كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
اعتذر عن التأخير، جتني شوية مشاغل.. بحاول أعوض تقصيري الأيام الجاية بإذن الله، ادعي ربي يقدرني على الوفاء..
الثانية والثلاثون
=
=
=
ما إن وصل شاهين الرياض بعد أرق ورحلة ساعات طوال حتى صدح جواله باتصال من البنك، يطالبون بحضوره عاجلا ليترأس اجتماعا يناقش الاستثمارات التي يشرف عليها.
تنهد شاهين ودلك صدغيه بصبر، يطلب من السائق إيصال أغراضه للبيت قبل أن يترجل من السيارة ليدخل البنك.
وعندما نجح في اختصار وتركيز الاجتماع في ساعة واحدة، اقتحم مكتبه أحد إخوة راضي، فرد جديد لم يلتقيه من قبل، لكن ناطق بنفس كلمات ووعيد إخوته.
تجاهله شاهين بالكامل وهو يكاد يفور من الانزعاج، يطرده بصمت من مكتبه، لكن ليس قبل أن يزيد الصداع الذي عاناه منذ البارحة أضعافا.
وعندما رجع أخيرا للبيت، تساءل للحظة أين كانت أخته منال، ليتذكر الوضع المتوتر بينهما، الوضع الذي بسببه لم تكن في استقباله كما كانت تفعل في الماضي، ليزيده أساه إرهاقا.
ومن شدة إعيائه لم يستوعب متى دخل جناحه ومتى استلقى على سريره، فقط استغراقه في النوم لدقائق ظنها أجزاء ثوان قبل أن يحس بأطراف أنامل على رقبته، ترخي ربطة عنقه..
=
=
=
استغربت منتهى عندما وصلت لها أغراض أبو نادر قبله هو. وعندما سألت، أجابوها أنه تم استدعائه لاجتماع.
قررت أن تشغل وقتها في ترتيب أغراضه، تاركة كل ما رأته في علبة أو كيس جانبا، فربما كانت هدايا ولا تريد العبث بها.
وكان بعد انتهائها من عملها البسيط ذاك بفترة معتبرة أن دخل أبو نادر الجناح والتعب بادي عليه من طريقة مشيه إلى غرفة نومه.
سرعان ما وصل العشاء الذي أجلت تناوله في وقته المعتاد بعدها، وعندما دلفت داخل غرفة النوم لتخبر أبو نادر بذلك، كان ما رأته كفيلا بجعلها تقطب حاجبيها.
"كان تعبان لذي الدرجة؟"
مستلقيا على ظهره، لم يتعب أبو نادر نفسه في خلع حذائه ولا إرخاء ربطة عنقه حتى، فقط سترة بذلته الرسمية كانت ما وضعه جانبا، بعدم اكتراث خالف ما رأته من انتظام فيه.
رحمته وقررت ألا توقظه. لكن.. لا يمكن أن تكون وضعيته هذه مريحة له، أليس كذلك؟
تقدمت إليه وخلعت حذاءه قبل أن تتجه إلى ربطة عنقه لترخيها، وما إن بدأت بحل العقدة حتى أحست بأصابع حول رسغها تثبتها في موضعها.
سألها عندها: "مصرة تستفزيني؟"
لترد وهي تنظر إلى رسغها، تطالب بصمت بإفلاته: "ما أظن إني سويت شي استفزيتك به.."
شد يدها نحوه، حتى أصبح لا يفصلهما سوى الأنفاس، يقول بهمس وهو يمرر أنامله بخفة على طول رقبتها، تترك شعلات في إثرها: "للاستفزاز أنواع يا منتهى.."
بلغ بها دق قلبها الذاهل أقصاه وفيض أفكارها الصفر، وغريب كيف أن صوتها خرج متهدجا شبه مخنوق عندما قالت: "ارجع نام، تعبت من السفر.."
ضحك بخفة لم يصل ألقها عيونه، مرخيا قبضته: "يا ليته تعب سفر بس.."
عندها رأت بصدق طبيعة إرهاقه التي لم تقتصر على الجسد، بل الذهن والروح. عندها تذكرت احتضانه المحتاج تلك الليلة.. ليسوقها جسدها لفعل شيء لم تفعله قط، فليست هي من يفطن في العطف أو الاحتواء..
فاقد الشيء لا يعطيه، لكنها ستحاول.
ببطء حكى عن تردد استلقت جانبه، تحتويه بين ذراعيها. شعرت به يتصلب متفاجئا، ينطق: "منتهى..؟"
قاطعته قبل أن يسألها ماذا كانت تفعل، فالحقيقة كانت أنها لا تدري: "ارجع نام يا أبو نادر.."
وكان عندما فعلها ورجع للنوم أن تجرأت أكثر ومررت أناملها بخفة خلال شعره بفضول ملح حول ملمسه، لتجده ناعما كثيفا، أسود قاتم ناقض لمعان عيونه العسلية الحادة.
