كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
يا حبي لكم والله. شرفتوني بتعليقاتكم الجميلة. ويا سلام، بدينا بجمع الرؤوس بالحلال نشوف إذا توقعاتكم بتطلع صح..
الرابعة
=
=
=
لم يتوقع سالم ولا في أكثر توقعاته جموحا أن ذاك الشاهين الذي دله عبد الرحمن عليه كان ابن صاحب بنوك الجبر ذائعة الصيت وأحد المسؤولين البارزين فيها، ولم يتوقع أنه سُيؤخذ على محمل الجد من قبله، يسلط عليه نظرات وترته، وهو لم يكن من النوع الذي يتوتر عادة!
بدأ بذاك الموضوع الذي صرف النظر عن توظيفه مرات لا تحصى بحذر: "بخصوص طاري السيارة.."
أشر له شاهين بحركة غير مكترثة: "تقدر توصل على موعد دوامك؟"
هتف بحماس من دب فيه الأمل: "إن شاء الله بحاول!"
حتى لو اضطر للتخييم عند المحطات ليلا لحين استطاعته اصلاح سيارته، سيفعل.
ليرد ذاك منهيا للمقابلة وصادما له: "من بكرة تقدر تبدأ شغلك.."
=
=
=
عندما طلقها راضي، رفض بشكل قاطع أن تأخذ ابنتيها معها، وقال بصرامة موقف أمام والدها أنه سيسمح لهما بالزيارة والمبيت عندها متى أرادا، وأما أكثر من ذلك فلا.
لا تدري هل كانت حيلة لترجع إليه أم لا، لكن منال التزمت قرارها بالفراق على حساب انفطار قلبها على ابنتيها، على رؤية العتاب في نظراتهما.
سهرن ينخرطن في الحديث بين جنبات جناحها، مستلقيات على سريرها، لمار في جانبها الأيسر وكادي في الأيمن.
قالت منال ولوم أمومي يغمر صوتها: "إنتي آخر من يتكلم يا كادي! ليه ما قلتيلي إنهم سووا لك غرز أمس؟"
هتفت لمار قبل أن تستطيع كادي الرد، بسخرية ضاحكة تغيظ أختها الكبيرة: "بنتك صايرة سوبرمان على غفلة وتفزع لبنات الناس. تطورنا والله من أيام الخوف والوساوس..!" تساءلت باستظراف: "تظنين يمه إن الوحدة إذا انخطبت بيطير الخوف منها؟"
تنهدت منال بسعادة مرتاحة كلما تذكرت خطبة كادي وموافقتها هذه المرة: "أخيرا بشوفك عروس يا بنتي وتريحين قلبي عليك!" التفتت لابنتها الأخرى لتكمل: "عقبالك يا لمار.."
هذه المرة كانت كادي من ضحك بسخرية: "تخيلي بس لمار تتزوج! لمار! مين مقرود الحظ اللي بيتزوجها؟"
لترد لمار بثقة مضحكة: "واحد داعية أمه له ويذوب في هواي!"
ضيقت كادي عيونها بشك: "بديتي بأحلام اليقظة يا بنت؟"
وهكذا انخرطا في جدال ومشاكسة كان وقعها عذبا على قلبها.
=
=
=
لاحظ جلال شابات متزينات يخرجن من البيت وهو داخل. لم يخفين نظراتهن المعجبة وهن يتباطئن في ركوب السيارات الفارهة المتوقفة من أجلهن.
حال معرفته بإنتهاء ترانيم من استضافة ضيفاتها، اتجه إليها والضيق السخط مرتسم على ملامحه: "وإنتي إلى متى بتصاحبي هالأشكال، معقولة تطيقيهم؟"
كشرت ترانيم باستنكار: "طبعا لا، بس هم بنات صحبات أمي ومن نفس محيطنا. لازم أجامل.."
اعترض: "لا، أبدا مو لازم. شوفيني ما أصاحب إلا اللي أبغى وما اهتم."
ردت عليه دون اكتراث، تصعد إلى غرفتها: "إنت حر بخياراتك. بس أنا ما بخاطر بوضعي وصورتي عشان تحفظاتي.."
تنهد جلال بأسى غير راض عن نظرة أخته الصغيرة للحياة وتطبعها لأسوأ طباع أمه.
