كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
كالعادة تعليقاتكم تزيدني فرح يوم بعد يوم. شوي تأخرت اليوم لأني واجهت مشاكل في الاتصال..
وبالنسبة لأيام التنزيل، فإذا الله قدرني على الاستمرار على الرتم الحالي، فبيكون التنزيل أيام السبت، الاثنين، الأربعاء، وأخيرا الخميس.
العاشرة
=
=
=
أخبر عبد الرحمن سالم عن الغداء الذي سيجمعه مع رجل أعمال بهدف الاستثمار في شركته النامية. رتب عبد الرحمن كل شيء، من الاستراحة التي سيستضيفه ووفده فيها، إلى المضيفين، لكن بقي أهم شيء: الغداء نفسه.
كان سيكلف أي مطعم جدير بصنع مائدة غداء تليق بالوفد، لكن ظروف رجل الأعمال هذا بالذات عرقلت ذلك الترتيب، فهو سعودي يعيش في كندا، وقد اشتاق إلى الأكل الشعبي البيتي، فأكل المطاعم المقلد أبدا لا يستهويه.
قال سالم يصف بكلمة وضعه: "ورطة.."
تنهد عبد الرحمن، يومئ موافقا بضيق: "واعدتهم على الغدا بكرة، وش أسوي..؟"
بدا على سالم التفكير، يد تحك تحت ذقنه، قبل أن يقول: "أظن عندي الحل.."
رمش عبد الرحمن بعجب: "حل وشهو؟"
أجابه بابتسامة: "وش فيك فاهي؟ أكيد أقصد حل لوضعك!" دق صدره بثقة: "خلي الغدا واللي معه علي! إنت بس أعطيني موقع الاستراحة واستريح.."
وحقا هذا ما فعله عبد الرحمن عدا عن بند الراحة ذاك، فهو قضى الوقت متوترا متوجسا متسائلا ما الذي كان يعزمه سالم، وإذا كان من الصواب إعطائه كل تلك الثقة، حتى أشرقت شمس الغد واقتربت ساعة الصفر. بقي على مجيء المستثمر ساعة ولم يأت سالم بعد.
-: "ارحم نفسك يا دحيم! تراك حفرت الأرض وإنت تروح وتجي.."
أخيرا تنفس الصعداء لرؤية سالم يقف أمامه وفي صندوق سيارته العديد من الحافظات، ينظر إلى ساعة يده وراض بالوقت الذي حضر فيه: "الوقت حلو، على رأي بنت أخوي يمدينا نسخن ونرتب على بال ما يجون.."
من شدة راحته اكتفى عبد الرحمن بهز رأسه مؤيدا بشرود.
بقي فقط الدعاء أن ينال ما جلبه سالم إعجاب المستثمر.
لم ينتظر الكثير ليعرف الحكم، فالغداء نال استحسان المستثمر بشدة، مشيدا عليه بإعجاب وجده عبد الرحمن مفرطا. لكن الحق يُقال، كان الغداء يستحق كل ذلك الثناء، ولكن للأسف، لم يبق منه شيء يرجعه معه إلى شقته.
انتهى الغداء بتأكيد المستثمر دعمه له، وعندما قال سالم أنه سيذهب أيضا، استوقفه عبد الرحمن ليبلغه جزيل شكره وعظم امتنانه لإنقاذه من وضع صعيب.
رد سالم بضحكة: "وحدة بوحدة يا دحيم! ماله داعي الشكر."
لكن عبد الرحمن أصر: "كم.."
قاطعه بحدة: "إذا تبا طيب خاطري عليك، لا تكمل اللي كنت بتقوله، ترى زعلي شين." ناوله حافظة، ثم استطرد بتسلية لرؤية التفاجؤ عليه: "أدري إن المشافيح قربوا يأكلوا الصحون وما خلوا لك شي، عشان كذا.. هذا قسط مخصوص لك."
لم يزعج عبد الرحمن نفسه بتهذيبه وكياسته المعتادة، فهو جعل طبخ بيت سالم الاستثناء منذ زيارته الأولى: "شكلك تبغاني أتم متلصق عند بابكم.."
