كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
آآآسفة آسفة على التأخير، أختكم في الله تعبت فوسط الأسبوع وتوها تعافت. من الروحة والجية من وإلى المستشفى ما لقيت وقت أكتب فيه إلا ذي اليومين فآسفة حبايبي والله مستحية منكم..
الرابعة والثلاثون
=
=
=
تحت ابتسامتها المرحبة وحفاوة ضيافتها، كانت شادية كتلة من التوجس والريبة من حضور حماتها المفاجئ.
رأتها تتفحص البيت بنظرات لم توحي بحقيقة أفكارها قبل أن تركز نظرها عليها، لتلحظ شادية عندها جمالها ومدى شبه عبد الرحمن بها عدا عن بضع اختلافات.
تنهدت أم عبد الرحمن، يكتسي صوتها وملامحها الأسى قبل أن تقول: "اللي كنت خايفة منه صار وسواها ولدي.."
لتسألها وتوجسها يصل أقصاه: "وش قصدك؟"
احتوت كفها بين يديها قبل أن تجيبها: "مابي أكون اللي تعطيك الأخبار هذي، بس ولدي ظلمك بزواجه فيك.."
كررت: "ظلمني..؟"
أومأت لها بنعم: "تزوجك عناد فيني، لأني منعته يتزوج من اللي يبيها. من يوم ماهو صغير وبنت خالته كانت فباله، بس لما انشغل بدراسته برى، تزوجها ولد عمه، وظلت حسرة باقية فقلبه.. بس قريب، ولد عمه طلقها وصار بإمكانه يتزوجها، لكن أنا منعته وقلتله إني ما برضى عليه يتزوج وحدة مطلقة وهو ما سبق له الزواج. تقدرين تتفهميني، صح؟ أبي لولدي الأحسن وبنت خالته ما كانت له كذا. قلتله إني بدور له وحدة تغطي عليها، بس رفض يسمع مني وكبرت فراسه يتزوج وحدة عكس بنت خالته فكل الصفات.."
لتنهي كلامها، تربت على وجنتها باعتذار: "وعشان كذا ما كان يبيني أعرف عن زواجه هذا، وعشان كذا خبى خبره عن الكل. آسفة بنيتي، ما بغيت أصدمك في زوجك.."
لم تبقى طويلا بعد ذلك، تودعها وتترك رقمها بيدها لتتصل عليها متى احتاجت لها، لتترك شادية مشتتة مبعثرة.
لديها قصتان، ولكل منها تفصيل مقنع وتفصيل مبهم.
(خذي حذرك من اللحين ورايح.. توقعي أي شي..)
أقالها عبد الرحمن ليحذرها، أم ليغطي على ثغراته أمام علمه بحتمية مواجهة أمه لها؟
(مابي أكون اللي تعطيك الأخبار هذي..)
هل كان كلام أمه نابع من ضمير حي، أم كان من ضمن الأشياء التي حذرها منها عبد الرحمن؟
من ستصدق؟
إذا صدقت عبد الرحمن، فإن ذلك يعني أن لديها حماة خبيثة تضمر لها الضغينة.
إذا صدقت أمه، فإن ذلك يعني أن لديها زوجا كاذبا مخادعا.
لم تدرك أنها كانت سارحة غائبة بتفكيرها عن الدنيا إلا عندما وكز جدها ذراعها بطرف عصاته، يسألها: "لا تقولي سرحانة بالتعبان حقك؟"
رغما عن الموقف، ضحكت شادية من وصف جدها الجديد لزوجها، فقد حصل على عدة ألقاب منه، كلها بدرجات متفاوتة من الاستهجان: "وش سوى لك المسكين يا جدي؟ تراه حبوب وطيب..!"
امتعضت ملامح جدها بعدم استساغة: "مو هامتني طيبته!"
تعرف سبب عداء جدها لعبد الرحمن، ولا تنكر الشعور بالذنب الذي يعتريها لذلك، ليخفف زوجها عليها ذلك قائلا أنه لم يكن يمانع تصرف جدها لتلك الدرجة، بل كان مسرورا لوجود من يحرص عليها بذاك القدر.
(وربما لم تعرف من تصدق، لكنها تعرف من كانت تريد تصديقه.)
وكزها جدها مرة أخرى، وهذه المرة بشكل أقوى: "وش اللي شاغل بالك كل ذا الوقت؟"
تنهدت: "لو جوك اثنين فقضية وحدة، وكل واحد أقنعك بقصته، من فيهم بتصدق يا جدي؟"
ضيق جدها عيونه بشك: "وش جاب هذا السؤال؟"
لتجيب: "قريته فمكان.."
