المنتدى :
الروايات المغلقة
كواليس أحلام
بسم الله الرحمن الرحيم
منتدى ليلاس ، طابت أوقاتكم ، أنا عضو جديد ، أود نشر روايتي هنا ، بينكم ، بين أروقة منتداكم البهي .
لن أطيل ، و سأدخل مباشرة في الرواية .
الرواية بعنوان : كواليس أحلام
الملخص
كل منا لديه قصة ترويها عنه الايام ، كل منا لديه أحلام ، لا شك ، من الوهلة الأولى نرى أحلامنا مشتركة ، كل منا يتمنى منزلا فخما و سيارة و عائلة جميلة يرجع إليها كل مساء ، أليست هذه هي الأحلام ، بلى ، من يريد أكثر من هذا !
و نحن مقبلون على الحياة شبابا ، لا نعرف ماذا سيحل بنا ، و هل سنتمكن من تحقيق أحلامناا ، لننظر و نحن في نهاية الطريق الى حياتنا قبل أن يطوى ملفها ، سنسخط أو سنرضى ، سنفخر بها أو سنأسى عليها ، و نتمنى لو لم نعش .
أنتم الان جواسيس تطلعون على ذلك الملف السري الذي كتبته الأيام عن أبطالنا
الفصل الأول
ذات ليلة من ليالي يوليو الممطرة ، و في غرفة هادئة ، مبنية من الطين ، تغطيها طبقة من الأسمنت ، تحميها من المطر ، حتى لا تنهار فوق رؤوس أصحابها ، مطلية بلون أخضر باهت ، تظهر في أعلى جدرانها المشققة خيوط العناكب ، التي مضت عليها شهور ، و من حين لآخرx ترى على تلك الحيطان بعض الزواحف و هي تمشي بسرعة ، شبابيك معدنية يصعب فتحها ، و باب حديدي مصنوع محليا ، عند أقرب ورشة للحدادة ، سريران يتقاسمان أحد جوانب الغرفة الطويلة ، و في الجانب الآخر حقائب قديمة و طاولة و شماعة للملابس .
كان هذا هو كل ما يزين تلك الغرفة ، لا ، يبدو أنني نسيت شيئا هناك سلك كهربائي يتيم يشق طريقه على الجدار فوق الباب ليزود مصباحا بالطاقة لينير الغرفة .
على أحد الأسرة يرقد طارق ، الابن البكر لأب يعمل سائقا ، و ينام بقربه أخوه الأصغر أواب .
كان طارق فتى مختلفا عن أقرانه ، كان ذكيا جدا ، لكن لا أحد يعلم ذلك .
جاء الصباح ليرسل أشعته الذهبية على تلك الغرفة التي يسميها أهل البيت " الديوان " و لكن اليوم لم يكن كسابق الأيام كان يوما سيبقى منحوتا في ذاكرة طارق و أهل بيته دائما .
- أتمنى لك التوفيق يا ولدي ..
تمتم الرجل بتلك الكلمات و هو و أسرته يلتفون حول التلفزيون ليشاهدوا المؤتمر الصحفي الخاص بإعلان نتيجة الشهادة الثانوية .
- أنا متأكدة ان الاولى ستكون بنتا
- أنا أيضا أظن ذلك فأنتن عاطلات لا شغل لكن سوى التفرغ للمذاكرة
- ليس كذلك يا ذكي ، بل لأننا عبقريات
- لا ، أنتم فقط تحبون المذاكرة ، و لا علاقة لهذا بالذكاء ، لو ذاكر قرد بعدد ساعاتكم لأحرز درجات أكبر منكن ، معشر العاطلات
هكذا دار الحوار بين طارق و أخته صبا التي تصغره بعامين قبل إعلان النتائج .
" سيقوم السيد وزير التربية و التعليم بإعلان العشرة الأوائل الآن ، بسم الله ، و الحمد لله ، أما بعد :
الطلاب الأوائل في إمتحان الشهادة الثانوية للعام 2014 ، الأول : صبا محمد عبدالكريم حسن ....
.........."
علت وجه الفتاة الصغيرة إبتسامة بريئة ، و بدأ باقي أفراد البيت بالابتسام .
- أخبرتك أنها ستكون فتاة ، لكني لم أتوقع أن تحمل إسمي أيضا
لقد حملت الأولى نفس الإسم ، صبا ، بيد أن أخت طارق كانت للتو قد أكملت الصف الاول الثانوي .
" الرابع : طارق نورالدين محمد .. "
هنا تفجر البيت بالزغاريد ، و إحتضنت الأم إبنها و الفرح في عينيها كالشمس في وضح النهار ، نزلت دموع طارق سخية ذلك اليوم ، و إمتلأ البيت ذلك اليوم بكثير من الاشياء ، كالهدايا ، و الضيوف و بعض الشخصيات المهمة ، المتعلقة بمجال التعليم في المنطقة .
كانت الفرحة في نفس طارق كبيرة ، و كان الإنجاز عظيما ، أو هكذا كان يظن ..
إتخذت هذه اللحظات موضعا مميزا و نحتت نفسها في ذاكرة طارق ، و أثبتت مع مرور الأيام أنها هي اللحظة التي تغير بعدها كل شيء .
كانت نقطة التحول الكبرى في حياة ذلك الشاب ، فعلى إثرها تغيرت جميع مفاهيمه و اهتماماته في هذه الحياة ، لقد ذكرت لكم أنه كان ذكيا ، الا أنه بعدها ، صار عبقريا .
كانت تلك الغرفة الخضراء ديوانا في منزل نورالدين ، الذي يملك سيارة صغيرة يعمل بها ، البيت به كذلك غرفتان مرتبطان ب "هول" مع بعضهما و مطبخ يرتبط بسقيفة مع احدى الغرف ، وحمام .
كان البيت الصغير يقبع في حارة صغيرة بعيدة في أطراف المدينة ، في إحدى ولايات السودان المنسية .
