كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
عدنا مع بارت آخر :)
الخامسة والعشرون
=
=
=
هناك من كان يوقظها مناديا باسمها، وعندما فتحت ترانيم عيونها لترى من كان، وجدت أنه الوليد.. زوجها.
كان يبتسم لها بإشراق: "يلا يالكسولة اصحي، الفجر أذن."
قطبت ترانيم حاجبيها، لا تعرف كيف بإمكان شخص أن يكون بهذا النشاط في هذا الوقت المبكر. نهضت دون حديث، وكادت تتعثر في مشيها إلى دورة مياه الجناح لولا إمساكه المثبت لها، يسمي عليها بقلق قبل أن يقول: "شوي شوي، لا تكسري روحك على هالبلاط!"
شعرت ترانيم بالحرج يكتسحها وهي تكمل مسيرتها بصمت، فأبدا لم ترد إظهار هذا الجانب من نفسها أمامه. قلة اقتصروا على عائلتها وصديقتها زينب كان لديهم العلم بحقيقتها وراء واجهتها المصقولة، المدروسة الحركات. فعادة، خصوصا عندما تستيقظ من النوم، كانت خرقاء الحركة، كثيرة التعثر والسقوط. تذكر مرة أحضرتها أمها فيها للطبيب لفحصها في صغرها، ليقول أنه لم يكن لديها أي مشاكل في التوازن. كانت هكذا وحسب.
وكان بعد الصلاة أن أجلسها الوليد جانبه، باديا عليه الأسى: "تتذكرين الاتصال اللي جاني أمس؟" عندما أومأت بنعم، أكمل: "هذاك كان رئيسي. اتصل عشان يقولي إن الطيار اللي كان مفروض يكون بدالي لشهر صار له ظرف طارئ. كنت أحاول فيه يدور أحد ثاني بس ما كان فيه فايدة، الكل سبحان الله ما كان عندهم فرصة.. باختصار، ما نقدر نسافر."
ربما في ظروف أخرى وفي زواج من رضاها، ربما كان لينتابها الاستياء جراء خبر كهذا، لكنها لم تستطع الشعور بشيء الآن.
يبدو أن الوليد قد أخذ صمتها كعلامة إحباط، ليحاول مراضاتها بتبسم معتذر: "صدقيني كان ودي أسافر بك بلدان مو بس بلد واحد."
ردت تعنيها، فلم ترد أصلا تعب السفر لشهر عسل: "لا تشيل هم.."
لتعود تلك الابتسامة المشرقة إليه، ضاما لها يقبل جبينها بعرفان: "يسلم لسانك حبيبتي، وأوعدك بالعوض إذا الله قدر لي.."
تركها بعدها، يقول أنه سيحضر الإفطار، مفصلا لها أجندة اليوم بعجلة، فبعد الإفطار سيتجهزان للذهاب لبيت أبيها ومن ثم شقته.
=
=
=
تساءل الوليد، هل كان لترانيم مفهوم آخر عن الوقت؟ لأن هذا سيفسر حتما كون "لحظة" بالنسبة إليها ساعة في الواقع.
رغم جوعه، فإنه تحامل على نفسه وانتظرها، لتظهر أخيرا بعد أن بدأ يفكر في الاستسلام، أنيقة ملفتة ساحرة، يجد نفسه يبتسم لمرآها، لواقع دخولها حياته. أخبرها: "كان ودي أعطيك كلمتين على تأخيرك، بس شفتك وضاعت علومي."
وكما لو كان رغما عنها، ابتسمت هي ابتسامة صغيرة حكت عن رضا.
هنالك الكثير الذي يحيره في زوجته، كتحفظها الذي لا يظن أنه أتى من خجل. لكنه لم يكن مستعجلا للمعرفة.
لاحظها تأكل بقضمات ميكروسكوبية وببطء حلزون، ليقول بتشجيع: "كلي كلي، لا تستحين.."
لترد: "أنا أكلي كذا."
ضحك: "لا عاد من جد، كلي على راحتك."
لكنه لم يبدو عليها سوى كل الجدية والصدق عندما قالت: "وهذاني آكل.."
رمش الوليد بعجب قبل أن يهتف: "ول، عندك بطن عصفور ولا وش..؟!"
ظهر عليها الحنق لملاحظته العفوية تلك ليعتذر بضحكة، لطالما قال له أصدقاؤه أن صراحته ستودي به لورطة ويبدو أنهم صدقوا.
غير الموضوع لأي وقت تريد زيارة أهلها، ولحسن الحظ، فإنه بدا عليها تناسي ما قال.
=
=
=
لم تسنح له الفرصة في التعامل مع بكر خاله سامر، جلال. يذكر فقط تبادلهما التحية في وقت ما. وأبدا لا يذكر فعل أي شيء تجاهه يسترعي نظراته الحادة تلك، والتي ازدادت حدة عندما قال الوليد أنه لن يكون بوسعه المضي في خطة شهر العسل السابقة التي تم الاتفاق عليها، فلديه عدة رحلات مجدولة بعد أسبوع.
