وقفت تتأمل نفسها أمام المرآة تتساءل عمّا حل بها ,وما الذى تغيّر بداخلها ؟ لا تنكر أن علامات الحمل قد ظهرت بوضوح بالغ عليها .. لا يمكنها أن تخفى بروز بطنها الخفيف اذا ما استمرت بارتداء ذات الملابس الضيقة التى اعتادت عليها ,ستخبر زوجها بحاجتها الى ملابس جديدة أكثر اتساعا .. وأكثر احتشاما لتتلاءم مع وضعها الجديد كأم لطفله القادم ,عندما تعود بذاكرتها لذلك اليوم الذى فقدت فيه وعيها اثر معرفتها بالحقيقة التى ظلت مجهولة لسنوات طوال ,عزت اغمائتها الى التوتر الرهيب الذى انتابها اضافة الى قلة شهيتها للطعام بسبب ظروف حياتها الجديدة فى منزل الشرقاوى والتى أثرت سلبا على راحة بالها ,جعلتها ممزقة بين رغبتها بالبقاء الى جوار سيف والهروب من هذا الجحيم المستعر .. حتى حسمت ترددها بعد أن شكّت كثيرا بأن العوارض المتلازمة والتى باتت تتكرر بشكل يومى أنها تحمل فى أحشائها ثمرة حب من طرف واحد .. هى واثقة من عشقها لذلك الرجل المتكبّر الفظ الذى عاملها بشكل سيئ للغاية فى بداية زواجهما ,ثم تحول الى الرقة واللطف بمرور الأيام .. حتى أحست بأنها تحيا فى حلم جميل وردى يدغدغ مشاعرها ويتلاعب على أوتار عواطفها الفيّاضة ,ربما تعزو هذا الى تأثير الهرمونات المتفاعلة بجسدها وهى نتيجة طبيعية للحمل .. أصبحت أكثر حساسية وقابلية للعطب .. من أقل كلمة تنهار دموعها مدرارا .. ولأتفه الأسباب باتت تغرق بجو من الكآبة القاتمة ,هى غير أكيدة من مشاعر زوجها نحوها .. حاولت ألا تخبره عن حملها .. خائفة وقلقة من ردة فعله العنيفة تجاهها , ثم تذكرت ذلك الشرط الرهيب فى عقد زواجهما , اذا منحته طفلا تصبح حرة وهى وافقت يومها بمنتهى البساطة .. ربما لأنها لم تخطط فعليا لاتمام زواجهما .. ظنت أنها مجرد لعبة لتنتقم وتنال حقها المسلوب دون أن تخسر شيئا .. لم تضع فى حسبانها أن سيف الذى ارتبطت به ليس رجلا لين العريكة ولا يمكن أن يترك زمام أمره بيد امرأة مهما كانت ,تحوّلت الى فريسة سهلة بمنتهى السذاجة وقد بدا لها أحيانا أن زوجها كان على علم بمخططاتها أو على الأقل تنبّأ بجزء منها .. حينما أصبحت عادتها اليومية صباحا أن تستيقظ مهرولة الى الحمام لتفرغ ما بمعدتها الخالية وباتت تتقزز من رائحة عطره الأصلى وعافت نفسها الكثير من الأطعمة .. لمحت بعينيه نظرة متسائلة باصرار تزايدت بمرور الوقت حتى أنه سألها بطريقة مباشرة عن صحتها .. كان صوته متوترا مليئا بالاهتمام الشغوف حتى أنكرت بشدة كونها راغبة فى عدم المصارحة ,حتى جاء اليوم الذى اصطحبها فيه الى المستشفى دون علم منها ,وضعها أمام الأمر الواقع وهى يقودها نحو الاستقبال ليملى اسمها كاملا الى الموظفة فى انتظار تحويلها الى الطبيب المختص ,وذهبت اعتراضاتها الواهنة أدراج الرياح ,فالرجل المصاحب لها قبض على ذراعها بتصميم وهو يخطو معها الى حجرة الكشف هاتفا بمرارة:
-لا داعٍ لمحاولة الاعتراض , علينا أن نطمئن على صحتك , فأنتِ تذبلين يوما بعد يوم كما أننى أراكِ تفقدين الكثير من وزنك.