لم يكن بالبيت كهرباء بصفة رسمية ، لم تصل أعمدة الكهرباء تلك المنطقة بعد ، كان بعض الأشخاص في الحي يمتلكون مولدات كهرباء تعمل بالجازولين ، ينيرون لبقية سكان الحي بيوتهم مقابل ورقات مالية . كما أن المياه أيضا لم تصل تلك المنطقة ، فكان سكان ذلك الحي يشترون مياه الشرب من " الكوارو " التي تجرها الحمير . أو من "التناكر" .
هذا ما جعل الإنجاز يبدو عظيما في نفس طارق ، لأنه كان على يقين تام بأن كل من تفوق في إمتحان الشهادة الثانوية مثله ، وضعه المادي أفضل منه بكثير ، و أن بعض الممتحنين قد حصل على دروس خصوصية و مكآفات ووعد بسيارة ، و لكنه لم ينجح ، ما زاده فخرا أنه لم ينجح فقط ، بل في كل هذه البلاد ، لم يتفوق عليه سوى ثلاثة أشخاص فقط من بين نصف مليون طالب ، و لا توجد حتى مروحة تدور فوق رأسه ، بل حتى أحيانا يشتري شمعة ليذاكر دروسه ، لأن صاحب "المولد الكهربي " ليس لديه " جازولين " اليوم .
كان معنى هذا أنه وبالتأكيد سيفارق أهله و مدينته ليدرس في "جامعة الخرطوم" أفضل الجامعات السودانية " ، قبله الطلاب الأوائل ، مما يعني تغييرا كبيرا بحياته المتواضعه .
لكن و قبل الذهاب للجامعة ، مُنح طارق زيارة إلى إيطاليا ، كتكريم له على تفوقه في الإمتحانات ، كما كان سببا لتكريم والديه بفرصة "حج" .
"بحمد الله و سلامه هبطت الطائرة بمطار ليوناردو دافنشي في العاصمة الايطالية روما .. تشكركم الخطوط الجوية القطرية و تتمنى لكم إقامة ممتعة في روما "
ستبقى هذه العبارات أيضا محفوظة لفترة ليست بالقصيرة في ذاكرة طارق ، فهذه كانت رحلته الأولى على متن طائرة ، بل يمكنك أن تقول أنها رحلته الأولى بصفة عامة ، لأنه حتى الخرطوم لم يزها الا ليسافر الى إيطاليا ، فقد قفز قفزة كبيرة ، من أقاليم السودان المنسية إلى أوروبا .
لقد إنبهر طارق بمطار الخرطوم عندما وصل إليه ، لكن عندما وصل مطار حمد الدولي في الدوحة أصبح عاجزا عن وصف ما يراه ، لم يكن يظن أن العالم يضج لهذه الدرجة ، أما بعد أن قضى عطلته الجميلة في ميلانو و روما و فلورنسا و زار البندقية و بيزا و جينوفا ، فقد أدرك تماما أن ما كان يعيشه في منزلهم ذاك لم يكن حياة .
كان كأنه أدرك لتوه أن خريطة العالم التي درسها في حصص الجغرافيا حقيقية ، و أن تلك الاماكن كلها موجودة ، و يمكن زيارتها ، كأنه قد عرف الآن والآن فقط ، أن العالم ليس كله يعيش مثل حياته في تلك الغرفة الخضراء الشاحبة ، بإختصار ، لقد نسي طارق أن العالم ليس كله فقراء ، بل به أناس مترفون .
أصبح يؤمن إيمانا عميقا بعبارة " المال يصنع السعادة " .
لقد عاد طارق شخصا مختلفا من رحلته تلك ، تضاربت كل الافكار التي في رأسه . فقبل شهور كانت أكبر أحلامه ، أن يحصل على "كمبيوتر شخصي" ، أما الآن فحدث و لا حرج .
يقال أن كل شخص يبحث عما ينقصه ، و يرى في الشيء الذي لا يملكه كل شيء ، حتى اذا اقتناه ، فكر بغيره ، و هكذا ، نحن البشر يكاد الجشع يقتلنا ، نطمع في كل ما لا نملك ، لكن هل فكرنا يوما بأن هذا شيء جيد ، فالطموح لا يتعارض مع التواضع و أن تضع أحلامك و تسعى لتحقيقها حتما لا يتعارض مع القناعة .
يولد بعضنا و ملعقة من ذهب كما قيل في فيه ، و يجد بعضنا نفسه في ملجأ للأيتام ، "الحياة غير عادلة"
بعضهم يدعي العكس فيقول :
" أحيانا يفلس والدك ذو الثروة الكبيرة ، أو يزال من منصبه و تأخذ أملاكه ، فتنقلب حياتك رأسا على عقب و تعيش معدما و تفشل ، و أحيانا تستيقظ لتجد نفسك في ملجأ الأيتام أو متشردا و تنجح في حياتك و تعيش مترفا " .
ليبرهن أن الحياة عادلة و أن من كد وجد و ليس من سهر كمن رقد ، فمن إجتهد و تعب وجد ثمرة جهده ، و من كسل و تخاذل و تواكل فشل .
تتباين الآراء و تختلف ، و كل يقتنع فقط برأيه ، طارق كان يقف بشده مع أنها غير عادلة ، و كان يؤمن كما أخبرتكم أن المال يصنع السعادة ، إيمانا أعمق من أن الموت ملاقينا أجمعين . بل كان يحسد المترفين ، و يتساءل ما الذي يتمنونه ، فقد "ولدوا و أحلامهم محققة" ، كما كان يقول . بجدية ، كان لديه فضول أن يعرف ما هي أمانيهم .
يمكنكم أن تعتقدوا أن طارق شاب طائش ، و يمكنكم حتى أن تشفقوا عليه ، لأنه شخص مسكين ، فقير ، عاش أسبوعين على طريقة الأغنياء ، فاختصر الحياة كلها على المال .
