كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
يا هلا ويا مراحب..! بالنسبة للي سألوا عن التنزيل، بيكون يا إما 3 أو 4 مرات في الأسبوع اعتمادا على الفرص عندي.
السابعة والعشرون
=
=
=
لم تعتقد غالية أن ليلة عرس شادية ستكون مصيرية لها بقدر ما كانت لشادية، لكن سالم خالف كل توقعاتها وجعلها تشرد في التفكير، معلقة بين الأمل والتوجس.
هاهي الآن مع شادية قبيل زفتها، ولم تدر ماذا تتوقع..
أعادت عرض ذكرى زيارته الأخيرة وإحضاره عشاء طلبته معه للمرة الألف في ذهنها، كيف سبقها في طلبه ربيع مناداتها لمجلس الرجال حتى يقول لها شيئا، مفسدا كل خططها بفعله ذاك..
(بعد عرس شادية، إنزلي لي لما اتصل عليك..)
ما الذي كان يخطط له سالم؟
أيقظتها شادية من غمرة أفكارها بقولها: "اللي مآخذ بالك.."
لترد عليها: "انشغلي فنفسك أبرك لك يا عروس."
لتضحك شادية: "والله فيه شك من فينا العروس، ناوية تنافسيني الليلة يا عمتي؟" أردفت بنبرة خبث: "كاشخة بزيادة الليلة، ليه.. سمعتي أخبار تبرد القلب من هنا ولا هناك؟"
على الفور ضيقت غالية عيونها بريبة، لم تكترث حتى بمناداة شادية لها بعمة: "شكلك عارفة باللي ناوي عليه عمك. انطقي يلا..!"
أجابتها بغموض: "بتشوفين.."
لتتأفف: "ترى الغموض أبدا ما ينفع لكم يا آل المنصور..!"
ابتسمت شادية بعرض للحظة قبل أن تنطفئ. لاحظت لمعة حزن تكتسي عيونها عندها، لتسأل بقلق: "فيه شي يا شدوي؟"
هزت شادية رأسها بـلا: "بس تذكرت أمي وكلامنا عن ذي القاعة.. اشتقت لها.. اشتقت لأبوي.."
احتضنتها غالية بخفة تواسيها.. تعرف شعورها بالضبط، فهي أيضا تزوجت دون أن تقف أمها جانبها. قد توفيت بعد ولادتها ربيع مباشرة، وما زال أثر فقدانها ينبض بشجن إلى هذا اليوم: "الله يرحمهم.."
مسحت الدموع المتشكلة في مقلتي شادية بعدها، لتقول: "إفرحي ذي الليلة، ما أظن إنهم بيبغونك تقضيها حزن، صح؟" أكملت بنبرة مرح: "وأنا وجدك وعمك اللوح بنكون جنبك. لو تبين ثلاثتنا نزفك بالكوشة قولي ونسويها!"
ابتسمت شادية عندها، تنسحب ملامح الحزن منها شيئا فشيئا: "مستغنية عن خدماتكم، خلوا جدي المسكين فحاله. وحدك على عمي ترى ما أرضى عليه..!"
=
=
=
عندما أعلمه عبد الرحمن بنيته في الزواج من ابنة أخ صديق له، عرف عبد المحسن أنه لن يستطيع ثنيه عن قراره، قد ذكره بأخيه في الإصرار البادي في عيونه، في استعداده لتوقع الأسوأ.
أسس أبوه نادر ثروته عن طريق مصنعه، ورغم كرم أخلاقه، فإنه لم يرد لابنيه سوى الارتباط بذوات الحسب والنسب والجاه. كانت صدمة له إعلان أخوه الصغير غانم نيته في الزواج من ابنة أحد عاملي مصنعه، ليرفض باستماتة ويجلد قلبه عنه، طاردا غانم من كنف العائلة، مستمرا في صده محاولات غانم وصله وإعادة المياه لمجاريها، رغم ألمه الشديد لفراق صغيره.
كان عبد المحسن شاهدا لكل ما جرى، وكم من مرة حاول إقناع أبيه إرجاع غانم لدارهم دون أن يُلقي أبوه له بالا.. حتى فات الأوان وتوفي غانم بعد فترة قصيرة من ولادة بكره، عبد الرحمن..
