كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
وبارت آخر..
الثانية عشرة
=
=
=
-: "عبد العزيز.."
شقت ابتسامة طريقها إلى شفتي عبد العزيز، فهذه المرة الأولى التي تنطق فيها كادي اسمه وهو يسمع. أبعد نظره من الطريق للحظة لينظر إليها: "هلا؟"
سألته عندها: "متأكد تعرف للطريق؟"
رفع حاجبا مستغربا سؤالها: "ليش تسألين؟"
ردت: "لأن ذي خامس مرة أشوف لافتة المخرج رقم 10."
لهذا وجد الطريق مألوفا: "ما عليه، كنت سرحان شوي.."
صمتت عندها، ربما راضية بتبريره، لتنطق بعد ربع ساعة: "عبد العزيز.."
"اها، شكلي اللحين مسكت الخط صح!": "هلا؟"
أشرت كادي بصمت إلى اللافتة التي بدأت تلوح مقتربة، لافتة مكتوب عليها: مخرج رقم 10.
=
=
=
قبل زواجها بعبد العزيز، عرفت كادي بضع تفاصيل عنه. ككونه أكبر منها بست سنوات، كإختياره دراسة الطب منذ أن كان في الإبتدائية، كماضيه كمشاغب الحي وفتى عراكات بلا منازع.
تساءلت عن السبب الذي لم يتم إبلاغها، تحذيرها، عن حس عبد العزيز المعدوم بالاتجاهات؟
بعد سلسلة من الإقتراحات، اقترحت كادي عليه أخيرا التوقف في أحد استراحات الطرق واستجماع أفكارهم فيها، ليرد بأن لا داعي لذلك وأنه سيجد المخرج الذي يريده قريبا.
كان ذلك قبل ساعة من الآن، قبل أن تتوقف عليهما السيارة في وسط الطريق.
تساءلت كادي، للحظة، إذا كان الوقت مبكرا على الندم؟
=
=
=
وجد عبد العزيز بعد مشقة من ساعده على تحريك سيارته، ليركب ويعلن بعد تنهيدة تعب، شاكرا لتقديم كادي له قارورة ماء، فالشمس أحرقته وهو ينتظر المساعدة: "بنرتاح في الاستراحة.."
=
=
=
التزمت كادي الصمت بعد دخولهما أحد غرف الاستراحة، وظلت تلتزمه حتى بعد قضاء فروضهما.
أتاها صوته سائلا لها: "ليه ساكتة؟"
وكان سؤاله ذاك ما فجر طوفان غيظها المكتوم منذ تلك المرة الخامسة التي رأت فيها لافتة المخرج رقم 10: "وليش أتكلم ورأيي ماله لزوم؟ قلتلك خلينا نستعمل الجي بي إس، قلت المحافظة اللي ساكنة فيها جدتك ما سجلوها على الخارطة ومشيناها. قلتلك نسأل عنها أي أحد على الطريق ورفضت بحجة مافي أحد يعرف لها ومشيناها. قلتلك خلينا نتوقف عند الاستراحة ورفضت ومشيناها. ووش صار لنا بعدها؟ أبد طال عمرك تعطلت السيارة وصلحناها ورجعنا للاستراحة اللي مرينا عليها قبل كم كيلو واحنا فاطسين حر..!"
ربما كان يجب عليها ضبط نفسها أكثر، لكنها لم تستطع كبح جماحها، فليست هذه الطريقة التي تخيلت فيها بداية حياتها الزوجية، أن تكون هذه صباحيتها. لا تطيق نفسها من الحر، تكاد تسقط في مكانها من الإرهاق.
ظل عبد العزيز يحدق بها كأنه أدرك شيئا، ليبتسم بعدها بخبث: "تدرين إنك فتنة وإنتي معصبة؟"
احتاجت كادي دقيقة حتى تستوعب، لتحمر بخجل مرتبك زيادة على غضبها. استطرد وهو يتجه إلى السرير ليريح جسده المنهك، يتوقف ناظره عليها ثانية بمعنى: "خسارة إننا هلكانين تعب.."
=
=
=
كادت هدى تصل حد لطم الخدود من تحسرها بعد اقفال أخيها الخط: "فشلنا في بنت الناس يمه! إلا وإلا أسوي اللي في بالي وأزور جدتي. امحق صباحية الكرف ذي!"
تنهدت أمها بقلة حيلة: "اللحين وينهم فيه؟"
أجابتها هدى بوجوم وكآبة: "في استراحة الله العالم وينها فيه.." زفرت بغيظ: "أنا الغلطانة اللي اقترحت عليه كادي، ولا عزوز وجه عرس؟!"
=
=
=
كان بمنتهى الصراحة عندما أخبر أهله بأوضاعهم، وتعجب من إخفاء كادي للحقيقة وتسترها عليه.
أجابته عندما سألها عن ذلك: "مابي أصير أرملة.."