لم يبدو على جدها تصديقها، لكنه أجابها على أية حال: "وليه أصدق أي أحد فيهم؟ بصبر وبشوف أي واحد بتجي منه الزلة."
حسنا.. هذا كان خيارا لم تفكر به..
لكن.. جدها كان محقا. لم عليها الاستعجال في الحكم والانحياز لصف دون الأخذ بالصورة الكاملة، بالعواقب؟
ستصبر، ستترقب، ستتمعن، وسترى.
=
=
=
-: "شاهين.."
صوت أخته استوقفه، ليراها تؤشر له باللحاق بها إلى الحديقة. استجاب لأمرها يخمن أن الأمر كان له علاقة بمطلبها الأول والوحيد منه: الزواج من ابنة صديقتها تلك.
لكن وسط هدوء الحديقة هذا الصباح، أتى ما استدعته لأجله كصدمة: "عرفت سبب سواة راضي قبل أربع سنوات.."
كيف؟ من أين لها أن تعرف؟: "قصدك.."
قاطعته، يبدو عليه الحزن بدون المرارة والحقد: "إيه، القضية والدين واللي بعده، عرفتها كلها.." تنهدت: "كان مفروض أستقصي السالفة كلها، كان مفروض ما استسلم بذيك السهولة.. بس ذا قضاء ربي واللي كتبه، اللهم لا اعتراض.."
وضع يدا على كتفها، يسألها بقلق حان: "وإنتي كيف حالك اللحين؟"
لتجيب بابتسامة مثقلة بالشجن: "ما بنكر، كانت حالتي حالة لما عرفت الحقيقة، بس شوي شوي بعدها استوعبت إن أفضل لي أعرف ولا أكون فجهلي وظالمته. استوعبت إن حقدي وغيرتي خلوني أبعد اللي حولي عني، واستوعبت إني مابي أخسر أكثر.."
ابتسم شاهين لها عندها: "يا سخفك.. تظنين شوية زن وتطنيش بتخليك تخسريني؟" أفلتت من منال عندها ضحكة لسماع رده المهون عنها، وعرف شاهين أن حالهما سيتعافى. سألها عندها عن أمر حيره: "مين اللي قالك؟ أبوي؟"
هزت منال رأسها بـلا: "زوجتك قالتلي.."
بعدم تصديق، نطق فقط بـ: "منتهى؟"
لتقول منال مقطبة حاجبيها: "هذا اسمها؟ بأية حال.. إيه، جات لي ليلة وقالتلي كل شي. وقالت بعد أفرغ زعلي عليها بدلا عنك ولمار لأنها هي اللي عندي مشكلة معاها.." تمهلت لحظة قبل أن تردف بشيء من التردد: "ما قالت لك عن شي..؟"
أجابها وما زال رأسه يدور من خطوة زوجته الغير متوقعة: "لا، ما لمحت ولا حتى بحرف.."
بدا التضارب في الأفكار واضحا جليا في عيون أخته، وتساءل شاهين ما خطبها. هل يمكن أن هناك تفصيل غفلت عن إخباره به؟
سألته منال بعد لحظات مضت بصمت: "مرتاح معها؟"
استغرب السؤال، لكنه أجاب: "ما كنت أتوقعها، بس إيه، مرتاح معها.."
استفسرت مرة أخرى: "ومو ناوي تتزوج عليها..؟"
قطب شاهين حاجبيه، هل سيعودان لذاك الموضوع مجددا: "لا، مو ناوي أتزوج عليها.."
صمتت منال لحظات قبل أن تقول: "أجل عساها تكون لك أفضل من نسيم يا أخوي.."
=
=
=
عندما عاد إلى جناحه بعد ساعات وجد منتهى تقرأ في أحد كتبه، لتضعه جانبا تعطيه اهتمامها، كأنها استشعرت رغبته بالحديث معها.
قال دون مقدمات: "تكلمت مع منال اليوم، وأظن إن الأمور بيننا بتنصلح.."
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها عندها، تقول قبل أن ترجع ناظرها للكتاب، ربما ظانة أن ما يريد قوله اقتصر على ذلك وحسب: "الحمد لله.."
لم يشتكي قط من الوضع السابق بينه وبين أخته، وعدا عن بضع كلمات مبهمة نطقها في لحظة إرهاق، أبقى أساه مكتوما مكبوتا. لم يظنها ستلاحظ، ولم يظنها ستهتم لتتدخل.