لام أبوه زوجة غانم على كل ما جرى، ولم يسمح له بمد يد المساعدة لها، محبطا بطريقة ما كل مرة حاول عبد المحسن فيها إعانتها. ولم يتغير الوضع إلا بعد مرض قاده لخطى الموت. وربما كان قرب الموت ذاك درسا لأبيه، فهو في أيامه الأخيرة كان شديد الندم، موصيا له على حفظ حق غانم لولده ولأرملته. وكان ذلك ما فعل، ولم يأخذ من نصيب غانم من الورث فلسا واحدا وحفظه لسنين.
(وأما عن نصيبه هو، فقد قرر إغلاق المصنع والبدء في مجال البنوك. وقتها لم يتوقع النجاح الذي حققه، ولا كونه سيفوق أباه ثروة بسبب استثماره ذاك..)
كانت القطيعة بين أبيه وغانم درسا لن يكرر أخطائه، وكان جوابه لإعلان عبد الرحمن فقط سؤاله إذا كان أهل تلك التي يريد خطبتها ذوو ثقة وأخلاق، ليوافق دون أي اعتراض عندما أكد له عبد الرحمن ذلك.
وصحيح أنه لم يفهم تفاصيل كثيرة في زواجه هذا، لكن الفرحة بدت جلية في ملامح ابن أخيه. لذا، سيكتفي بتقديم الدعم له..
=
=
=
الفرحة لم تسع سالم في هذه الليلة، وظل يتنقل بين ضيوف الحفلة كأب فخور يتلقى التبريكات.
لكن الحق يُقال، لم يتوقع حضور عم عبد الرحمن للحفل، ولا حضور ابنه ورئيسه في العمل بشكل خاص.
وجد ابتسامة رئيسه اللبقة وهو يبارك له غريبة، فهو اعتاد منه الصرامة كنهج يسير عليه. لكنه رد مع ذلك، لا يظهر عجبه: "الله يبارك فيك أستاذ شاهين، ومشكور على حضورك.."
قال الآخر بأريحية: "ماله داعي الرسميات، أنا هنا الليلة مجرد ضيف. خلي سوالف الشغل للشغل.."
(لم يصدق سالم قول عبد الرحمن أن ابن عمه لم يكن بذاك الشديد المتعنت خارج إطار العمل، لكنه صدقه الآن.)
مضى الحفل بشكل رائع دون أي مشاكل، وكلما قربت النهاية كلما زاد ترقبه وشوقه للجزء الآخر من هذه الليلة، شيء خطط له، وربما تعجل فيه.. لكنه لم يندم، ولن يندم..
"أخيرا يا غالية.. أخيرا.."
=
=
=
تذكرت شادية مرة وهي طفلة سألت فيها أمها عن يوم تتزوج فيه في قاعة القرية، يوم ستبدو فيه مثل الأميرات كالعرائس التي ترى زفتهن واحدة تلو أخرى. تذكر ضحك أمها من سؤالها، لتجيب أنها ستتزوج في قاعة أفخم وأحلى وأروع بإذن الله.
ربما كان عنادا طفوليا منها، لكن عيونها لم تملأها سوى هذه القاعة بالذات، فهي التي ارتبط فيها جدها بجدتها، أبيها بأمها، حتى عمها سالم ارتبط بغالية بين جنبات هذه القاعة.
استمعت لنصح غالية وركزت على فرحة أحبابها بها، متجاهلة غير مكترثة بالنظرات اللائمة الحانقة التي تلقتها.
=
=
=
كانت تجربة غريبة، دخوله بيتا لم يكن له اسم فيه، بيت يحتاج للإرشاد بين أركانه. وكان بعد صلاتهما أن بدأت شادية بتلك الجولة التعريفية التي كان يتوقع.
لم يستطع القول لشادية بأن توفر مهمتها هذه لوقت آخر، ليس وهي كانت ترشده بكل ضمير وخاطر، غير مدركة أنه بالكاد كان يعي ما كانت تقوله وهو يراها خلابة بدراعتها البحرية المطرزة بفخامة، بشعرها الطويل المسترسل على ظهرها، بملامحها التي زادت الزينة فيها البهاء.
اختتمت قولها بـ: "مرات تنقطع الكهربا وترجع، فأحسن تأخذ احتياطاتك.." لاحظت طول صمته لتسأله: "إنت معي؟"
تناول يدها يقربها منه، ليرى التوتر الخجل يعتريها. أربما كانت هذه الجولة التعريفية طريقتها في التعامل مع توترها؟: "مصيري أعرف ذا البيت وأتعود عليه.." أحكم قبضة يده حول يدها بتأكيد، يطمئنها بقبلة طبعها على جبينها الحار: "لا تحاتين.."
