كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
الثانية والأربعون
=
=
=
مهما مر من الزمن، فما زالت غرفة صديقتها زينب مؤذية للعين بتنسيقها. توسلتها ترانيم مرات عدة أن تغير من ديكورها، بالمجان أيضا! لكن لا حياة لمن تنادي..
زارتها اليوم لأول مرة منذ زواجها، حقيقة ذكرتها بها زينب بلا هوادة وإغاظة، تقول أن الوليد قد سرقها منها بالكلية. حال سؤال زينب عن وضعها معه، تنهدت ترانيم بحرقة، تبدأ في الإفصاح عما أثقل قلبها هذه الأيام.
سألتها زينب بعد استماع: "وش اللي تبينه بالضبط؟"
قطبت ترانيم حاجبيها: "وش قصدك؟"
لتسألها مرة أخرى بعد تفكير لحظات: "تتخيلي تعيشين من دونه بسهولة؟ بترضي ما يكون له حق يكلمك؟ بيكون عادي معاك تكملين حياتك مع رجال غيره، وهو مع ثانية غيرك؟"
هل تستطيع تخيل حياتها بدونه؟ لا تظن. فرغم وجوده القصير في حياتها إلا أنه وضع بصمة بارزة فيها.
ألا يكون له الحق في مكالمتها؟ أليس جزء مما كان يزعجها في وضعها هذا عدم مخاطبته لها إلا بالضرورة؟
أن تكمل حياتها، أن تتزوج غيره؟ بكل صراحة، لا تتخيل فكرة ارتباطها مرة أخرى. كانت محظوظة بحق أن الوليد كان رجلا كفؤ وذو خلق، فكونها مجبورة بالزواج لرجل تحتقره كان ليكون الضربة القاضية.
أن يكمل الوليد حياته بدونها؟ مع أخرى تحل محلها؟: "بيتزوج بعدي؟!"
هزت زينب كتفيها: "همم.. احتمال كبير. يعني بيظل الرجال عزابي بعد ما يطلقك؟ ما أظن." أردفت بضحكة، ربما تحاول تلطيف الجو الذي توتر فجأة، غير دارية أن كل كلمة تنطقها زادت ترانيم هياجا: "الرجاجيل مالهم أمان ياختي، يمكن يطلقك فيوم واليوم اللي بعده يروح يخطب!"
سيوقظ أخرى بابتساماته في الصباح؟ سيتغزل بأخرى بعفويته ومرحه؟ سيغيظ أخرى بصراحته؟ سيحيط أخرى بين ذراعيه في نومها؟ سيكون لأخرى ما كان لها؟
على جثتها! حلم إبليس في الجنة!: "ومين هالخسيسة اللي بيتزوجها؟!"
بدا على زينب الاستغراب التام وقلة الحيلة: "وش دراني أنا؟!"
قالت والوعيد فاضح في عيونها: "إذا بيظن إنه بيتخلص مني عشان يبدلني بثانية، غلطان وألف مرة غلطان! بقعد حامض على بوزه!"
نظرت زينب فيها مطولا قبل أن تقول بتريث، كأنها تحاول تهدئة نمر هائج: "يعني ما تبينه يطلقك؟"
أجابتها: "لا."
سألتها مرة أخرى: "وبيكون عادي معك تظلي معه ما بقى لك من عمر؟"
لتجيب: "إيه."
تمهلت لحظة قبل أن تختم: "تحبينه؟ والأهم.. تبينه من خاطرك؟"
كانت صدمة لترانيم أن انسلت الإجابة للسؤالين من بين شفتيها بكل سهولة: "إيه.."
رفعت نظرها فورا إلى زينب التي بدا عليها التسلية التامة: "أثاريك غارقة لأقصاك يا تيتو!"
كان هذا إدراكا.. لكن: "بس بعد إيش؟"
اختفت التسلية من تعابير زينب، تبدو عليها نفس حيرتها وإحباطها: "إيه والله، الرجال يظن إنك عايفته. وإنتي مو دارية إذا لساته خاطره فيك.. خلاص، قوليله بكل صراحة إنك تبينه."
