كاتب الموضوع :
عمرو مصطفى
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
(4)
نوسام لم يتوقع هذا القرار..
كان يجلس إلى مائدة خشبية في مكان ما تحت الأرض يشبه ممرات الصرف الصحي التي يراها نوسام في بلاده .. ويبدو أن هذا المكان القذر المليء بجثث الفئران، هو أنظف مكان يمكن للأخير أن يجتمع فيه بالظلاميين.. على المائدة كان يجلس شيخ عجوز سقطت معظم أسنانه لكنه استعاض عنها بطاقم أسنان قام بخلعه وانهمك في تنظيفه..
وبين الحين والحين كان يهب واقفاً ويوزع ركلاته وصفعاته على الظلاميين من حوله..
ـ اصمتوا يا حمقى.. أنتم تشوشون علينا تفكيرنا.
كان سمت الزعامة واضحاً على هذا الشيخ.. إذ تكور الظلاميون على جوانب الممرات وهم يعوون كالذئاب.. كانوا جوعى.. وقد طال انتظارهم للطعام..
هنا لمح بعضهم فأر يعدو هارباً فتواثبوا خلفه.. لكن دوت زمجرة حادة جعلتهم يجفلون.. ثم يتراجعون.. وظهر ذلك الظلامي ذو المعطف الطويل وهو يقبض على الفأر بيسراه.. كان هو صاحب اللقاء التاريخي مع نوسام.. وبدا واضحاً من تراجع الجموع الجائعة أمامه ماله هنا من سطوة ونفوذ أيضاً..
الأن يمكنك أن تلمس تشابهاً ما بينه وبين الزعيم.. اقترب واثقاً بحمله من المائدة التي يجلس عليها نوسام مع زعيم الظلاميين.. وهمس بصوت كالفحيح :
ـ شعبنا جائع يا أبي ؟
وكزه كبير الظلاميين ليصمته وهو يومئ بطرفه ناحية نوسام..
كان الأخير مستغرقاً في التفكير العميق..
مال دشرم بجسده على المائدة الخشبية وحاول أن يرسم ابتسامة بريئة على وجهه وهو يسأل نوسام بلطف :
ـ والأن يا سيد..
نظر له نوسام في برود فأردف :
ـ هل سنخرج للنور بالفعل أم؟..
هز نوسام رأسه متمتماً :
ـ هناك من يعرقل سير الأمور ... و لابد أن ننحيه جانباً..
رفع يسرم صيده الثمين إلى شفتيه الداكنتين وهو يغمغم في مقت :
ـ إنه تنين النار الذى يسمونه السيد وسام .. كم أشتاق إلى تذوق دمه..
نظر نوسام ليسرم و تقلصت أمعائه رغماً عنه.. هو يعرف أن الشعوب الظلامية تتقمص دور الوطاويط حتي الثمالة لكنه لم يرحب أبداً برؤية هذا الطقس رأى العين ...
ـ يبدو أنك ستذوق دمه قريباً يا يسرم ..
هنا صاح زعيم الظلاميين في شبق :
ـ سنغادر إذن ليبدأ الحفل.
التفت إليه نوسام محتداً فانكمش حيث يجلس و قد فطن إلى أنه أساء وتجاوز الحد.. قال له نوسام في حزم :
ـ لا قرار لكم على السطح ما دامت السلطة موجودة .. لا بد أن نتخلص من تلك الطبقة الحاكمة ..الطبقة التي تعرف الكثير ..سنستغل الحديث عن سنوات الاضطهاد و القهر و الحرق و سنطالب بمحاكمة المسئول الأكبر و عزله من منصبه و سنحرص على أن يصل شخص أخر للحكم ... أخر شخص يمكن توقعه ...
قالها و هو ينظر إلى يسرم الذى كان ما يزال يستمتع بدماء الفأر ثم قال مستطرداً :
ـ لنتخلص أولاً من العقبة التي تعرقل مخططنا .. الزميل وسام الذى يبهرنا دائماً بالمفاجئات ...
رفع يسرم عينيه الواسعتين إليه و قال في برود :
ـ رجالي لن يستطيعوا الوصول إليه..
ـ لا حاجه بي لخفافيشك .. هذا عمل محترف .. عمل للضباع ..
ثم نظر إلى ساعته مغمغماً :
ـ اتعشم أن يكون الفريق ب مستيقظاً الآن ...
***
نادر لم يشارك في أي من الأحداث التي جرت ..