كان طارق عندما ينظر الى باب منزلهم يتذكر باب الفندق في روما الذي يفتح تلقائيا عند اقتراب شخص منه ، كما يتذكر عندما يحمل "الابريق " ليتوضأ تلك المواسير التي تعمل بطريقة أوتوماتيكية في مطار حمد الدولي ، و عندما يحمل "الجردل" داخلا الحمام ، يتذكر التوليت الفخم في الفندق بميلانو ، و كيف أنه يمكنك التحكم بدرجة حرارة الماء ، و عندما يذهب الى الغرفة الخضراء ، يتذكر غرف الفندق التي تفتح ببطاقة ممغنطة ، نعم ، لقد كان يقارن كل شيء ، حتى عندما يأوي الى سريره المتواضع يتذكر تلك الفُرُش الناعمة الدافئة في الفنادق ذات الخمس نجوم .
كم هو مريض طارق هذا ، أليس كذلك ؟!
أقسم طارق في قرارة نفسه و بأنانية كبيرة ، أن يعيش حياة مترفة ، أن يقضي حياته في أجمل مدن العالم ، أن يمتلك منزلا فخما و سيارة ، قطع على نفسه وعدا بأن يصبح غنيا ، و أن يخرج من هذه البلاد .
هذا كان ظاهر أحلامه التي لم يكن يشاركها مع أي شخص ، الا نادرا ، أما التفاصيل فقد إختص بها نفسه بكل أنانية ، و لكن وضع خطته و رسم الطريق الى هدفه و هو يغني مع " Sia " بكل ثقة :
I'm unstoppable
I'm a Porsche with no brakes
I'm invincible
Yeah, I win every single game
I'm so powerful
I don't need batteries to play
I'm so confident
I'm unstoppable today
Unstoppable today
I'm unstoppable today
Unstoppable today
I'm unstoppable today
كان حلمه واضحا و بسيطا جدا ، يريد فقط أن يعيش حياته مترفا ، هذا كل ما في الأمر .
دائما ما تكون الأقوال سهلة فكل منا يستطيع ان يقول ما يشاء و لكن القليل من يفعل ، قليل من ينفذ ، و يصدق اقواله بالافعال .
يتجه طارق الان الى منزل صديقه ليقضي معه القليل من الوقت الممتع لانهما سيفارقان بعضهما حيث سيذهب طارق الى الخرطوم .
-ما اخبار حبيبتك سوسن ؟!
-و من سوسن هذه !
-لا تنكر يا صديقي انت تعرفها جيدا
-أنا لا اعرف شخصاً بهذا الاسم
-لا تجبرني على تذكيرك يا طارق
-حسنا ، انها بخير و قد اعترفت لي بحبها قبل ساعات
-يا رجل ! ، هل انت جاد ؟
-نعم بالطبع ، خلال الشهر الفائت تلقيت سبعة اعترافات بالحب يا طه
-يبدو انني سأدرس الصف الثالث من جديد لأكون الرابع على السودان فتقع جميع الفتيات بحبي
-يمكنك ان تجرب
-و ماذا كان ردك عليها
-قلت لها انني ايضا احبها
-و هل أنا تحبها ؟
-لا أعرف ، و لكن لا أظن ذلك
-وبقيه الستة ؟
-اخبرتهم أني مرتبط و لا استطيع الدخول في علاقه معهن
-لو كنت مكانك خرجت كل يوم مع واحده ، أتدعي الاخلاص ام ماذا ؟
-يمكنك ان تقول ذلك ، وانت كيف تسير امورك العاطفية
-انا يا اخي "حجر" لا أصادقهن ولا أخالطهن و ليس لي معهن سبيل
-لكنني اراك مهتما باخبارهن
-ليس كثيرا ، فقط لانك صديقي
-لا تكذب لقد قلت لي انك لو كنت مكاني لخرجت كل يوم مع واحدة
-ربما لا اظن ان هذا هو الوقت المناسب
-اذا انت تنتظر الجامعة ، واخيرا سأراك مع سرب من الفراشات
-فلنغير الموضوع
- وعماذا سنتحدث ، لاشيء
-ما هي افكارك و مخططاتك للدراسة بعد تفوقك هذا
-كما تعلم ، ساذهب الى الخرطوم و ادرس الهندسه في جامعه الخرطوم
-لا اقصد ماهي الخطط بعيده المدى ؟
-إنتظر حتى يقترب مداها اذاً
-تعرف كيف تتهرب مني ، انا الان سوف أغادر ، اعتذر اليك عن هذا ولكنه امر طارئ
-لا باس
- سأعود لزيارتك قبل ان تسافر ان شاء الله
- جيد ، الان وداعا
- الى اللقاء .
كان طارق و طه صديقين مقربين جدا درسوا مع بعضهم منذ الصف السابع الاساسي حتى المرحلة الثانوية و الان سيفترقان في الجامعة و سيمضي كل منهما الي حال سبيله .
يخطط طارق في هذه الايام لتوديع اكبر عدد ممكن من الاصدقاء لأنه سفره قد اقترب ، فخرج مباشرة من عند طه الى منزل صديقٍ اخر الا انه لم يجد في المنزل فعاد الى بيته ، و في المنزل اخبرته والدته أن أباه ينتظره في غرفته ليحادثه حول موضوع مهم .
- نعم يا والدي خير
- خير يا ولدي ، خير ، كيف تسير ترتيبات السفر
- في افضل حال ، ذهبت اليوم لقضاء الوقت مع صديقي لأودعه الا انه وعدني انه سيزورني قبل سفري
- انت تعلم يا ولدي ان الانتقال للعيش في مكان اخر ليس بالامر الهين
- نعم ادري ، توديع الوطن مهما كان أمر قاسٍ
- انا اثق بك و متاكد ان لانك ستنجح يا ولدي و لكن أحب أن اوصيك بعض الاشياء
- قل يا والدي
- اوصيك اولا واخيرا بنفسك ، حافظ عليها و تجنب العادات السيئة و اصدقاء السوء ، ركز على اهدافك و دراستك ، كن كما عهدناك هنا ، اياك والكسل و التسكع و السهر فيما لا يفيد ، انا لا امنعك من التسلية لكن لكل شيء حدود فلا تتخطها ، و أعلم يا ولدي أن الحمل ثقيل و المسؤولية أكبر مما تتخيلها .