ليرد سالم دون تردد قبل أن يودعه، لا يمانع أبدا الفكرة، تاركا له لوحده: "حياك في أي وقت يا شيخ!"
قد لا يستطيع قول قوله هذا لمن أعدت هذا الغداء الذي أنجده مباشرة، لكنه قالها بأية حال لمرأى الحافظة بين يديه، مبتسما بعرفان: "تسلم يديك.."
=
=
=
استغربت ترانيم الجدية البالغة التي كانت مرتسمة على ملامح أبيها. استغربت أكثر استدعائها إلى مكتبه بهذا الشكل المفاجئ.
قال أبوها بعد لحظة صمت، يعلن سبب استدعائه لها: "جاني خاطب لك.." وقبل أن ترد ترانيم كلمة، أكمل مقاطعا: "بعطيك خيارين، يا إما تقبلين فيه، يا إما تقعدين بدون زواج."
استنكرت ترانيم كلامه. ظنت للحظة أنها لم تسمعه جيدا: "إيش؟!" لم تستطع تصديق أن كلاما كهذا قد يخرج من أبيها الذي لم يقل لها "لا" قط، الذي لم يجبرها على شيء مطلقا: "بتغصبني يبه؟"
هتف بحزم: "سميه اللي تبغين.." تنهد بحرقة قبل أن يردف: "تظنين إن رفضك للي خطبوك كل ذي السنين ما كان له عواقب؟ إن علاقاتنا بالناس بتظل زي أول؟ إن الناس ما راح تتكلم عليك بالشينة؟ خلاص، ما عاد فيني صبر أمشي رفضك اللي ماله معنى.. أنا الغلطان اللي خليتك تسوين اللي تبغينه كل ذي السنين."
الصدمة ألجمتها من انفجار أبيها بهذا الشكل: "يبه.."
قال عندها بتحد حازم: "أعطيني سبب واحد، سبب واحد بس غير إنك مو جاهزة لرفضك كل اللي خطبك.."
افترقت شفاهها للرد على الفور وإعطائه ذاك السبب الوجيه، لكنها وجدت أنها لا تستطيع.
بدا أبوها كأنه توقع ذلك وقال: "هذاني أعطيتك خبر.. عندك ثلاث أيام تفكرين فيها وتعطيني ردك.." وذهب بنظره إلى أوراق عمله، متشاغلا عنها بكل برود كأنه لم يزلزل عالمها قبل لحظات.
لم يكن بوسعها سوى الخروج من مكتبه بغضب هادر حزين.
=
=
=
راقب سامر خروج ابنته بأسى.
لم يظن أبدا أن هذا ما سيؤول به الحال، لكنه لا يرضى على ابنته كلام الناس ورميهم لها بالاتهامات المبطنة.
على الأقل، هو مطمئن للوليد وطيب أخلاقه، ولديه الإعتقاد أنه سيكرم ابنته ويعزها.
=
=
=
سألته زوجته ذات مرة، منزعجة من تردد نواف على عتبة دارهم، أحقا لا يعرف أين هي ابنة أخيه فيصل؟
الحقيقة كانت نعم، لا يعرف.. رغم استطاعته الحصول على الجواب بسهولة. لكنه يعرف أن نواف يراقبه، ينتظر تلك اللحظة التي يتصل حامد بها ليتعقبها.
الحق يُقال، لم يكترث قط لها، ولم يكن ذلك بسببها هي، بل بسبب أبيها، أخيه من الأب.
كان أبوه خالد رجل محب للسفر، وصدف في إحدى سفراته أن تزوج على أمه، لينتج ذلك الزواج فيصل. فيصل الذي أتى به أبوه فجأة وأجبر أمه على الاعتناء به كأنه ولد لها. فيصل الذي كبر ليصبح مستهترا كثير المشاكل لا يتفق ولا ينخرط مع إخوته. فيصل الذي كان حله لمشاكله الهروب والاتكالية. فيصل الذي كان محبا للسفر كما كان والده، ليكرر فعلة أبيه ويتزوج في إحدى سفراته ويحضر ابنته الوحيدة معه. فيصل الذي مات بعد عودته بقليل وفي عز شبابه، لتصبح مسؤولية ابنته مسؤوليتهم على مضض.
