تعانقت الفتاتان بلهفة عطشان فى الصحراء رأى نبعا بواحة خضراء فارتمى ينهل منه بلا ارتواء ,,وهكذا كانت حاجة كلتاهما للأخرى .. همست مها بعتاب الأصدقاء:
-أهانت عليك سنوات عشرتنا وصداقتنا ؟ هل نسيتِ صديقتك التى هى بحاجة اليكِ ؟
ضمتها هديل أكثر الى صدرها غامرة ايّاها بحنان كأنما تعتذر عن غيابها وهى تقول بأسى:
-لو تعرفين فقط ما مررت به لعذرتنى ..
أبعدتها مها قليلا لتمعن النظر الى هيئتها وقوامها الذى ازداد نحولا عن طبيعته وعينيها اللتين فقدتا بريقهما اللامع .. وشفتيها المضمومتين بحزم .. أطلقت من صدرها تنهيدة عميقة وهى تتساءل بصورة مباشرة:
-أهو السبب فى معاناتك ؟
حاولت هديل فى البداية أن تتصنّع عدم الفهم حفاظا على كبريائها فرددت وراءها:
-من تقصدين ؟
جذبتها مها من يديها وهى ترمى بنفسها على الأريكة لترغمها على الجلوس بجانبها وقالت متعجبة:
-ومن غيره ؟ السيد كريم المتحذلق الآخر ؟ سليل عائلة الحيتان ..
قامت هديل بانكار التهمة المنسوبة اليها وقالت وفى عينيها تصميم:
-لم أعد أهتم لأمره , فأنا لست سكرتيرته الخاصة وشؤونه لم تعد تشغل حيزا من تفكيرى.
رفعت مها حاجبيها الرفيعين باندهاش حقيقى وقالت بخبث:
-هديل .. على من تمثلين ؟ علىّ أم على نفسك ؟ انظرى الى عينىّ مباشرة وأخبريننى أنكِ لا تهتمين لأمره مثقال ذرة.
وأمسكت بذقن صديقتها لتواجه نظراتها الثاقبة فأشاحت الفتاة بوجهها الى الناحية الأخرى وهى تهتف بضيق:
-مها .. توقفى حالا عن أساليبك البغيضة تلك فى استجوابى كمذنبة ارتكبت جرما مشهودا.
اضطرت مها الى تنفيذ رغبة هديل فأفلتتها بحركة مفاجئة ,ثم اعتدلت بجلستها قبل أن ترميها هديل بسؤالها الفضولى:
-ماذا بخصوصك أنتِ والسيد المستبد ؟ ماذا حلّ بزواجكما ؟
سرعان ما تقلّصت ملامح مها الرقيقة بألم جارف وصاحت بأنين روح تحتضر:
-زواجنا ؟ أنها أكبر خدعة فى حياتى .. تلك الفكرة التى زرعتها أمى برأسى .. أننى قادرة على الانتقام من هذه العائلة ..والثأر لما حل بوالدىّ من مآسى على يدى الجد المتوفى ,يبدو أننى عشت بوهم كبير .. آآآه.
ودفنت وجهها بين كفّيها منتحبة ببكاء مرير اثار شفقة ورأفة صديقتها عليها فاحتضنتها بقوة تهدهدها كطفلة صغيرة:
-اششش .. اهدأى يا حبيبتى , انا بجانبك ولن أتركك مجددا.
انتفض جسد مها الغض بارتجافة لا ارادية وهى تجاهد لتقول من بين شهقاتها:
-لا أقدر , لا أقدر ,, أنا متعبة .. أنا .. آآآه.
ربتت هديل على رأسها وهى تقول مشجعة:
-حسنا اذا كان البكاء يريحك فافرغى فيه كافة شحنات طاقتك السلبية , اخرجى ما بداخلك .. اصرخى اذا شئتِ.
ثم أخذت تمسح بخفة على شعرها وهى تتلو عدة آيات قرآنية بصوت خفيض ولكنه مسموع ...