لكنها لاحظت، تدخلت: "مشكورة.."
لترد: "ما سويت شي.."
هل هذا كان تواضعا، أم أنها تظن أنه لا يعرف بما فعلته؟
وجد نفسه يتقدم إليها، يقبل جبينها بأناة قبل أن يعيد بهمس في أذنها: "مشكورة.."
=
=
=
ما زال جبينها مشتعلا من أثر، وما زال فكرها متخبطا بسبب هذا التأثير الغريب لدى أبو نادر عليها. ومع أرقها المعتاد ووضع منوماتها التي لم تشتر بديلا لها بعد، فالنوم سيكون حلم يقظة لن تناله.
كان أبو نادر مستلقيا على جنبه، يعطيها ظهره، لكن نمط تنفسه أخبرها أنه لم يكن نائما. لذا نادته، تريد إعلامه بالخيط الذي اكتشفته الأمس: "أبو نادر.."
لا جواب.. لتتذكر: "شاهين؟"
أتاها رده عندها، يلتفت إليها: "هلا.."
سألته: "وش اللي تعرفه عن نهلة الجليل؟"
حدق بها أبو نادر للحظات طوال قبل أن يجيبها متنهدا بقلة حيلة عن سؤالها، كل ما أعلمه به المحققون أثناء القضية، كل تفصيل إلا واحدا: "تعرف إن نهلة كانت صديقة أم عبد الرحمن من أيام الدراسة..؟"
نظر إليها بعجب خالطه الشك: "ومن وين عرفتي؟"
لترد: "من خدامتها.. كانت بينهم زيارات انقطعت فجأة قبل أكثر من خمس سنين.."
اعترض، يدرك ما تصبو لوصله ببعض: "بس القضية صارت قبل سنتين.."
أيدته: "أدري، بس أظن فيه سبب لذاك الفارق، وما بيجاوب على أسئلتنا إلا نهلة.."
لينطق هو بعدم تصديق: "تبين تروحين سجن النساء؟"
هزت رأسها بـلا، تنطق بلسان أفكارها: "ما أظن إن نهلة بتقبل تجاوب علي بدون ما يكون معي شي أقدر استعمله ضدها، عشان كذا بجرب بيت عايلتها أول. من حظنا إن بال أم عبد الرحمن بمشغول بشي ذي الأيام فما بتعطينا ذاك الاهتمام، بس ذا معناته إن لازم نتحرك بسرعة قبل لا تنتبه.." توقفت ثانية لتسأله: "فاضي بكرة؟"
ليجيبها بصوت خالطته الضحكة، وألق دافئ في عيونه لم تفهم معناه: "لو ما كنت فاضي بصير فاضي.."
=
=
=
كان الوقت متأخرا وكانت ترانيم تحدث زينب نصيا عن مشاعرها المبهمة للوليد، ليأتيها اتصال منها فجأة بعد آخر رد كتبته:
#فذي لازم أسمعك..!
انسحبت ترانيم من السرير بهدوء شديد، حذرة كل الحذر من إيقاظ الوليد الذي لديه رحلة صيد أخرى مع أخيها بعد الفجر، حامدة ربها على وصولها المجلس دون إصدار صوت.
وبختها ترانيم لحظة وضع سماعة الجوال على أذنها: "وإنتي تتصلين بلا تحذير؟!"
ردت زينب تستحثها: "آسفة آسفة.. تحمست مع كلامك وما حسيت بنفسي! اللحين وش اللي كنتي تقولينه؟"
تنهدت ترانيم قبل أن تستطرد كلامها النصي: "مدري وش اللي أحس فيه. من جد ضايعة حدي.."
لتسألها زينب بفضول: "يعني نسيتي..؟"
هزت ترانيم رأسها بـلا، حتى لو لم تكن زينب هنا لتراها: "ما أظن أقدر أنسى إني انغصبت عليه.."
أتاها صوت آخر سائلا لحظتها: "وش قلتي..؟"
وعندما التفتت رأت الوليد واقفا على عتبة باب المجلس، الصدمة مجمدة لتعابير وجهه. كرر سؤاله: "وش قلتي توك يا ترانيم؟"
أقفلت ترانيم الخط على زينب فوريا، لكنها لم تستطع إجابته بشيء، فحقا، صدقا، لم ترده أن يعرف.