ربما كانت إيجابية فيصل الوحيدة أنه كان يحب ابنته حبا جما، حتى أنه أوصى بها برجاء وهو يجاهد أنفاسه أن تتوقف.
تنقلت ابنة فيصل بين بيوتهم، وكلما سئم أحد أعمامها أو عماتها منها ومن المشاكل التي تسببت بها، أعطوا مسؤوليتها لمن يلي.
كانت في الثامنة عشر وتحت عهدة حامد عندما أتى نواف يخطبها. لم تكترث عندما قال أنها ستكون زوجته الثانية، بل كانت مصرة كل الإصرار على الموافقة عليه.
حذرها حامد عندها ألا تشتكي إليه إذا ندمت على قرارها، ولم يمض وقت بعد زواجها إلا وأتت إليه هاربة من نواف، تثبت له أنها كانت بحق ابنة فيصل.
وقتها لم يستمع لما أرادت قوله وتبريره، قد قال أنه لن يزعج نفسه بتحمل مسؤوليتها بعد الآن وكذلك إخوته. إما أن تعود إلى نواف أو تبحث عن مكان آخر تلتجئ إليه بعيدا عنهم كلهم.
وحقا، عادت إلى نواف، ليمضي وقت أطول قبل أن تعود إليه هاربة مرة أخرى، تتوسله ألا يرجعها إلى نواف وأن يطلقها منه، تتعهده أنها لن تطالبه بشيء بعدها، أن تقطعهم كلهم بالكلية إذا حقق لها طلبها ذاك.
رؤية انكسارها ودموعها الراجية، دموع لا يذكر أنه رآها تذرفها قط، حرك شيئا داخله، تجاه ابنة فيصل الذي لطالما مقته، ليتذكر لحظتها أنها كانت يتيمة قبل سنتها الأولى..
وقف أمام نواف وواجهه، وأخذ حكم الطلاق الذي أرادته. يذكر الفرحة العارمة التي ارتسمت على ملامح وجهها لرؤية الورقة التي أثبتت انفصالها عن نواف. يذكر قولها ودموع الفرح تتلألأ في مقلتيها: "مشكور يا عمي.. مشكور.."
كانت تلك المرة الأولى التي وجهت له الحديث كعم، كسند..
يذكر حامد وعد نفسه منذ تلك اللحظة، أنه ما دام في قلبه نبض، فإن نواف لن يصل منها طرفا.
=
=
=
رجع سالم إلى البيت والحماس يسيره ليخبر شادية ويريحها أن الغداء الذي أعدته قد لقي إعجابا، وكان سيدخل المطبخ لولا سماعه لذاك الصوت الذي أرقه اشتياقه إليه، صوت غاليته المتذمر. ببطء شديد تراجع للوراء، يستند بظهره على الجدار جوار باب المطبخ، يغمض جفنيه وينصت: "يختي انكسر ظهري من كثرة القدور! اعتقيني لوجه الله ودوري لي شغلة ثانية أساعدك فيها بدل البهذلة ذي!"
ردت شادية عليها ببرود لا مبال: " إنتي اللي تبرعتي وقلتي بتساعديني بشي غير الطبخ.."
تأففت غالية: "يا ليل ما أطولك! والله غلطان اللي يقول بيساعد وحدة ظالمة مثلك." أكملت تتمتم وصوت القدور التي كانت تفركها يقاطع كلماتها: "وليه أتعجب وعمك أكبر ظالم.."
ابتسم سالم بسخرية. كانت محقة، فهو كان أكبر ظالم لنفسه في حرمها رؤية من سرقت قلبه من سنين الطفولة، كان أكبر ظالم لنفسه في التزامه عهدا أدمى روحه ظمأ لقربها، كان أكبر ظالم لنفسه في ظنه أنه يقدر على بعدها بينما هو يعلم أن لمحة منها فقط ستضعفه حد الاستسلام.