ارتخت أطرافها المتشنجة ,واستكانت روحها الى جوار رفيقتها الأثيرة وهى تدفن وجهها بصدر هديل تستمع الى دقات قلبها المنتظمة .. ثم بعد لحظات رفعت بصرها نحو الفتاة الصامتة وهى تقول بتمتمة :
-أنا آسفة يا هديل .. حقا آسفة ,كنت فى غاية الأنانية .. لم أهتم سوى لحالى ..ونسيت أنكِ تعانين مثلى وربما أكثر.
-لا عليكِ يا مها فنحن صديقتان ,وما نفع الأصدقاء ان لم يكن وقت حاجتنا الى وقوفهم ومساندتهم لنا فى الشدائد.
استعادت مها بعضا من مرحها وهى تقوم منتفضة من مقعدها:
-يااه أنستنى لهفتى اليكِ واشتياقى لرؤياكِ أن أسألك ماذا تشربين ؟
ابتسمت هديل دون رغبة حقيقية وهى تقول لتتجنّب اشعار صديقتها بالحرج:
-وهل أتيت الى هنا لأحتسى الشراب ؟ مجيئى كان فقط من أجل الاطمئنان عليكِ .. احم ,, أخبريننى كيف يعاملك ذلك الـ ... زوج ؟
تاهت مها بأفكارها الخاصة وقالت تغالب دموعها المتساقطة:
-سيف ... أنه فقط لا يشعر بوجودى .. بالنسبة له مجرد سكرتيرة حقيرة نصبت له فخّا لتوقعه بمصيدة الزواج.
قالت هديل باندفاع محموم:
-يا ربى ! كيف تحتملين الحياة معه اذن ؟ مها ,, تعالى معى فلتعودى الى بيتك .. اتركيه .. وارحلى قبل أن تخسرى أكثر.
هزت مها رأسها الجميل يمينا ويسارا برفض قاطع وهى تعود لأنينها الخافت متوجعة:
-لا ... لا يمكن ,لن يسمح لى قبل ... قبل أن ..
وبترت عبارتها فلم تقوَ على البوح لصديقتها ببنود اتفاقهما المشين يوم عقد القران ..
استحثتها الأخرى على الحديث وهى تمسك بمرفقها :
-مها .. ما الذى أجبرك عليه هذا الوحش القاسى القلب .. معدوم الضمير ...
وصبّت عليه سيلا من الصفات المذمومة تشفى به غليلها من تصرفه اللا معقول بحق صديقتها الا أن قاطعتها مها باشارة من يدها قائلة بصوتها المرتعش:
-كفى .. لا فائدة مما تقولينه ,أنا راضية بالبقاء هنا الى جواره كزوجة ,, ولو كلفّنى الأمر حياتى .. أتصدقين أننى بدأت أرى الأمور بمنظار آخر ,ماذا لو كنت أعيش طوال حياتى بوهم كبير من نسج خيالى أو خيال أمى .. أتعرفين والدة كريم .. هناء .. تلك المرأة هى الوحيدة التى تعاملنى بانسانية وكأننى ابنة لها .. ذات يوم حينما عرفوا بحقيقة هويتى وانقلب الجميع ضد سيف وضدى أخبرتنى بأشياء كنت أجهلها .. عرّت الحقيقة أمامى , هل تعتقدين أن امرأة مثلها قادرة على ادّعاء الكذب ؟
أخذت هديل وقتا مستغرقة فى التفكير فى ما تفوّهت به صديقتها وقالت بعد تأنٍ:
-الحق يُقال أن أبى دائما ما يشيد بها .. أنه يعتبرها كملاك يحيا وسط البشر.