اعترضت: "هذيك قلتيها، مدري إذا يبيني أو لا. لازم أضمنه أول قبل لا أقوله إني أبيه!" لم تعتد الرفض، طول عمرها كانت الأميرة المدللة. سيكون جرحا لن يبرأ، مقابلته اعترافها برغبتها في البقاء معه بالنكران، سيكون كسرا لن يجبر. الفكرة لوحدها تكاد تصيبها بالهلع. لم ترد شيئا قط كما تريده، لدرجة تخطي حاجز فعلة والدها بها، لدرجة تخطي كل تحفظاتها!
قالت زينب: "طيب، طيب سوي اللي تبينه بس فكي كتفي خلعتيه!"
عندها أدركت ترانيم قبضة يدها المشتدة على كتف زينب، لتفلتها بحرج.
=
=
=
صفرت أخته شذى بانبهار عندما شاركها ما اكتشفه على مضض، ترتسي على شفتيها ابتسامة منذ أن بدأت تظهر عليها علائم فشل كليتيها: "منتهى ما تمزح والله، ولد الجبر مرة وحدة؟! خلاص يا نويف، صرت بيزة ما تسوى!"
حذرها نواف بحدة: "بتنكتمين ولا لا؟"
لم تكترث شذى، كما كانت العادة: "يا أخوي قاعدة أحكيك بالواقع. لو كنت مكانها والله بتفل بوجهك كل ما ألقاك، إنت وين والجبر وين يا حظي.." اكتست صوتها الجدية وهي تردف: "اللي تسويه فنفسك غلط يا نواف."
ليقول: "غلط إني أبي أصلح غلطتي؟ غلط إني أبي أعوضها عن سواياي؟"
تنهدت: "خلاص، فات الفوت. هي فذمة رجال ثاني، والله يكتب لها العوض فيه." أشارت لنفسها، لجسدها الذي أنهكه المرض: "شوف حالتي، ظلمت بنات الناس عشان الفلوس واللحين لاقية حوبتهم، ولا وحدة منهم رضت تسامحني.. وما ألومهم."
وهذه المشكلة. لا يريد لرجل آخر أن يكون لمنتهى العوض، بل يريد مدواة جراحها بنفسه.
قالت له شذى، بنبرة رجاء لم يسمعها فيها قط: "تكفى، كون أفضل مني. لا تحط من قدر نفسك."
وربما، ربما كان ليستمع لأخته، لكن الرسالة التي تلقاها في صباح اليوم، تعده بما يريد أغرته ليصم أذنيه عن نصحها.
=
=
=
قد انسحب إلى الغرفة التي اتخذها مرقدا بعد العشاء مباشرة. حاول لفترة النوم لكن النعاس أبى أن يحل عليه، حتى وجد أنه لم يبق سوى نصف ساعة ليصل الوقت إلى منتصف الليل.
قرر الوليد الذهاب إلى المجلس، لعل وعسى سيجد برنامجا ما على التلفاز سيشغله حتى يداهمه النعاس. ليقف على عتبة الباب لرؤية أنه لم يكن الوحيد الذي فكر فكرته تلك.
وجد ترانيم تجلس على الكنبة المقابلة للتلفاز، ترتدي بيجاما سوداء من قطعتين، قميص عاري الأكمام وبنطلون حد الركبة، وتناقض سواد القماش مع بياض بشرتها وحمرة خصلات شعرها الملفوفة بإهمال أنيق، تفصيل لباسها لتقاطيع جسمها.. حسنا، أحس بحق أن حلقه قد جف.
لاحظته ترانيم عندما أطال في الوقوف والتأمل: "ما قدرت تنام؟"
أجابها، يتذكر السبب الذي جاء من أجله، يجلس جانبها ويوجه ناظره فورا جهة التلفاز: "إيه.."
ولو كان حقا ينتبه لما كان يعرض على الشاشة بدلا من تلك الجالسة جانبه، لكان قد عرف أن ما يُعرض كان وثائقيا عن صناعة الفولاذ. ليس بالموضوع الذي كان مهتما له، ولا بالموضوع الذي كانت ترانيم لتلقي له بالا.