قد كان مثلها في صغره، إلى أن كبر واختلط أكثر بجده وخاله، إلى أن أجبره أباه على الاختلاط بالناس من شتى الخلفيات الاجتماعية، فكيف سيكون رجل أعمال وتجارة إذا لم يفهم الناس؟ ما زال في خضم تغيير أفكاره، لكنه يريد التعلم بصدق، يريد أن يرى صورة غير صورة المجتمع المخملي الذي ولد فيه.
يعرف أن معدن ترانيم طيب صاف، لكن للأسف لم يكن لأخته قدوة سوى أمه، ولم يأتي ما يوقظها لتنفض غبار فكرها هذا.
=
=
=
طفح كيل كادي من نغزات ولمزات هدى المغيظة، وعندما أتت تلك الفرصة النادرة واختلت بهما غرفة المعلمات استحثتها: "انطقي يلا! من يوم ما رحنا المستشفى ذيك المرة وإنتي تتصرفين بشكل غريب."
ابتسمت هدى ابتسامة عريضة مغيظة بالمعاني المخفية فيها: "ما الغريب إلا اللي يستحي وذراعه مقطعة وتناقط دم.. ومن مين يا حظي؟"
قالت باتهام: "هذا اللي أقصده، تلميحاتك ذي!"
بدت هدى كأنها بالكاد تمنع ضحكة من الافلات: "عشان كذا كان لازم تعجلوا بالشوفة."
زفرت كادي بسأم: "خلصيني يا هدى!"
رفعت هدى يديها كإشارة لكي تهدأ: "طيب طيب لا تأكليني..!" صفت حلقها للحظة، كأنها على وشك إعلان فائز بالأوسكار، قبل أن تكمل: "الدكتور اللي عالجك أخوي.."
كررت كادي لتستوعب: "أخوك..؟"
هزت هدى رأسها برضا: "نعم، أخوي. وطبعا ما أقصد غازي البزر اللي بأولى ثانوي. أقصد الكبير، اللي كان يدرس برى ورجع يشتغل هنا، اللي طولتي عليه بالرد.."
دافعت كادي عن نفسها لحظتها: "كلها ثلاثة أسابيع."
لترد هدى بوجوم طريف: "ثلاثة أسابيع قضيناها في حالة استنفار بسبة حضرتك!"
قالت بتفكير: "اللحين ذاك كان عبد العزيز..؟"
أومأت هدى بحماس، تميل مقتربة في جلستها بترقب: "نعم نعم! وش رأيك فيه؟ يمشي الحال ولا..؟"
قطبت حاجبيها: "تصدقين، مقدر أقول.. ما شفته زين.."
هتفت هدى بأسى وهي تعود بظهرها للوراء بخيبة: "انقلعي يختي، انقلعي! حمستيني عالفاضي!"
=
=
=
كلما غابت ابنتاه عنه لزيارة أمهما، بدا أبو كادي كأن روحه سُلبت منه، مهملا نفسه بالكلية، وعيونه تحكي قصة وحشة موجعة وألما لا ينضب.
تمنت لو أن ابنتاه عجلا في عودتهما، فإهمال أبيهما لنفسه تجاوز الحد هذه المرة، إلى حد نسيان أدوية مرضه حتى..
سألته تتحقق حالما رأت إمارات الألم ترتسم في ملامحه على مائدة الغداء: "أخذت دواك..؟"
لم يجبها.
تنهدت ونهضت لتحضر أدويته.
ذكرته وهي تناوله إياها: "لا تفجع بناتك فيك.."
لم يبد للحظة أنه سمعها.
=
=
=
كررت لمار بتفاجؤ: "أسيل؟"
لترفع أمها حاجبا باستغراب منها: "ليه تقولينها كأنها مو عاجبتك..؟"
عندما تطرق الحديث وتشعب حتى وصل إلى من كانت أمها تريد تزويجها بخالها شاهين، لم تتوقع لمار أن أسيل ستكون مرشحة أمها الأولى والوحيدة: "مو إنها مو عاجبتني، بس أحسها ما تنفع له. يعني تعرفين خالي ما ياخذ ويعطي مع أي شخص ولازم الشخص ذا يسترعي انتباهه ولا بيطفش.."
سألتها أمها تستحثها: "وتظنينه بيطفش من أسيل؟"
لم تجب، فالخادمة أتت تعلن وضع العشاء لتتشتت جلستهما.
لحسن حظها، صدقا.
فكيف عساها تقول نعم، تظن أن خالها سيضجر بمن اختارتها له.
=
=
=
اكفهرت ملامح الذي فتح الباب له لحظة رؤيته: "وش تبغى يا نواف؟ ردي مثل ما هو، ما أعرف عنها شي."