- لا تقلق يا والدي كلامك حلقة في اذني ، شكرا لك ، سأتركك تنام قليلا فانت متعب
- اجلس قليلا يا ولدي ، هذا ليس ما اردت ان اقوله لك ، كنت أود اخبارك بأن عمك أحمد قد تكفل بمصروفك في الجامعة شهرياً حتى تتخرج
- ممتاز ، جزاه الله خيرا ، سأتصل به واشكره
- اتمنى لك التوفيق يا ولدي
- تصبح على خير يا والدي
عاد طارق إلى سريره في غرفته الخضراء ، و كعادته قبل أن ينام ، بدأ في التفكير فيما دار خلال يومه .
إستغرب من صراحته الزائدة مع صديقه طه ، و إخباره أن الفتيات صرن معجبات به بعد نجاحه الباهر ، فهو في العادة لا يفتح مثل هذه المواضيع مع صديقه ، و لكن كان الأمر لا يهمه كثيرا ، على عكس صديقه الذي بدا عليه الأهتمام .
يمكن لكل فتاة أن تصف فارس احلامها ، و يمكن لأي شخص أن يضع مواصفات لفارس الأحلام ، فكل الفتيات يتمنين شابا وسيما مفتول العضلات ، طويل الأنف ، ناعم الشعر ، خفيف اللحية ، بساما مؤنسا لطيفا ، و أخيرا و ليس آخرا ، غنيا .
لكن بعضهن ، لا تجذبها الوسامة و طيب الحديث ، قدر ما يعجبهن الرجل العبقري ، نعم ، هناك من ترى من الرجل عقله ، و تشتهي ذكاءه و دهاءه .
بعد أن تفوق طارق لم يهدأ حسابه على الفيسبوك دقائق ، الا ووصله "طلب صداقة" ، لقد كان فارس أحلام الكثيرات من بنات منطقته ، حتى اللواتي لا ينجذبن للعبقرية ، لم يكن لديهم مانع أن يكون لهم طارق "مجرد رفيق" فلم يبخلو على العبقري بضغطة زر "إضافة صديق"
كم هن أغبياء بنات هذه المنطقة ، ألا يعلمن أن أمرهن مكشوف ، لم يتجاوز الحديث دقائق و تعترف بحبها ، هل تظن أنه سيوافق بسبب بضع كلمات معسولة ، كان يمكنها على الأقل تأخير الموضوع حتى تهدأ أجواء إعلان النتائج ، حتى لا يبدو الأمر واضحا ، يبدو أنها تستخف بذكاءه ، أو أنها إستعجلت أن تتفاخر أمام صديقاتها بأنها "حبيبة العبقري" .
لم يعر طارق أي إهتمام لهؤلاء " المعجبات " إلا سوسن ، التي كانت صديقته المقربة منذ أيام الطفولة ، و كان يحس انها تحبه ، و أنهما سيرتبطان يوما ما ، إنتظرت سوسن تلك اللحظة ، لتكشف عن حبها له ، فقد نفد صبرها ، فطارق شخص غريب ، و لم يكن ليصارحها مهما كان قدر حبه لها .
أحست بالسعادة عندما أخبرها أنه يحبها أيضا ، و لكنها حزينة لأنه سيفارقها إلى الجامعة ، و لا تدري أنه لا يهتم بأمرها كثيرا ، بل هو لا يكترث لأي شيء ، و لا أحد يعلم ما يدور برأسه .
ثم ينسى طارق موضوع الفتيات هذا ، لأنه ليس شغله الشاغل - هذه الايام على الأقل - و يتذكر وصايا والده الحنون .
" سيتكفل بي عمي ، المقيم خارج السودان ، في الإمارات ، يبدو أنني سأعيش حياة فيها نوع من الترف في الخرطوم "
هكذا همس طارق لنفسه قبل أن ينام ، ثم سحب الغطاء على بدنه و هم بالنوم ، ليتذكر بقية حديث والده ، عن أن المسؤولية على عاتقه كبيرة ، فوالده سائق متواضع ، دخله يفي بالكاد لإحتياجات أسرته ، و لديه إخوه أصغر منه ، بل هناك طفلة لم تدخل المدرسة بعد .
تتكاتف الغيمات و تتحد لتكون سحابة عظيمة تسد الأفق و تمنع نور الشمس أن يقبل تلك الأرض الرملية العطشى ، و يشتد هبوب الرياح و يتعالى صوت الرعد معلنا عن وصول أمطار غزيرة ، و تبدأ القطرات خفيفة ، واحدة تليها أخرى ، ثم الآف من القطرات الباردة تضرب سقف الغرفة الخضراء محدثة طرقات صاخبة توقظ طارق من نومته الهنية ،فلا أحد يستطيع النوم تحت سقف الزنك مع أمطار غزيرة ، ليجد أن وقت الفجر قد اقترب ، لقد كانت منبها طبيعيا لصلاة الفجر .
وقف طارق ينظر من خلال الشباك الى منزلهم و هو يمتليء بالماء ، و يتذكر أن عليه فتح المجرى لتصريف المياه ، فيخرج في تلك الأمطار الغزيرة حاملا معه مجرفة ، و ينجز مهمته و يعود مبللا إلى الغرفة ، يبدل ملابسه ، و يصلي الفجر .
جاءت أخته الصغرى صبا ، و هي تحمل بيدها كأسين من الشاي الممزوج بالحليب ، مع قطع من الخبائز .
جلست بجوار أخيها ، ووضعت الكأسين على الطاولة .
-صباح الخير ! أيها المسافر
-صباح النور ، الجو في الخارج جميل ، فلنخرج
فيحمل طارق كرسيين و تحمل أخته الطفلة الكأسين و الطاولة و يجلسان في "حوش" منزلهم .
