الفصل العشرون
خاصم النوم جفونها ليتركها مسهدة معذبة بأفكارها المتصارعة ,بالرغم من سنوات عمرها التى قاربت الثمانين عاما والتى شهدت خلالها الكثير من المآسى والمصائب التى اعتقدت حينها أنه لا فرار منها ,واليوم تتحقق أسوأ مخاوفها .. أن تتمزق أسرتها الى أشلاء متناثرة , أن يعم الشقاق أرجاء منزلها , أن يسود الجفاء بين أبنائها ,لقد سعت طوال سنوات زواجها الستين أن تبقى بيديها زمام الترابط الأسرى حتى لا تفلت الأمور من معقلها ,فقد رأت بعينيها ما طال أسرة زوجها من قبل بعد وفاة حماتها , قبل أن تصير هى كنتها بالطبع فهذا حدث قبل مولدها -وقد قصت أمها عليها الحكاية بالتفصيل فيما بعد ,وتشتت السبل بزوجها بعد زواج أبيه من امرأة أخرى ,لهذا فهى تلتمس العذر أحيانا لتصرفات زوجها القاسية ,كان يفتقد الى الحنان فى حياته وهو صبى صغير أكبر اخوته ويقع عليه عاتق مسؤوليتهم بعد وفاة أبيه بذبحة صدرية وهو بالكاد تجاوز الخامسة والأربعين من عمره ,صارحها ذات يوم وهما فى لحظة صفاء نادرة الوجود بشكوكه حول موت أبيه ,لقد شهد بعينيه التصرفات الغير أخلاقية لزوجة أبيه , تلك المرأة الفاتنة الجمال والصغيرة فى السن ,المطلقة اللعوب ,التى سلبت عقل أبيه , الرجل الرزين العاقل الذى رسم بمجهوده وكفاحه أبهى صورة لرجل الأعمال العصامىّ , فأعميت عيناه عن رؤية عيوبها وصمت أذناه عن سماع صوت الحق ,وغفل تفكيره السليم عن معرفة نقائصها ,فسقط فى شبكتها العنكبوتية وقد أحكمت خيوطها حوله .
وها قد بذلت فى سبيل هذا الترابط العائلى كل ما تملك ,حتى فقدت معانى حياتها وتناست طموحاتها وأسكتت صوت قلبها النابض بحب رجل آخر ,رجل باتت صورته تتمثل أمامها الآن واضحة جلية ,فهو يشبه زوجها كثيرا , بل وتربطه علاقة وثيقة به , عبد الله , الأخ الأوسط لزوجها من زوجته الثانية ,وما بيدها حيلة , فقد نسج الحب خيوطه الحريرية بين قلبيهما قبل زواجها من عبد العظيم بسنوات ,كانت بعمر المراهقة وكان هو شابا يافعا ,كل ما يشغل بالهما هو الاستسلام لعواطف طاغية تحكم سيطرتها عليهما ,فتعاهدا على الحب والاخلاص الى الأبد ,لم يهمها هوية أمه ولا تعنيها تصرفاتها الغير محمودة بشهادة الجميع ,كان حبهما كنبتة صغيرة تنمو وتكبر يوما بعد يوم فى ظل ظروف قاسية واحتمل هذا الحب صراعات عنيفة حتى قرر زوجها وأد هذا الحب فى مهده بطرده لأخيه الأوسط مع الابقاء على أخيه الأصغر عبد الرحمن برعايته ,وبعد فترة قصيرة تقدم لها خاطبا ولم يكن يعيبه شئ فكان مثال الرجل المحترم الدؤوب فى عمله والذى نجح فى الحفاظ على ميراث أبيه بل وساهم فى اتساع أعماله الى حد بعيد ,ولم تدرِ لمَ حتى هذه الساعة تشعر بأنها وأبنائها ينعمون بخير ليس خالصا لهم ,فلعبد الله نصيبا فى ثروتهم مما حرمه منه أخوه الكبير , كما لهناء وناجى جزءا آخر ,وهى تنوى اقناع محمد بأن يعطى لكل ذى حق حقه بهدوء وبحساب الفوائد التى تراكمت على مر السنين ,وها هما كريم وأميرة الوريثين الشرعيين لناجى فعليهما أن يقررا كيفية التصرف به , أما عن هناء فهى تدرك جيدا أنها سوف تحتفظ بنصيبها كما هو حتى يرثها ولدها بعد وفاتها ,ولكن ... ماذا عن عبد الله ؟ وارثه المؤجل ؟ كيف تستطيع الوصول اليه الآن ؟ وهل هو حى يرزق أم لقى ربه ؟ ولم تتمالك نفسها من البكاء الحارق على قلب وحيد تاه وسط زحام الحياة ,وأعادت المشهد الذى عايشته منذ قليل حين اعترف المحامى مجدى بدور ابنها عادل فى حرمان أخته من صغيرتها بأمر من أبيه ,وكيف كانت نظرة فريال المعذبة الى أخيها ,لقد تحطمت صورته المثالية بعينيها ,هى وحدها تعرف سر ابنها ,لماذا يتوارى مبتعدا عن أية مواجهة , وكيف يبدو ضعيفا متخاذلا غير قادر على اتخاذ قرار ,لم يكن هكذا أبدا حتى تزوج من منى ,تلك السكرتيرة التى كانت تعمل لديهم ,وقد جمع بينهما العشق كما اعترف لها برغبته فى الزواج منها ,وبالرغم من ممانعة أبيه على الموافقة على هذه الزيجة فقد قرر عادل أن يملى ارادته على الجميع وفاجأهم بزواجه منها بدون علمهم ,والخبر الأشد قسوة وايلاما أنها كانت حاملا بطفله سيف ,وكأنه يضعهم أمام أمر واقع ,فبدا الوالد مستسلما لما صار ,ورحب بمقدمهما للسكن فى المنزل وقد خصص لهما جناحا كبيرا وهو يبدى ودا ظاهريا ,الا أنه قد خطط للنيل من هذه السعادة التى لم تدم الا قليل ,فقد أبعده عن العمل بالشركة بهدوء ,بدأ يسحب من تحت يديه كافة الصلاحيات ببطء واصرار على تحطيم ثقته بنفسه ,معتمدا على ابنه البكرىّ واضعا تحت تصرفه كافة الأمور ,وبعدها بوقت قليل غادر وجدى المنزل بعد شجاره العنيف معه ,وتوالت الأزمات ,معرفتهم بهروب فريال من المنزل ,وزواجها من ناجى ,وحملها المؤكد ,ولم ينعموا براحة البال بعدها أبدا.
*******************