غير طريقته عندما لقي عدم التجاوب منها: "صحيح اللي سمعته؟ خالي سامر غصبك علي..؟"
أتكذب وتخاطر معرفته بطريقة أخرى ستجرحه أكثر، أم تصدق لتجرحه الآن؟
في النهاية، أجابته وصوتها يكتسيه الأسى: "إيه.."
=
=
=
الخامسة والثلاثون
=
=
=
(إيه..)
(إيه..)
(إيه..)
كلمة واحدة. ثلاثة أحرف.
كيف عساها تدمره هكذا؟
طول حياته وضع الوليد أباه عبرة لن يسلك منهجها. طول حياته وضع دموع أمه عهدا لن يراه في زوجة.
والآن.. تبين أنه فشل. تبين أنه أصبح جلادا كأبيه، حتى وإن كان بغير قصد.
فسر ذلك الكثير أليس كذلك؟ الحزن في ملامحها ليلة العرس، جمودها وبرودها في التعامل.. كانت مُجبرة.
"ليه يا خالي سامر، ليه سويت فيني كذا؟"
تلك الثانية التي تصاعد فيها صوت جوالها يخبر باتصال قبل أن تسكته ترانيم كانت كفيلة بإيقاظه، ليخرج من الغرفة بدوره بحثا عن كوب ماء. بحكم قرب المجلس من المطبخ كان بوسعه سماعها، ليستوقفه قولها ذاك وهو يخرج عائدا للغرفة.
بدأت بتردد فاضح: "الوليد.."
قاطعها: "زي ما إنتي ما تقدري تنسين، أنا مقدر أكمل حياتي معك وأنا اللحين داري إنك مجبورة علي.."
سألته عندها بذهول مفجوع: "بتطلقني..؟"
قالها قبل أن يفكر: "طبعا لا..!" ليتمهل قبل أن يعود فكره معه: "على الأقل مو اللحين. تونا متزوجين ومهما صار، مابي أحد يتكلم عليك وعلى أهلك بالشينة."
وعندما تركها متجها لغرفة الضيوف، أدرك أنه لم يحدد متى سيكون الفراق، أدرك أنه تكلم للمرة الأولى من وراء قلبه.
=
=
=
كان الوضع على مائدة الفطور مغايرا لما تعودته في المرات التي قضت الليلة في بيت جدها عبد المحسن بعد زواجها، فالكل كان حاضرا حتى زوجة خالها. وبالحديث عن خالها، فإنه كان يحادث أمها في أمر ما هذه اللحظة، أمها التي لم يبدو عليها الغضب أو الأسى لحضور تلك.
همست كادي للمار بجانبها: "وش اللي حصل هنا بالضبط؟"
لتجيبها لمار بنفس الهمس والحيرة: "أنا عايشة هنا وعلمي علمك. لقيت الوضع صار كذا فجأة.."
تمتمت بمعنى يشير إلى زوجة خالها: "على بالي أمي ما بترضى تجلس فمكان هي فيه.."
لترد لمار: "وهذا اللي حصل في البداية، بس اليوم أمي جات تسأل عنها وطلبت من خالي يخليها تنزل."
جواب لمار حيرها، وحيرها أكثر انعدام الضغينة والغيرة في عيون أمها كلما توجهت بالنظر إلى من كانت لها ضرة سابقا، تلك المشاعر نفسها التي كانت تعتلي عيونها كلما ذُكرت الأخرى بحديث حتى وقت قريب.
أيعقل أن أمها تخطت ما حدث، وفي ظرف ليلة وضحاها أيضا؟
لا، لابد من سبب لهذا التغيير كله.
شيء آخر لاحظته هو استراق خالها النظر لزوجته التي كانت تأكل فطورها بصمت، بنوع من الحرارة التي جعلت كادي تخجل من الإطالة في النظر بينهما. كانت نظرات خالها على غرار نظرات أبيها المرحوم لها والمتسمة بالبرود. على عكس أبيها الذي لم يكن يقر بوجودها، بدا خالها كأنه يمنع نفسه من التمعن والتحديق بها.
كانت المرة الأولى التي ترى خالها هكذا، حتى في زواجه الأول لم يبدُ عليه ذاك التأثر.
أيمكن أنه..؟
وكز لمار المنبه لها أيقظها من غفلتها: "تراها شافتك تناظرين.."
التقت نظرة كادي عندها بنظرة زوجة خالها المستغربة منها، لتعود بالنظر بحرج إلى طبقها.
