كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
أوهوووه! صايدة توقعات صحيحة من هنا وهناك (غمزات وغمزات) ما شاء الله على العقول النظيفة. تلقطوها وهي طايرة :)
السادسة
=
=
=
"هذي آخر مرة أفكر أبدع في المطبخ.."
نظرت لمار أرجاء المطبخ الذي وسخته أثناء محاولاتها لخبز كعكة بوجل وتوجس، تحس بمدى الورطة التي ورطت نفسها بها هذه اللحظة.
ميشا خادمة البيت كانت مع كادي التي كانت تتبضع المقاضي، وأبدا لا تود لمار أن يريا المطبخ في هذه الحالة المزرية عند عودتهما القريبة جدا! من الذي سيعتقها من محاضرات كادي، ومن إحساسها بالذنب تجاه ميشا المسكينة؟
المشكلة أنها بطيئة جدا في أعمال البيت..
كادت تصرخ مفزوعة عندما أتاها صوت زوجة أبيها سائلا: "وش هببتي هنا؟"
لم تنظر إليها عندما ردت، متنفسة الصعداء أنها لم تكن كادي، تحاول فرك بقعة عنيدة من الفرن: "كيكة.."
صمتت زوجة أبيها للحظات قبل أن تأمرها: "اطلعي واغتسلي." أكملت قبل أن تسأل لمار أو تعترض، تجعلها تنهض بخفة واقفة: "بنظف بدلا عنك.."
انصاعت لأمرها متعجبة، وكانت بعد فترة قصيرة أن رجعت لترى المطبخ يبرق نظافة، وزوجة أبيها تقف وسطه تنظر إذا فاتها شيء.
شكرتها لمار بذهول، لترد: "اشتري كيكات من برا أبركلك.."
نسيت لمار نفسها تماما ومن كانت تكلم: "عنادا لك بسوي كيكة بتراكضي وراي عشانها!"
عندها وياللعجب، افلتت من زوجة أبيها ضحكة، لتخلف في إثرها ابتسامة متسلية: "نشوف كيكة الأحلام ذي كيف بتصير.."
لتؤكد لمار بإصرار: "بتشوفين، استني علي بس!"
-: "لمار؟"
صوت كادي المستغرب جعلها تتذكر ماذا كانت تفعل ومن كانت منخرطة في تحديه بطيب نية. تلعثمت، لا تعرف ماذا تقول.
تكلمت زوجة أبيها عندها، كأنها أحست بمعضلتها، تعابيرها حيادية لا أثر لتلك الابتسامة فيها: "كنت بسوي شي ووسخت المطبخ واللحين نظفته." أشارت ببرود إلى لمار: "جت هي تشوف سبب الفوضى."
مشيت مبتعدة عنهما.
سألتها كادي بقلق وشك عندما اختفت من الناظر، تضع يديها على كتفيها تستحثها الإجابة: "صحيح كلامها؟"
لتجيب لمار على مضض من جهة، وتشتت انتباه من غرابة تصرفات تلك المرأة وتناقضها من جهة أخرى: "إيه.."
=
=
=
أصر عليه سالم أن يستضيفه في بيته، ولكونه لا يريد مضايقته برفضه المستمر، قبل عبد الرحمن دعوته على وعد الزيارة يوم الجمعة.
رحلته خارج حدود الرياض على سيارته كانت سهلة، وإيجاد القرية التي كان يعيش فيها سالم لم يتطلب سوى بضع إرشادات منه. حال وصوله على أعتاب القرية وجد سالم واقفا بانتظاره، يلوح له بحبور.
قال وهو يركب في المقعد المجاور له، يشير بيده إلى الطريق المؤدي لبيته: "والله مخك نظيف ما شاء الله، ما توقعت بتدل بذي السرعة!"
أجاب عبد الرحمن بابتسامة، يمسح بنظره على ما رآه من القرية، من البيوت المتفاوتة في الحداثة والقدم، والطرق الوعرة والمستوية، بين المحلات البراقة والغبرة..: "تعليماتك كانت واضحة، وأصلا لي خبرة في السفر البري.."
أوقفه سالم أمام بيت كبير، عتيق إلى درجة الأثرية. من نظرة عرف عبد الرحمن أن هذا البيت احتوى قصصا عدة بين جنباته.
دخل سالم أولا، يعلن عن حضوره بصوته الجهور، ومن ثم أشار له باللحاق به إلى الملحق. كان الملحق صغيرا، يتألف من صالة وحمام وغرفة موصدة خمن عبد الرحمن أنها غرفة نوم سالم.