كان يقضى معظم وقته في متابعه الأخبار السيئة.. مشاهد الدماء ومقرات السلطة المحترقة صارت شعار المرحلة ..ماذا حدث لشعبنا الطيب المسالم.. أي يد آثمة تعبث بهذا الشعب المستكين وتدفعه دفعاً نحو هدف غامض .. كم أحضرت له والدته الطعام و الشراب و هو جالس كالتمثال أمام الشاشة يتابع الأحداث بعين لا تطرف.. ثم تأتى بعد ساعة لتجد الطعام و الشراب كما هو ... و كان يسمعها و هي تدعوا الله أن يهدئ الأحوال و تعود الحياه الطبيعية لشعبنا المسالم الآمن كما كانت دائماً ...
ـ كيف و نحن نسعي لإخراج الظلاميين من معاقلهم يا أمي ..
التفتت إليه و هي تحمل الصفحة التي برد بها الطعام و قالت في أمل :
ـ هم إخواننا .. و قد عانوا كثيراً و أن الأوان أن يعودوا إلى سطح الأرض..
أمسك نادر رأسه و قد بدأ الدوار يكتنفه ... حتى أمه وصل إليها ذلك الفيروس العجيب ..
أم لعله هوس جرى في عروق الناس مجرى الدم ..
ـ حتى أنت يا أمي ..
ـ أخوك مدحت أيضاً خرج صباحاً ليشارك في مظاهرة عارمة أمام هيئة السلطة العامة سيذيعون نبئها بعد قليل .. لقد وعدني أنه سيظهر حتماً و هو محمول على الأعناق .. و سيلوح لي بالتأكيد ..
مدحت أيضاً .. الغر الساذج .. مثال الفشل المجسد قرر أن يكتشف نفسه في جو المظاهرات و الصياح .. و.. و الاختلاط !!
هو يعلم أخيه الطالح جيداً و يعلم سوء نيته .. لكن ماذا يفعل الأن ؟.
هل يبلغ عن أمه و أخيه كي يرتاح منهما؟!.. أم يخرج هائماً على وجهه ... و تذكر الصدامات التي تذاع صباح مساء بين رجال السلطة و الشباب الثائر المؤمن بقضية إخوة الظلام ... هو يعلم أنه لو مات أحدهم في تلك المظاهرة فلن يكون مدحت.. هو كما يقال في المثل العامي مثل العملة الممسوحة سيلف ويدور و يعود إليك مرة أخرى.. لكن من واجبه أن يقلق ..من واجبه أن يخرج ليبحث عن أخيه و يعود به سالماً إلى الدار ..
ـ أمي سأذهب وراء مدحت ..
ـ مرحى هكذا تكون ولدي حقاً .. لا تنس أن تتصل بي حينما تكون قريباً من الكاميرا ..
غادر نادر البيت وصفع الباب من خلفه محنقاً...
- أين ذهبت عقول الناس ؟
لم يبتعد كثيراً حتى لمح أخيه المبجل على ناصية الشارع كان يمشي بانتشاء ملوحاً بعلم شعبنا في يده ... ألم يقل أن هذا الغر الساذج كابوس لا يمكنك الخلاص منه ...
ـ نادر إلى أين ؟.
ـ كنت ذاهباً إليك .
ضحك ضحكه رقيعة و لوح بالعلم في يده قائلاً :
ـ فاتك الكثير .. لقد انتهت التظاهرات .. ألم تسمع بيان المسئول الأكبر .. لقد قرر أن يذعن لرغبة الشعب...سيخرج الظلاميون إلى النور بعد عقود الظلمة و القهر... نجحت ثورتنا على الرغم من كونها بلا رأس..
هنا كان نادر قد وصل إلى مرحلة الانفجار... صرخ في وجهه و هو يتردد في ركله :
ـ ماذا تعرف أنت أيها الغر الساذج عن الظلاميين هه ...؟
تراجع مدحت وهو يدفع بالعلم ليحول بينه وبين أخيه قائلاً في ذعر :
ـ ماذا دهاك يا نادر .؟ لقد أفسد رجال السلطة دماغك بالأوهام و شوهوا لك صورة إخوة الظلام البؤساء ...
ـ و منذ متى و أنت تهتم حتى بأقرب الناس إليك... أنت أبله بليد المشاعر وعديم المسئولية ..
ـ سامحك الله .. لكن أمي على مثل رأيي .. أي أننا أغلبية .. و الحق مع الأغلبية دائماً.. و غداً ستعرف كم كنت مخدوعاً من قبل طغاة السلطة .. حينما نحاكم المسئول الأكبر على جرائمه ضد إخواننا الظلاميين.. و بعد أن استعملهم كفزاعة كي يحكم سيطرته على شعبنا..
وتوقف نادر مشدوهاً..
