كاتب الموضوع :
Enas Abdrabelnaby
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: أسيرٌ من الماضى (2) سلسلة جروح العشق الدامية
الفصل الخامس عشر
نظرت حولها بعينين غائمتين إلى تلك الحوائط التى تأسرها .. لا تعلم من قادها إلى ذلك المكان العجيب ام ماذا تفعل هنا .. كل ما تعلمه أنها أسير النسيان ..
لقد فتحت عيناها بيوما لتجد نفسها فى هذه الغرفة .. تجهل كل شئ عن الوقت والزمن .. لا تعلم أين او كيف هى هنا ؟!!
عادت عيناها تستقر على الحائط المقابل لها ، لقد كانت الغرفة مصنوعة من الطوب الأحمر وفقط ..دون أى محاولة لتجديدها أو طليها باحدى مواد الطلاء .
جالت نظراتها من الحائط إلى الفراش الذى تجلس عليه ، كم بدا باهتا بملائته البيضاء الشاحبة الوانها .. ووسادتها المهترئة .
إستقرت عيناها أخيرا على الأرض الغير ممهدة والتى لاتزال تحمل أثار البناء .
نهضت ببطئ لتسير بخطى بطيئة نحو المرآة الدائرية الصغيرة المعلقة بأحد الحوائط ..
نظرت إلى شكلها بالمرآة .. شعرها الأسود الطويل كان متناثرا بلا هوادة حول وجهها .. عينها البنية إمتج بها اللون الأخضر ليعطى لونا ضائعا بين الألوان .. كما هى ضائعة بتشتت أفكارها .
من هى ؟! .. أين هى ؟! ... لماذا تُحبس هنا ؟
لماذا يدخل لها الطعام من شقٍ صغير اسفل الباب ؟
لماذا لا يحادثها أحد ؟ ... لماذا هى وحيدة ؟؟
لا تعلم !..
فقط الوحدة هى رفيقتها - التى لا تجد لها جليس سواها - فى هذا المكان المنزوِ .. الذى خرج خارج نطاق الوقت والمكان ، لتغيب فيه دقات الساعة .. ويخفت ضوء الشمس .
حياة بلا حياه !!
عالم هو مجرد أحجار ..
فاصلاً زمنياً وبعداً مكانياً
لا أحد تعرفه .. ولا أحد يعرفها
............................................................ ........................................................
تبعثرنا الأيام بلا هوادة ..
ها أنا أمد يداى علي ألتقط ثانية مسروقة ، فأهديها إلى ملكة القلب كى ترضى
ولكنى إكتشفت بأنى هاوي .. ليس لى فى السرقة ، فقد مرت الثانية تبعتها أخرى وأخرى .. وظل حالى كما هو وحيدا بدونها !
.....
أخذ أدهم نفسا عميقا .. لايزال يقف محدقا فى الخضرة أمامه بلا هوادة منذ ساعتين .. يقف فى ذات المكان .. يراقب تحرك الاشجار بفعل الرياح ، يسمع حفيف اوراق النباتات .. يترك لعقله المجال للراحة ، ولعينه تأمل ما سيريحها...
الماضى وحشا أسود ذا مخالب ناشبة ، حين ينقض على فريسته يستحوذها تماما ، هكذا كان هو
مقيد بأغلال جراحه!
أسيرٌ لوحش الماضى!!
تحيطه غمامة تحجب عنه الواقع!!!
وكأسير إنصاع لحكم الماضى ، وخطى فى طريقه ليدمر حياته .. ويدمر أول من إرتاح لها القلب ..
زهور .. لقد كان ظهورها فى حياته كالدواء لجراحه .. كانت البلسم الرقيق الذى يطيب به الروح...ترياقه الشافى لتمزيقات نياط قلبه، وقد فعلت وشفت جراحه .. لكنها لم تستطع شفاء ندوب جسده الغائرة، فأصبحت الزهور ذات الأشواك هى ما تؤرق تفكيره ..
أيطيب لها البقاء معه ؟ .. أيستطيع أن يتغير من أجلها ؟ ... أتسطيع هى أن تذيب جليد قلبه المتحجر ؟؟؟
اسئلة دون جواب .. ولن يجد الجواب إلا إذا تشاركها السؤال ولكنه ببساطة غير قادر حتى الأن .