=
=
=
عندما رجع عبد الرحمن، وجد شادية في المجلس، تشاهد برنامجا ما بشيء من الشرود. وحال رؤيته داخلا ابتسمت ابتسامتها الجميلة التي خصتها للقياه، وجلس عبد الرحمن جانبها قبل أن تنهض لتستقبله. سألها قاصدا جدها: "الشرطة موجودة؟"
لتضحك: "لا، قاعد يأخذ له نومة قبل العصر.."
لتأكيدها ذاك، مال برأسه يقبلها بكل شوق سرق النفس من رئتيهما، لتقول عندما ابتعدت عنه محمرة لأذنيها، لكن غير متخلصة من إحكام احتضانه لها: "اللي يشوفك بيقول غايب شهور مو يومين.."
(ربما يجب أنه يخيفه، تعلقه السريع بشادية، غرقه في بحر هواها بهذه السرعة.. شادية التي أضحكته من أول لقاء، التي جعلته مهووس ليل شعرها من لمحة. شادية التي تقوم في الصبح قبل الكل وتتولى مسؤولية البيت كاملة دون كلل أو ملل. شادية البارة الصابرة. شادية التي تحمر خجلا لأقل تلميح. شادية التي تدندن لنفسها بتلك النغمات التي حفظها بقلبه قبل عقله. شادية التي لا تتركه يذهب إلا وهي بخرته بنفس البخور الذي تبخر فيه شعرها، ليكون ذاك له ذكرى تزيده ولها. شادية ذات الابتسامة الجميلة والروح الأجمل.
لكنه أُغرم بها وانتهى الأمر.)
رد ببساطة: "اشتقت لك.."
مرت لحظة قبل أن ترد: "وأنا بعد.."
وكان فرحه باعترافها ذاك ما شتته عن ملاحظة الشجن الذي خالط خجل نبرتها.
=
=
=
طرق شاهين باب البيت الذي كان يقف أمامه برفقة منتهى، البيت الذي كانت تعيش فيه نهلة الجليل سابقا. لكن مهما طرق لم يأتهما جواب.
-: "لو تدورون أهل البيت ما بتلقوا شي، انتقلوا لمدينة ثانية.."
التفتا ليريا امرأة مسنة، تقف على عتبة البيت المجاور. سألتها منتهى: "تعرفين ليه؟"
لترد العجوز بتشكيك: "وإنتوا وش تقربوا لهم؟"
أجاب هو: "جايين ننشد عن نهلة الجليل، هي وعيالها كانوا ساكنين ذا البيت صح؟"
أومأت العجوز بنعم، لكنها التزمت الصمت بعد ذلك، تخطو داخلة لبيتها.
قالت له منتهى: "انتظرني في السيارة، بشوف وش عندها.."
لم تنتظر رده قبل أن تمشي مبتعدة عنه، متتبعة للعجوز.
وكان بعد أن دلفت داخل سيارته بعد نصف ساعة أن قال: "أحس إني ففيلم تحقيق.."
وربما فهمت منتهى قوله ذاك كشكوى، لأنها ردت عليه: "لو كلفت عليك أقدر أروح مع السواق.."
قال بشيء من الحدة: "سواق مافيه وأنا موجود.." ليردف ونبرته تعود للهدوء: "وش قالتلك؟"
بدأت منتهى تحكي كأنها تعطيه تقريرا: "نهلة أرملة وعندها خمس عيال، وأحيانا العجوز اللي كلمتنا كانت تهتم فيهم لما تروح تشتغل. ومن بعد ما انسجنت، جوا أعمام العيال وأخذوهم."
ليسأل: "هذا كل شي؟"
أشارت له بـلا ثم أكملت: "مربط الفرس في أصغر عيالها. كان مريض ويبغاله عملية في الخارج، وعلى حسب كلام العجوز، ما سووا له العملية إلا بعد ما تكفل أعمامه فيه وفي إخوانه.."
نطق دون أن يكمل: "يعني.."
لتتم خيط أفكاره ذاك: "إيه، لقينا شي بيخليها تتكلم.."
=
=
=
حال انتهاء شادية من الحديث عما جرى معها مع حماتها، هتفت غالية: "زين ما سويتي! لا تتسرعي وتخربي الدنيا. حتى لو كانت أمه صادقة، خلاص وقعت الفاس في الراس، وش يفيد نعرف بأسبابه؟ ما أظن تبين تتطلقين الأيام ذي، صح؟"
أومأت شادية بنعم، لتكمل: "ومن يدري، يمكنك حامل هاللحظة، وما أتوقع تبين عيالكم يتربون مشتتين بينكم، صح؟"
أومأت شادية بنعم مرة أخرى، هذه المرة باستيحاء واحمرار ملحوظ.
