كاتب الموضوع :
أنسان بسيط
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: مات وبجانبه مغلف
كان يعيش طفولته في منزل والديه سعيدا بين حضن أمه الحنون وأكتاف أبيه , كانت عائلته متوسطة الدخل ..فوالده يعمل مدرسٌ يربي أجيال ..ووالدته ككل الأمهات كانت وظيفتها تربيتهم في المنزل .. ولديه شقيقتان يكبرانه بسنوات , لم تحمل طفولته الكثير بل كبقية الصغار كان يمرح ويلعب ويبكي إذ لم يعطوه ما يريد فهو الأصغر سنا والصبي الوحيد في اسرته .
أدخله أبيه في مدرسته التي يعمل بهــا .. كان متفوقا وذكيا جدا .. وكان يحصل على أعلى الدرجات في شهاداته ودائما من الأوائل والصفوف الأمامية مع الناجحين في المدرسة ومدينته التي ولد فيها , كان محبوبا من جميع اقرباءه وأهل حيه لبساطته وأبتسامته التي لا تفارق شفاهه طوال الوقت .. دمث الخلق سهل المعشر .. ليس كغيره ممن هم في عمره .
مرت به الأيــام وأنتقل إلى المرحلة المتوسطة ومن هناك بدأت مشاكله تتزايد ودرجاته تنقص .. أصبح مهمــل لا يهتم للمدرسة كثيرا , رافق سيئين وأصدقاء سوء حتى صار منهم ويتصرف مثلهم ويتحدث على طريقتهم ويقلد أسلوبهم , كانوا يدخنون ويسمعون الطرب ويفتلعون مشاكل مع الجميع ويتشاجرون على توافه الأمور .
ورغم مشاكل رفاقه الكثيرة ألا أنهم أصيبوا بالملل منها بعدما باتت هذه الأشياء صغيرة في نظرهم ولا متعة فيها , فبدأوا خطواتهم الأولى نحو الجرم الأكبر والسرقة ، فقاموا يسرقون بسيط الأشياء من المحال لمجرد التسلية والتحدي بينهما .
ظل هكذا حتى بلغ سن الرشد وبدأت مشاكله تطفوا فوق السطح ما جعل الآخرين يبدؤن بلفت نظرهم إليه مما أوقعه في مشاحنات ومشاجرات كثيرة مع أبيه , فالكل راح يتكلم عنه .. فمن في المدرسة كانوا يشتكون لوالده مدى فوضويته واستهتاره وغيابه المتكرر وتدخينه في باحة المدرسة , كان أبيه يحاول معه باللين تارة وتارة بالضرب عقابا وتأديبا له , لكنه لم يزدد ألا عناد وأنحراف ولا مبالة .
ذات ليلة مظلمة لم يضيئها القمر بنوره عاد ياسر إلى المنزل ثمــلً ورائحة الخمر تفوح منه , وحينما رآه والده أستشاط غضبا وحنقــا عليه وراح يسأله ويصيح فيه ويستفسر منه :
- عمن أعطاه الخمر ؟ ومن أشتراه له ؟ ومن اين أحضره ؟ ومن شرب معه ؟
ولكن الأبن لم يجبه بشيء فحالته الذهنية ليست مع أبيه بل في مكان آخر بعدما ذهب عقله ..بل وقام يضحك على أبيه ويسخر منه , شيئــا فشيئا خرج الأب عن عقــال حلمه غضبا وهو يرى أبنه أبن الخامسة عشر ربيعً يضيع من بين يديه وسط طريق مجهول .. طريق أوله نعيــم وآخره جحيم , فراح يصفعه باليمين واليسار .. يضربه بقهر .. يركله بوحشية وبلا أي شفقة أو ذرة رحمة .. يضربه ويضربه .. يضربه يريده أن يستفيق .. يصفعه لعله يصحى مما هو فيه .. يركله يريده أن يذيق الألــم الذي سببه له .. يضربه خوفا عليه .. ويصفعه خوفا منه .. ويركله لعله يخشى .. يضربه يخبره أنك أبني الصغير .. يصفعه يحذره ألا يمشي في هذا الطريق .. يركله لكي لا يذهب للظلام برجليه .. يضربه كي لا يضيع .. يصفعه ليشعره بمرارة الشتات .. يركله توقف هنا ولا تكمل .. يضربه يسترجيه .. يصفعه يتوسل إليه ,
ضربه ضربا مبرحا كأنه كابوسا أفزعه في المنام .. ضربا لو أنزلوه بجبل لــهده .. يصفعه بقوة فهذا آخر الأمــل .