قطبت مها جبينها وهى تتساءل:
-أيعرفها والدك ؟
ابتسمت هديل بمرارة وهى تعترف بأسى:
-يعرفها .. نعم يعرفها حق المعرفة .. المهم أننى أنا ايضا لمست طيبتها وحنانها ورقة قلبها ,وبرأيى أنه لا يمكن لها أن تزيّف الحقائق ,, بماذا أخبرتك ؟
أخذت تعض على أناملها بغيظ وهى تتمتم بضعف:
-لا يهم ذكر التفاصيل .. اذا صدقت هذه المرأة فأبى كان شيطانا مريدا وأمى لم تكن بأفضل حالا منه ... كأنها تحكى لى عن شخصين غريبين عنّى لا أعرفهما ,فى البداية أنكرت باصرار ورفضت تصديقها زلكننى رأيت بعينىّ ردة فعل عم سيف .. تعرفينه السيد محمد .. حينما علم بزواجه منى أقام الدنيا ولم يقعدها وكان هذا فقط بعد أن قدّمنى رفيق له باسمى الكامل .. مها كمال الراوى ,, كأن عقربا لدغه ,تكهرب الجو بعدها ... آآآآه , رأسى سينفجر لم أعد أحتمل ,أريد معرفة الحقيقة ...
ثم قبضت على ذراع هديل بشدة وقد طرأت لها فكرة جديدة فقالت بتوسل:
-هديل .. الوحيد الذى اثق بع كثيرا هو والدك ,, لا يمكنه أن يكذب ولو على رقبته سيف مسلط ,اسمعى بما أنه يعرف أبى وهناء ايضا فلا بد أن لديه بعض المعلومات التى ... ربما تنقذنى من حيرتى .. أريد برّا آمنا أرسو عليه .. أرجوكِ يا هديل هل يمكن أن تسدى لى هذا المعروف ؟
ربتت هديل على كتفها بلطف وهى تطيّب خاطرها المكسور بحنان تعدها:
-حسنا , سوف أسأله ولكن هل أنت متأكدة من أنكِ على استعداد لسماع الحقيقة ؟ أعنى ماذا لو لم تكن لصالح والديكِ ؟
ركزّت مها نظرها على نقطة مجهولة من العدم وقالت بصوت آتٍ من هوة سحيقة:
-الحقيقة أحيانا تجرحنا ولكنها تريحنا ,, أنشد السكينة وراحة البال .. تعبت .. تعبت.
ابتلعت هديل ريقها بصوت مسموع وهى تشعر باحساس غريب بعدم الراحة .. تململت فى جلستها ثم نظرت الى ساعة يدها وشهقت بفزع :
-يااااه لقد سرقنا الوقت ولم أشعر بمروره ,مها علىّ أن أعود الى البيت حالا فأنا لم أخبر أبى بخروجى واذا عاد ولم يجدنى سوف ينتابه القلق علىّ ,, حبيبتى سأتصل بكِ يوميا حتى اطمئن عليكِ ,رجاءا لا تغلقى هاتفك كعادتك اذا ما أردتِ الهروب من شئ يزعجك فهذه وسيلتى الوحيدة للاطمئنان عليكِ ومعرفة أحوالك.
شعرت مها بأن توتر صديقتها ليس مرده فقط قلقها على والدها أنها تكافح من أجل الظهور بشكل عادى وكأنها لم تفقد وزنا هائلا ,ترفض باباء أن تعلن عن ضعفها ازاء الوحش الكاسر المدعو كريم .. هى دونا عن غيرها تعرف أن رجال هذه العائلة قساة عديمى الرحمة وحينما يمس الأمر كرامتهم فهم يتصرفون كأسود جريحة هائجة .. ترى ماذا فعلت صديقتها حتى يدّمرها بهذه الطريقة ؟ أنها تتلاشى تدريجيا ,قالت مها بشبه اعتذار:
-أنا آسفة لأننى أثقل عليكِ بحمل همى وأنتِ تحملين فوق أكتافك جبلا منه .. اعذرينى يا حبيبتى فلم يعد لى سواكِ أنتِ وعمى صلاح.
انخرطت الأخرى ببكاء تأثرا بما قالته صديقتها وقالت تمسح عينيها وأنفها بمنديل ورقى قدمته لها مها وهى تغمغم بعد أن هبّت على قدميها تنوى الرحيل:
-لا عليكِ عزيزتى أنا لا ألومك أبدا كان الله فى عونك .. أنت فى عرين الأسد .. أما أنا على الأقل نجوت بأعجوبة.