تبسم ضاحكا من قولها. يعجبه تهكمها الطريف. بكل صدق، يعجبه كل تفصيل فيها.
ربما لاحظت نظراته لأنها تأففت بصوت مسموع متذمر متقصد عن الغرفة: "مدري كيف أخذت غفوة فيها. أشك إنهم ينظفوها حتى..!"
ضحك متسليا ليراها تتشنج حرجا، ربما لأنها عرفت أنه فهم ما بين السطور.
=
=
=
أتى الصباح، ليكتشفا أن السيارة سُرقت.
أتضحك أم تبكي؟
بدوره، فإن زوجها الموقر لم يترك أحدا في الاستراحة إلا وتعارك معه، إما بالكلام، إما بالأيدي.. وبين ثوراته واستجوابه الخشن لمساكين لا علم لهم بما يجري، كان يتمتم بسخط لنفسه كلاما، آخره لهذه اللحظة كان: "شكله السيارة مصكوكة بعين قوية، ولا وش اللي يفسر إني باليالله تهنيت فيها من اليوم اللي اشتريتها فيه؟"
تساءلت بتلبد لحظي سرعان ما سيذوب بعد دقائق من الحنق، هل إلى جانب معدومية حسه بالاتجاهات وعناده المقيت، أكان زوجها مهملا لممتلكاته؟
أخيرا توجه إليها، يشاركها بالوضع الذي فهمته منذ فترة: "توني قدمت بلاغ، واللحين عندنا خيارين، إما نقعد في ذي الاستراحة لين ما يجينا خبر، ولا ندور لنا فاعل خير يوصلنا بيت جدتي واستقصي الأخبار بعدها."
أجابته: "ندور لنا أحد يوصلنا أحسن، لأني أشك نقدر نتم هنا وإنت تهاوشت مع الكل."
ضيق عيونه بعدم رضا من الاتهام في كلماتها، لكنه في نهاية الأمر أومأ لها بموافقة.
كانت تلك المرة الأولى التي أخذ برأيها، ولسوء الحظ، تبين أنها لم تكن على صواب في اختيارها أبدا.
=
=
=
أنهت لمار المكالمة التي كانت تجريها بعد حصولها على نفس الرد.
هزت رأسها بـلا، مجيبة سؤال أمها الصامت: "لساته جوالها خارج التغطية.."
كانت أمها سترد لولا تلقيها لاتصال من خالها، ربما عن آخر ما لقي من أخبار بعد أن قدم بلاغا لأمن الطرق.
دعت لمار ربها وقلبها مثقل بالقلق أن تكون أختها بخير.
=
=
=
من مكانها في المقاعد الخلفية، همست كادي بحدة خشية سماع "فاعل الخير" الذي قبل أن يوصلهما لها، تستغل انشغاله بمكالمة: "عبد العزيز..هيه، عبد العزيز!"
في المقعد جانب السائق، أمال عبد العزيز رأسه بشكل غير ملحوظ، يدلها بصمت على أنه يسمعها، لتردف بصوت أخفت: "مانيب مرتاحة لذا الرجال.."
ليهمس لها بدوره: "ولا أنا.."
بدت هيئة الرجل الذي تبرع بمساعدتها غريبة مريبة لم يلحظاها في خضم هروبهما من لهيب أشعة الشمس وإلى أحضان سيارته الفارهة المكيفة، نعيم مقارنة مع الجو خارجا.
لكن سرعان ما فاحت رائحة الشكوك والارتياب، وأول ما وجدته مريبا هو نظراته ومن ثم أسئلته الشخصية، الوقحة حتى! لحسن الحظ، زوجها الموقر لا يعرف فن المجاملة وكان يرد على كل سؤال باستهجان وتهديد، كأنه ناسي لموضعه، وكون الرجل متبرعا لإيصاله.
لم تظن كادي أبدا أنها ستفرح برؤية موقف جحود صريح كالذي يرسمه زوجها، لكنها الآن فعلت، بل شجعته في سرها أن يزيد العيار، لعل "فاعل الخير" هذا يصمت وينهي معروفه على خير.
لكن "فاعل الخير" سرعان ما أظهر حقيقته عندما توقف بهما في أرض فضاء.
على الفور أمرها عبد العزيز بالخروج عندما لم يوفر الآخر سببا لتوقفه، ليخرج هو بدوره ويقف أمامها حاميا.
احتمت بظهر عبد العزيز أكثر عندما رأت ما أخرجه الغريب عندما تبعهما، لتهتف بذعر: "من وين جاب ذا الساطور؟!"
أجابها عبد العزيز وهو يشمر عن ساعديه بسخط لا ينبغي أن يشعر به هذه اللحظة! أين الخوف، أين ردة الفعل الطبيعية لأي شخص؟!: "مدري عنه، بس شكله مستعجل على قبره ما دامه ناوي لنا شر!"