وسط ألحان تراقص الشجيرات .. تناهى إلى سمعه صوتا شاذاً، صوت أقدام ثقيلة .. صوت تحريك النباتات بقوة وكأنما أحدهم يفسح المجال لنفسه كى يسير .
إلتفت إلى الخلف حين شعر بأحدهم يقف ورائه ، وقبل أن تخرج الكلمات سائلة عن هويته الذى أخفى وجهه بعمته البيضاء .. كانت يد تلك الرجل تندفع بسلاحٍ لمع تحت وقع الضوء الخفيض إلى جانبه الأيمن .
صرخ أدهم بصوتا مكبوت .. لينحنى للأمام واضعا يده على جنبه حيث تلقى تلك الطعنة الغادرة ، رفع نظرة إلى الرجل الذى لايزال يقف أمامه ..
وقبل أن يبدر من أدهم أى فعل ، كان الرجل يمنحه ركلة قاسية إلى معدته لم يستطع إلا أن يرتد للخلف فاقدا توازنه .
خلال لحظات كان ذلك الرجل يتبخر من أمامه ، ليتركه ملقى على الأرض يحاول النهوض لينادى أحدهم .
بعد عدّة محاولات فاشلة ، تقهقرت قواه وفترت ، و تشوشت الرؤية .. وتقطعت الإنفاس .. وبات الامر صعبا فى محاولة الوقوف بثبات .
ليتهاوى جسده على الأرض، مغمضا عينيه بضعف .. يعدُّ أنفاسه الاخيرة فى الدنيا، ولم يكن بباله كيف سيصل إليه أحد وينجده .. بل إن ما حدث معه طعنة غادرة ، مشابهة لتلك التى تلقاها والده حين كان معه فى الحقل .. وعينان سوداوان إمتلأتا بالحقد .. كانتا نفس التى قابلهم منذ لحظات !!
*****
أغلقت هاتفها بضجر ، لقد حاولت الاتصال بـ أدهم ثلاث مرات .. وكل مرة تتوصل لنفس الإجابة بأن "الهاتف مغلق" .
لقد كانت تراقبه منذ الغروب حين أتجه إلى الحقل المقابل لشرفة الغرفة التى تقيم بها .. كان يقف مكانه جامدا .. لا يتحرك ينظر فقط أمامه بثبات .
قاطع مراقبتها أذان المغرب .. فذهبت لتصلى وحين عادت لم تراه .
إنتظرت قدومه الى الغرفة، ولكن إنتظارها قد طال وحين حاولت الاتصال به علمت بأن هاتفه مغلق ولم يفتح بعد حتى الأن .
مرت نصف ساعة آخرى ، فنظرت إلى هاتفها لتنهض بعزم مرتدية أحد عبائاتها السوداء مع حجاب بـ لون غامق ، لتخرج من الغرفة التى ولحسن الحظ قد تركها مفتوحة ..
عبرت الردهة الطويلة المؤدية إلى باب المنزل ، وحين كادت تخرج .. إصطدمت فجأة بهالة سوداء طويلة تبين أنه رجل .. إبتعدت عنه بحنق حين كادت تقع لتجده لايزال على إندفاعه يركض تجاه السلم .
لم تعر أمره أى أهمية ، وسارعت بالخروج واللحاق بأدهم ..
بعد لحظات كانت تقف بذات المكان الذى كان أدهم يقف به ، نظرت حولها بين الشجيرات العالية تبحث عنه .. ولكنها لم تجده .
كادت تعود أدراجها إلا أن صوت أنين متألم جذب إنتباهها ، إقتربت من مصدر الصوت الخافت .. شيئا فشيئا ، إلى أن رأت جسده ممدا على الأرض .
صرخت بفزع واضعة يديها على فمها ، كانت تقترب منه ببطئ دون أن تشعر ،ترى بعينيها التى أغشتها الدموع جسده المسجى أرضا، جسدها إعترته رعشة قوية .. بينما عيناها لم تفارق جسده الذى بدا ساكنا دون حراك .
هبطت إلى جواره على الأرض ، تنظر إلى جسده بألم .. ظلت تتفحصه حتى رأت السكين فى جانبه الأيمن .