صفقت غالية يديها قبل أن تقول بنبرة من يحمس لمعركة: "لو ما كان وده فيك، اكسبيه. لو كانت بنت خالته فباله، خليه ينساها. خليك الرابحة سواء كان كاذب ولا صادق..!"
وجدت شادية نفسها تبتسم بصدق وبأمل منذ زيارة حماتها: "ما ألوم عمي فيك والله.."
لم تزعج غالية نفسها بتمثيل التواضع: "أدري يختي ما قلتي شي جديد، عبقرية زماني منذ نعومة أظافري."
=
=
=
قبل أن يرجعا للبيت طلبت من أبو نادر التوقف عند صيدلية، وفي داخلها اقتنت بضع حاجيات أساسية قبل أن تتجه للسبب في توقفها هنا.
توقف أبو نادر جانبها وهي تحاسب، ونظرة واحدة لعلبة المنوم غيرته، جعلت الجمود يكتسي صوته عندما سألها: "هذا لك؟" كأنه يريد أن تجيب بالنفي.
أومأت له بنعم، لترمش بعجب عندما أرجع علبة المنوم للصيدلي ودفع عن باقي مشترياتها بدلا عنها. أخذ الكيس وأشار عليها أن تتبعه.
سألته لا تعرف لم فعل ما فعل للتو: "ليه رجعت المنوم؟ أحتاجه.."
ليرد بصرامة مشغلا المحرك: "ما تحتاجينه.."
ظلت صامتة مستغربة منه، قبل أن يباغتها بسؤال: "من متى وإنتي تأخذين منومات؟"
فاجأها عدم معرفته بذلك قبل أن تتذكر أنها كانت تحتفظ بعلبة المنومات في حقيبتها التي لم يقرب أبو نادر صوبها.
أجابته: "من سنين.."
قال بنبرة أمر: "انقطعي عنها.. صدقيني ما بتفيدك وبتدمني عليها.."
لترد بسكون: "إذا عن إدمان، فأنا يمكن أدمنت عليها وخلاص. ما عدت أعرف أنام بدونها.."
أوقف سيارته في جانب خال والتفت إليها، قائلا: "هذا اللي تظنينه، بس أشوفك ذي الأيام تنامين بدونها. متأكد تقدري تتعلمين تتركينها.." وكان صوته عندما أردف دافئا بالمداراة: "بساعدك بكل اللي أقدر عليه، لأنك إذا ما كنتي مهتمة، أنا مهتم.."
عندما وضع الأمر بهكذا طريقة، لم تستطع منتهى مجادلته، تجيبه بشيء من السرور بدأ يبزغ في قلبها: "بحاول.."
=
=
=
السادسة والثلاثون
=
=
=
لم تدرك ترانيم أنها تعودت على روتين معين مع الوليد إلا عندما فقدته.
لم يكن ابتسامه المشرق لها أول ما لقته عند استيقاظها، ولم يكن لدفء إغاظته لها وجود هذا الصباح.
ذهب لرحلة الصيد تلك دون أن يودعها بكلمة، وقلة الاهتمام تلك أثارت غيظها بجنون.
قد قال أنه سيتريث وقتا مقبولا قبل أن يطلقها ويحررها من قيد العقد بينهما.
لكن.. أكانت تريد ذلك حتى؟
=
=
=
أجلسوها في حجرة يفصل بينها جدار زجاجي وانتظرت ريثما يتم استدعاء السجينة نهلة الجليل لمخاطبتها. لم تنتظر منتهى طويلا قبل أن تدلف داخلا امرأة في منتصف العمر، زادها هم السجن سنينا فوق سنينها.
سألتها بهدوء متوجس عندما استقرت في جلوسها أمامها: "مين إنتي؟"
لتقول منتهى: "وحدة فضولية.."
بدا الاستهجان واضحا في ملامح نهلة: "يعني جاية تضيعي وقتي.."
هزت منتهى كتفا بلا مبالاة: "عاد ذي معتمدة عليك."
كررت نهلة سؤالها بسخط: "مين إنتي؟"
لترحمها وتجيبها: "حاليا أنا زوجة شاهين الجبر، ولد صاحب البنوك اللي اختلستي فلوس منها.."
شخرت نهلة بسخرية: "وش اللي يبونه مني بعد؟ خلاص، انسجنت وانتهت القضية..!"