-يبدو أنكِ اليوم على غير طبيعتك
-أخي سيسافر غدا ، و هذا آخر "شاي صباحي" أشربه معك ، وتبتسم
-ظننتها ككل مرة عندما تريدين مني أن أقدم لك خدمة !
-لا بالطبع ، بالمناسبة ، لا تسافر يا غبي ، من يوقظنا فجرا ، و من يراجع مع أسماء دروسها ، من يذهب للسوق ليشتري الحاجيات لأمي ، و من يتقاتل مع أواب ، و من يساعد أخته الصغرى في دراستها ، و ينفذ لها طلباتها ؟!
- يمكنكم أن تستيقظوا بالمنبه ، و أسماء ليست مثلك فهي ذكية و لا تحتاج المراجعة بعد الآن ، يمكن لأواب العاطل أن يذهب للسوق ، و أنتِ ، إعتمدي على نفسك ، هكذا أصلحت كل شيء !
-كم أنت عبقري ، و تضحك
-سأفتقد بسكويتك هذا ، أحضري كأسا آخر ، و صحناً من البسكويت ، يا طباختنا الموقرة .
-صحيح ، سأفتقدك أيها الأكول .
تحب صبا أخاها الأكبر ، و تحترمه ، و تتخذه قدوتها في الحياة ، فالعلاقة بينهما جيدة ، و أحاديثهم طويلة لا تنتهي .
ثم يمضي طارق بعض الوقت مع والده ، و بعد أن غادر والده للعمل ، ذهب هو الى السوق ، و أحاديث وداع مدينته لا تفارق ذهنه ، هذه آخر مرة سيذهب فيها الى السوق ، بالتأكيد سيشتاق لوالديه و أخوته ، و لمنزله الجميل ، و غرفته الخضراء .
يرن هاتف طارق فجأة ، فأذا بها سوسن ، تلك الفتاة العاقلة ، الهادئة ، صديقة الطفولة ، أول تجربة له مع جنس الفتيات ، هي لا تتصل في العادة ، أغلب أحاديثهم تدور عبر الرسائل ، لكن هذه المرة ، اليوم مميز ، فهو آخر يوم لحبيبها في المدينة ، تود لوx تقضي اليوم كله معه ، لتتأمل وجهه ، و تحفظ كلماته ، تود أن لا تفارق عينيه السوداوتين عيونها الناعسة ، تود أكثر من ذلك ، لكن لا تجرؤ على ذلك ، كما أن الأجواء غير مساعدة .
شاهدت سوسن الكثير من الافلام و المسلسلات التركية الرومانسية ، و هي تعرف كيف تحادث حبيبها ، الذي تحبه بصدق ، نعم ، هي تحبه بصدق ، و تتمنى لو تعيش معه كل عمرها ، و قد تقدم شاب لخطبتها فرفضت ، قلبها لا يسع سوى طارق ، لا أحد غيره ، لم تكن واثقة أن طارق يبادلها نفس القدر من الشعور ، لكن كانت ترى في عينيه شيئا من الحنان يرضي أحاسيسها .
سوسن فتاة جميلة ، أو بالأحرى ، كانت مميزة ، جفونها ناعسة قليلا ، عيناها عسليتان و حواجبها غزيرة ، فهمها دائري صغير ، حديثها مؤنس ، و كلامها لطيف ، إجتماعية ، و مثقفة ، و ذكية ، و تحب طارق .
يوجد القليل مثلها في المنطقة .
طارق يحس بشيء تجاهها ، لا يدري هل هو إعجاب طبيعي لأنها فتاة جميلة ، أم أنه يحبها حقا ، مع أنه لا يؤمن بالحب ، و هي بالنسبة له شخص قريب ، و يهتم لأمرها حقا .
-ألو !
- حبيبي ، كيف حالك
-أنا بخير ، كيف تسير أمورك
-ليست جيدة اطلاقا ، فحبيبي سيغادر المدينة
-لا تقلقي سأعود كل أجازة
-ما هي برامجك لهذا اليوم ، آخر يوم لك هنا ؟
فكر طارق أن يسعد هذه الفتاة قليلا اليوم ، فقد لاحظ من صوتها أنها ستشتاق له و أنها حزينة لفراقهم المحتوم .
-ما رأيك أن نخرج اليوم معا في المساء يا سوسن ؟
لم تصدق سوسن ما تسمع ، و قالت :
-ماذا قلت يا طارق ؟!
-قلت لكِ فلنخرج اليوم معا
لم تكن تظن أن أمرها مهم عنده ، فاليوم آخر يوم له و أصدقاءه بالطبع ينتظرونه ، و لديه ألف مشروع لينجزه قبل أن يغادر ، أحست لوهلة أنه يمزح .
-لا مانع لدي
-إذاً نتلقي الخامسة في "سبأ" ، هل يناسبك الوقت
و يسألها هل يناسبها ، ألا تعلم يا طارق أنك لو قلت لها أن تأتيك في الثالثة فجرا ، ستلبي نداءك .
-بالطبع يناسبني
-اذا نلتقي المساء ، أنا الآن في السوق ، مع السلامة
-باي ، حبيبي
بالنسبة لسوسن ، تحقق حلمها ، ستقابل حبيبها و ستقضي معه سويعات ، ستفعل أي شيء لتجعل اللقاء أطول ما يمكن ، و بالنسبة لطارق فقد أقدم على هذه الخطوة بتلقائية ، و لم يكن معداً لها أبدا ، و لا يدري ما سيقوله لها ، لكنه نوى أن يسعدها ، تذكر أنه إشترى شيئا من رحلته إلى ايطاليا تلك ، إشتراه من أحد الباعة المتجولين قرب البحر في مدينة رافيلو المطلة على خليج ساليرنو ، لقد إشترى خاتما ، محفوظا في بيت أحمر على شكل قلب ، بدا هدية مميزة لهذه الفتاة التي تحبه ، مع أنه لم يشتره خصيصا لها ، ربما أراد أن يحتفظ به كتذكار من تلك الرحلة ، و لكن بالطبع فكر بها عندما إشتراه ، أراد أن يجعل هذا اللقاء مميزا ، فقرر أن يهديها له بطريقة رومانسية ، ليجعلها تحس بأن لها مكانة خاصة في قلبه ، و أنه لا يريد أن يخسرها
هؤلاء مراهقون أكملوا للتو المرحلة الثانوية ، ربما هذا أمر عادي لو كانو في أمريكا مثلا ، فهناك ، المرحلة الثانوية هي أجمل فترات حياتك ، تقضيها في اللهو و المرح مع الاصدقاءx تنال فيها قُبلتك الأولى ، و ربما تحظى بغنيمة أكبر .
