشائك .. فلا مجال للعودة الى نقطة البداية , علينا أن نمضى فى طريقنا حتى نهايته.
تسلل صوتها مرتعشا وهى تتوسله:
-أتعدنى يا سيف أنه مهما كان ردة فعل والديك على زواجنا أنك لن تتخلى عنى ولا عن طفلنا ؟
ضاقت عيناه السوداوان وقال ببطء متعهدا:
-أعدك يا مها .. والآن تعالى معى لأعرفك على والدىّ.
أدارها وهو يلف ذراعه حول خصرها بتملك يقودها الى غرفة المعيشة حيث ينتظر والداه.
سألته بوجل:
-هل .. هل ستخبرهما عن .. حملى ؟
وأشارت الى حيث يستقر الجنين فى رحمها ,فداعبها بأصبعه ملاطفا وهو يقول باصرار:
-بالطبع .. ولمَ سأخفى عنهما شيئا هاما كهذا ؟
قالت مترددة:
-لأنها المرة الأولى .. ستفاجئهما بخبر زواجنا ثم حملى .. اضافة الى أننى .. أقصد ماذا سيحدث حينما يدركان من أنا فى الواقع ؟
ضغط اصبعه على شفتيها مسكتا ايّاها وهو يتشدق مزهوا:
-أنتِ زوجتى .. وأم ابنى .. فقط لا شئ آخر.
-أتعنى أنك لن تطلعهما على حقيقة نسبى ؟
-كفاكِ اسئلة واستجوابات يا مها , أنا أكيد بأنهما سيعجبان بكِ.
رفعت مها حاجبا بدهشة وهى تتمتم :
-أحقا ؟
-نعم , مثلما حدث لابنهما بالضبط.
-أنت أعجبت بى ؟ متى كان ذلك ؟
ضحك من عدم ثقتها الواضحة فى نبرة صوتها المذهولة وهو يقول بصوت مقطوع الأنفاس:
-متى ؟ منذ وقعت عيناى عليكِ للمرة الأولى أثناء اجرائى لمقابلة العمل معكِ , رأيتك تتقدمين نحوى كملكة متوجة لها كامل حقوق الولاء على رعاياها , كنتِ واثقة جدا من نفسك وأزعجنى أننى لم أقوَ على ابعاد عينىّ عن رؤية جمالك ,, وأنتِ تعرفين البقية .
-لا أصدقك , فقد بدوت لى حينها كأنك تكرهنى ,, لمحت بعينيك نظرات احتقار .. و ..
قاطعها قائلا بنزق:
-كان هذا بعد معرفتى لاسمك كاملا وقد تكهنت بدوافعك للتقدم لمثل هذه الوظيفة , ولكن مع هذا لم استطع أن أتوقف عن التفكير فيكِ .. رغم أننى حاولت كثيرا حتى لا يزداد تعلقّى بكِ بمرور الوقت.
-اذا كنت عرفت حقيقة هويتى , لماذا وافقت على منحى الوظيفة ؟ هذا ما لم أفهمه الى الآن.
منحها ابتسامة واسعة كشفت عن اسنانه البيضاء اللامعة فهوى قلبها فى قدميها .. يا لها من جاذبية مشعّة ! وقال بغموض:
-ستعرفين يا حبيبتى .. ولكن ليس هذا هو الوقت المناسب.
وكانا قد وصلا الى وجهتهما المنشودة .. فارتفعت الوجوه نحوهما وتلاقت الأعين بنظرات اندهاش مختلطة بعدم التصديق وساد الوجوم غالبا على الوضع بأكمله.
تقدّم سيف نحو أبويه وهو يجر مها خلفه فقد تخلّت عنها شجاعتها ولم تعد قادرة على محاذاته بخطواته الواسعة ,وهو يقف الآن على قيد خطوتين من رجل وامرأة فى منتصف العمر يجلسان متجاورين وعيونهما مليئة بالتساؤلات بينما سمعت صوت زوجها جليّا وهو يقول بثقة واتزان:
-ماما ... بابا .. أحب أن أقدّم لكما ... مها .. زوجتى .