ردت: "قلتلك، جاية عشان فضول وبس. مابي أزيد ولا أنقص في عقوبتك. مالي دخل فيها."
زفرت بضيق منها: "وش تبين؟"
مالت منتهى مقتربة في جلوسها: "أظنك تعرفين بأم عبد الرحمن، أو يسرى عقاب زي ما تعرفيها زمان."
اتسعت عيونها بصدمة قبل أن تنكر: "ما أعرف مين اللي تتكلمين عنها." قامت من مكانها، تنتوي الذهاب: "زي ما حسيت، ضعيتي وقتي.."
أكملت منتهى تستوقفها: "خليني أقولك الحكاية زي ما فهمتها.." التفتت إليها نهلة عندها، لتكمل: "كنتي شايلة هم علاج ولدك، ويسرى صديقتك أقنعتك تستغلي منصبك في الفرع النسائي وتختلسي مبلغ يساعدك في التكاليف. اللي مو فاهمته ليه ما اتهمتي يسرى بالشراكة معك لما مسكوك ورحتي اتهمتي بنت أختها اللي مالها علاقة في اللي صار.."
انطلقت نهلة في الضحك عندها، تتهكم ساخرة: "ألفتي الرواية وصدقتيها!"
لتبتسم منتهى بنفس السخرية: "يمكن غلطانة في التفاصيل، بس مو غلطانة في الدافع.. اللي يحزني إن ولدك ما استفاد من سواتك حتى.."
كل علائم التسلية انسحبت من ملامحها، لتسألها بحدة: "وش قصدك إن ولدي ما استفاد؟!"
أدركت منتهى عندها أنها وجدت الثغرة: "استقصيت عن أحوال عيالك قبل لا أجيك، وقالولي إن أعمامهم أخذوهم. ولدك الصغير ما تعالج إلا لما كفلوه.." رفعت حاجبا باستغراب: "ليه، ما كنتي تعرفين؟"
مرت لمحات من مشاعر شتى على ملامح نهلة، من الشك إلى الذهول إلى التوجس إلى الغضب إلى اليأس.. تمتمت يزداد صوتها علوا مع كل تكرار: "الحقيرة.. الحقيرة الحقيرة الحقيرة!"
تركتها منتهى تخوض في التأملات ولوم الذات، تنتظرها حتى تهدأ وتعيد انتباهها إليها. لتقول عندما فعلت: "بقولك اللي صار.."
كان الواقع مختلفا عن الذي استنتجته.
صحيح، كان دافع نهلة هو علاج ولدها الأصغر. وصحيح، كانت أم عبد الرحمن هي من حثت نهلة على عملية الاختلاس.
لكن الحقيقة كانت أن أم عبد الرحمن أخذت احتياطات العملية قبل سنين من تنفيذها، وقطعت علاقتها بنهلة ظاهريا للناس حتى لا يتم الربط بينهما. كانت الحقيقة أن نهلة توقعت أن يتم اعتقالها، بل إن الهدف من عملية الاختلاس كلها كان توريط طليقة أبو نادر بها، والمقابل كان تكفل أم عبد الرحمن الشخصي بعلاج ولدها، مقابل لم توفِ به: "ما أنكر إني كنت مترددة، بس حالة ولدي نستني كل شي، وكلام يسرى بالشينة عن بنت أختها ساعد بعد.."
لم تستطع منتهى إلا أن تسأل آخر سؤال عن أمر حيرها منذ أن بدأت نهلة بالكلام: "ليه صدقتيها؟"
لتبتسم تلك بمرارة: "لأني كنت أعرفها قبل، لأنها دوم كانت اللي توقف جنبي وتساعدني، لأني كنت أظن إنها ما بتضرني. كنت أطنش التغييرات اللي كنت أشوفها فيها وأقول لنفسي إن معدنها نفسه.. بس تبين إني كنت غلطانة، وخسرت حياتي وعيالي بسبب غبائي واستغلالها لي.."
وقبل أن تخرج، سألتها منتهى: "لو جيتك مرة ثانية وطلبت منك تعيدين اللي قلتيه عشان نبني قضية ضد أم عبد الرحمن.. بتقبلين؟"
أومأت نهلة بنعم، تمسح الدموع التي أجهشت بها وهي تحكي حكايتها: "ما بشيل ظلم إنسانة فرقبتي. كفاية خسرت دنيتي، ما بخسر آخرتي.."
عندما عادت لأبو نادر الذي كان ينتظرها خارجا، قالت منتهى عندما انطلقت السيارة بهما: "أكدت لي إن أم عبد الرحمن هي المخططة.."