وهناك بعد اجراء الفحص السريرى واجراء العديد من التحاليل المطلوبة انكشفت الحقيقة بجلاء .. كان الطبيب مستبشرا وهو يقدم التهنئة الى الرجل الواجم قربها بأنه على وشك أن يصبح أبا ,وأملى عليهما العديد من النصائح الطبية اللازمة فى مثل هذه الحالة كما أشار بضرورة متابعة الحمل لدى اخصائى النساء والتوليد .. ورشّح لهما ثلاثة من الأسماء اللامعة من ذوى الخبرة فى هذا المجال ,تقبّل سيف نصيحته شاكرا ايّاه بفتور قبل أن ينظر الى مها بعينيه الحادتين كاشفا عن صدمة تلقّاها للتو وقادها مرة أخرى نحو السيارة بصمت شامل غلّف الجو بينهما فهى أيضا لم تجرؤ على الاتيان بكلمة واحدة , تموت شوقا لمعرفة احساسه الذى يخفيه جيدا .. أهو غاضب منها ؟ أم أنه قد طرب لسماع الخبر ؟
بعد أن ولجت الى المقعد الأمامى , اغلق سيف الباب بحركة عنيفة مصدرا صوتا رنانا ودار حول السيارة ليستقر بجوارها .. صامتا .. قبل أن يقرر الالتفات اليها صائحا بحدة:
-مبارك يا مدام مها ,, والى متى كنتِ تنوين اخفاء الأمر عنى ؟
ارتبكت مها كثيرا وقالت بصوت منخفض:
-لم .. أكن .. أعرف ؟ ...
قاطعها محتدا وهو يقبض على معصمها ليجبرها على النظر اليه تتوسلّه ألا يؤلمها:
-لا تكذبى .. لم تكونى تعلمين أنك حامل فى الشهر الثانى ...
أجابت بسرعة:
-كلا لم أقصد , لم أعرف كيف أخبرك ؟ .. خشيت من اثارة غضبك كما حدث الآن .. وخفت من ردة فعلك .
أومأ برأسه ايجابا قبل أن يقول متهكما:
-نعم .. أنت محقة .. هل تودين معرفة شعورى ؟ أرغب بلى عنقك أو ربما ..
زفر حانقا وهو يضرب المقود بيديه بعد أن أفلتها ثم صاح شاتما بحقد:
-لا أعرف كيف أتصرف معك ِ ؟ حقا أنتِ تثيرين أسوأ ما فىّ .. لديك قدرة غريبة على اثارتى واغضابى حتى أكاد أشعر بأنه يكفى منكِ نظرة واحدة لاشعالى .. مها .. ألهذه الدرجة تهوين تعذيبى ؟
نظرت له بعدم فهم وهى تتمتم قائلة:
-أنا ؟؟ ظننت أنك أنت من يحب ايلامى .. مضت ليالٍ وأنا افكّر كم يرضيك رؤيتى خائفة ومنكمشة على ذاتى فى انتظار تقرير مصيرى الذى بيديك .. أتعاقبنى يا سيف ؟ طبعا لأننى تجرأت وتحديت السيد العظيم سليل العائلة العريقة .. أجبرتك على الزواج من مجرد سكرتيرة حمقاء نكرة لا تمثل لك سوى صفرا على اليسار.