لم يكترث أبدا للضيق البادي في وجه الرجل أمامه، حامد الطيب، فلِم يكترث لضيقه وهو لا يكترث للرجل أصلا، فقط احتمالية علمه بمكانها؟: "أعرف إنك تدري وينها فيه وصدقني لما ألقاها بتندم إنك خبيتها عني..!"
شخر حامد بسخرية ذكرته للحظة بها: "والله إنت اللي طلقتها، لساتها الورقة عندي إذا مو متذكر.."
استشاط غيظا: "ما طلقتها إلا لما جات عندك وصرت وسيطها!"
بعدم خشية منه قال: "أقصر شرك وارجع لمرتك وأولادك الصغار واترك المراكض ورى وحدة عايفتك وبتظل عايفتك.." وأقفل الباب في وجهه بعد انتهائه من نطق سموم كلماته..
بجنون ضرب نواف بقبضة يده على الباب المعدني، لايحس بألمه الجسدي حينما كان المعنوي يكاد يفتك به.
لم يدرك قيمتها إلا بعدما تركته.
يعترف أنه تزوجها لتعزيز شخصه وكيانه بعدما همشته زوجته الأولى رؤى وعائلتها واسعة النفوذ تهميشا، ليقهرها ويثبت لها أنها لم تحكم سيطرتها عليه.
يعترف أنه قسى عليها، بل فرغ فيها طاقات قهره المكبوتة تحت اضطهاد عائلة رؤى وحاجته لدعمهم لمشروعاته.
ويعترف أنه شعر كإنسان مرة أخرى بسببها، بكل مافي الكلمة من سلبيات وإيجابيات. بسببها تعززت ثقته حتى وصل ما قارب أهل رؤى مكانة وثراء، حتى لم يعد يخضع لسطوتهم بذات الانصياع.
عندما تركته وطلبت الطلاق، كابر وأعطاها مطلبها بعد ضغط عمها حامد.
لكن شيئا فشيئا، عندما عاد مُحتكرا لرؤى فقط، أدرك أنه صار كطائر حبيس قفص بدونها هي، أدرك مدى ولعه بها، مدى جنونه المطلق بها.
بدأ يقف على عتبة باب حامد، وكل مرة كان يجيبه بأنها لا تريد رؤيته. بلغ به سوء حاله أنه حاول اقتحام البيت عنوة، ليكتشف أمره حامد ويشتبكا في عراك عنيف.
عندما عاد بعد أيام من تلك الحادثة يسأل عنها، أخبره حامد بكل بساطة أنه لا يعرف أين هي. ولسنوات تتلي سنوات، جوابه هذا لم يتغير.
دخل إلى سيارته، يسند رأسه على المقود بتعب، ناظرا إلى السوار في قبضة يده، ذكراه الوحيدة المتبقية منها.
"يا روح نواف وين رحتي.. وين رحتي؟"
=
=
=
كانت تتأكد من مظهر أختها الصغيرة سمية على عتبة الباب، تتأكد أنها تبدو بأبهى صورة قبل أن تلبس عباءتها وتذهب لزيارة صديقتها.
أتى صوت جلال متهكما: "حشى عرض أزياء على غفلة؟ خنقتي البنت تقييم!"
نظرت إليه ترانيم بامتعاض: "اسمعوا مين يتكلم! اللي يقعد ساعة يشخص نفسه لو يروح بقالة."
ضحكت سمية عندها وابتسمت ترانيم بانتصار. اثنان ضد واحد.
قال جلال بتمثيل غضب موجه لسمية: "أم الخيانة يا شيخ. أداري راحتك وتضحكين علي مع العدو..!"
=
=
=
تعجبت شادية عندما رجع عمها في وقت أبكر من المعتاد بكثير. كانت العاشرة صباحا عندما سمعت صوت الباب يُفتح ويدلف عمها داخلا، سعادة عظيمة تشع في عيونه.
أعلن بصوت مرتفع بادئ الأمر ليخفضه حال ملاحظته لجدها نائما على بسطته تحت النخلة الكبيرة في حوش البيت: "أبشرك..!"
ابتسمت فحماسه وسعادته بعثا فيها سرورا رغما عنها: "خير يا عمي..؟"
أتراه قد..؟
لم تسنح لها الفرصة لإكمال تساؤلها قبل أن يكمل: "لقيت وظيفة!"