نظرت لها بدموع تغشي عينيها .. ثم إقتربت بوجهها من وجهه لتهمس بصوتا باكى :
_ أدهم .. أدهم .
أتاها رده فى أنين مكتوم متأوه ، فإزدادت دموعها ثقلا فى مقلتيها لتشهق باكية بلوعة وهى تنظر حولها علها تجد من ينجدها .
*****
أغمضت عيناها بألم ، لقد ظلت إلى جواره تبكى كالحمقاء إلى أن سمعت صوته المتعب يناديها .. فإقتربت منه بسرعة ولهفة تسأله عن حاله .. وللعجب قد رد عليها بأنه بخير ، وطلب منها أن تذهب بسرعة وتحضر من يساعدها .
وحين إتجهت ناحية منزل عائلته قابلت السمج أسامة .. والذى إرتاع لمظهر الدماء فى يدها .. وطلب من أحد العمال أن يساعدهم فى نقل أدهم للمشفى ... وقد مرت ساعة ونصف حتى الآن وهو فى غرفة العمليات .
أنتفضت واقفة حين سمعت صوت باب الغرفة الخاصة بالجراحة ، لتتجه إلى الطبيب بسرعة تسأله عن حال أدهم .
أجابها بهدوء قائلا :
_ الجرح مش عميق .. لكن المريض نزف كتير هنحتاج ننقله دم .. وإن شاء الله بكره يفوق .
أنهى كلماته بابتسامة مطمئنة ، لتتهاوى على أحد الكراسى بإرهاق ، لتردد بخفوت "الحمد لله".
............................................................ ........................................................
ألقت بجسدها المنهك على الأريكة ، لترفع قدميها على الطاولة القريبة .. وترجع برأسها لتسندها على أحد الوسائد ..
طفلها المزعج .. العلقة الباقية من مؤيد بداخلها ، جنينها المُتعِب لا يكف عن إرهاقها مثل والده .
ولكن الفارق .. مؤيد ارهق العقل والقلب ، وطفله يرهق الجسد .. إنهما عصابة تجمعت عليها .
إلتقطت جهاز التحكم عن البعد من جوارها لتشَّغِل التلفاز وتقلب بين قنواته بملل .. وحين شعرت بأن النعاس يتلاعب بأهدابها ، أسدلتهم بهدوء وغطت فى نوم عميق .
فتحت عيناها بنعاس ، صوتاً حاداً يصدر قرب أذنها .. الرؤية لاتزال فى غشاوة النعاس ..
كان هاتفها اللعين هو السبب بذلك ، إلتقطت الهاتف بغضب لترد .. إلا أنه لم يحمل أى صوت ، هتفت عدة مرات بالمتصل لينقطع الخط .
بعد لحظات عاود الإتصال ، فـ أجابت بسرعة ليأتيها صوت لم تسمعه مسبقا ، خشن ،حاد ،قاذف للعبارات .. كان أول ما وصلها من الطرف الآخر هذا القول الغامض :
_ تعرفى مؤيد ؟
و دون الحاجة لإجابتها كان يجيب نفسه :
_ هتقولى طبعا عرفاه .
أصدر ضحكة متهكمة قاسية جمدتها بنهاية كلماته ، ليهمس مرة أخرى بسخرية :
_ تعرفى ماضى مؤيد .
وعاد يجيب نفسه :
_ هيبدأ الشك يلعب فى نبرة صوتك .. وهتقولى آ .. آه .
صمت قليلا ليهمس بفحيح أرعبها :
_ تعرفى مرام ؟
فى هذا السؤال تحديدا صمتت بعجز .. لتجده يكمل بسخرية :
_ أكيد لأ ..وعشان كدة.. يسعدنى أقولك إنك متعرفيش مؤيد ..
لينقطع الإتصال على تلك العبارة "يسعدنى أقولك إنك متعرفيش مؤيد"
نظرت لشاشة هاتفها .. ولذات الرقم الذى حادثها منذ لحظات ..
وسؤالا يطرح آخر .. من المتحدث ؟ ... ماذا يريد؟ ... ماذا فعل مؤيد ؟ .... من مرام ؟
كان أكثر سؤال يؤرقها .. من مرام وما علاقتيها بمؤيد .