تكلم خاله سامر باستعجال عندها كأنه يريد منع جلال من قول شيء: "ما عليه يا ولدي، العوض في الجاي."
=
=
=
من جهتها، فإن أمها لم تكن راضية أبدا عن هذا التطور الأخير. قالت بسخط: "يا فشلتي بين الحريم، وش بيقولون اللحين لو عرفوا؟ أقولهم بتروح بنتي البندقية وآخرتها تتم في الرياض؟"
ردت ترانيم عليها بسكون شارد: "كان ما أعلنتي لهم وتجنبتي كلامهم.."
عندها فقط ابتعدت أمها عن التفكير بما سيفكره الناس لتسألها بقلق أمومي تفتقده وبشدة: "وش فيك يا بنتي؟ من فترة وأنا ألاحظك متغيرة.."
تمنت ترانيم وبشدة أن تفصح عن كل ما بها، أن تذرف دموعا تريح بها روحها، لكنها لا تستطيع، وطمأنت أمها بابتسامة مزيفة مجاملة كانت هي أول من علمتها إياها: "ما فيني شي، بس اشتقتلكم.."
ابتسمت أمها بحنان عندها تحضنها، ولو كان بوسعها، لظلت ترانيم مُحاطة بدفء حضنها إلى الأبد.
=
=
=
ردة فعل ترانيم لدخول شقته لأول مرة كانت سؤالها هذا: "ليه شقتك فاضية كذا؟"
كان ذلك سؤالا سمعه من أناس عدة: لم تحتوي شقته الأساسيات البسيطة فقط وهو لديه خير وافر من وظيفته، وشقته كانت قمة في الرقي والحداثة؟
أجاب وهو يجر حقائبهما إلى غرفة النوم: "ما كان له داعي أثث وأنا خارج البلد دوم.." أردف باستظراف، يتوقف لينظر إليها بمعنى: "وفيه بعض الناس ما لقيت فرصة ألاقيهم وأسأل عن رأيهم."
كان سابقا يهرب من وحشة شقته في إغراق نفسه في العمل، حتى فاق زملاءه مكانة ومركزا ومهارة، لكنه وجد نفسه يغبطهم مع ذلك، فبينما كان لديهم عوائل تنتظرهم بفارغ الصبر، لم يكن بانتظار الوليد سوى هذه الشقة الخاوية.
لكن.. لم يعد الوضع كذلك، ليست وهذه الأميرة جانبه: "سمعت من خالي سامر إنك مهندسة ديكور وذوقك توب، فخلاص، بستريح وأمشي على شورك. ولا وش رايك؟"
رأى شعلة من الحياة تنبعث في عيونها، تومئ موافقة ترد بحماس وليد: "عندي شوية أفكار من اللحين.."
=
=
=
كمهندسة ديكور، فإنه لم يكن لديها الحرية التامة في العمل على الديكورات، فلا زال عليها أخذ آراء عملائها بالاعتبار حتى لو تعجبها. لم تستخدم طاقاتها إلا على غرفة نومها، وعندما تطلعت إلى العمل على بيت أبيها كاملا، رفضت أمها ذلك، فذوقهما كان مختلفا تماما. فبينما كانت أمها تميل للفخامة التراثية، كانت ترانيم تفضل عنونة أسلوبها بالشرقي المعاصر.
فكرة أنه كان لديها الحرية التامة في تأثيث شقة بأكملها كانت كفيلة بجعلها تهتز في مكانها حماسا.
قضت هي والوليد أياما ما بين تسوق لأغراض لطلاء الجدران لوضع الأثاث وتوزيعه على الغرف. وفي تلك الأيام لاحظت غرابة تصرفات الوليد، كيف أن الضجر والسأم لم يمرا للحظة على ملامحه، بل كان بغاية الطواعية والمسايرة، يؤكد لها أنه وضع ثقته بها ولن يرجع في كلامه حتى لو لم يفهم ما الذي كانت تهدف إليه أحيانا. بدا، ويا للعجب، سعيدا، ولم تستطع ترانيم أن تفهم لماذا.
وأخيرا، انتهيا من عملهما، وصفر الوليد بإعجاب لرؤية النتيجة النهائية: "مقدر استوعب إن هذي شقتي. صدق من قال إنك مبدعة!"
ابتسمت ترانيم برضا، فخورة جدا بعملها. تستطيع تصنيف هذا المشروع كأنجح واحد تولته: "أدري إنها طالعة روعة، ما يحتاج."
(لكن تأكيده لإعجابه بذوقها أرضاها أكثر.)
أغاظها بتسلية: "خفي علينا من نفش الريش يا الطاووس..!"
وكانت سترد بغيظ من كلماته تلك لولا اسكاته لها بقبلة حكت عن طول انتظار.
=
=
=
استيقظ الوليد ليراها جانبه، واضعة رأسها على صدره وتحتضنه بذراعها، تبدو عليها السكينة التامة وهي مستغرقة في عالم الأحلام، كما أصبحت العادة منذ أول مرة رقد جانبها.