من أين أتي مدحت الضحل بهذا الكلام العجيب .؟ من الذى لقنه مثل هذا الكلام .؟ وأي شيطان يعبث بعقول شبابنا؟.. هو نفسه كان شاباً لكنه في سن يسمح له أن يميز بين الغث والثمين أما مدحت فقد أتم عامه السابع عشر منذ أسبوع ومازال يخطئ حينما يكتب اسمه مدحت فيكتبه (متحت) لأن هكذا تنطقها الألسنة .. فمن أين أتيتم بالدال إذن؟!
إنها مؤامرة ...
كل شيء يحدث حوله يؤكد له أن هناك مؤامرة ما تحاك لهذا الشعب الطيب في الظلام .. ومنذ حل علينا السيد نوسام بطلته البهية بالذات .. لقد صار الوسيط الرسمي بين الظلاميين و سلطة شعبنا وأحياناً كثيرة يخرج ليصرح تصريحات نيابة عن الظلاميين.. هذا الرجل لغز.. ماله ولنا ... لماذا يتدخل الشعب الأصفر في شئوننا؟..
ـ نادر أين ذهبت؟
رمق أخيه بنظرة خاوية ثم استدار عائداً للبيت دون تعليق..
ـ نادر.. عدت سريعاً.. يا لك من فاشل..
لم يسمع عبارات أمه الساخرة وهو يتجه لشاشة المرئي ويقلب بجنون بين القنوات المتعددة التي تتكلم عن الأحداث.. سيجن لو لم يفهم.. لكن الذي يريد أن يفهم شيئاً من الإعلام في تلك الأوقات لن يكون أقل جنوناً..
هنا توقف عند وجه مميز يدلي بتصريح على إحدى القنوات الإخبارية الخاصة..
أم لعلها تعليمات..
كان هو السيد نوسام يقرر بلهجة العالم ببواطن الأمور: أن الشعب الظلامي لن يغادر حتى يطمئن .. ولن يطمئن حتى يحاكم المسئولين عن ترويعه على مدار السنين الماضية .. وقال عبارة توقف عندها نادر كثيراً :
ـ لابد أن يحاكم المسئول الأكبر على جرائمه ضد الظلاميين بعد أن جعلهم فزاعة لشعبه الطيب يستخدمها كي يحكم السيطرة على الأمور و يشعر الشعب أنهم بحاجه إليه ..
الأن علم نادر علم اليقين .. من أين يأتي أخيه الصغير بهذا الكلام الغريب..
وعلم كذلك مدى سذاجته حينما تصور أن ثورتهم بلا رأس..
***
(5)
لقد هدأت شوارع المدينة بعد قرار الإذعان ..
ما أجمل شوارع المدينة وهي خاوية هادئة من الصخب .. كان وسام متوجهاً بسيارته إلى مقر المسئول الأكبر، و معه سائقه وحارس شخصي يجلس إلى جانبه.. لم يكن معه سليمان لحسن حظه .. لماذا ..؟ لأن الفريق ب الذى لم يكن فريق علمي بالمعنى الحرفي .. كان يرصد سيارة وسام.. ويستعد لإزاحته من الوجود. الفريق ب فريق محترف من نوع خاص يسمى عند المنظمات الأمنية بفريق الضباع .. وطبعاً لم يأت بهم نوسام إلى هنا ليعرضهم في حديقة الحيوان!..
قال الضبع ب -1 وهو يتابع مسار سيارة السيد وسام على شاشة صغيرة أمامه :
ـ شوارع خالية هادئة .. ستكون عملية هادئة و نظيفة ..
قال ب -2 وهو يعبئ سلاحه المضاد للدبابات :
ـ متى سيكون في مرماي ..؟
كان الفريق يقف فوق أحد أسطح البنايات في الشارع الرئيس الذى ستعبره سيارة وسام الأن ..
قال ب -3 :
ـ عشرون ثانيه ويظهر في مرماك يا ب -2 ..
حمل ب -2 السلاح المضاد على كتفه وارتكز على سور السطح وهو يحكم التصويب قائلاً :
ـ عملية هادئة ونظيفة !!
وظهرت سيارة وسام ... وضغط ب -2 الزناد لكن ب -3 عطس فارتطم رأسه برأس ب -2 .. و خرجت القذيفة المضادة مخلفة وراءها خيطاً من الدخان وانفجرت على بعد امتار من سيارة وسام التي قفزت مثل بطة عملاقة وانقلبت على الرصيف ...
تبادل الفريق ب النظرات قبل أن يخرج ب -1 منديل ورقي ويعطيه
لـ ب -3 ليمسح أنفه الذى سال وهو يقول في برود :
ـ قذيفة ثانيه يا ب -2 .. وبسرعة ..
وقبل أن يلقم ب -2 سلاحه بقذيفة جديدة تحطم باب سيارة وسام بركلة عاتيه ثم قفز منها حارسه الشخصي وهو يطلق الرصاص باتجاه مصدر القذيفة .. وتراجع الفريق ب للوراء فوق السطح .. أخرج ب -1 و ب -3 سلاحين آليين ثم تقدما من حافة السطح وأمطرا سيارة وسام بالرصاص..