ابتسم أبو نادر بتهكم، ويداه تشدان على المقود بقوة حكت عن غضبه المكتوم: "يا إن زوجة عمي وراها دواهي.."
=
=
=
أخيرا بعد جهد جهيد وصراع أجيال، تمكنت لمار من تسلق الشجرة وسط حديقة البيت. وهاهي الآن تجلس على أحد فروعها الكبيرة، تتمتع بمنظر البيت من علو.
-: "الله! وش هالمصادفة السعيدة؟"
أفلتت منها شهقة لتعرفها على ذاك الصوت الذي لم يكن سوى صوت زوجها جلال، يصدر من تحتها مباشرة، يسألها بفضول متسلي منتصر: "وش اللي قاعدة تسوينه فوق؟ لا تقولي تسترجعين أيام زمان؟"
عندها تذكرت لمار كون جلال من جعلته يتسلق معها فوق الشجرة في صغرها، وحقا، كم من ذكريات الطفولة شاركتها معه؟
قالت بهلع يسوقه حرجها من إمساكه لها بهذا الموقف، تحمد ربها أن أوراق الشجرة الكثيفة غطتها من مرآى الناس: "لا تقرب! أنا اللحين دارية إنك هنا، وما بينفع تناظر وإلا بتخسر التحدي اللي بيننا!"
وعلى عكس ما توقعت، لم يبدُ في صوت جلال الامتعاض أو السخط، بل كل الأريحية والرضا: "ما فيها إشكال، بقعد فمكاني وأمتع عيوني باللي أشوفه فذي اللحظة.."
استوعبت ما قاله لتدرك ما كانت تلبسه، قميص وبنطال ذا قماش قابل للتمدد ارتدته خصيصا لمهمتها هذه، وربما كان صحيحا أن جلال لم يكن بوسعه رؤية وجهها، لكنه كان بإمكانه وبوضوح رؤية ساقيها.
وقبل أن تزيد إدراكها ذاك بردة فعل، سمعته يقول بجدية وقلق: "لمار.. خليك فمكانك ولا تتحركي.. الفرع اللي جالسة عليه قاعد ينكسر.."
نظرت لمار للجهة التي كان ينظر إليها لترى أنه كان محقا وأن الفرع كان ينكسر ببطء. أي حركة مفاجئة حتما ستزيد من سرعة انكساره وتوديها بالسقوط على الأرض.
قالت بجزع أنساها حرجها من الموقف: "وش بسوي؟!"
صمت هو للحظة قبل أن يأمرها، يفتح ذراعيه: "اقفزي وبمسكك..!"
استنكرت لمار الفكرة: "تستهبل إنت؟!"
ليرد: "عندك فكرة أحسن؟ وش اللي حادك تتسلقين شجر فذا العمر أصلا؟!"
لترد هي: "كان نفسي أسويها وسويتها!"
صوت انفصال الفرع من الجذع علا للحظة..
صوت جلال قارب الصراخ: "اقفزي يا بنت الناس!"
لتقول، لا تستطيع الاعتراض أكثر: "امسكني زين..!"
وهكذا، قفزت..
=
=
=
عندما اقترح جلال أن تقفز لمار إليه، لم يحسب حساب الألم الناتج من ارتطام جسد إنسان به من علو.
تآوه ألما، يدرك شيئا فشيئا وجود وزن فوقه، وزن انتمى للمار التي كان أول قولها بعد الصدام هو: "مت؟"
ابتسم جلال رغما عنه وعن ألمه الحالي: "لساتك حية يالهبلة..!"
عندها أدركت لمار ما حصل وموضعها الحالي، لتحاول النهوض.
جلال كان مؤمنا بمبدأ استغلال الفرص بأية طريقة، وربما كان صحيحا كونه مقيدا في رؤيته لها بشروط تحديها، لكنه كان لديه طرق للتحايل واستقصاء تفاصيل أخرى عنها.
مثل شعوره وهي بين ذراعيه الذي بدأ يغلب ألمه ويُذهب عقله، دفء جسدها ورائحة عطرها المنعشة، شعرها القصير الناعم الذي دغدغ بشرة رقبته.
ياله من حظ، أتى لاستدعاء جده لأمر ما، وانتهى بهذه النعمة!
همس لها قبل أن يسمح لها بالنهوض عنه: "لو فزت بالتحدي حقك عرسنا بيكون بنفس اليوم.."
انتهت البارتات..~
|