وكان بعد عدة لحظات أن أحس بيد على ساعده، تلفت نظره إليها، تعذبه: "تبي الريموت؟"
أخذه منها بصمت دون أن يجيبها بكلمة، لينخرط في تبديل آلي للقنوات، لا يستطيع تركيز انتباهه على شيء وكامل وعيه معها.
في اللحظة التي قرر فيها الاستسلام والانسحاب لغرفته، شعر بوزن على كتفه، ليدرك أنه رأسها، ويدرك بعدها أنها قد استغرقت في النوم واستند جسدها دون وعي عليه.
نادها ليوقظها وتذهب إلى السرير: "ترانيم.. ترانيم إصحي ولا بتضرين رقبتك.."
لا مجيب. حتى عندما قرر أن يحملها لغرفتها، لم تتحرك ولم تستيقظ.
كان تعذيبا، تلك المسافة الفاصلة بين المجلس والغرفة التي جمعتهما في يوم. كانت معاناة، منع نفسه من دفن وجهه في شعرها والتنعم بعطرها.
لكن ذكرى جزعها عند اقتراحه سنة كمهلة قبل فراقهما أتت لتجدد عزمه على البعد.
وضعها بلطف على السرير، وتحامل على نفسه أن يخطو مبتعدا عنها ولا يقف ليتأملها، لأن رغبته وشوقه يكادان يغلبان جرحه.
"الصبر يا الوليد.. الصبر.."
=
=
=
وجد خالته تخرج من غرفة لمار عندما زار اليوم، لتصر عليه بالدخول بضحكة: "ما أعهدك حياوي يا جلال، أدخل وسلم على زوجتك على بال ما أتطمن على وضعها مع الدكتور."
على الفور فسر وجوده، يوجه ناظره للجدار مقابل لمار: "ترى خالتي هي اللي أجبرتني أدخل."
لترد هي: "أدري، قالتلي إنك بتجي.." قالت، ربما تلاحظ إطالته في الوقوف، بتسلية تخالط توترها: "تعال إجلس طيب."
كان تحديا المشي نحو المقعد المجاور لسرير لمار دون التعثر، وهل كان يتخيل أم أنه سمعها تكتم ضحكة؟: "لو تضحكين علي ترى بجازيك..!"
لترد بضحكة تثبت شكوكه: "وش اللي تقدر تسويه وإنت ما تناظر جهتي حتى؟"
حسنا إذا. تظن هذه الصغيرة أنه لا يستطيع إلجامها دون رؤيتها؟
سترى.
لكن أولا: "كيف حالك اليوم؟"
أجابته بأريحية: "الحمد لله بخير، العلاج الطبيعي ماشي تمام وتعودت عالعكازات. طفشانة حدي وبس.."
ابتسم مطمئنا: "الحمد لله.."
لم يرد الإطالة خشية أن يستسلم لفضوله ويخسر، لذا نهض ينوي الخروج، ليستوقفه إحاطتها يده بين كفيها الناعمين: "على الأقل إقعد لين ما ترجع أمي. يرضيك أقعد طفشانة لحالي؟"
لا يدري ما الذي أثر به أكثر، دلالها المرح أم طلبها منه الإطالة في البقاء أم دفء ونعومة كفيها؟ لايهم، المهم أنها قادته للتهور وعقابها بأثقل مما نوى في البداية.
وإذا كانت نعومة كفيها خدرته، فإن شفتيها أفقدته صوابه بعد سرقته لقبلة خاطفة. بالكاد منع نفسه من التريث والانغماس بالكلية، ترضيه الصدمة والتفاجؤ الذي استشعرهما في صمتها.
قال بصوت خالطه اللهث: "سألتيني وش أقدر أسوي بدون ما أشوفك، صح؟ أظنك عرفتي اللحين.."
ما زالت صامتة، ولا يدري إذا ردت بعد وصايته لها بنفسها.
لم يخطو خطوتين خارجا إلا وهو يلقى خالته في طريقه، يشعر كما لو أنه قُبض بالجرم المشهود.
تبادل معها بضع كلمات قبل أن يكمل طريقه خارجا، يشعر كمن لو أنه شُوي بالنار.