همّت بايصالها الى الطابق السفلى الا أن هديل منعتها بحركة حادة متشددة وهى تأمرها:
-كلا أنا أعرف طريقى جيدا , ارتاحى أنتِ ,لا يعجبنى شحوب وجنتيك كما أننى سأختنق اذا ما ودّعتك على الباب.
استسلمت مها لارادتها فلم يكن لها طاقة للمجادلة معها ,, ولكنها همست أخيرا:
-لا تنسى اتفاقنا , سأنتظر منكِ مكالمة عاجلة.
أومأت الفتاة برأسها ايجابا وهى تؤشر لها مودّعة فقالت مها :
-تصحبك السلامة يا حبيبتى.
خرجت هديل من الغرفة بهدوء والعاصفة بداخلها تضرب كل أوتادها الثابتة .. انصدمت لمرأى صديقتها تذبل هى الأخرى مثلها وان كانت تدّعى الجلد والصبر ,فلن تحتمل قسوة زوجها ,لن يصمد قناع القوة الذى تتمسّك به ,, هى هشة وحساسة للغاية.
كان الطريق الى الأسفل مشوّشا بسبب بقايا عبراتها التى لم تغادر عينيها صانعة ما يشبه الغيوم أمامها , أطرقت برأسها تمشى الهوينى .. حتى اصطدمت بجدار بشرىّ أمامها فتأوهت بقوة قبل أن تتمتم باعتذار خافت:
-آآه , آسفة.
ورفعت رأسها ليتحقق لها اسوأ توقعاتها ... تعرف انه ليس يوم سعدها .. رأت عينان ناريتان ترمقانها بغضب مستطير بينما صوته القوىّ تردد صداه فى أنذيها برنين مزعج:
-هديل .. ماذا تفعلين هنا ؟
لم يكن بحال افضل منها ,ظهر الانزعاج جليّا على ملامح وجهه الذى ابيّض فجأة وكأن اللون انسحب من بشرته .. حاولت أن تتحرك مبتعدة لتهرب الا أن ساقاها خانتاها شعرت كأنهما لم تعودا موجودتين .. وقبل أن تهوى التفت ذراعان قويتان حول جسدها تمنعها من السقوط.
ازداد ارتباكها وتوترها بصورة ملحوظة فهى لم تكن مستعدة لهذه اللمسات الحارقة التى ألهبت كيانها وأحرقت ما تبقى من منطق سليم تفكر به ,هتفت بهذيان:
-أتركنى ... دعنى وشأنى .. أنا .. كنت فى زيارة لمها.
قاومت بكل ما تملك من بقايا قوة منهارة حتى تتملص من بين ذراعيه لن تسمح لمشاعرها الضعيفة لأن تطفو على السطح مجددا تتغلّب على كبرياء الأنثى بداخلها ,فشدّد قبضته بقسوة وهو ينهرها بضيق:
-كفّى عن محاولاتك الصبيانية ,اذا أفلتّك الآن فسوف تقعين أرضا.
-وما شانك أنت بى ؟ أقع أرضا أم ينكسر عنقى , فلا فارق لديك , لا تدّعى الاهتمام بى ولا تتصنّع الرأفة معى.
شعر بغضبه المكبوت الذى طال كتمانه لأسابيع ينفجر بغتة وهو يراها رؤى العين على قيد أنملة منه وبمنزله ,, آخر مكان توقّع أن يقابلها فيه .. شعر بهزالها ووهنها وصوتها المرتجف خوفا .. أيمكن لها أن تخاف منه هو ؟ لا تفسير آخر لرهبتها ازاء هذا الموقف ورغبتها بالفرار منه .. صاح مؤنبا:
-أنا لن أؤذيكِ ,وما قلته عن عدم اهتمامى غير صحيح اطلاقا .. بدليل أننى لم ولن أتركك تسقطين طالما أنا موجود ..ولا ضرورة لأن تشعرى بالخوف منى .. والآن أعيدىّ علىّ سبب هذا الشرف العظيم بالزيارة ؟
كفّت عن محاولاتها للابتعاد بعد أن أرخى ذراعيه قليلا وان لم يكن كافيا للسماح لها بالتقاط أنفاسها المتلاحقة ,بداخلها كانت ممتنّة حقا لمساندتها فهى وان كانت على شفير الموت لم تكن لتسأله المساعدة ,لن تمنحه السعادة بشعور التفوّق عليها .. لقد أزاحها من حياته كحشرة وضيعة ونسى وجودها .. أجابت وهى تحاول التماسك:
-دعتنى صديقتى لزيارتها .. فهل هناك من مانع لأن تستقبلنى هنا ؟ أم أننى قد أهنت قدر العائلة الكريمة بزيارتى الوضيعة ؟ انظر أنا لم ألمس شيئا ولم ألوّث الهواء المعقّم بالفيلا بأنفاسى.