في الصالة فُرشت سفرة عامرة بما لذ وطاب، وحقا يعترف عبد الرحمن أن عصافير بطنه بدأت في الصدح تشوقا.
وعلى مائدة الغداء، أخذا يتحدثان كالعادة، وأغلب الحديث كان يقوده عبد الرحمن يستفسر عن القرية والمعيشة فيها، عن حياة سالم وما دفعه للعيش هنا والسكن في الرياض أسهل وأكثر منفعة له.
ابتسم سالم بشجن عندها: "من ثمان سنين ووضعي يتطلب مني أتم هنا.." صمت للحظة قبل أن يستطرد، يحكي من البداية: "أبوي ما كان من أهل القرية، بس لما تزوج أمي سكن واستقر فيها واشترى له ذا البيت. ولدت له أمي أربعة كنت أنا أصغرهم وتوفت بعدها بعشر سنين. أكبر إخواني كان محمد، وهو اللي كان يتكفل في البيت وأبوي وأختي ويصرف على دراستي، بس قدر الله وتوفى في حادث هو وزوجته وتركوا بنتهم يتيمة. وقتها كان باقي لي سنة من الجامعة، وصارت مسؤولية أخوي محمد مسؤوليتي، وصرت أداري بنته بعد ما أختي تزوجت وسكنت في الشرقية. ما قدرت أتم عايش في الرياض زي أول."
لماذا كان الأصغر هو من تحمل تلك المسؤولية الضخمة لوحده؟: "مو إنت قلت إنكم أربعة؟"
ظهر الضيق والخذلان في ملامح سالم عندها: "بعد أخوي محمد يجي ثنيان، بس ذاك الله العالم وين أرضه. من راح وسافر برى الديرة ما سمعنا منه خبر. تبرى منا وتبرى أبوي منه."
تشعب الحديث بعد تلك الاعترافات إلى مسارات أقل ألما ووقعا على القلوب، لكن عبد الرحمن لم يستطع إلا أن يفكر ويقارن..
من يرى سالم وأريحيته لن يظن أن وراءه هكذا مسؤوليات. ورغم ذلك، درس وتفوق وعمل بجهده. كم كانت حياتهما مختلفة، فهو على الغرار تماما وُلد وملعقة ذهبية في فمه، وظيفته جاهزة قبل أن يدرس حتى. مهما حاول أن يبتعد عن تأثير عمه، فإنه لن يفلت من الرخاء الخانق الذي لاحق انتسابه لعائلة الجبر.
حرك سالم يده أمامه، يوقظه من سرحانه: "وين سافرت يالأخو؟ إذا الأكل مو عاجبك.."
قاطعه: "لا، لا.. أبد! من كثرة ما أكلت مستحي منك والله." لا يذكر أنه أكل بهذا القدر في حياته، حتى في المطعم. لا ينكر أنه فكر للحظة أن يطلب من سالم إعطائه قسطا يأخذه لشقته وينقذه من الشطائر الجافة التي يعدها لنفسه على عجل.
ضحك سالم بصخب بعيد تمام البعد عن شجنه السابق: "كُل وأنا أخوك! خلص بدل الصحن صحنين!"
وهكذا مضى الوقت بهما، إلى أن صلا العصر في جامع القرية وبدأ رحلة العودة إلى الرياض بعدها، ومعه حافظتا طعام أصر سالم أن يأخذها معه.
=
=
=
سأل ابنة أخيه مستأذنا، فهو لا يريد الإثقال عليها مهما كان: "عادي لو صرت أعزم الرجال؟ شفت طبيخك عاجبه وقلت في نفسي ما ينحرم منه."
ناولته شادية فنجان قهوته والجدية مرتسمة في ملامحها: "أفا يا عمي، إعزم ولا تسأل إنت تامر بس! الرجال سوى فينا معروف عظيم. أقل شي نقدر نسويه نعزمه."
ابتسم بفخر، وصورة أمه المرحومة ترتسم أمامه في كل ما يرى ويشهد من شادية، تلك الأصالة التي أوقعت أباه صريع هواها ليهجر المدن ويعيش في كنف القرى: "أجودية من يومك يا بنت محمد.."
=
=
=
كان جالسا في الصالة يرد على رسالة من أحد أصدقائه عندما رأى بطرف عينه يدا تمتد ناوية إفساد هندام شعره.
ابتسم بانتصار لرؤية الغضب في وجه أخيه الصغير سيف، محكما قبضته حول رسغه.