فتح عيونه ليرى شادية تقف أمامه تنظر إليه باستغراب قلق. أشار عليها بإلتزام الصمت وعدم إخبار من عاثت في نفسه الفوضى دون رؤيتها حتى بوجوده، وانسحب بعدها يتجه إلى ملحقه، ليلملم شتات نفسه، يصبرها بكلمات أصبحت كالنفس من كثرة ترديدها.
"هانت، هانت.. كلها كم شهر وترجعيلي يا الغالية.."
=
=
=
رمشت زينب بعجب من كلام ترانيم، غير مصدقة أن العم سامر قد انفجر عليها بتلك الطريقة.
هي وترانيم صديقتان منذ الأزل، وعلى الرغم من طبع ترانيم الصعب، فإن صداقتهما ازدادت صلابة مع الأيام والشهور والسنين. تعرف أن ترانيم تخفي قلبا نقيا قادر على الحب والولاء بعنف وإخلاص تحت ركام كبرياءها، فلن تنسى تلك الأيام التي تدهور فيها حال مطاعم أبيها ووصولها إلى الإفلاس، كيف أن كل "صديقاتها" تركنها كأنها شيء موبوء.. إلا ترانيم. ظلت هي تعاملها كأن شيئا لم يتغير، تلعب معها، تزورها، تساعدها.. وصل الأمر أنها كانت تشتري من كل شيء اثنين، واحد لها وواحد لزينب، لم تشعرها قط كأنها تتفضل عليها، بل بكل بساطة أنها صديقتها التي أحبت مشاركتها بشيء أعجبها.
وعندما عاد أبوها إلى الساحة وبنى سلسلة مطاعمه من جديد ورجعت حالة عائلتها كالسابق، أتت "الصديقات" يتهافتن عليها كأن شيئا لم يكن، لكن زينب تعلمت درسها، وفضلت قضاء وقتها مع ترانيم.
مشكلة ترانيم كانت في مبالغتها في المجاملة واقتدائها بأمها التي كانت سيدة مجتمع لؤلؤية. لا تدري كيف تحتمل الجلوس مع تافهات لا تطيقهن حتى من أجل مكانة رمزية. حتى في أمر الزواج وضعنها تحت المجهر، يضغطن، يدققن، يتلامزن.. حتى باتت ترانيم ترفض بدون أي سبب يذكر رغم أنها ذكرت أكثر من مرة لها أنها لا تمانع فكرة تكوين أسرة!
إجبار العم سامر ترانيم على اختيار بين الزواج والحرمان منه كانت فرصة ذهبية، وستستغلها زينب لتحصل صديقتها على الاستقرار. تعرف أن العم سامر لم يكن ليجبرها على الزواج بمن لم يره جديرا، ولهذا اطمأنت وبدأت تنفذ خطتها: "وليه ما توافقين؟"
نظرت إليها ترانيم بعجب، لتكمل: "وافقي وأرضي أبوك، وبعدين انتقمي من عريس الغفلة على راحتك.."
استفسرت بتشكيك: "تبيني أطين عيشته معاي؟"
هزت زينب رأسها بالنفي بشدة: "لا، لا! إنتي استدرجيه لك وخليه يتعلق فيك، وبعدها بفترة معتبرة أبدي شوي شوي تردي كرامتك منه، لا هو بيطلقك بدري وتصير فضيحة لك ولأهلك، ولا هو بيتهنى فيك للأبد.."
بدا على ترانيم التفكير مليا بما تقوله، تقتنع به.
تعرف أن كبرياء ترانيم عصي عنيف لن يرضى على أن يجبر على شيء. فقط خطة مجنونة كهذه ستدفعها بالقبول على هذا الزواج.
دور زينب كان في إقناع ترانيم بالقبول، وأما الباقي كان على "عريس الغفلة"، أن يقنعها بترك الثأر لكبريائها والاستمرار معه.
انتهى البارت..~
|