باغته هجومها المفاجئ ونبرة صوتها التى احتدت بانفعال وهى تسخر منه بمرارة شديدة .. أفلتها بحركة واحدة متراجعا الى الخلف ليتمكن من رؤية تعابير وجهها بوضوح فترنحّت قليلا حتى استقرّت على قدميها تثبتهما بقوة على الأرض وهو يقول بتهكّم:
-أرى أنه قد نبتت لكِ مخالب حادة أيتها القطة الصغيرة .. لوم أعهدك ساخرة هكذا فى الماضى يا هديل , أم ترانى قد انخدعت بمظهر الملاك البرئ ؟
-لم أعد مهتمة برأيك فى شخصى .
رفع حاجبا مترفعا وهو يهتف بدهشة:
-ومنذ متى ؟
-منذ أن نقلتنى الى قسم آخر ,فلم أعد سكرتيرتك الخاصة.
هتف بانزعاج:
-ولكنك ما زلتِ تعملين بشركتنا ؟ أليس كذلك ؟
رفعت سبابتها فى وجهه بحركة لم تكن لتحلم أن تفعلها سابقا ولا فى أحلامها وهى تدمدم:
-وان يكن .. هذا لا يعطيكِ الحق فى تحليل شخصيتى ومحاسبتى على أفعالى .. أنا حرة ,, واذا أردت زيارة صديقتى فلن تمنعنى ..
تشدّق ساخرا وهو يضع يديه على خصره بعد أن أخفض اصبعها المهدد بحركة متسلّطة أثارت الرجفة فى أوصالها:
-أنتِ واثقة من نفسك جدا .. اذا كنتِ تجهلين الحقيقة يشرفنى أن أخبرك بها .. للمصادفة الغريبة ان هذا المنزل هو بيتى الذى اقطن فيه .. هه ما رأيك الآن ؟
أجابته بترفع وقد اكتسب صوتها بعض الثقة والقوة:
-وان يكن .. لست مالك المنزل أنت مجرد فرد من العائلة يسكن فيه ..
فغر فاه بدهشة حقيقية هذه المرة وهو يقهقه هازئا:
-ماذا تقولين أيتها الحمقاء ؟ لا أصدّق أنكِ .. أنتِ .. هديل التى أعرفها ..
قاطعته بحدة وهى تصر على أسنانها:
-أنت لا تعرفنى يا سيد كريم ,واذا سمحت لى أريد الانصراف حالا ,, هل يمكنك أن تفسح لى طريقا ؟
رمقها بنظرة متسلية وهو ينظر الى الممر المتسع أمامها بينما هو واقفا على جانب منه وقال بخفة:
-حسنا اهربى ,, وكما أرى فالطريق واسع وأنا لا أسدّه أمامك.
همّت بالمغادرة واذ دنت من موقعه التفت لها هامسا:
-وليكن فى علمك .. أريدك غدا أن تحضرى الى مكتبى باكرا ,مفهوم ؟
رفعت بصرها اليه بعينين حائرتين تمتلآن ألما لطريقته الرسميّة معها وقالت بتساؤل:
-لماذا ؟
شمخ برأسه عاليا فى حركة مقصودة مظهرا كبريائه العنيدة وقال بحزم:
-أنتِ موظفة لدينا ,, وأوامر رؤسائك لا تُناقش .. فقط التزمى بما أقوله دون تعقيب سوى بنعم وحاضر.