لكن هذا الثنائي ، رغم علمهم بأن نظرات المارة في الشارع ستكون عليهم ، و سينتقدون تربيتهم ، لأن هذا يخالف أعراف المجتمع ، و شرائع الدين ، تمردوا على كل هذا و قرروا ، أن يسيروا مع بعضهم في الشارع أمام الناس ، و يدخلوا المطعم و يجلسان و عيونهم لا تفترق ، و أحاديثهم همس ، يُضحكها و تُضحكه ، تمدحه و يغازلها ، كما قرر أن يهديها خاتما بطريقة رومانسية ، تماما كما كانت تشاهد في المسلسلات .
ربما هذا الثنائي نادر في منطقة كالتي يعيشون بها ، لا ليس نادرا ، حتما لا يوجد مثلهم ، شاب عبقري يضع خطة لحياته ، و يعرف تماما ما يفعل ، و فتاة ذكية حالمة ، رغم أن بعض أفكارها طفولية و غير واقعية قليلا ، إلا أنها ليست كغيرها .
بقية شباب المنطقة ، يسير بلا هدف ، و يقضي أيامه يمرح ، من حفلة إلى أخرى ، مستمتعا ، ظاناً أنه يعيش حياة جميلة ، يشاهد الافلام الأجنبية و لا يفهم منها شيئا ، كل ما يريد هو مشاهد الآكشن ، كما يحب المشاهد الرومانسية ، و يسمع الأغاني المحلية ، التي لا تمت للفن بصلة ، و بعضهم يسمع الأغاني الإنجليزية دون أن يعي حرفا واحداً ، فقط يطنطن بألفاظ غير مفهومة ، فاشل في دراسته ، و بعضهم يترك المدرسة ، لا يعرفون أي شيء عن أي شيء ، خيرهم ، لو سألته ماذا تريد أن تفعل في المستقبل ، سيخبرك أن غايته ، أن يشتري قطعة أرض و يبنيها ، و زوجة تزف إليه في صيوان يدق بقلب حيّهم الكئيب هذا .
و الفتيات كذلك ، عقول خاوية ، لا يعرفن شيئا سوى الثرثرة .
ربما ليس لهم ذنب في هذا ، فهذا طبيعي بالنسبة لوضعهم المادي ، فهذا ما وجدوا نفسهم عليه ، فلو وجدوا نفسهم في بيئة مثقفة و غنية ، ما كانوا هكذا حتما ، لذلك الحياة غير عادلة .
بعد عودته من السوق ، ذهب إلى أصدقائه الذين كانوا مجتمعين ينتظرونه ، و بقي معهم حتى المساء ، ثم ودعهم فرداً فرداً ، و ذهب ليلاقي سوسن .
"بالتأكيد سيكون اللقاء مميزا" ، هكذا همست سوسن لنفسها و هي تقف امام المرآة تضع مكياجها ، بعد أن إختارت بعناية الملابس التي ترتديها ، ثم وضعت الخمار على رأسها ، دون أن تحكم إغلاقه كما تفعل دائما ، لقد أرادت هذه المرة أن تكشف عن شعرها لتبدو أكثر جمالا في عيني حبيبها ، ثم تعطرت و أخذت حقيبتها و خرجت .
وصل طارق مبكراً ، و جلس على الطاولة وحيداً ، فتح هاتفه و أخذ يتصفح معرض الصور ، فلاحظ أنه لا توجد صورة تجمعه بسوسن ، ثم وضع سماعة الأذن ، و أخذ يستمع الى الأغاني ، و بعد قليل سمع صوتا ملاءكيا يقول : "مساء الورد " ، لقد سمعه واضحا و كأن العالم يغط في صمت عميق ، رغم أن الموسيقى الصاخبة تشتعل في أذنه ، سمع مخرج كل حرف جليا كما لو أنه يُنطق في درس للتجويد ، و رفع بصره ، فإذ بالبدر مكتمل ، كانت ترتدي "جاكيت" أزرق أنيق ، مزين بأشياء تلمع ، و كان عطرها قد فاح في أرجاء المطعم ، لم يكن يدري أنها جميلة هكذا ، لقد أحس بأنه محظوظ .
"مساء الانوار ، إجلسي " ، أجاب و هو لا يزال ينظر إليها ، فأحست بالخجل و جلست بسرعة ، أخرج هاتفه ، و فتح لعبة الشطرنج ، ثم وضع الجهاز أمامها على الطاولة .
لعبة الشطرنج ، المكر و التدبير ، الصبر و التأني ، الدهاء و العبقرية ، كان لهذه اللعبة مكانة خاصة عند طارق ، لكن ما الذي يجعله يضعها أمام محبوبته في موعد غرامي .
-ما هذا يا طارق ، هل تريدنا أن نلعب الشطرنج الآن ، و تضحك .
لم يكن لدى سوسن أي مانع ، إلا أنها كانت تريد إستثمار الوقت في النظر لطارق و ليس لهاتفه .
-اذا فزتِ علي سأبقى و لن أرحل .
-تحكم مستقبلك بمباراة شطرنج ، يبدو أن واثق جدا من قدراتك ، لا أرى الوقت مناسبا لهذا .