أمره سيف بصرامة بدت غريبة كل الغرابة مقارنة مع ملامح وجهه الطفولية: "إمسح الجلي من شوشتك."
وضع جلال جواله جانبا ليولي انتباهه لأخيه وطرافة تصرفاته. حرك حاجبيه يغيظه: "اسمه جل يا فالح.."
كشر: "جلي ولا جل، لا عاد أشوف شوشتك طايرة كذا!"
اكتسى صوت جلال الجدية عندها: "شكله من كثرة القعدة مع جدي عبد المحسن نسيت إني أخوك الكبير.."
مط سيف شفتيه بضيق وربما الحزن: "القعدة مع جدي أبرك من القعدة معاكم. يا إما مدلعين، يا إما شايفين أنفسكم على الفاضي، ولا ما ينشافون من كثرة أصحابهم.."
قرأ بين السطور وفهم على أخيه، وارتخت ملامحه من الحزم إلى المودة الباسمة: "ياخي لو تبغاني ألعب معاك جولة على البلايستيشن قول كذا بلا لف ودوران."
استنكر سيف بطفولية مرتبكة: "مين قال؟!"
رد: "إذا ما تبغى، روح.."
مرت لحظة ثم لحظتان ثم سأل سيف بتردد: "من جد.. بتلعب معي؟"
ابتسم له: "إيه.. شغل لنا شي حلو وأعرف له. تراني مغبر.."
راقب ارتسام الفرح في عيون أخيه، يخرج راكضا من الصالة لغرفته للتجهيز.
منذ بدء عمله مع أبيه وسيف محتد في طبعه، وبينما عزى الكل السبب في كونه قد بلغ الثانية عشرة من عمره، إلى أن جلال يعرف أن هناك سبب آخر في تغير أطباعه.
في غياب أمه وأبيه المستمر، وبسبب عدم توافق اهتماماته مع تلك لأختيه، فإن سيف كان مقربا بشكل كبير إليه.. إلى أن مرت السنين وكثرت مشاغله التي أبعدته عن البيت وعن الاهتمام بسيف كالسابق. ربما كثرة جلوس سيف عند جده عبد المحسن كانت محاولة تعويض، لكن على ما يبدو، ما زال يفتقده، كما يفعل جلال بكل صراحة.
=
=
=
لمح أباه يسترق النظرات المتعجبة إليه، ربما بسبب الابتسامة المتسلية المنتصرة التي ارتسمت على شفتيه وهما في طريقهما إلى بيت أبو كادي.
"الشوفة بعد أسبوع.."
ماذا لو قدم الموعد إذا؟
تطلب الأمر بضعة مكالمات وحجج وأعذار عن جداول العمل وقلة الفرص، لكن عبد العزيز حصل على مراده. وهاهو الآن يحصل على تلك الرؤية الشرعية بعد لقائه بخطيبته بيوم فقط.
(تلك الخطيبة التي ترجف دقاته ترقبا لمرآها).
لا يدري كيف مر الوقت بين سلامه لأبيها وانتظارها، لكن بعد طول انتظار ساعة الصفر حلت.
دخلت هي بخطوات بطيئة مثقلة بالخجل، بتنورة سوداء مخملية، وقميص سكري حريري طويل الأكمام، رابطة شعرها الأسود الطويل الناعم لأعلى. كانت مطرقة رأسها للأسفل، تحرمه من رؤية وجهها إلى آخر لحظة. لكن من أين ستفلت منه؟
لم يلحظ انسحاب أبيه وأبيها من المجلس، تاركين لهما بمفردهما، إلا متأخرا. وعندما فعل لم يضيع الفرصة وجلس بقربها، غير مكترث البتة بمدى جرأة تصرفاته. مرر إبهامه برقة فوق ذراعها المسكوة بالحرير، على أثر ذاك الجرح الذي أحضرها له. همس بمعنى: "كيفه..؟"
سؤاله ذاك كان ما جعلها ترفع نظرها إليه، ليبتسم عبد العزيز برضا للقيا محياها أخيرا.
ناعمة جدا. هذا كان رأيه الأولي فيها. من ليل شعرها إلى عيونها البندقية، من استدارة وجهها إلى عذوبة ملامحها، من الاحمرار الذي امتد من رقبتها إلى وجهها.
فقط ارتسام شفتيها بسخط بالكاد يُكبح دل على ألق آخر مغاير تخفيه تحت نعومتها.
حتى وإن شاب نبرتها التهكم والحرج، وجد صوتها الرقيق ساحرا: "ما تغير حاله من أمس.."