زمت شفتيها قبل أن تقول بحقد:
-حاضر , غدا سأكون فى مكتب سيادتك ... يا شهريار.
وجرت مسرعة بعد أن اضافت الكلمة الاخيرة بنزق قبل أن يستطيع اللحاق بها لتلقينها درسا فاستوقفته ريم التى خرجت من غرفتها بهذه اللحظة تناديه:
-كريم .. مع من تتحدث ؟
التفتت هديل اليها قبل أن تخطو قدماها لتنزل أول الدرج ,وحدّقت بها بفضول تحاول أن تنعش ذاكرتها اين رأتها من قبل , فأنقذتها ريم بندائها المذهول:
-هديل ؟؟ ألا تذكريننى .. أنا ريم ..
تسمّرت هديل بموقعها ثم اشارت بطرف اصبعها نحوها وقد عاودتها الذكرى فصاحت بحبور:
-ريم محمد ... أهذه أنتِ ؟
تراجع كريم الى الوراء حينما تلاقت الاثنتان بعناق قوى وكلتاهما تهمس باسم الأخرى فقال بهدوء:
-هل تعرفان بعضكما ؟
هتفت ريم بسعادة وهى تضم شفتيها بقبلة فى الهواء الى الأخرى:
-أنا وهديل .. كنا زملاء بذات الكلية , هل نسيت يا كريم أننى خريجة كلية سياسة واقتصاد مثلها ؟ وقد سبق واخبرتك أننى أعرفها حينما ..
أرجع رأسه للخلف مقاطعا لها قبل أن تذكّره بموقفه السابق يوم قرّر الاستغناء عنها قبل ان يقول بانتباه:
-حقا ! نسيت هذه المعلومة تماما.
أدركت ابنة عمه أنه لا يريد أن يذكر تفاصيل خاصة أمام هديل فاستطردت بمكر:
-الا أن هديل تكبرنى بعام واحد ..وتعرّفت اليها بسنتها قبل الأخيرة فى الكلية .. ياااه لكم افتقدتك يافتاة.
صاحت هديل متعجبة وهى تشير لها عدة مرات :
-ولكن شعرك لم يكن بالغ القصر هكذا ,كنتِ مميزة بخصلاته الطويلة لم أرَ فتاة من قبل تمتلك شعرا حريريا بذات الطول فى الكلية كلها.
رفعت ريم رأسها الى السماء مستنجدة فلم تعد تتحمّل أن يعاتبها كل من يراها على شعرها وما فعلته فى حقه من جرم ,لكنها لم تتمالك نفسها حين انفجر كريم ضاحكا لرؤيته هذا المشهد المتكرر فسارعت لتوجه له لكمة خفيفة فى معدته انحنى اثرها بجذعه متلويّا وهو يتصنّع الألم والمعاناة هاتفا بحنق وغيظ:
-أصبتنى فى مقتل يا بلهاء ..
-بلهاء !! من تلك البلهاء ؟ سوف أريك ..
وبسرعة البرق خمّن نيتها لأذيته هذه المرة بحق فتراجع خطوتين قبل أن يكتّف ذراعيها معا بقبضته مشدّدا عليهما حتى أنّت بألم صارخة:
-يا لك من جلف ,كيف تتعامل بهذا الأسلوب الخشن معى ..
قال منذرا:
-أنتِ من بدأ التحدى فلا تبكى شاكية اذا ما حاولت الدفاع عن نفسى .. اهدأى .. سوف أتركك اذا ما أقسمتِ الا تعاودى فعلتك مرة ثانية.
راقبتهما هديل بمزيج من الغيرة والحسد ,فهما يتصرفان بعفوية نادرة وكانهما على معرفة وثيقة .. نعم ,, لقد رأتها تخرج من احدى الغرف المجاورة .. اذن هى ... هل من الممكن أن تكون خطيبته ,بالتأكيد فحينما أفلتت يدها تدلّكها مكان قبضته الحديدية التمع بخنصرها الأيمن خاتما ماسيّا , لا يمكن أن تخطئ تفسير وجوده مزيّنا لأصبعها .. هى مخطوبة ولمن ... لكريم .. حبيبها.