شحب وجه منى فجأة وبدت كأنها ترى شبحا ماثلا أمامها تتطلّع نحو ابنها ثم تحدج الفتاة التى يدّعى أنها زوجته بنظرات مريرة ,حاولت أن تتحدث .. أن تصرخ .. كأن صوتها قد انحبس فباتت شفتاها تتحركان بلا كلمات مسموعة ... والأسوأ كان التالى .. ازدادت ضربات قلبها الى درجة خيّل اليها أن طبولا تقرع بصدرها ,وكادت أن يغمى عليها لولا أن انتبه عادل فى اللحظة المناسبة وهو يحيط خصرها بقوة فارتمت برأسها على صدره وأنفاسها تتلاحق متخبّطة وعادل يحاول أن يجعلها تنظم من تنفسها آمرا بحزم:
-افعلى كما أخبرنا الطبيب بالضبط .. توقفى عن التنفس لثانيتين قبل أن تأخذى شهيقا عميقا .. حسنا .. اكتميه جيدا .. أطلقى زفيرا من فمك .. هيا يا منى .. كرريه ثانية.
أطاعته يالبداية ثم رفضت بتصميم وهى تهز رأسها بحدة قائلة:
-كلا .. أنا بخير الآن.
جثا سيف مذعورا على ركبتيه وهو يمد يداه متوسلا الى أمه يتساءل بجزع:
-ماذا بكِ يا ماما ؟ أأنتِ بخير الآن ؟
ولما لم يجد منها استجابة حوّل اهتمامه الى والده الذى أخذ يحدّق بقسمات وجهه قبل أن يهب منتفضا ليمسك بتلابيب ابنه مجبرا ايّاه على النهوض وهو يهتف بصرامة مخيفة:
-كيف تجرؤ ؟ كيف تجرؤ على هذا ؟
هتف سيف بصوت مختنق من جراء ضغط اصابع ابيه الفولاذية على عنقه:
-لماذا كل هذه الانفعال ؟ ألمجرد أننى تزوجت دون علمكما ؟
لم تحتمل منى البقاء صامتة وهى ترى ابنها بهذا الوضع الرهيب .. تحدّت شعورها الرهيب بالدوار وصرخت ملتاعة:
-كفى .. عادل .. اتركه فورا ..
اخترق نداءها الأمومى كيان زوجها فتوقف فجأة عن الضغط على عنقه ابنه وقد أدرك ما كان يفعله بذهول ,أفلت ياقة القميص من يديه ووقف شاعرا بالخزى وهو يرى وجه سيف محتقنا بالدماء المحبوسة يسعل بعنف ليدفع بالهواء الى رئتيه .. وقد اندفع رفيق نحوه ليطمئن عليه , أخذ يربت على ظهره بقوة حتى يساعده على تنظيم أنفاسه ,الا أن سيف استعاد رباطة جأشه على الفور وقبض على ذراع ابن عمه ليوقفه بنظرة حازمة من عينيه النافذتين فامتنع رفيق عن مقاومته لئلا يزيد الطين بلة .. فاذا أصر على مد يد العون له سيعتبرها بمثابة اهانة له أمام الجميع خاصة بعد تصرف عمه العنيف نحوه.
تمتم عادل متخاذلا وهو يدفن وجهه فى راحتى يديه:
-لماذا يا سيف ؟ ألم تجد سوى هذه الفتاة لتقترن بها ؟
قالت منى بصوت واهن:
-أما زلت تسعى لعقابنا يا ولدى ؟
عقد سيف حاجبيه مقطبا , غير واعيا لما يُقال فاندفع صائحا وهو يشعر باحباط كبير:
-عمّ تتحدثان ؟ لماذا أريد معاقبتكما ؟ كل ما فى الأمر أننى تزوجت ,, وقد اخترت الفتاة التى تناسبنى , ربما تسرّعت فى اتخاذ هذا القرار لظروف معينة الا أننى لم اقصد الاساءة لأى منكما.
-ابنة سهام وكمال .. هى الفتاة الملائمة لك يا سيف .