كان فعلها ذاك ما دفعها لإكمال تأملها..
لم تكن بالتي تلاحظ أو تهتم بمظاهر الرجال، لكن عليها الاعتراف أن لأبو نادر نصيب كبير من الجاذبية والوسامة. كانت ملامحه مزهوة بالغرور، مزدانة بالشموخ والهيبة. كان له شبه كبير من أبيه وأخته أم جلال، أما أم كادي فكان الاختلاف بينهما الاختلاف بين الليل والنهار.
يا للغرابة، هي من بين كل الناس تهتم كفاية لتتأمل في رجل..
ويا للغرابة، لم تجد نفسها تنفر من قربه.
=
=
=
استيقظ شاهين لتعتريه الخيبة لرؤية جانبه خاليا.
لا يذكر أنه شعر بمثل هذه الراحة قبلا، ذاك السلام الذي سبق استسلامه للنوم، بين أضلعها يحتويه دفء حضنها، غارق بعبق عطرها..
تصرفت هي كأن شيئا لم يكن طيلة اليوم، كأن ما فعلته البارحة لم يكن بالعظيم الذي يُذكر، بالخارج عن المعهود ليحير.
كم استفزته، هذه المرأة..
=
=
=
لا تدري منتهى لم كان أبو نادر يرتب بين الهدايا التي أحضرها من سفره في المجلس بدل غرفه نومه، لكنها أبقت أسئلتها لنفسها لتجلس جانبه تساعده، فلم يكن يشغلها شيء لحظتها، والهدايا التي أحضرها معه كانت كثيرة.
قال يعطيها حقيبة جامعية فخمة من دور تصميم مشهور: "هذي أعطيها لمار.."
(وحقا، لم تكذب لمار عندما قالت أن خالها كان سخيا مع أحبابه، فحتى في رحلة عمل حرص على إحضار هدايا للكل).
وهكذا صُنفت كل هدية بحسب من سيتلقاها، حتى تبقت علبة مخملية صغيرة. رفعت نظرها لأبو نادر تسأله: "وهذي لمن أعطيها؟"
نظر إلى العلبة التي تعنيها ليجيبها بأريحية، يعود لتفحص رسالة جوال: "هذي لك.."
كررت: "لي..؟"
ليؤكد، يحثها: "إيه لك. افتحيها."
بفضول فعلت ما أمر به، لترى خاتما بلاتينيا بتصميم ونقش لولبي فريد من نوعه، مطعم بـ.. أهذا ماس؟
لم يكن هناك ما يستدعي هذا الخاتم كالجوال الذي تلقته منه، ولا مناسبة تتطلب ظهورها بمظهر لائق كعرس ابنة أخته. لماذا إذا؟: "وش هذا؟"
أعاد نظره إليها، ليرفع حاجبا باستغراب: "خاتم مثل ما تشوفين.." توقف لحظة قبل أن يعقد حاجبيه، مردفا: "ما أعجبك؟"
هزت منتهى رأسها، فلم تكن تلك المشكلة إطلاقا: "عجبني بس.."
قاطعها: "خلاص، هذا المهم."
حاولت الاعتراض: "أبو نادر.."
لكنه لم يعطها الفرصة، يحول الموضوع بأسره: "شاهين."
صمتت، للحظة لا تفهم ما الذي كان يعنيه، ليفسر: "اسمي شاهين لو ما تعرفينه. بلاها أبو نادر ذي.." أكمل بصرامة نبرة ونظرة: "وللمعلومية إذا أعطيت شي لأحد ما ينرد. الخاتم لك وانتهينا."
=
=
=
ردت منال بـ"ادخل" عندما سمعت طرق باب جناحها بشرود، لتلجمها الصدمة لرؤية من دخل.
حيتها من لم تجد لها وصفا سوى "تلك": "السلام عليكم أم كادي.."
ردت عليها بجمود والأفكار والتساؤلات تهل عليها بلا هوادة، ما الذي تفعله هنا؟: "وعليكم السلام.."
قالت تلك حينها، تبدأ بالحديث بعد لحظة صمت: "عندك مشكلة معي يا أم كادي؟"
تعجبت منال من السؤال، تعجبت أكثر من الجرأة والبجاحة!: "إنتي من بين كل الناس مفروض ما تسألي هذا السؤال بالذات."
لم تكترث هي بحدة نبرتها، ولا نظراتها التي تكاد تخرقها قهرا، تكمل كلامها بكل أريحية وعدم مبالاة: "مستغربة منك صراحة.. تتجاهلين اللي حولك وتحطين حرتك فيهم، وتاركتني وإنتي تظنين إني سرقت زوجك وبعدها أخوك، واللحين بنتك.."