انتفض سيف ثائرا فى وجهها , يحاول كبح جماح غضبه الذى تطلقه من معقله ببساطة ,فهتف ساخرا وهو يصفّق بقوة:
-برافو .. تستحقين جائزة لتمثيلك هذا .. أتحبين أن أذكّرك بما فعلته بدم بارد ؟ أنسيتِ أمر رسالة التهديد ووثيقة الزواج المزوّرة ؟ أكنتِ تريدين منى الاستسلام لكِ واستقبالك بذراعين مفتوحتين ؟
صاحت مها بدورها منفجرة بغضب حاد:
-لااااا , لست بحاجة لتذكيرى بما أخطأت به .. ألا تدرك أننى كنت يائسة لدرجة الموت ؟ حاولت أن اصل اليك بأية طريقة , لم أحسن التصرف .. أعرف , كان ذهنى مشلولا فلم أجد حلا آخر سوى ما قمت به ,كنت متهورة وطائشة .. ولكننى أيضا كنت وحيدة وضعيفة .. بعدما قمت باقصائى من عملى , الشئ الوحيد المتبقى لى .. واهانتى بعرض المال الوفير ..
قاطعها بنفاد صبر هاتفا:
-بالله عليكِ لقد كان مبلغا محترما يكفل لكِ حياة كريمة .. ممَ كنتِ تشكين ؟
-هل تعتقد أن المال هو ما كنت أسعى اليه ؟ كلا يا سيد سيف .. أنت مخطئ .. أردت الاهتمام والرعاية .. كان العمل يؤمّن لى الراحة لأننى أكسب قوتى بجهدى .. بدلا من الهبة .. المجانية الكريمة التى قرر السيد رفيق منحها لى .
قال بنزق:
-لم يكن هو .. أنا ..
ثم ابتلع بقية عبارته شاعرا بالندم لتسرعه فقد كان على وشك الاعتراف بالسر الدفين , التقطت مها طرف الخيط منه وسألت بفضول:
-من اذن ؟ أخبرنى الرجل فى ذلك اليوم أن الشيك هو تعويض عن طردى من الشركة حتى لا أحاول ملاحقتكم قضائيا وكأننى كنت سأستطيع الصمود فى وجه عائلة الشرقاوى بنفوذها الهائل وأنا مجرد فتاة .. عاملة ,أيعقل أنك أنت الذى ؟؟
ولم تتم كلمتها فقد أدركت فجأة الجزء الناقص من هذه الأحجية الغامضة , شهقت بذهول وهى تضع يديها على فمها ,أشاح سيف بوجهه بعيدا عنها وهو مدرك بأنه لا فائدة من الانكار .. فقال بصوت ضعيف :
-لا تجعلى خيالك الخصب يصوّر لكِ أشياءا وهمية , كل ما فى الأمر أن رفيق اقترح مبلغا معقولا كتعويض ,, الا أننى قررت وبسذاجتى طبعا لأننى توهمت أنكِ مظلومة أن أزيد من حصتك بالمال من حسابى الخاص .. كان هذا قبل أن تقررى التلاعب بى وأنه لا يكفيكِ خمسة أصفار , الطمع هو ما أوحى لكِ بهذه الفكرة الحقيرة , أليس كذلك ؟
-أنت تشوّه الحقيقة الى درجة مقيتة تسير السأم ,لم يكن غرضى هو المال أبدا.
-حسنا , وماذا كان هدفك الأساسى من هذه اللعبة ؟
ترددت مها وقد شعرت بالخجل يجتاحها فاعترفت بوهن:
-أردت الزواج منك ..
صفّر سيف ساخرا وهو يقول:
-أوه , لا تطرينى يا سيدتى الجميلة , أتريدين منى التصديق بأنكِ تورطتِ مع مزوّر قذر وتخلّيت عن بضعة آلاف من الجنيهات من أجل أن تتزوجى بى , أنا الشخص الذى تحتقرينه وتكرهين عائلته الى درجة بعيدة , يا له من تفسير غير قابل للتحقيق !