انطلقت هذه العبارة من بين شفتى أمه على شكل استفسار أو ربما تخمين .. فتعجب كيف عرفت من هى مها دون أن يتفوّه هو بكلمة عنها و كما أنه من المستبعد أن يكون عمه محمد هو الواشى لأنه وعده بعدم التدخل فى هذا الموضوع بعد أن سبق وأقنعه بأنه سيحسن التصرف ويتعامل مع الوضع بحكمة ,ولا يمكن أن يقدم رفيق على تصرف وضيع كهذا .. وكريم ... لا .. صحيح أين هو الآن ؟ عاد للوضع المربك الذى علق فيه .. حاول أن يركز تفكيره بصورة سليمة دون تشويش فلم يفلح فى استنتاج كيف توصل والداه لحقيقة نسب زوجته بهذه الدقة .
أراد أن يصل الى هذه النقطة ,, ولكنه لم يتخيّل أن تتحوّل المناقشة كليا الى هذا الاتجاه الجديد , ظن أنه سيكون البادئ بالهجوم لا متمركزا فى خط الدفاع محاولا تهدئة ثورة أبيه العارمة وتجنّب نظرات أمه العاتبة التى تشعره بمرارة لا مثيل لها ,عليه أن يشرح لهما الوضع سريعا قبل ان تتأزم الأمور أكثر , عدّل من هندامه واستوى فى وقفته قبل أن يحوّل انتباهه الى تلك المرأة الرائعة التى تسمّرت فى مكانها كأنها تمثال رخامىّ تستمع للحوار الذى يدور بخصوصها دون أن تكون طرفا فيه , أشفق عليها لرؤيته للدموع المتلألئة فى عينيها الزمرديتين .. أنها بموقف عسير كما أن حملها زاد من وطأة هذا العبء عليها , اتجه اليها وسحب ذراعها ليجبرها على الجلوس بينما يعتذر بتهذيب بالغ لوالديه قائلا:
-أستمحيكما عذرا , ولكن هل يمكن أن نستكمل حديثنا جلوسا , فالوضع هكذا يصبح أكثر ارهاقا .. ومها لديها ظروفها الخاصة.
طلّت من عينى منى نظرات استفسار فلوى سيف فمه بابتسامة صبيانية قبل أن يهتف مزهوا:
-نعم يا أمى .. أنها حامل وبنهاية شهرها الثالث.
عضت مها على شفتيها تكاد تشعر بالنظرات المارقة كأنها سهاما حادة ترشقها حيث اتجهت أنظار الجميع لا اراديا الى بطنها فعقدت يديها بدون وعى فى محاولة بائسة لحماية صغيرها بغريزة دفينة .. أنه أغلى وأعز ما تملك , لا سيما أنه ابن سيف ذاك الذى ينمو بجوار قلبها .. سيف .. الحبيب والزوج.
-حسنا , هلا بدأت بالحديث .. أننا فى انتظارك.
قالها عادل مغضبا الى ولده وقد عاد لبجلس بجوار منى محتضنا كفّها , يمنحها الدعم الذى تحتاجه , يمدّها بالقوة وقد مال نحوها يسألها باهتمام:
-أتشعرين أنكِ قادرة على مواصلة هذا الحوار ؟
أومأت له برأسها وهى تقول بجلد:
-لا تقلق علىّ , سأصمد.
انتاب سيف الفضول لمعرفة سبب هزال والدته وشعوره بأن والده يحاول حمايتها بصورة مبالغ فيها , الا أنه قرر ارجاء هذا التساؤل ما بعد , وتنحنح بصوت عالٍ قائلا:
-أود فى البداية أن أخبركم جميعا بأننى أنا اتخذت قرار الزواج هذا دون اللجوء الى أى احد من العائلة , لذا اذا اردتم القاء اللوم على شخص فأنا وحدى المسؤول عن هذا .. حتى مها لم تكن قادرة على مجابهتى بالرفض ..
-لا أشك بذلك , فأنت عنيد جدا ... واذا أصررت على شئ فلا يمكن أن يوقفك أحد.
صوت عادل الملئ بالسخرية اللاذعة والانتقاد نحو سيف تسبب فى أن تسرى قشعريرة باردة فى جسد مها ,هى بدورها تمنت لو تتحمّل هى اللوم عن زوجها , كانت تشعر بأن هذا هو واجبها خاصة بفعلتها الدنيئة فى اجباره على اتمام هذه الزيجة وفى وقت قصير .. كادت أن تتكلم وتبوح بالسر الا أن نظرة واحدة من عينيه أرسلت افكارها أدراج الرياح , كانت نظرة تحذيرية حادة وقد زم شفتيه بحزم قائلا:
-مثلك تماما يا بابا .. ألم تخبرنى من قبل انك قد تحديت أبيك والعالم بأسره لترتبط بمن دق لها قلبك .. أمى ..ضاربا بالتقاليد والأاعراف عرض الحائط .. ثم جاء خبر حملها بى ليطيح الجميع عن اقدامهم .. مما اضطرهم للقبول بهذا الزواج والاعتراف به.