وحقا كان سيهجم عبد العزيز عليه لولا شدها له بذعر أكبر: "إنت اللي شكلك مستعجل على قبرك! خلينا نهج ونتركه!"
خلص عبد العزيز نفسه منها بلطف وجدته غريبا مقارنة مع النية التي كان يبيتها: "ما بتركه لين يموت الحيوان!"
هذه المرة لم تستطع كادي منعه، ولكن، ويا للعجب، فإن الغريب بدأ يتراجع للخلف بتوتر نتيجة تقدم عبد العزيز المتهور إليه، ربما ظانا أن أي شخص يتصرف بهكذا جنون لابد ولديه حيلة يخفيها. تراجع وتراجع إلى أن وقع "الساطور" من يده ليبدأ يهرب راكبا سيارته مبتعدا بها، فبدون سلاحه، فإن عبد العزيز سيكون ذو الأفضلية بلا شك ببنيته الأقوى.
لا تدري إلى أي حد نوى عبد العزيز أن يطارد الغريب، ولم تنوي أن تعرف. قالت وهي تلهث بعد لحاقها بزوجها: "بتلحقه وتخليني لحالي..؟!"
عندها التفت بالنظر إليها كأنه يتذكر وجودها، ليسألها بوجل: "إنتي بخير؟ صابك شي؟"
هزت رأسها بلا، واكتفت بذلك، متنفسة الصعداء، متنهدة بتعب. بحق لا تستطيع تكوين حرف هذه اللحظة.
على الأقل، بدا على عبد العزيز تفهم ذلك.
وبذلك بدآ مشوار قطع الصحراء ليصلا إلى الطريق. لكن كادي سرعان ما بدأت تتباطأ في خطواتها، فلم تكن أبدا بتلك التي تقوى على المشقة، خصوصا ليس والشمس تكاد تشويها!
سمعت صوت عبد العزيز يقول عندما تهاوت جالسة في مكانها على الرمال الحارقة: "تحملي شوي، شايف الطريق قدامي اللحين.."
هزت رأسها باعتراض وقوى خائرة: "مقدر.. مقدر.."
لاحظته قد انحنى منخفضا أمامها، يشير لها: "يلا طيب، اركبي ظهري."
اعترضت: "كيف! وإنت..؟!"
ليكرر بخشونة ظاهرية وحنان قلق مبطن: "اركبي ظهري وفكيني من الوقفة تحت الشمس يا بنت الناس!"
بتردد شديد، فعلت كما أمر، ليظللها بجاكيته وينطلق ماشيا، يقول بخفوت خصصه لها حتى في عزلة الصحراء: "آسف لأني بهذلتك معاي.."
على الرغم من هذا الوضع العجيب الذي كانا فيه، لم تستطع كادي منع بسمة من الافلات منها، برضا وتأثر. تعلم أنه مرهق مثلها، لكنه تحامل على نفسه من أجلها. دل ذلك على كثير، أليس كذلك؟: "خلي كلامك لبعدين، لما نوصل بيت جدتك.."
من تصلبه اللحظي، خمنت كادي أنه كان متفاجئا. سألها بنبرة شابتها التسلية جانب التأكيد: "يعني أفهم من كلامك إنك لساتك بتكملي المشوار.."
ضحكت هي بخفة، تشعر كمن أصابه دوار: "أنا ما وافقت عليك عشان أتطلق. بنكمل والله يرزقنا الصبر والسلوان.."
ليرد هو: "أجل تحملي اللي بيجيك."
لم يفتها دفء نبرته، ولا الفرحة البادية فيها.
=
=
=
كانت نعمة من الله، إيجادهما لسيارة أمن طرق بعد وصولهما إلى الطريق العام، ثم إعلام الشرطي لعبد العزيز أن سيارته قد وُجدت بحوزة أحد الشباب الطائشين بعد سويعات من سرقتها، ثم أخيرا، إعلامهما أن "فاعل الخير" المجرم تم القبض عليه وهو الآن محتجز يواجه عقوبته على الجرائم التي ارتكبها بحق آخرين غيرهم.
تكفل الشرطي في إيصالهما لبيت الجدة الذي طال النشد عنه، يكمل البشارة والفرج التي تمثل في لقياه.
لكن لحظة..!
تعرفت كادي على الطريق الذي كان يسلكه الشرطي، وخصوصا تلك اللافتة!
أخبرهما الشرطي عندها أنه للوصول إلى المحافظة التي يريدانها، فإن عليهما سلوك المخرج رقم 10، لا المرور جانبه، قد قال بضحكة: "كيف ضعيتها يا أخوي؟ ما في أسهل إن الواحد يروح لذيك المحافظة بالذات..!"
تجاهل عبد العزيز بشكل تام النظرات التي وجهتها كادي نحوه.
انتهى البارت..~
|