بعد دقائق توقفوا بعد أن أدرك كليهما أن الصيد قد غادر السيارة أثناء تراجعهم عن الحافة .. وأدركوا كذلك أن الشارع كله قد استيقظ مذعوراً ... لكن لا مفر من مواصلة العملية لإزاحة السيد وسام من الطريق ..
ـ لن يبتعدا كثيراً ...
ـ ذلك الرجل محظوظ والحظ لا يعتمد عليه كثيرا ً في عملنا .. عطسسس .. تباً.. لقد أصبت بالبرد ..
ـ أصمت يا ب -3 .. و ابقى أنت هنا حتى لا تفضحنا ..
اخترقا الزحام الشديد المحيط بالسيارة المقلوبة وتفرقا في اتجاهين للبحث عن الصيد .. تباً .. الزحام الشديد.. من أين يأتي كل هذا الكم من الفضوليين ...لحظة ..هل هذا هو وسام ..؟
وحينما شهر ب -1 مسدسه كان ذلك الذي ظنه وسام قد اختفى وسط الزحام .. وسرعان ما علا الصياح من قبل الناس المحتشدين ووجد ب -1 نفسه وقد تكالبت عليه الجموع ..
ـ ب -1 سقط يا ب -3
ـ تباً ... هذا حظ سيء ... عطسسس ...
هنا دوت أبواق سيارات السلطة وهي تنهب الطريق مقتربة من الحادث ...
ودوى صوت نوسام عبر وسيلة الاتصال برجليه المتبقيين :
ـ الفريق ب ..هنا عرين الدودة البيضاء أجب ..
ـ ب -1 سقط ... و ب -3 أصيب بالبرد!... والهدف يفر عبر الشوارع الجانبية فيما نظن..
ـ حدد لي المكان الذي فقدتم فيه الهدف ثم انسحب فوراً..
ألقى ب -2 بيانات الموضع الذى فقد فيه الصيد بسرعه وتلقاه نوسام في مقره السرى في إحدى فجوات الظلاميين.. هرش رأسه قليلاً ثم طلب رقماً :
ـ سمكه ؟..
أتاه صوت أجش يتحدث بلهجة شعبنا، لكن بسوقية احترافية .. هذا صوت بلطجي على الأرجح :
ـ مرحباً يا بك ...
ـ هناك رجلين هربا من التجنيد الإجباري في منطقتك .. سأعطيك أوصافهم وعشرة آلاف ترللى أخضر .. لكن خذ الحذر فالمكان يعج برجال السلطة .. حاول أن تهيج العامة على رجال السلطة حتى يتسنى لك إحداث فوضى عارمة .. هذا مهم جداً..
ـ إذا سيكون هناك عشرة آلاف ترللى أخرى ...
نوسام يعرف سمكة جيداً ... ويعرف أن موت السيد وسام على يد بلطجية شعبه كان أخر شيء يمكن أن يخطر له على بال.. سيتخلص من وسام ويحدث الفوضى المنشودة .. عصفورين بحجر واحد ..
هذا كثير والله ..
***
كان لابد لنادر أن يترك الفراش .. لا أحد يستطيع أن يواصل النوم بضمير مرتاح بعد سماع دوي انفجار و طلقات رصاص وهرج ومرج يوقظ الموتى.. غادر غرفته فرأى الذعر يطل من عيني والدته و أخيه مدحت ..
ـ ماذا يحدث .؟ هل هي الحرب .؟
طلب من كليهما العودة للغرف و توجه بحرص إلى النافذة .. من وراء الشيش رأي العشرات يتجهون ناحية الشارع الرئيس وسمع كلمات مختلطة حاول أن ينسج منها كلام مفيد ..
ـ لقد ضربوها بصاروخ .. أي والله ..
ـ هل هناك مصابين .؟
ـ لقد قبضوا على رجل أجنبي مسلح ...
كان يرتدي ثيابه على عجل ليعرف أكثر .. و لم ينس توجيه تحذير لأخيه مدحت ألا ينظر من النافذة أو الشرفة .. و حينما فتح باب المنزل ليغادر تلقي دفعة في صدره من خارج، طار على أثرها ليرتطم بأثاث المنزل ..
و قبل أن يستوعب الموقف لمح رجلين يدلفان و ينغلق الباب من وراءهما
كان مفترضاً أن يصرخ .. أن يستغيث.. أو حتى يعترض لكنه بالرغم منه شاعت على وجهه دهشة عارمة.. استحالت إلى ابتسامة عريضة مرحبة ..
***
|