لم يهدأ له بال، تعود به الذكرى كمقطع أعاده عشرات المرات.
وكانت الثانية بعد منتصف الليل أن التقط جواله واتصل، ليأتيه صوت خاله النعس، يبدو كما لو أنه استيقظ من نوم: "نعم يا جلال؟"
قال: "ما تظنها أوفر يكون العرس بعد تخرج لمار؟ وش فيها لو.."
أقفل خاله عليه الخط.
=
=
=
سألته منتهى حال إقفاله الخط، تجعله يدرك أنها كانت تجلس على السرير جانبه وتقرأ: "ولد أختك هذا صح؟"
أومأ بنعم بتعب، يبتسم لحال ابن أخته المزري: "يبي يقدم موعد العرس."
رفعت منتهى حاجبا: "ويكلمك في الموضوع فذي الساعة؟"
ضحك بخفة: "حالته مستعصية.." عندما رأى الفضول في منتهى، أردف يفسر: "كنت أبي طريقة تبقى لمار فذا البيت بعد وفاة أبوها بعيد عن أعمامها وأطماعهم فيها، فقررت أزوجها بجلال ولد أختي لأني شايفه كفو.. مغتر بحاله، بس كفو.."
استنطقته: "وبعدين..؟"
أكمل: "زي ما قلت، جلال مغتر بحاله، ولمار العكس. خفت إنه يجرحها بالكلام بسبة غروره، فقررت أجرب معه شي وأربطه بشروط تمنعه عن لمار. صدق من قال كل ممنوع مرغوب، لأنه بدا يتعلق فيها.."
لتكمل عنه بابتسامة: "لدرجة إنه يتصل فيك فذي الساعة يطلب منك تقدم عرسهم.."
رد ابتسامتها: "وش رأيك؟"
ضحكت والدفء باد في عيونها وصوتها: "ضبطتها والله.. ربي يهنيهم ببعض.."
لرؤيتها تضحك بكل تلك العذوبة، فكر شاهين أنه يتفهم شعور ابن أخته. أن يصل لأقصاه انتظارا.. حقا أمر يُسهر الليالي.
ردد وراءها، متنهدا مما يكاد يفيض في روحه: "آمين.."
=
=
=
سألته غالية وهو يتجهز ليوم عمل جديد: "مديرك ولد عم زوج شادية صح؟"
استغرب سالم سؤالها: "إيه؟"
قالت: "اسأله طيب عن اللي يعرفه عن أم عبد الرحمن."
كرر: "أم عبد الرحمن؟ ليه؟"
أجابته، والجدية البادية عليها جعلته يأخذ كلامها بعين الاعتبار: "زارت شادية مرة.. ومدري، أبي أتطمن لطبع المرة. أخاف تكون قشرا.."
فكر للحظة قبل أن يقول أخيرا: "طيب، بسأله."
وحقا عندما رأى مديره بعد غياب أيام لظروف، تقدم إليه يطلبه على انفراد: "آسف عالإزعاج، بس فيه موضوع يخص الأهل أبي أناقشه معك."
سايره مديره، يشير إليه باللحاق به إلى مكتبه، وكان عندما جلسا أن قال له: "آمر، وش بغيتني فيه؟"
تردد سالم لحظات قبل أن يبدأ: "أم عبد الرحمن.. وش اللي تعرفه عن أطباعها؟" بدا الاستفهام على ملامح مديره، ليكمل مفسرا: "زارتنا مرة وجاني فضول، وتقدر تقول أبي أضمن إن بنت أخوي ما بتتعب معها."
سأله: "تقول زارتكم؟"
لم بدا على مديره التوجس فجأة؟ "إيه.."
ليقول له مديره بوجوم وسكون: "أجل خليني أنصحك. عبد الرحمن خوش رجال وشاري بنتكم، بس أمه.. خليكم حذرين منها."
عندما طلبت منه غالية السؤال عن حماة ابنة أخيه، توقع الرجوع إليها بإجابة ستطمئنها.
لم يتوقع هذا. لم يتوقع هذا إطلاقا.
انتهى البارت..~
|