-استمحيكم عذرا للمقاطعة ولكن علىّ الرحيل على الفور , فرصة سعيدة أننى رأيتك مجددا يا ريم.
أجفلت ريم للهجة الفتاة الغير وديّة وهى تودّعها بجفاء فمطّت شفتيها دلالة عدم الفهم وهى تسألها:
-ولكنك كنتِ هنا فى بيتنا .. بهذا الطابق لا يوجد سوى غرفنا .. هل كنتِ فى زيارة لكريم ؟
اتسعت حدقتا هديل رعبا من تفسيرها الخاطئ لوجودها بالمكان فاسرعت تنفى عن نسها هذه التهمة النكراء بحدة:
-كلااااا طبعا .. أنا .. أتيت بناءا على دعوة من صديقتى ... مها.
وأشارت بيدها للباب المغلق بعيدا وهى تتعجب كيف لم تسمعهم مها على الرغم من ارتفاع اصواتهم ثم رددت ببلاهة أكثر حينما انتبهت :
-بيتكم ؟ وغرفكم ؟ هل تعيشين هنا يا ريم ؟
أٌغرق القريبان فى الضحك سويا من جهل الفتاة الواضح بصلة القربى بينهما حتى تلوّن وجهها بالأحمر القانى ظنّا منها انهما يسخران من حديثها فقالت باستياء:
-هل يمكنك لأحدكما أن يخبرنى بالنكتة التى ألقيتها للتو حتى تكادان تموتان من شدة الضحك ؟
سعلت ريم لتجلى حنجرتها وقد راعها كم الضحك الذى اثارته فيها هذه الصديقة القديمة وهى التى لم تبتسم من قلبها منذ أشهر مضت وحتى كريم انتابه ذات الشعور لمجرد أنها هديل ملاكه الجميل هى من تسعد قلبه .. ثم قالت باستخفاف:
-ولمَ لا أعيش هنا ؟ هل لديك اعتراض ؟
هزّت هديل كتفيها وهى تقول بلا مبالاة مصطنعة:
-وما شأنى أنا لأعترض ,أنا فقط أتساءل بدافع من الفضول.
-لا يمكن ألا تكونى على دراية بأننى أنتمى لهذه العائلة .. يا هديل.
-أنتِ ؟ ولكن ما الصلة بينكما ؟
تساءلت هديل وقد استولى عليها الغباء فلم يعد عقلها بقادر على التفكير.
-اسمى ريم محمد عبد العظيم الشرقاوى وهذا الذى لا يقوَ على الوقوف ثابتا فقد ضحك حد الثمالة هو كريم وجدى عبد العظيم الشرقاوى ,, هل وجدتِ الرابط المفقود بيننا ؟ لا يمكن .. أنا ابنة عمه يا هديل , ماذا حلّ بذكائك الخارق ؟ كان الجميع يشهد لكِ بالعبقرية ؟
أطبقت جفنيها على عينيها وهى خجلة من اظهارها لمدى سذاجتها وبلاهتها أمامه ,يقع اللوم عليه فلو كان أخبرها كأى سيد محترم بصلة القربى بينهما ما وقعت بهذه الورطة السخيفة.
ربتت ريم على ظهرها بود وهى تهمس بهدوء:
-لا بأس يا هديل ,, لا بد أنها كانت صدمة مفاجئة لكِ شلّت تفكيرك تماما .. أنا أمزح معكِ يا صديقتى وسعيدة أيضا بهذه المصادفة لولا ..
وقطع عبارتها المبتورة وصول رفيق وأميرة الذين عادا لتوهما من زيارة لفريال فى منزلها الجديد ,وقد هتف الأول متسائلا :
-ما هذا الاجتماع الغريب ؟ ما الذى جمع شملكم هنا ؟ خيرا يا ترى أم ؟؟؟
حدّقت به ثلاثة أزواج من العيون وهم لا يدرون حقا كيف يفسّرون له الموقف.
############