لكن وعلى عكس ما تظنه وتنكر فعله، فإنه لم يكن الذي تسبب في انتهائهما بهذا الوضع، بل هي. بقي مرة مستيقظا ليراها تغير من وضعيتها وتتخذ وضعيتها هذه في نومها.
داعب أعلى كتفها المكشوف فوق الغطاء بأطراف أنامله برقة لا يريد إيقاظها، يفكر بسوء حظه في قطع عمله راحته معها. في هذا الأسبوع تفهم شعور زملائه وتذمرهم من جدول رحلات غير متوقع يبعدهم عن ديارهم لفترة أطول، بدأ يعرف شعور وجود شيء، شخص، يعود لأجله.
=
=
=
دخلت عليه المجلس لتراه يشاهد الأخبار، تقدمها مذيعة مشهورة بجمالها وأناقتها، وكان ذلك سبب سطوع نجمها لدى الرجال خاصة. كم لمحت من صديقة أو زميلة أو إحدى معارفها تقلد طلتها.
مطت شفتيها بامتعاض لتجلس جانبه، وبطبيعتها المحبة للاهتمام تناولت الريموت الموضوع على الطاولة وأطفأت التلفاز.
كان ذلك كفيلا في لفت انتباه زوجها ليقول واهتمامه منصب ناحيتها، كما يجب أن يكون: "جيت الله جابك.. زي ما قلتلك كلفوني برحلات ورا بعض وما لقيت منها مهرب. تبغين تتمي هنا ولا أوديك عند أهلك؟"
أجابته: "عند أهلي.."
ربما سيستغرب أهلها من مكوثها عندهم بهذه السرعة، لكنها ستتعذر بحجة أنهم زوجوها بطيار وعليهم تفهم غيابه. وأيضا، فإن مكوثها عند أهلها أفضل بكثير من البقاء هنا لوحدها.
وكان في ليلتها الأولى عند أهلها أن اكتشفت أنها لا تستطيع الاستغراق في النوم بالسهولة التي كانت تفعل سابقا لسبب ما، تتقلب في استلقائها يمنة ويسرة حتى يداهمها النوم في وقت متأخر من الليل.
وإذا كانت الليلة الأولى صعيبة، فإن الثانية كانت أصعب.
ويا لحظها، ففي اللحظة التي بدأ النعاس يتسلل إلى جفنيها، رن هاتفها بعلو يبعده حد الزوال.
كادت تزمجر عندما ردت: "نعم؟"
ليأتيها صوت الوليد مفعم بحيوية حسدته عليها: "مساء الخير والسعادة لأميرتنا..!"
اعتدلت جالسة، ورجع صوتها إلى طبيعته، بعيد كل البعد عن حدود الزمجرة: "أي مساء؟ الساعة ثلاثة ونص هنا."
رد كأنه يصرف خطأه في التوقيت: "مساء ولا صباح ولا ظهر، المهم اتصلت بالرقم الصح ذي المرة. تخيلي اتصل مشتاق لسموك وانتظر أسمع صوتك اللي يذوب القلب وبدله يجيني صوت رجال يقلع الروح وناوي على شر..! شاشة جوالي في عداد المصابين الله يهداه!"
لم تستطع منع نفسها من الانطلاق ضحكا. لطالما كانت حذرة من الضحك أمام الاخرين لأن ضحكتها كانت أبعد ما يكون عن الرقة والاناقة، بل شبهها جلال مرة بضحكة المشعوذات. لكن مع هذا الرجل كان من المستحيل البقاء صامتة: " الله يهداك إنت، ولا في احد يتصل الساعة ثلاثة ونص في الليل؟"
دافع عن نفسه بإصرار، يتحجج: "قلتلك مشتاق."
ردت: "والمشتاق يتصل بعد يومين؟"
ليسألها بدوره: "هذا عتاب؟"
أدركت ما قالته وكيف بدت كلماتها. نطق هو قبل أن ترد عليه بشيء، والسعادة بادية واضحة في صوته: "والله ما كان عندي وقت، من طيارة لطيارة، ولا من زمان غثيتك باتصالات..!"
تعرف أنه كان صادقا، وهذا الذي جعل الأمر أكثر تعقيدا.
عادت إلى الاستلقاء بعد ما أنهى الوليد اتصاله، تفكر..
لم تكن عمياء.. تستطيع رؤية أن الوليد بدأ يتعلق بها لدرجة كبيرة، لكن مع ذلك لم تستطع تطبيق تلك الخطة التي اقترحتها عليها صديقتها زينب. لا تستطيع التظاهر بحبه ثم البدء في تحطيم قلبه. لا يستحق إنسان لطيف مثل الوليد ذلك.
لا كبرياءها يستطيع نسيان الطريقة التي أُجبرت فيها على هذا الزواج، ولا ضميرها يستطيع القبول بطريقة ترد اعتبارها وإيذاء الوليد كنتيجة.
كانت، وبكل ما في الكلمة من معنى، عالقة.
انتهى البارت..~
|