كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
وعدت ميسو وأمول بإهداء، وهذا هو.. ذولا البارتين من قلبي لكم. أتمنى يكونوا بمحل مقبول..
(وحابة أهنئ نفسي على الرقم الخرافي اللي وحدة مثلي بكتابات قصيرة ما فكرت تحلم توصله فيوم. إنجاز وصلتيه يا فوفو، إنجاز!)
الخمسون
=
=
=
عندما أخبر منتهى عن وجهة سفرهما، بدا عدم الارتياح واضحا جليا على ملامحها، وكان بعد إلحاح منه أن أفصحت عن تفضيلها الذهاب لبلد آخر، كالمغرب مثلا، فالمناظر التي رأتها مرة في برنامج شوقتها للذهاب هناك، ناهيك عن كونه بلدا مسلما ترتاح أكثر بالذهاب إليه دون القلق من مضايقات.
امتثل شاهين لرأيها وغير وجهتهم، ولحسن الحظ، فإن المكتب الذي تعاقد معه جلال كان مرنا في إجراءاته، ولم ينتج عن تغيير الوجهة المفاجئ سوى تأخير بضعة أيام.
وفي المطار نبه منتهى على أن تبقى كظله، ألا تتحرك من جلوسها ريثما ينتهي من آخر الإجراءات.. ليفجع بعدم كونها في المكان الذي تركها فيه حال عودته.
"وين يمكن تروح؟!"
كان مستعدا لتمشيط المطار شبرا شبرا بحثا عنها قبل أن يلمحها على بعد مسافة قصيرة، يعرفها من مشيها الهادئ المميز عن الكل بنظره. ولحظة لحاقه بها أوشك على تأنيبها لفعلتها التي كادت توديه صريع القلق، ليلاحظ الصبي الصغير المتمسك بيدها قبل أن تتشكل الكلمات وتتلاشى أمام مظهره، يبدو كمن هدأ من نوبة بكاء من احمرار وجهه والدموع الباقية في مقلتيه حتى انتهت كخطين رفيعين على خديه.
فسرت له قبل أن يتكلم: "شفته ضايع ويبكي.." مسحت على رأس الصغير بحنان ظهر في نبرتها: "لا تخاف حبيبي، بنلقى أهلك.."
لانت ملامح شاهين عن حزمها السابق، يؤثر به سماع ذاك الحنان في صوتها، يتذكر استشعاره لعاطفة أمومية جياشة من حديثها عن طفلها الذي فقدته قبل سنين. وبدون أي نقاشات، بدأ في البحث عن أهله معها مستعينا بأمن المطار، وبقيا مع الصبي إلى أن أتى والده يهرع إليه ويحتضنه بكل قوته، كأنه يريد إبقاءه بين أضلاعه بعد ضياعه منه، ولا يلام.
قال لمنتهى وهما راجعان لصالة الإنتظار بعد ذهاب الأب وابنه: "ثاني مرة اتصلي علي بدل لا تلفلفي في الأماكن لحالك.."
وكان ردها بسيطا، غير مدركة لمقدار القلق الذي غمره خاصة وهي لم تخطو داخل مطار قط بينما هو اعتاد الترحال وألفه: "إن شاء الله.."
=
=
=
بلغ التعب منهما أقصاه عندما حطت الطائرة أخيرا في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء. بدت اللحظات التي قادتهم للفندق الذي سيقيمان فيه كالهذيان، ولم يدريا إلا وهما في الجناح المخصص لهما.
النوم كان محطتهما التالية بعد أن صليا العشاء، لا يتعبان نفسيهما حتى بالوجبة التي جُهزت لهما. لاحظ شاهين منتهى تكاد تنام في جلوسها وهي تدهن ساعدها المحروق بعلاجاتها. تقدمت حالتها على الصعيدين النفسي والجسدي، فالآثار بدأت تخف وتتعافى بالتدريج ومع الأيام، ولم تعد منتهى تخبئه عنه، تخوض في روتينها الليلي أمامه بكل أريحية.
مع قلة نومها قبيل سفرهما والرحلة الطويلة، لابد أن إرهاقها كان أبلغ منه، لدرجة عدم قدرتها على دهن حرقها دون أن تتلكأ غافية. ابتسم بعطف من منظرها، ليتقدم ويجلس جانبها، يتناول العلاج ليدهنه على جلدها بدلا عنها. تنبهت لفعله وقال بسكون مهدئ: "خليني أساعدك.."