وبالطبع لم تكن تعرف الجواب ،وظلت على حالتها من التجمد بمكانها.. لا تعرف ماذا تفعل ؟
............................................................ ........................................................
صوت الامواج يخترق أذناها ، بينما عيناها كانت تراقب أوس وزياد داخل البحر ..
لقد عارضت بشدة فكرة نزول زياد البحر فى هذا الوقت من العام ، لكن أوس الخبيث تلاعب بعقلها .. بقوله أن الشمس مشرقة والمياه دافئة ، وتحت إلحاحه الذى لا ينتهى وافقت .. بل كادت توافق أن تنزل معهم .
لقد تلاعب أوس بعقلها مجددا، جعل قناعاتها تتزحزح .. جعلها تبدأ فى التفكير فيه كونه ليس مجرما .
ولكن لا تزال المخاوف تؤرقها .. عقلها يراه مذنبا ولابد أن يدفع الثمن .. وقلبها يراه برقة أنه مظلوم من جميع الإتجاهات .
شردت عيناها تجاههما .. تنظر إليه بصورة أب للمرة الاولى منذ عرفته ، كان يُعلم ابنه قواعد السباحة .. يشرح له بحزم .. يساعده وينتشله من الماء حين يفشل ، يبعده عن الأمواج العالية ويرفعه قاذفا به إلى الأمواج بمرح .
إنتبهت فجأة له يشير إليها بأن تقترب ، لتجده يقول لها بحزم :
_ خدى زياد كفاية عليه كده علشان ميبردش .
حاولت وجاهدت كى لا تسأله إلا أنها فعلت :
_ مش هتطلع ؟
نظر إليها رافع حاجبه بتعجب ، ليسألها مدعيا الريبة :
_ أنتِ خايفة عليا مثلا ؟
زفرت بحنق مشيحة عنه .. لتقترب من زياد وتلفه بالمنشفة ، وتقول للآخر الذى ما زال واقفا أمامها :
_ هسيبلك فوطة على الكرسى .
إلتفتت مغادرة مع زياد .. إلا أنها وجدت أوس يتبعها ناظرا أمامه بعد إهتمام .
سألته بضيق حاولت إخفائه :
_ مش قولت أنك هتكمل سباحة ؟
أصدر صفيرا من بين شفتيه ، فإزداد غيظها .. ذلك الرجل يتعمد إستفزازها .. بتصرفاته الشبابية الطائشة وكأنه فى بداية العشرينات .. بينما لا يشعر بأى مسؤلية تجاه أحد .. فقط الشئ الوحيد الذى يُحسب له كونه ممتاز فى عمله .. غير ذلك فهو عابث من الدرجة الأولى .
أنهى صفيره بأن إلتفت إليها ليقول مبتسما بهدوء مغيظ :
_ علشان في حد مهتم بيا ومقدرش أزعله .
وقفت فجأة ليتوقف معه زياد الذى تمسك بيده .. بينما تابع أوس طريقه ببرود .. ليسمع صراخها يأتيه غاضبا من خلفه :
_ مين دى اللى مهتمة .. أنا ههتم بيك ليييييييييييه ..
وإزداد صراخها فى آخر كلمة ، لتسمع ضحكته تتعالى ، بينما يلتفت لها ليمشى بظهره قائلا بشقاوة :
_ يلا علشان هموت من الجوع .
طرقت بقدمها الأرض بغيظ لتهتف :
_ موووت .. موووت علشان أرتاااح .
ولكنه لم يسمعها فقد سبقها بعدة أمتار ووصل الى المنزل .
إلتفت إلى زياد الذى كان يراقبهما بحاجبين معقودين ، ليقول بهدوء وهو ينظر إلى يدها الممسكة بقوة بيده :
_ لو خلصتوا .. فأنا جعان وإيدى وجعتنى .
خففت ضغط يدها على يده ، لتتقدم بسرعة تجاه المنزل شاعرة بالغضب يتأجج بقوة بداخلها .. يكاد يحرق ذلك الـ أوس وابنه .
****
أنتهت من تجهيز الطعام بعدما فرغ الاب وابنه من حمامهم ، جلست على الطاولة الصغيرة فى أحد أركان المطبخ ، ليجلس أوس أمامها و زياد بجانبها .