لكن ياسر لم يشعر بالوجع ولم يحس بألــم فالخمــر أفقده الأحساس بأي شيء , لكنه كان يبكي حينما كان أبيه يضربه .. يبكي ويبكــي , والده هو الآخر يضربه ويذرف الدموع من كل ذلك الموقف الذي أحس بأنه سينتهي بأسوء مما يظن .. كانوا يبكون ويبكون بين هذا الضرب والصفع .. يبكون وينظرون لبعضهم البعض رغم كل الموقف الذي هم فيه .. ينظرون في عيون بعض .. أب وأبنه ينظرون لبعض .. نظراتهما كانت شيئا آخر غير الضرب والعتب والمسكر .. نظراتهما تحكــي آخر اللقاء .. آخر ما سيجمعهما .. آخر حدث لهمــا .. فتوقف الأب من لحظة غضبه تلك ..وتوقف عن ضربه .
بعدما توقف أبيه قام ياسر بسرعة وتوجه نحو الباب ينوي الخروج والمغادرة .. وما أن وصل قريب من الباب حتى توقف قبل أن يمر منه إلى الخارج .. توقف وألتفت إلى والده .. توقف وهو في حالته تلك .. توقف ينظر لأبيه نظــرة .. نظرة أخيرة .. نظرة الطفل وأبيه .. نظرة تسمى الوداع .. نظرةٌ تخبر عن الفراق .. نظرة رحيل لا رجوع .
أحس الأب بذلك الفراق بعدما قرأها بنظرات العين .. علم بأنه الوداع .. وما أصعب الوداع .. وما أصعب ما يقال في لحظات الوداع .. وما أصعب من وداع الصمت والعتاب .. ألم الرحيل بلا أحضان .. رحيل الدموع بدل الضحكات .. رحيلٌ يُقطع نياط القلب ويصيب الجسد بالقشعريرة ويوقف النفس , كان بينهما صمت يحكي اشياء واشياء .. صمتٌ نزلت فيه الدموع .. صمتٌ خنق عبرة المودعين وبح أصواتهم , غادر ياسر من الباب بعدهــا وكأنه لا ينوي الرجوع مرة أخرى .
خرج من منزله يمشي باكيا .. يمشي حزينا ثمل .. مقهور مهزوز .. مقهور على أمه وأبيه .. حسرة لفراق أمه بلا نظرة .. بلا عبرة .. بلا دمعة .. بلا حنان يحتاجه منها .. بلا حضنً ليطمئــن عليها وتطمئن عليه قبل الرحيل , يمشي ويمشي ولم يلتفت وراءه ولم يتوقف .. وكأنه يريد أن يُبقي ما وراءه مجرد ذكرى عاشها ذات يوم , يمشي في الشوارع وفوق الأرصفة .. يخرج من سكة إلى سكة .. يذهب هنا وهناك .. بين هذا وذاك .. يخشى من سؤال كذا ومذا ., إلى أن أنتهت به الأقدار إلى رفيقه أحمد الذي يسلك درب الخطيئة معه .. درب الشوك والعثرة .. صديقه الذي خرج معه من قواعد المألوف إلى المحرم .. ومن حدود الصلاح إلى الطلاح .. صاحبه ومن يُقرقعُ الكؤوس معه ومن يشرب نخب الرفــاق بصحته ...
|