للحظة ظن أنه تجاوز الحد وبالغ في تقدير مدى ارتياحها معه، لكنها سمحت له بصمت بالمتابعة، تسلمه ساعدها وثقتها.
وجد شاهين نفسه يختنق للحظة من بادرتها تلك، ليبدأ بالدهن ببطئ وعناية، يتخيل وينتشي من فكرة محو يده لأثر "ذاك" منها.
بزوال سبب يجعلها تركز بعيدا عن النوم، بدأت منتهى تميل جالسة بالسهاد، ليجعلها شاهين تستند على صدره، تغفو وأذنها على محل قلبه الهادر نبضا.
انتهى من عمله ليقبل نقطة التقاء رقبتها مع كتفها، تصيبه سكرة قرب بشرتها الناعمة الدافئة، سكرة استنشاق آثار العطر الوحيد الذي تصر على استخدامه.. سكرة أذهبت كل رغبة بالنوم عنه لتشعل بدلا رغبات أخرى.
=
=
=
بعد استحمامها وصلاتها للفجر، اتجهت منتهى نحو الحقيبة الضخمة التي أصرت أم جلال على شرائها وتوضيبها لها، تستخدم طرقا ملتوية كاستعطاف شاهين ليسمح لها بمساعدتها، ومن ثم استخدام شاهين لإقناعها بتركها تفعل ما تشاء.
تذكر محادثتها مع أم جلال صباح اليوم الذي سبق سفرهم، تنهي أخيرا وضب الحقيبة عنها، تتجاهل كل اعترض أبدته. كم كانت تلك الإنسانة.. مغيظة!
(-: "وبكذا خلصنا..! خلينا نطلع من جو الخريف تبعك قبل لا تروح عيون شاهين لمحل ثاني."
اعترضت: "شاهين مو من ذاك النوع."
ابتسمت لها أم جلال عندها، بمزيج من السخرية والانبهار والموافقة: "حلوة الثقة، بس شاهين يظل رجال، يشوف ويسمع ويتأثر.. على الأقل خليه يتأثر فيك.")
شيء في تلك الجملة الأخيرة جعل منتهى تعدل عن خطتها في إعادة توضيب الحقيبة بعد خروج أم جلال، شيء جعل الفضول الفطري فيها يضيء بالتساؤلات والرغبة في إجراء التجارب.
أحقا سيتأثر شاهين من مجرد اختلاف في مظهرها؟
تناولت أحد الفساتين الصيفية من الحقيبة، بقماش أبيض ناعم مطبوع بنقوش زهور جميلة وحمالات عريضة تهدلت على كتفيها برقة، يصل إلى تحت ركبتيها بقليل.
عاينت صورتها بالمرآة العريضة بعين ناقدة. لا تنكر أن الفستان وذوق أم جلال أعجبها، لكنها بدت مختلفة بشكل صعب عليها التعود عليه. تنهدت مفكرة أن عليها البدء بالتعود وبسرعة، فكل ما في حقيبتها كان من اختيار أم جلال، فقط لباسها الذي سافرت به كان من اختيارها هي.
خرجت من غرفة التبديل لتنضم لشاهين على مائدة الإفطار، لتنتبه لصدمته عندما قال: "منتهى..؟"
أجابته مجيبة عن سؤاله الصامت: "من بركات المشاوير مع أختك." أردفت سائلة، تختبر ما قالته أم جلال: "حلو..؟"
رأت شيئا يحترق للترمد في نظرته عندها، نظرة مسحت عليها ببطء شديد، نظرة جعلتها تعي لمقدار ما كشف عنه الفستان، من طول ساقيها وذراعيها، من كامل نحرها وأعلى ظهرها. لم تشعر بذاك الخجل عندما ارتدته، لكن الآن وتحت نظرات شاهين، شعرت بالخجل كالحمى.
أخيرا أجاب بصوت مختنق أجش، بكلمة لم تبد أنها عبرت بالقدر الوافي لما كان يفكر به: "حلو.."
إذا.. أثرت به.
وعلى الرغم من الخجل، على الرغم من غرابة الشعور، فإن شيئا بداخلها أزهر بالرضى والزهو بذاك الإثبات.