بدأوا فى تناول الطعام فى هدوء ، كان الطعام مكونا من معكرونا نجريسكو وقطع الدجاج المتبلة المطهية على الفحم .
نظرت إلى الطعام أمامها بفخر ، إنها طاهية مبدعة .. ولكن ليس هناك من يمتدحها .
تنحنحت قائلة بطفولية :
_ احم .. إيه رأيكم فى الأكل ؟
نظر الأب وابنه إلى بعضهما عاقيدين حاجبهم ، ليلتفتوا له ناظرين إليها ذات النظر .. جعلتها تشعر بالخوف ، ليكون أوس أول من تحدث قائلا :
_ حلو .
واتبعه ابنه بنفس الكلمة ، فنظرت لهما بغضب لتصيح بحدة :
_ حلو بس !!
نظر الاب وابنه ثانية إلى بعضهما ، ليعاودا الإلتفات لها بنفس النظرة الواجمة ونفس التكشيرة التى تعلوها ..
فقالت مفسرة وجهة نظرها :
_ لازم تشكرونى على اللى عملته .. تقولولى تسلم إيدك ، انتِ مبدعة .. أكلك فظيع .... لكن حلو ناشف كده !!
عاود أوس النظر إلى أبنه عاقد حاجبيه ، ليغمز له خفية ، ويلتفت إلى أهلّة قائلا بحبور :
_ أكلك حلو أوى تسلم إيدك .
ردد زياد نفس الكلام بنفس طريقة أوس ، فنظرت شزرا اليهما بشك .. لتنهض اخيرا قائلة :
_ هجيب التحلية .
ما إن نهضت أهلّة .. إلتفت أوس إلى ابنه مقتربا برأسه منه ليقول بخفوت عاقدا حاجبيه بإهتمام :
_ الستات دول لازم تاخدهم على قد عقلهم ، عاوزة كلمة حلوة قلها كلمة حلوة .. مش مهم تكون حاسسها ..لكن أهو، إرضى الزبون .
نظر إلى وجه زياد فأشار بطرف عينه إلى الأمام ، فنظر أوس أمامه فوجدها تقف عاقدة ذراعيها على صدرها .. تطرق بإحدى يدها ذراعها برتابة ، تراقبه رافعة إحد حاجبيها .. لتقول اخيرا بهدوء يحمل صرامة :
_ أوس يا ريت قربك من زياد يكون بفايدة مش العكس .
إلتفتت مغادرة .. فنظر أوس إلى مكانها بشرود ، إلى أن إستفاق على هزة خفيفة فى كتفه .. فالتفت ناظرا لابنه بتعجب .. فقال زياد بهدوء :
_ الستات لازم تاخدهم على قد عقلهم .
نظر أوس لابنه بذهول ، ليقترب منه هامسا :
_ اخيرا عرفت أتواصل معاك ..
أنهى كلماته بأن عبث بخصلات شعره البندقية الناعمة ، إتبعها بقبلة على جبينه .. لينهض بسرعة تابعاً أهلّة التى إندفعت لخارج المطبخ .
بعدما بحث عنها بأرجاء المنزل ، رآها صدفة من أحد النوافذ تقف فى الخارج أمام البحر مباشرة .
خرج إليها بسرعة ، ليقترب منها حتى وقف أمامها .. لم يتحدث ولم تكن هى لتفعل .. فقط ظلت على حالها تنظر أمامها إلى البحر الهادئ نسبيا .. بينما مياؤه تلامس قدميها بنعومة .
كان أوس يأخذ لنفسه دقائق مسروقة من الوقت الهادئ .. يراقبها بنعومة كيف أغمضت عيناها وكأنه غير موجود ، لتترك لحواسها حرية التمتع بالمكان الهادئ .
لم يرد أن يقطع إستمتاعها ، ففضل أن يشاركها إياه .. فأغلق عيناه وترك لحواسه العنان ..
كان يشعر بـ صوت الأمواج كتناغم لإيقاع موسيقى رقيق وصاخب بذات الوقت .. يحمل الترتيب والفوضى فى آن واحد .. بينما كان يشعر بالماء يصطدم بقدميه بقوة ليعود ويتراجع ثانية ليصطدم بقوة مجددا .