=
=
=
الطبول قُرعت في قلبها عندما اتصل بها سالم كما قال أنه سيفعل، ينتظرها لتركب سيارته المتوقفة أمام القاعة. سألته لحظة ركوبها: "وين رايحين؟"
ارتسمت على شفتيه ابتسامة، ونطق غير محول عيونه عن الطريق، يغيظها: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.."
رمشت غالية متعجبة من تصرفاته التي تغيرت في طابعها عن تلك التي تأقلمت بألم معها، بل كان يتصرف معها كما كان يفعل قبل الخلاف الذي فرقهما. أيعقل..؟
"لا تبني الآمال.."
توقف سالم أمام بيت متوسط الحال قريب من بيت عائلته. تعرف غالية هذا البيت، قد كانت تمر به في طريقها، تعرف أنه كان خال لفترة، وتعرف أن سالم لمح لنيته في شرائه في الماضي.
كانت ستسأل ما الذي كانا يفعلانه عند عتبة باب بيت غير مأهول عندما أخرج سالم مفتاحا من جيبه، يفتح به الباب مشيرا لها بالدخول. نظرت إليه مصدومة: "لا تقول..!"
لكن سالم ابتسم وقال بكل بساطة: "سمي وتفضلي داخل.."
لاحظت فور دخولها أن البيت كان مؤثثا، ليس بالكامل، لكن إلى درجة تسمح في السكن فيه بكل راحة. قادها سالم لغرفة نوم بدت كأنها أعدت لاستقبال عرسان جدد، قد قال أن تأخذ راحتها وتنزع عباءتها، فلا أحد في البيت غيرهما.
بدأت في الاستكشاف ورأت الخزانة مصفوفة بملابسها، ويخالطها العديد من الألبسة الجديدة، بعضها تعرفت عليها من ذكرى شراء شادية لها في بضع رحلات تسوق. رأت صندوقا موضوعا على التسريحة بعدها، وعندما فتحته لقيت حليا من ذهب فيه.
توقفت عند تلك النقطة، لا تستطيع المضي دون السؤال، ليرتجف صوتها، تنطق باسمه بأمل ثم تسأل: "وش اللي قاعد يصير هنا..؟"
وعلى سطح مرآة التسريحة العاكس، رأته يتقدم نحوها حتى وقف وراءها، ينحني في وقوفه ويمد يدا ليتناول بضع بناجر من الصندوق، ثم يدها ليلبسها إياها، يرد: "وأنا اللي كنت أظنك فطينة وتفهميها عالطاير.."
هددت وهي تدفع الدموع بعيدا: "لو تلعب معي..!"
قاطعها: "إنتي اللي شاطرة في اللعب موب أنا. السالفة كلها إني مريت بأبوك قبل كم يوم وقلتله إني برجعك.." أردف عندما قرأ السؤال الصامت في عيونها على سطح المرآة: "إيه، قدرت أسويها.. كنت مستعجل واحتجت قرض صغير، بس بقدر أدفعه إن شاء الله قريب. تعلمت درسي.."
ضحك، متذكرا لشيء: "أنا وشادية ومرات زوجها كنا نسابق الريح عشان يمدي يكون كل شي جاهز على الليلة، بس لسى بقيت أشياء ناقصة.. مشيها لنا.."
ضحكت هي بدورها. تستطيع تخيل مدى صعوبة التجهيز لعرس وإخفاء أمر هذه المفاجأة عنها، فليست هي بمن يخفى عليها شيء بتلك السهولة.
وكان عندما هدأ ضحكهما أن احتضنها سالم من الخلف، يدفن وجهه بين رقبتها وكتفها، همسه الشجن يصل أذنيها: "آسف على اللي صار. آسف لأني علقتك كل ذا الوقت.. لا تظني للحظة إنك رحتي عن بالي، بس كنت أدري إن قربك بيخليني أهون عن كثير. كنت ميت شوق لك ألف مرة، وكنت أهذي فيك وأنا صاحي ونايم.."
سألها بوله: "بترجعيلي يالغالية..؟"
التفتت لتنظر إليه مباشرة بدلا من خلال مرآة، مبتسمة بفرح لا يضاهيه فرح من بين دموعها: "لا تسأل سؤال تعرف جوابه حبيبي.."
انتهى البارت..~
|