=
=
=
حمل باقي اليوم جولات ومغامرات، ولمنتهى التي لم تخط خطوة خارج الرياض، فإن تجربة السفر وفتح عيونها على أماكن ومشاهد جديدة كانت تجربة منعشة بحق، فكرة تخيلتها كثيرا وهي ترحل مع الروايات العالمية التي قرأتها ليكون الواقع أجمل وأبهى.
أرادت أن تختبر كل مافي الدار البيضاء في يوم، لكنها تعرف أن المدينة أكبر وأكثر تنوعا ليكفي يوم واحد، وهذا ما جعلها تتحمس أكثر. منذ زمن لم تشعر بهكذا حماس، بهذه الحياة.
الأدهى أن شاهين كان رفيق سفر مثالي، يزيد التجربة روعة بخبرته السابقة، يشوقها بكون المزيد بانتظارها خارج نطاق هذه المدينة.
عادا للفندق بعد صلاتهما العشاء في أحد الجوامع القريبة، على وعد الإكمال غدا وما بعده.
لحظة سكون كانت ما احتاجه ذهنها ليتذكر شيئا جعل بهجة الترحال تتلاشى، سؤال أرادت سؤاله منذ دهر. كان تغيرا لاحظه شاهين، ليسألها بنبرة شابها القلق: "وش فيك؟"
رفعت نظرها إليه قائلة: "الولد إنت، صح؟"
قطب شاهين حاجبيه باستغراب: "أي ولد؟"
لتفسر، تتمعن في تعابير وجهه لتلمح اللحظة التي سيستوعب فيها كلامها ويقر: "الولد اللي لقاه أبوه فمستودع.. كان إنت، صح؟"
تجمد ليقول بهدوء صقيعي: "ما يهم، سالفة وصارت."
جوابه ذاك كان اعترافا كافيا بالنسبة لها.
تقدمت إليه حتى لم يفصل بينهما شيء، تنظر إليه بإصرار رافض لترك الأمر مدفونا يعاني هو تبعاته، تعيد عليه كلمات قالها لها سابقا: "مهيب سالفة وصارت بس، لسى آثارها باقية فيك وفي اللي حولك. هي اللي خلت أبوك وأختك يبعدون عنك، هي اللي خلتك تتغير فظرف يوم، وهي اللي سببت لك كوابيسك.."
حذرها: "منتهى.."
لكنها لم تكترث، تهمس برجاء نادرا ما خالط صوتها، تكاد تتشبث به طالبة: "وش صار..؟"
وربما ذاك ما أثر به، لأنه قال بتنذير متردد، كأنه يعدها لخيبة، كأنه.. متوجس: "اللي أذكره ما يشفع لي لذاك الزود.."
ألحت: "ما يهم، احكي عن اللي تعرفه.."
تنهد بعمق، باستسلام، قبل أن يبدأ: "السالفة صارت قبل خمسطعش سنة، وقتها كنت مصاحب شلة من نفس الحال المرتاح. ضموا لهم واحد جديد فيوم، ومن أولها ما ارتحت له ولا السرعة اللي تقبلوه فيها. اللي كنت أعرفه إنهم نادرا ما سمحوا لناس جدد تختلط معهم، ولازم طبعا العايلة والمركز. بس الجديد.. كان استثناء غريب. متأكد لو سألت عنه ما بلقى أحد يقدر يقولي عنه شي.. كل اللي كان معروف عنه اسمه.."
سألت منتهى عندها: "وش كان اسمه؟"
نطق شاهين الاسم كأنه يلفظ سما عن روحه: "عقيل." أخذ لحظة قبل أن يردف: "من اليوم اللي بدا يمشي معنا، لاحظت اختلاف في الشلة.. بدوا يسوون مخالفات وأشياء ما كنت أظنهم بيتجرأوا يسوونها، صغيرة ومالها معني في البداية بس شوي شوي تطورت واضطريت أترك صحبتهم. لو أقول الصدق ما عمري شفت عقيل يقترح فكرة أو يأيد وحدة من مصايبهم مرة حتى، بس إحساس فقلبي أصر إن تغير الشلة مع جيته مو من فراغ.."