ازدادت ابتسامته اتساعا. صوته ومظهره كانا كفيلين في جعل رجال بطوله يتشنجون متوترين متوجسين منه، لكن هذه الحريرية عاملته كند ودون أي خشية، وهذا أرضاه أكثر من أي شيء: "مشكلتي ما أعرف أصبر، كان لازم أتطمن.." نهض على مضض عندما سمع تنحنح أبيه ينبئ بقطع خلوتهما هذه، ثم استطرد بخبث زادها احمرارا: "الله يصبرني بعد هاليوم.."
في طريق العودة إلى البيت قال أبوه بابتسامة ذات معنى: "من الابتسامة اللي شاقة الوجه، واضح إن بنت راضي عجبتك.."
لم يزعج نفسه بالإنكار: "ما يبغالها سؤال يبه."
=
=
=
ما إن دخلت كادي غرفتها حتى اقتحمتها لمار، تقفز على السرير وتتطلع إليها بترقب، وقبل أن تهتف بأسئلتها قاطعتها: "أنا لما قبلت فيه ما كان همي شكله.."
نظرت إليها لمار لحظات كأنها تتفحصها قبل أن تعلن بثقة: "عجبك عريس الغفلة، عجبك للآخر!"
استنكرت والحمرة تعتليها، لا تستطيع سوى سؤال: "وشهو؟"
أجابت لمار تفسر: "قاعدة تكابرين وتخلينه شي عادي وحصل.. معناته أثر عليك، وما دامك وافقتي عليه، يعني إنه عجبك." ابتسمت بانتصار ورضا تام بمنطقها، تكمل: "عشرة سنين يا وخيتي.."
لمار كانت.. محقة.
لدى خطبيها جاذبية خشنة جعلتها تحس بأحاسيس غريبة على قلبها. ربما كان عليها الشعور بالتوجس لرؤية آثار الندوب المتفرقة على صفحة وجهه، واحدة تقطع حاجبه الأيمن وأخرى على جسر أنفه وأخيرة على خده، لكنها رأتها تضفي ألقا غريبا على ملامحه التي ذكرتها برمال الصحراء في سمرتها، وعيونه بقتامة القهوة.
لا يبدو أبدا كطبيب، بل كبطل أحد أفلام الحركة الخطيرة. كانت تركيبة لا تنكر أنها شدتها.
تداركت كادي استغراقها في التفكير عند رؤية التسلية في عيون أختها: "وإذا عجبني، مو معناته بيغير فكري.."
تنهدت لمار بتأفف: "ويقولون إنتي العاقلة فينا.. يختي لا تحكمي على الناس من تجربة وحدة! عيشي حياتك."
هزت كادي رأسها بأسى: "مقدر يا لمار، مقدر."
تجربة أمها وأبيها ستقف دوما حائلا أمام نظرتها في الارتباط بشخص.
ستحترم عبد العزيز، ستعامله بالذي يرضي ربها، لكن أن تأمنه بقلبها؟ عذرا، لا تستطيع..
=
=
=
هتفت منى بصخب كاد يصم أذنيها: "مرام الهبلة تزوجت أول واحد تقدم لها. وش بيقولوا الناس، ما صدقت خبر؟!"
لترد أريج بغيظ وحقد مبطن للكل، لكنه واضح لها، تنظر إليها بمعنى: "كل وحدة ورزقها، مو كلنا عنده صفوف خطاطيب متروسة فوق بعضها."
قهقهت ضيفاتها بالضحك، وابتسمت ترانيم بغرور، تعد في سرها الثواني قبل الدقائق لانتهاء هذه السهرة: "هذيك قلتيها، كل وحدة ورزقها.."
حقا لا تدري لم تزعج أريج نفسها في حضور التجمعات التي ترتبها والمنطق كان في تجنبها.
ما ذنب ترانيم إذا تقدم إليها ابن عم أريج الذي اعترفت لها أريج في السر عن حبه؟ ليست هي من طاردته وزرعت فيه فكرة خطبتها. كل اللوم كان على أمه التي رأتها في أحد حفلات الزفاف وأُعجبت بها.
وحقا، ما ذنبها إذا تقدم ابن العم ذاك لأريج عندما رفضته، لترفضه أريج أيضا بسبب غيرتها وحسدها وعقد النقص التي وجهتها نحوها؟
كان بإمكان أريج المضي قدما ونسيان ما فات، لكنها فضلت البقاء على حماقتها هذه.
إذا، فلتتحمل القهر.
انتهى البارت..~
|