يبتسم بخبث و يقول : "يبدو أنكِ تضيعين فرصة بقائي"
-لأكون صريحة ، سوف تهزمني أيها العبقري .
-لقد هزمتني المرة السابقة ، ألا تتذكرين ، أنت لاعبة مميزة
-لقد جعلتني أفوز عليك بإرادتك ، أنت يا طارق تحتاج "كورسات" في "فن الخروج في موعد " ، لا يمكن أن نتحدث عن الشطرنج هنا .
-و عماذا سنتكلم يا أستاذتي .
-لا أعلم ، أنت العبقري هنا .
-لماذا تكثرين من "العبقري" هذه
-هكذا أحب أن اناديك .
-لست عبقريا ، و لكن إفعلي ما شئت .
تخرج سوسن من حقيبتها ساعة سوداء أنيقة و تمدها إلى طارق و هي تبتسم .
-لقد أحضرت لك هدية ، أتمنى أن تعجبك
-شكرا ، أنها حقا أنيقة ، سأتذكرك كلما نظرت إلى الساعة .
و يقطع موظف المطعم حديثهما ، و يضع "قائمة الطلبات" .
يكتفي الإثنان بطلب العصير و الآيسكريم .
-ليس هذا من عاداتك يا أكول ، ظننتك ستطلب القائمة كلها .
-لا أدري لماذا يصر الجميع على وصفي بالأكول .
-بسيطة ! ، لأنك أكول ، و تبتسم برقة .
يبتسم طارق لإبتسامتها ، فتغير الموضوع بسرعة ، قائلة : "إحكِ لي عن إيطاليا " ، لقد أخبرتني أنها مدهشة و مميزة .
-لقد كانت مدهشة ، أعني أن الرحلة كانت جميلة ، و مميزة لأنها كانت الأولى ، الرحلة دائما ما تكون جميلة بغض النظر عن الوجهة ، فكل بقعة في هذا العالم تستحق الإستكشاف ، سنجوب العالم معا في المستقبل يا أميرتي .
أعجبتها عبارة أميرتي هذه ، فإبتسمت بخجل ، و هربت بعينيها إلى الأسفل .
-بالمناسبة ، أحضرت لك شيئا من هناك ، ثم أخرج العلبة و فتحها وَوَجَّهها إليها .
وضعت يدها على فمها غير مصدقة ، بدا الأمر و كأنها في أحد مسلسلاتها التركية .
ثم أخذ طارق الخاتم ، طالبا منها أن تسلمه يدها ، ليُلبسها الخاتم .
نظرت اليه و إبتسمت بحب ، ثم مدت يدها ، فوضع طارق حلقة الخاتم حول إصبعها الرقيق ، نظرت الى يدها و قالت ضاحكة : " يبدو أنني من يحتاج الكورسات" ، إبتسم طارق لها بعفوية ، و قال : "أرجو أن ينال اعجابك" .
-لن يضيع هذا الشيء أبدا يا طارق .
إن من أفضل ما نقوم به في هذه الحياة إسعاد من نحب ، إنه حقا شيء رائع ، أن نجعلهم بفضلنا ، يشعرون بالفرح ، أن نكون سببا في رسم إبتسامة على وجوههم ، أن ندخل قلوبهم ، بلا استئذان ، خرجت سوسن ذلك اليوم و هي على قمة العالم ، لقد عاشت للتو لحظات ربما لن تكرر في حياتها ، لقد عادت للمنزل و هي تبتسم لوحدها كالمجنون .
عاد طارق الى البيت بعد أن استلم امواله التي حولها له عمه ليقضي اخر ليلة في منزله قبل ان يسافر صباح الغد ، اجتمعت العائلة ذلك اليوم و حضرت أمه وجبه عشاء راقية لوداع ابنهم البكر الذي يغادر حاملا معه احلامه و احلامهم ، مدعماً بدعوات الوالدين مصحوباً برضاهما التام عنه ، ليعيش تجربه جديدة هي في الواقع اول تجربة له فهو لم يتعود على مفارقة أهله لاكثر من ايام ، ليفتتح جزءاً جديداً من حياته ، لتبدا الايام بكتابة فصلٍ ثانٍ من قصته ، مسدلا الستار على ايام قضاها في مدينته الأم ، مسقط راسه ، على اصدقائه و بيته ، على مشاهد طفولته البريئة ، سيذهب ليعيش وحيدا و هو إبن السابعة عشرة ، تتغير مسؤولياته فجاة ً من غسيل ملابسه و إنهاء دروسه الى حياة كاملة مستقلة ، على طارق حتما أن يكون قويا .
شده طارق رحاله و حزم حقائبه وودع اخوته الصغار لانهم لن يستيقظوا فجرا لتوديعه ثم ذهب لينام ، و لكنه لم يفعل .
قضى الليل يفكر ويفكر ، غاص بخياله في أدق تفاصيل مستقبله القريب ، كان يحب التعمق في التفكير ، وكأنه يعيشx ما يفكر فيه .
ربما ترون أنه يبالغ ، وربما تظنون أن هذا ليس بالأمر الكبير فهو في النهاية سيبقى معهم على إتصال بل سيعود اليهم كل بضعة أشهر ولكن رغم هذا فالأمر عصي على فتًى لم يتجاوز السابعة عشرة .
و في الصباح الباكر رافق والد طارق إبنه الى الميناء بسيارته بعد أن ودّع أَمًَه و استودع أسرته و منزله اللهَ الذي لا تضيع ودائعه و ركب الباص دون أن ينظر الى الخلف كان يتطلع فقط للأمام ، كان الباص يتجه شرقا فكان نور شمس الصباح يضرب في عيونه الناعسة التي لم تنل نصيبها الكافي من النوم ، بيد أنها نالت كل نصيبها من الاحلام .
"تتغير الأيام و الحلم واحد"
إنه الثالث عشر من اغسطس عام 2016 ، لقد مضى على طارق في الخرطوم قرابة عامين ، و هو الآن يستعد لإمتحانات السنة الثانية له في كلية الهندسة ، يعيش في شقةٍ يتقاسمها مع صديق له من الجامعة من إحدى الولايات أيضا .