-وهأنتذا تحذو حذوى .. الولد سر ابيه كما يُقال , أليس كذلك ؟ أتعرف يا بنىّ ما الذى فاتك فى هذه القصة التى حكيتها لك ؟ أن تعرف المغزى ورائها ؟ شتان الفارق بين هاتين الحالتين .. ولا مجال طبعا للمقارنة بين أمك وهذه الفتاة .. التى تشبه الحرباء فى تلوّنها حتى تصل الى غرضها .. لا بد أنها قد أوقعتك فى حبائلها بحيلة رخيصة.
لا هذا كثير جدا , اعتدلت مها بجلستها فى حركة محتدة وقد ظهر العصيان واضحا على ملامح وجهها الفاتن ,وقبل أن تفتح فمها لترد بما يناسب فوجئت بسيف يقول بصوت هادئ لم يخلُ من بعض الحزم :
-أرجوك يا بابا لا يوجد ما يدعو لهذا الحديث , وأنا لست غر ساذج ليدفعنى أحد الى ما لا أريده ,أنا أردت أن أتزوجها .. لأننى أحببتها.
لماذا يدافع عنها بهذه الحرارة ؟ والأدهى أنه قد كذب لتوه على والده .. ودون أن تطرف له عين , أكل هذا من أجل حملها ؟
-رغما عن انتمائها لعائلة الراوى ؟؟ بصراحة لا أفهمك ,لقد تصرفت بشكل مخزٍ وأسأت للعائلة كثيرا .. وكأنك لست ابنى .
شعر سيف بطعنة نجلاء تخترق ضلوعه تمزقها وتستقر بقلبه ,كان واثقا من قدرته على تدارك الأمر والدفاع عن مستقبله المشترك مع مها , الا أنه بات من الواضح سوء تقديره للوضع ككل ..
-عادل ... عادل.
نداء زوجته الواهن والذى انبعث بصعوبة من بين شفتيها مرتعشا جعله يتوقف عن متابعة حديثه ويوليها كامل اهتمامه ,رقّت نظرات عينيه وتغيّرت لهجته تماما وهو يسألها بلين:
-ماذا هناك يا عزيزتى ؟
أشارت له بأصابعها المرتجفة الى الأعلى وهى تتعثر بحروف كلماتها:
-أود الذهاب الى غرفتى لأستريح.
هب واقفا على الفور ثم انحنى يسندها حتى وقفت على قدميها وغمغم متوترا:
-أتشعرين بالارهاق ؟ أم استدعى لكِ الطبيب ؟
-لا , مجرد احساس بالتعب , أنت تعرف أن رحلتنا كانت طويلة للغاية , كما أن الأجواء هنا خانقة ... جل ما أريده هو الخلود الى النوم.
أسرع سيف بدوره ليساعد والدته فى الصعود الى الطابق العلوى وهو يقول بمودة:
-ماما .. استندى الى كتفى.
الا أنها انتزعت ذراعها منه بحركة عنيفة لا تتناسب مع ضعفها وشعورها بالتعب , أجفل متراجعا وقد اهتز لرؤية نظراتها الحانقة مسلطة عليه توخزه كأشواك دامية .. تخبره أنه قد خذلها , وأى خذلان ؟
-لست بحاجة اليك.
ثم تجاهلت نظراته المتألمة وألقت التحية على الجميع دون أن تلتفت الى مها بلمحة واحدة وقالت بعزم:
-هلا تعذرونى ,فأنا أشعر بأننى لست على ما يرام .
سمعت همهمات تسرى بينهم بأمنيات بالشفاء العاجل لها.
وانطلق الزوجان العائدان فى طريقهما تاركين ابنهما يقف وحيدا متحسرا بعد أن خسر معركته قبل أن تبدأ.
********************