أنتبه فجأة من وسط إنسجامه لصوتها الهادئ :
_ عاوز إيه يا أوس ؟
فتح عيناه ليلتفت لها مراقبا وجهها المسترخى وعيونها المنسدلة دون محاولة رقيقة لفتحهما والاهتمام بالنظر إليه :
_ آسف .
أكملت الهمس دون أن تفتح عيناها :
_ على إيه ؟
زفر بهدوء محاولا تجميع أفكاره ، ليقول بجدية :
_ على اللى قولته لزياد .
حينها فقط فتحت عيناها لتنظر له ، كانت نظرتها غريبة .. تجمع بين التساؤل والخوف .. الحقد واللهفة ، الألم والتشفى ؟
كانت مشاعر متضاربة لا تجمعها أى شابكة ، كلا يرمى بنظرة .. لتتجمع فى خطابا حكته أوجاعها .. ليحفظ فى بريق عينيها ، حيث فى أشد اللحظات سكونا يخرج ملتمعا وجاذبا النظر إليه .
أخذت أهلّة نفسا عميقا لتقول بحزم إكتسب طابع الجدية :
_ إعتذارك بيأكد إنك عارف أن الكلام ده مينفعش يتقال لطفل .. تربية زياد الحازمة على قواعد وإنضباطات خلته مفتقر لجانب المشاعر الأبوية سواء من والدته او والده .
لما شوفتك بدأت تقرب من زياد المدة القصيرة دى فرحت .. مش علشانك لأ علشان زياد اللى يستحق ياخد فرصة علشان يقدر يبقى أحسن .
لكن إنك توصل سلوكك السيئ لزياد ، فده اللى هيبوظ كل اللى فات وكل اللى جاى ..
إبنك حقك إنك تقرب منه بطريقتك ، لكن تبدأ من دلوقتى التعامل معاه كده وإنك تعرفه الكلام ده ، فلازم أتخذ موقف من الموضوع .
نظر أوس إلى البحر الأزرق التى بدأت أمواج تضطرب وتتلاطم بإندفاع قوى ، تلك الأمواج فى تلك اللحظة كانت تشابهه .. كيف تبدلت مشاعره بعدة لحظات من الهدوء إلى الإضطراب .
قال أوس وفى نبرته الثقيلة إستشعرت ألمه الذى تعجبته! :
_ هحاول مقربش منه مدام قربى بيبوظ شغلك .. وهيبوظ تربية زياد .
عم الصمت ثانية ، إلا أن هذه المرة لم يكن الإسترخاء هو المخيم عليهم .. بل الحزن والشعور بالأسف .
وضع أوس يديه فى بنطاله ليعاود النظر إلى البحر ، لم يعرف يوما بأنه سيكون له طفل ؟ .. بل لم يتخيل ذلك .. فقد كان أقصى أمانيه أن يحقق احلامه .. وحين جاء زياد إلى العالم شعر بأنه شئ إضافى غير مرحب به ، وللأسف كان نفس شعور والدته التى رفضته مثلما رفضه هو .
قد يكون من الغباء لثنائى لا يريد أطفال أن يرزق بطفل!! .. ولكنه حدث بعد عام من زواجهما حين اكتشفت زوجته بالمصافة أنها تحمل جنين فى بداية الشهر الثالث!
لقد كانت حينها صدمة كبيرة تلقوها ، وإكتملت حين ولادته التى تمت رغم أنفه وأنفها ، ولكنهما أتخذا الطريق الأمثل بعدها ..الا وهو الطلاق ، ثم تنازلت له عن حضانة الطفل بإدعاء أنها تريد بناء طموحها العالية ، ليتنازل هو عن ابنه لجدته شاعرا بكل الرضى والقبول لما فعل .
وبعد ثمان سنوات يرى نفسه كان مجرما ، بحق كل دقيقة قضاها فى العمل .. بحق كل دقيقة قضاها فى البعد عن ابنه ، بحق كل دقيقة امضاها فى العبث مع فتيات الغرب ليضيع وقته بينما كان طفله بحاجة إليه .
يقال أن الأمومة فطرة ... والأبوة تكتسب ، إذا لماذا لا يكتسب الابوة ؟ .. لماذا لا يستطيع منح ابنه الدعم والسند ...
............................................................ ........................................................
يتبع
|