أظلمت عيونه بقتامة الذكرى: "فيوم اتصل وعزمني لمطعم رحتله مرات قبل، تكلمنا شوي واعترف لي إنه عزمني لأنه حس إني شايل عليه شي، واعتذر لي إذا فيوم غلط علي وهو ما يدري.. كلامه ذاك كان آخر شي أتذكره قبل لا أشوف نفسي مربوط فكرسي وأحس بإبرة تنحقن في الوريد.."
نفس، نفسان، أنفاس محترقة بغضب، ثم أكمل: "تلخبط عالمي بعدها، مدري حتى إذا كنت نايم ولا صاحي.. مرات كانوا يتركوني بدون جرعة عشان أحس بجسمي كله يحترق ويتآكل، ولما يعطوني تجيني راحة كرهتها واشمأزيت منها.. صرت فظرف كم يوم أسير لشي حقير اسمه إدمان.."
فغرت منتهى فاهها برعب واستطرد هو غير ملاحظ لها، ضاحكا ببرودة مريرة: "طولت على ذاك الحال اللين ما تركوني فجأة ولقاني أبوي في حال ما يسر، يسود الوجه على قولته.."
أنهى شاهين قصته بقوله، يواجهها بالنظر بترقب ساكن: "ومن ذاك اليوم، كل شي تغير.."
قالت بعد لحظة صمت خانقة، بعدم تصديق و.. غضب! غضب كاسح منفجر من أجله: "خمسطعش سنة ظالمينك.. خمسطعش سنة، ومافي أحد تعب نفسه يستقصي عن اللي صار؟"
أجابها شاهين بتعبير متفاجئ: "صار تحقيق، بس ما وصلوا لدليل يثبت إني كنت مخطوف وما جبت البلا لنفسي، خصوصا لما كثير من الشلة اللي كنت مصاحبها وقعوا في تهم وبلاوي مثلي.."
لم تقتنع البتة: "وعقيل ذا، مافي أحد قدر يربطه بالتهمة؟"
هز شاهين رأسه بلا، يقاطعها قبل أن تنطق بما يختلج في ذهنها: "إنتي اللحين تصدقيني؟"
ياله من سؤال بديهي: "ما عطيتني سبب أكذبك."
حاول تمويهها بعبث: "يمكن كنت أكذب فكل كلمة قلتها.."
لتنطق بثقة: "ما بتسويها."
شخر بسخرية: "ما تلاحظي إنك حاطتني باعتبار أعلى من اللزوم؟"
ابتسمت، أكان حقا غافلا عن قدر احترامها له؟ عن استحقاقه وبكل جدارة لذاك التاج؟: "وتلومني على ذا يا شاهين؟"
لم تدري إلا وهو يسحبها، يحتضنها في لحظات بدت بطيئة في سيرها بين ذراعيه. لم تدري إلا بصوته بتردد صداه في روحها، بتمتمة مثقلة بقوة عاطفة، تكوي بشرتها بحرارتها: "وتلوميني فحبك..؟"
=
=
=
الحادية والخمسون
=
=
=
كما غيرت تلك الحادثة قبل خمس عشرة سنة نظرة الأقربين إليه، غيرت كذلك شيئا في نفسه، في عد نفسه أهلا للثقة. حُفرت تعليقات المعالجين لحالته في ذهنه بعد إيداع أبيه له في أحد العيادات الخاصة جدا، يتوارى عن الناس من الخزي الذي سببه له..
(قسم حالة! ما لقى إلا أخطر كوكتيل مخدرات عشان يجربه ويدمن عليه..!)
(وش تتوقع من ولد نعمة؟)
كم من مرة حاول الاعتراض أنه بريء ليلاقي الشك والسخرية المسايرة، حتى استسلم واختار الصمت والمضي في علاجه، فما دام يعرف أنه بريء، لا يهم ظن الناس فيه، أليس كذلك؟
لكنه اهتم رغما عنه، واهتمامه ذاك رافقه كشك ووساوس لسنوات وسنوات.. أصبح متباعدا كتوما إلا عن قلة مقربين لا زالوا ينظرون إليه بعيون محبة، بعضهم عن جهل بما حدث كأبناء أختيه، وبعضهم عن رفض لما اتهم به كمنال.