لقد إتضحت الرؤية أكثر ، تغيرت نظرة طارق إلى الدنيا ، صار أكثر هدوء و اقل اجتماعية ، لم يعد طارق الذي تعرفونه ، فقد تغيرت أفكاره ومفاهيمه كثيراً لقد نضج و أصبح اكثر منطقية أصبح ينظر للعواقب قبل ان يقدم على شيء ، ويفكر في كل خطوة قبل أن يخطوها ، قضى العامين يراقب ما يدور حوله دون ان يصنع أي تاثير ، لقد كان مستمعاً جيدا ، كأنه يكتشف الحياة للتو ، كان يتأمل بحرها الشاسع وهو يقف بعيداً لا يخوض في شيء .
قضى الشهور الأولى يفكر في الخروج من البلاد حاول بكل الطرق و لكنه لم ينجح ، لم ينجح فقط ، دون أسباب ، فأحيانا ، يا اصدقائي ، تفعل كل شيء دون أن تنسى حرفا ، تتقن الأمر و ربما تقضي فيه عمراً ، و تفعل كل ما تستطيع و بعضاً مما لا تقدر ، ورغم ذلك يأبى الأمر و يتمنع ، يرفضك كما لو أنك عدوه الاول و يغلق دونك أبوابه هكذا فقط ، بدون اي مبررات .
لقد تقدم طارق لعدد كبير من المنح الدراسية في عدد من البلدان حول العالم ، لقد كانت كل الشروط منطبقة عليه و أكثر ، لقد كان أكبر المرشحين للفوز بهم جميعا ، ولكن لم تُرِد له الحياة الا ان يبقى في وطنه حتى انه تقدم برنامج "الهجرة العشوائية لأمريكا" وهو يعلم انه - ان فاز - فلن يذهب فالأمر مكلف مادياً بالنسبة له ، كما أن أهله لن يوافقوا على الاغلب .
كان موضوع المنحة سيغير حياته جذريا ، سينقله إلى عالم اخر مختلف تماما ، كان يؤمن بانه سيكون أفضل ان خرج ، كان واثقا من قدرته و كان متعلقا بهذا الامر كثيرا حتى انه بدأ تعلم لغات بعض الدول التي تقدم للدراسة فيها .
أما الآن فقد اقتنع بأن الحياة هي الحياة ،xوأنه ان عاش في أي مكان فلن تتغير حياته للأفضل اذا لم يجتهد ويعمل ، وأنه حتى في هذه البلاد السقيمة يمكنه أن يعيش حياةً جميلة .
في أيامه الاولى كان يتصل على والديه يومياً ، فليس له غيرهما كما كان مشتاقاً ، أما الان فقد أصبح مشغول بالدراسة و الاصدقاء ، كما أنه تعود على غيابهما .
أما حبيبته ففي لحظة - إستنتج أنها لحظة طائشة فيما بعد -x تخلى عنها دون أي مبررات ، حتى هو لم يستطع تبرير فعلته لنفسه إلى الان ، لقد اخبرها هكذا فجأة ، أنه لا يحبها انصدمت الفتاة المسكينة فهذا الشيء هو آخر ما كانت تتوقع سماعه لقد خذلها و ضرب بقلبها و مشاعرها عرض الحائط و هي التي تعشقه حد التشبع ، لقد ملأت نفسها منه ، لقد رسمت مستقبلها معه وخَطَّت كل خططها و لم تخلُ أي منها منه ، تكره ما يكره وتعشق ما يحب ، لا تبتسم حتى يرضى ، لو طلب منها المستحيل لفعلت ، لا يهدأ لها بال أن مسه مكروه ، تفديه بروحها ، ترجو لو يسبقه البأسُ إليها ، و تُفَضِّل إذا نواه الشَرًُ ، أن يقع عليها ، يستحيل أن يجد طارق من يحبه مثل ما فعلت .
بكت سوسن بكاء الطفل اليتيم بكت بحرقة حتى جفت عبراتها وأخرجت كل شيء من داخلها ، لم تنم تلك الليلة ، كانت تئن أنينا كمريض ينتظر الموت ، لقد كان أكبر أخطائها أنها أحبت هذا اللئيم بصدق .
أدرك طارق انه ارتكب أكبر جريمة في حياته ، وعرف قدر حبها العظيم له ، لقد كان قلبها مملوءاً بتفاصيله ، كان يدق باسمه و يضعف اذا لم ينل جرعة من صوته ، و ما كان جزاءها ؟ لقد وَرَّم عيونها الجميلة ، وَوَسَّدَهَا تلك الليلة دُموعها ، كسرها كسراً لا يُجبر .
لا يزال يراسلها كل بضعه اشهر فترد ردوداً باردة ، أبرد من سان بطرسبرغ في الشتاء ، وغالباً لا تتجاوز المحادثة السلام و الاطمئنان على الأحوال ،x كانت لا تبادره الحديث أبدا ، يكفي انها لا تزال تحتفظ برقم هاتفه ،x كان قد وعدها أن يكون معها على تواصل دائم ، و ألا يفرِّقهم الا الموت ، و هو الان نادم يتمنى لو تجود عليه برسالة صادقة تخرج من قلبها ، لقد إشتاق لضحكتها و لصوتها الملائكي ، و عيونها الناعسة الجميلة ، و لكنه أفسد كل شيء بيديه .
لقد كان دوما يتساءل ، هل محى الزمن آثار الجرح ، أم أنه لا يزال ينزف ، و هل يستطيع تضميد الجرح و تطبيبه ، أجيبيه يا سوسن ، هل من طريق لجبر الكسر ، هل من سبيل ؟
أصبح يتمنى لو يرجع إليها ، لكنه تارة يفكر أنه لا يستحقها ، و يتمنى فقط أن تكون سعيدة .
|