فاجأته مها بحركة من يدها , تلمست بأصابعها وجهه لتواجه نظراته الحادة بشجاعة منقطعة النظير وهى تقول بتوتر:
-نعم .. تستطيع أن تنكر كما تشاء ,ولكننى أكيدة بأنك فى داخلك , بقلبك تعرف أننى صادقة .. أتود أن تكمل هذا الطريق حتى نهايته ؟ حسنا , كنت أعتقد أننى بهذا أحقق انتقاما حتى تأخذ العدالة مجراها .. وأنا وأنت لسنا سوى ضحايا لماضٍ قاسٍ أليم , تشابكت فيه الحقائق واختفت بعض التفاصيل أو لنقل أنه قد تم تزييفها لتخرج بصورة مختلفة يتبادل فيها الجانى والمجنى عليه الأدوار .. لا ألومك على تكذيبك لى .. فأنا نفسى لم أعرف الحقيقة الا منذ فترة بسيطة .. عائلتك ليست مدينة لى بشئ أبدا ,, ربما كان العكس هو الصحيح ..
قال بصوت شبه مسموع:
-أتعنين انكِ قد عرفتِ بما كان يربط بين العائلتين ؟
أطرقت برأسها الى الأسفل وهى تنوح:
-عرفت ان أبى كان رجلا .. غير أمينا على .. على التجارة التى جمعت شركته بشركة جدك ,ومن أجلها انتقم منه بضياع ثروته , ربما استحق والدى ما حدث له , ولكن ما ذنبى أنا وأمى فيما حدث ؟ لماذا لم تأخذه بنا شفقة ولا رحمة ؟
-أتقصدين جدى ؟
أومأت برأسها ايجابا وهى مصرة على تحاشى نظراته اليها فغاب عنها رؤية الحنان والحب يتألقان فى ومضات عينيه الأبنوسيتين فقال مشفقا:
-أنت مخطئة يا عزيزتى بحق جدى , أنه لم يكن بهذا السوء أبدا , ربما يظهر للجميع أنه رجل مادى متسلط الا أن هذا ما يفرضه عليه التعامل مع الآخرين فى مجال العمل .. فقد سبق ان أهدانى نصيحة أن أعمل بالمقولة : لا تكن ليّنا فتعصر ولا قاسيا فتكسر ,
فكان دوما يتعامل بقوة لا يظهر ضعفا حتى لا يغرى أعداءه فيتجرأوا عليه ولكنه يخفى بضلوعه قلبا رحيما ..
-ربما أنت تحبه ولهذا فلا تريد الاستماع الى صوت آخر يحطّم صورته فى ذهنك ,ومما لا شك فيه أنه قد دمّر والدى وتجارته بقسوة ثم استولى عليها لنفسه , لا يمكنك أن تنكر أن هذه الشركة التى تتولى ادارتها أنت وعائلتك كانت تنتمى فى الأساس لأبى.
أدار سيف محرك السيارة متغافلا عن منحها اجابة على اسئلتها والتزمت هى بالصمت طوال الطريق الى الفيلا , وحتى هذا اليوم لم يتطرقا مرة ثانية الى هذا الحوار المعلّق.
أخذت تعيد النظر الى ثوبها الفيروزى والذى ينعكس متلألئا على ثنايا جسدها التى بدأت فى الامتلاء قليلا ومنحت نفسها ابتسامة رضا تستعيد تحذير زوجها لها بالأمس :
-عليكِ أن ترتدى أفضل ثيابك على الاطلاق , فهذه المرة الأولى التى ستلتقين فيها مع أبى وأمى وجها لوجه ,وأريدك أن تبهريهما .
ثم طبع قبلة خفيفة على جبينها قبل ان يبتعد مختفيا وكأنه لم يكن ,فى الآونة الأخيرة كان يتحاشى ملامستها أو الانفراد بها .. منذ علمه بخبر حملها , لا تعرف ان كان متضايقا منها أو خائفا عليها.
****************