كتمانه وتباعده، لكن، لم يساعدانه في حياته الزوجية حقا، فبسبب كوابيسه والأذية التي كان يلحقها لطليقته بسببها، بدأت المشاكل بينهما، يزيد اشتعالها كونه لا يحمل مشاعر خاصة لها بكل صراحة. تزوج نسيم لأنه ظن أن الوقت مناسب كي يتزوج وحسب، لتكون له شخصا يسمى بصفة زوجة. كان ظلما لها، يعرف، لكن ما باليد حيلة. على الأقل، تبين أن حذره الدفاعي كان في محله بعد كشف مجريات قضية التزوير تلك. حتى لو تبين أنها لم تلعب طرفا فيها.. نفس الإحساس الذي قاده للشك في عقيل جعله يراهن على كون نسيم متورطة بمكيدة أخرى في الخفاء.
بعد الذي جرى له، كان معذورا إذا تجنب الزواج وفكرة تقرب إنسان جديد إليه كالوباء. يكفيه من عنده بكل صراحة.
لكن الأقدار بيد الله، وأتى والده بذاك العرض مقابل تنفيذ وصية، ليجد نفسه يختار الخوض بالارتباط بإمرأة ليس لديه أي سبب للثقة بها أو حتى احتمالها.
ليقول الصدق، لفتت منتهى انتباهه من اللحظة الأولى التي رآها فيها، قبل زواجهما بسنوات، عندما كانت بذمة آخر.
كانت في اللحظة التي دخل بيت راضي مجيبا لاستغاثة منال به في أمر زواج راضي بأخرى وإحضاره لها للبيت، ليسقط ناظره على منتهى لحظة قبل أن يعيد توجيهه إلى راضي. لحظة كانت كافية ليتساءل ما خطب تلك المرأة لتقف متشحة بالسواد تراقب المشهد كأنها لم تكن جزءا منه، كأن العبرات والشهقات والجدالات التي انفجرت لم تكن من شأنها وهي من كانت السبب.
تمضي السنين، لتثبت أقوال ابنتي أخته منال انطباعه الأول ذاك عنها. تمضي السنين، ليكون له لقاء آخر معها.. هذه المرة بالصوت، لقاء كره مقدار تأثره ولو للحظة بها، لقاء كره الشرخ الذي أحدثه نغم صوتها الرخيم في حصون سيطرته على نفسه، ينسى للحظة من كانت ومن كان والحدود التي كانت.
سرعان ما تلاشت تلك الحدود وتزوجها، ليتبين أن صورة كانت بمثل جمال الصوت.
كان عازما على إبقاء الحدود بينه وبينها، على إلبقاء حذرا في كل تعاملاته معها. حقا، لم يتوقع أن يحدث زواجه بها في روتين حياته فرقا.
لكن عزيمته لم تصمد أمام الفضول الذي اكتسحه تجاهها، فضول زاده غموضها وغرابتها، ورغما عنه سلك درب الاهتمام بدل الحياد.
(رغما عنه وجد نفسه يتساءل عنها.
رغما عنه وجد نفسه يسعى للحصول على أجوبة منها.
رغما عنه وجد نفسه يستمتع في تبادل الحديث معها.
رغما عنه وجد نفسه ينجذب لدهائها، ينسحر بفطنتها.
رغما عنه وجد نفسه يدرك وجودها ويفتقده.
رغما عنه وجد نفسه يرتاح بجانبها، يقتبس من ثقتها، يتأثر من صدقها، يفتنه غموضها.
رغما عنه وجد نفسه مأسورا برقتها المدفونة تحت حواف أقنعتها.
رغما عنه وجد نفسه يمنحها كامل ثقته، ثقة بادلتها إياه، لينتفض بحمية حامية من أجلها.
رغما عنه وجد نفسه يستسلم لاكتساحها حصون روحه.
ورغما عنه وجد نفسه يجيب في خوالج قلبه عن سؤالها اليومي: "محتاج شي..؟"
"إيه، أحتاجك..")
التباعد عنها أصبح آخر ما يفكر فيه، يتشوق للعكس، للاقتراب والاقتراب والاقتراب حتى يجري منها مجرى النبض. وأضحت لسيطرته على نفسه وأشواقه أبعاد أخرى بليغة التطرف. ففي كل حركة، كل كلمة، وجد شيئا أحرقه ولعا..
يحبها، يعشقها.. شعور تراكم وهو غافل ليباغته وهي ترد عليه بابتسامة: "وتلومني على ذا يا شاهين؟"
بدت تلك اللحظات الأولى بعد قولها كمشهد سينيمائي مبطأ، يتصرف بالغريزة، لا يدري حتى إذا قال شيئا يُفهم أم هذى بمحاولة بائسة في التعبير عن فيض المشاعر التي غمرته.