لترد منال بحرقة يطفح الكيل بها من الآن: "مابي اسمع كلام وحدة رضت تخرب بيت غيرها وتنتقل من رجال لرجال ثاني بلا ضمير!"
كانت ابتسامة تلك باردة صقيعية عندما ردت: "وليه أحتاج أخرب بيتك وإنتي استسلمتي من البداية يا أم كادي؟ ليه أحتاج أسرق أحبابك وإنتي تبعدينهم عنك؟ مرات كنت أتساءل وش اللي خلى أبو كادي الله يرحمه متعلق فوحدة باعته برخيص.."
لم تحتمل منال وقع كلماتها أكثر، ولا شعوريا تقدمت إليها بغضب كاسح، تصفعها بكل ما أوتيت من قوة. لم تدرك منال ما فعلته إلا عندما لسعتها يدها ألما، لتنظر بذهول وشيء من عدم التصديق بتلك التي أودتها متهاوية في وقوفها، ملامحها مغطاة بشعرها الذي تناثر بفعل ضربتها.
مضت لحظات صامتة قبل أن تعتدل تلك المرأة في وقوفها، تبعد خصلات شعرها من وجهها، تكشف عن جانب محمر بالكلية، تنظر إليها بثبات قائلة: "كنت أغبطك.."
كلماتها تلك فاجأت منال، فليست هي ما توقعت. توقعت الصراخ والوعيد والتهديد، وكان لها الحق في ذلك، فلم يكن هناك مبرر لتطاولها ذاك مهما استفزها كلامها الذي ضرب وترا حساسا.
لم يصدر منها صوت سوى كلماتها ونبرتها الهادئة تلك.
أكملت: "كنت أغبطك على حب أبو كادي لك.." ابتسمت بسخرية: "مرات كنت أغار حتى، لأنه كان ودي لو أحد فذي الدنيا يحبني زي ما كان يحبك.."
ردت منال عندها بمرارة، تغيم دموعها المتشكلة نظرها: "وش فايدة حبه ذاك إذا بيخون؟"
لترد تلك بيقين: "ما خانك أبو كادي بنبضة.."
سألتها بوجوم: "وش يثبت كلامك؟"
لتجيب: "تظنينه تزوجني عن رغبة؟"
شعرت منال بنفسها يتوقف: "وش قصدك..؟"
بدأت عندها تحكي: "عمي كان نقيب في قضية تولاها أبو كادي الله يرحمه، وصار فيوم إنه حماه من إنه ينقتل من الطرف الخاسر.."
كل كلمة حكتها بعثت في منال ذكرى تؤكد صحة أقوالها، فلا تستطيع نسيان تلك الأيام التي كان الجزع يعتريها بسبب القضية الخطيرة التي تولاها راضي، ولا عرفانها للنقيب الذي أنقذه..
لهذا لم يخبرها بسبب زواجه عليها.. شهامة مفرطة وحس بالواجب يغلب القلب.. صفات مثلت كينونة راضي من البداية.
وعلى الرغم من رغبتها في معرفة مبرر يقنعها بما فعله، بشيء يطمئنها أن من أحبت لم يخن حب وعشرة سنين.. عندما اكتشفت أخيرا ذاك السبب، لم تعد تريده. كانت فكرة خيانة راضي لها أقل وجعا من واقع كونه مربوطا بعهد ودين، لأن ذلك يعني أنها أضاعت سنينا غاضبة عليه، أنها أضاعت جلوسها جانبه في آخر لحظاته من هذه الحياة.
انهارت منال عندها جسدا وروحا، تتشبث بتلك وتسأل بين دموعها الحارقة، تسند جبينها على كتفها: "ليه قلتيلي.. ليه قلتيلي؟!"
سمعتها تقول بسكون: "لأنك تستحقي تعرفين، لأن جرحك أفضل له يتشافى بالكامل بدون شظايا.. آسفة.."
لم تظن منال أنه سيأتي يوم ستنهار فيه أمام هذه المرأة بهذا الشكل، ولم تظن أن هذه المرأة ستبقى تسندها حتى تستكين.
سألتها لا تنظر إليها وهي تفلتها: "ليه وافقتي عليه..؟"
ليأتيها ردها يفاجئها: "لنفس السبب اللي وافقت أتزوج بأبو نادر.."
وكانت ستسألها منال عن ذاك السبب لولا رؤيتها لخدها ما زال محمرا، ولاحظت تلك نظراتها التي شابها الأسف لفعلها لتقول قبل أن تتكلم منال: "أنا اللي استفزيتك.."
أكانت تبرر لها..؟
قالت قبل أن تخرج: "لساتك ما فقدتي الكل، لا تخسريهم.."
ولأول مرة دون أن تغطي ظلال الغيرة بصيرتها، فكرت منال أن هذه المرأة غريبة.. غريبة للغاية..
انتهى البارت..~
|