ازداد سرورها أضعافا: "أخيرا! لا اليوم لازم نذبح لنا ذبيحة خليني أتصل بأم صيتة تجهز لي.." لتقاطع نفسها بزجر: "لا، لا. خليني أتصل بغالية أول أبل ريقها بذا الخبر الزين!"
وقبل أن تفعلها حقا وتتصل بها، منعها عمها من ذلك: "لا تقوليلها.."
الجدية في ملامح عمها جعلها تنطق: "ليه، ما بترجعها؟ خلاص لقيت وظيفة.."
الضيق بدا في محيا عمها: "مقدر أرجعها. على الأقل مو اللحين، السالفة مو بسيطة كذا.."
مطت هي شفتيها بعدم رضا: "طيب فهمني، وش اللي يخليك تتم على وضعك هذا؟"
تنهد، قبل أن ينظر في جهة معينة، جهة تعرف أنها تجاه بيت آل عمير، بيت والد غالية، والبيت الذي تسكن غالية فيه حاليا: "أبي أرجع كل اللي باعته عشان تسدد ديوني، أبي أعوضها ذهب على صبرها علي، أبي أخطي عتبة باب بيت أهلها ومعي ضعف مهرها. بس ذا يبغاله وقت وأنا توني توظفت، لسى حتى ما أخذت معاشي الأول."
غالية كانت حب صبا عمها، تلك التي كانت مشاكستهما وعراكهما معروفة في القرية كلها كأطفال. قد قال أبوها لها بتسلية يوما أن اليوم الذي تغطت غالية فيه عن عمها سالم كان يوما مشهودا، فعمها بقي صامتا مكفهر التعابير غير مستوعب لفكرة أنه حُرم من رؤية غالية التي كانت رفيقة الجدالات والعراكات المفضلة، التي لم يسمح لأحد غيره بمس طرف منها.
مضت السنين والكل كبر، وحالما توظف عمها وأسس نفسه، تقدم خاطبا لغالية دون غيرها من فتيات القرية وتزوجها، ليمضيا سنة في حب يشهد الكل له.
لكن، أتى أمر طرد عمها من عمله السابق كصدمة، خصوصا وأن رئيسه في القسم أخبره أن طرده لم يكن بسبب تقصير منه، بل لأن الشركة كان يجب عليها التضحية ببضع موظفين حتى تتكيف مع الحال الخامل في السوق. زاد هم عمها ظهور كل من كان مديونا له من كل حدب وصوب مطالبين بأموالهم ومهددين بالقضاء. لشهور خبأ خبر طرده ومعاناته مع ديونه عن الكل، يحاول بكل ما يستطيع التصرف كأن شيئا لم يكن، يوازن ما بين محاربة حالة الاكتئاب التي غمرته جراء فقدانه لعمله وإيجاده وظيفة أخرى، إلى صرفه عليها وأبيه وغالية، إلى محاولة تجميع المال لإسكات أكثر الدائنين إلحاحا. لكن، سرعان ما اكتشفت غالية الأمر وقررت التصرف وبيع ما تملكه من ذهب ودفع ما لديها من أموال لتسديد ديونه.
ثار عمها عندما علم بما فعلته، واشتد الجدال بهما إلى أن قررت غالية المبيت في بيت أبيها وتركه حتى تصفو الأذهان، غير دارية بما سيحدث بعدها. فعندما هدأ عمها من ثورته وغضبه، طرق باب حماه معتذرا طالبا عودة غالية له.
لا تعرف شادية ما الذي قاله أبو غالية لعمها، لكنها تعرف أن كلماته كانت كفيلة بطعن كبريائه، بجعل عمها يقطع عهده ذاك على نفسه، أنه لن يُرجع غالية له إلا بعد أن يجد وظيفة أخرى، بعد أن يعود جديرا بها مرة أخرى.
مضت شهور ثلاث منذ ذلك اليوم، وكل يوم ترى شادية عمها يحارب نفسه حتى لا يطرق بيت آل عمير، حتى لا يتصل بغالية، حتى لا ينشد أخبارها منها.
ما لا يعلمه أن غالية ماثلته في المعاناة، لكن على عكسه فإنها كانت تسأل شادية عنه باستمرار، وتعبر عن اشتياقها له بكل عفوية، عن ندمها بخطوها خطوة واحدة داخل بيت أبيها، فعمها عنيد ومجروح الكبرياء، أبدا لن يرجعها له إذا لم يحقق هدفه، مهما تطلب الأمر من وقت.
تنهدت شادية، فعلى ما يبدو ستشهد استمرار هذه المسرحية البائسة لوقت أطول.
انتهى البارت..~
|