وعندما وعي ليركز ناظره على الذهول في تعبيرها، لم يكن بوسعه سوى أن يلثم شفتيها بقبل خاطفة متلاحقة، يقول بهمس لاهث بعد أن سرق النفس من رئتيها، باستسلام متيم محروم: "وصلت أقصاي.. منتهاي.."
=
=
=
لا تصدق أن هدير العواطف هذا أتى منه، من شاهين الذي عرفته بواجهة متأنية موزونة، مدروسة الخطوات والتبعات، ولا تصدق أن كل تلك العواطف.. كل تلك المعاني الفاضحة في عيونه.. كل ذلك الشوق والتوق والحب.. كان موجها لها، كانت متفردة به.
كانت مشوشة، دائخة بسيل من المشاعر لم تختبر مثيلا لها قط، لكنها لم تكن خائفة.
كيف تخاف شاهين وهو مثل لها الأمان كله؟
=
=
=
عندما ظنت أنه خلد للنوم تحركت عازمة النهوض بارتباك، لكن ما إن بدأت تنهض حتى شهقت بحرج عندما أحست بذراعه تحيط خصرها بتملك، يشدها إليه ليغمرها بعطره ودفئ جسده. قبل ظهر كتفها العاري قبل أن يقول بخبث مسترخ ناعس: "لا تهربين.."
وكان هذا إدراكا جعلها تستسلم بطواعية تامة، كونها لا تحتاج للهروب من أي نوع بعد الآن.
=
=
=
اختار شاهين الاستلقاء على السرير بعد رجوعه من صلاة الفجر، يراقب منتهى الجالسة جانبه، تحاول جاهدة التصرف بطبيعتها كأن شيئا لم يكن بتسلي، لأن شيئا حدث.. وما زال شاهين يشعر أنه حلم..
تشدق سائلا، يتناول يدها الحرة ويمسح بإبهامه على باطن كفها: "لمتى بتتظاهري إنك قاعدة تقرين الكتاب؟"
تمتمت: "ما أتظاهر.."
لم يصدقها: "والدليل إنك واقفة على نفس الصفحة من ربع ساعة، صح؟" أردف بعد تمهل لحظة: "تدرين وش لون عيونك؟"
=
=
=
توقفت منتهى عن التظاهر بالقراءة عندها لتلتفت إليه، مستغربة من قوله، لكنها قررت مجاراته لمعرفة أين يهدف: "وش لونها؟"
بدل الإجابة، اعتدل جالسا، يترك يدها ليتناول وجهها برقة، يقترب ليتمعن في النظر: "لونها مثل السما فيوم ماطر، وأحيانا أشوف فيها خيوط ذهب تذكرني بالشروق.. تخلي الواحد يضيع، وتخلي القصايد تضيع فوصفها.." ابتسم ابتسامة صغيرة، يردف: "دوم كنت أبي أقولها لك.."
لطالما كانت عيونها محل أسى، فهي العيون التي ورثتها عن "تلك" التي سرقت جدها من زوجته وأطفاله، محل تندر أبناء عمومتها وزميلات الدراسة.. عيون غريبة مريبة، وربما مزيفة حتى!
أن يتغنى بعيونها شخص.. لا يعرف شاهين بحق ما فعلته كلماته تلك بها.
ابتسمت بدورها، تدفع تأثرها ومبلغ افتتانها كيلا تبدو كالخرقاء أمام لباقة شاهين وتسلسل كلماته: "متأكد ما ورى مديحك مصلحة؟"
اكتسبت ابتسامة شاهين ميلا عابثا، وعيونه لمعة خبث ومعنى: "ولو قلت إيه وش بتسوين؟"
قبل أن يمكنها التفكير في رد صدح جوال شاهين بالرنين، ليبتعد عنها ويجيب بضيق واضح على من تبين أنه مندوب المكتب السياحي، يعطيهم برنامج اليوم بحماس غافل عن التعبير العبوس المضحك الذي سببه اتصاله.
وعندما ركبا في السيارة التي ستقودهما لوجهة اليوم، التفتت منتهى لشاهين تقول بابتسامة، وبرأيها الصادق: "عيونك الأحلى.."
انتهى البارتان..~
|