كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
الرابعة والعشرون
=
=
=
سألها عبد العزيز بنبرة شابها التذمر والخيبة وهو يقود سيارته متجها بها إلى بيت خالتها غادة: "وش معنى تتجهزين في بيت خالتك؟ ليه ما تتجهزين في الشقة وتروحي للقاعة على طول؟"
أجابته كادي مبتسمة وراء نقابها: "خالتي أصرت علينا نتجهز في بيتها." أردفت تطمئنه: "مصيرك بتشوف الصورة النهائية بعدين.."
ليزفر بسخط طريف: "قلتلك ما أعرف للصبر.."
وعند وصولها رأت بيت خالتها في حالة مستمرة من الحركة، وأخصائيات مشغل أسيل يعملن كالنحلات بين النسوة. تعرفت على أقارب ترانيم من أبيها وبضع من صديقات خالتها وترانيم المقربات بينهن.
رأت لمار قد انتهت من تجهزها وزينتها التي كانت كعادتها بسيطة، ترتدي فستانا ناعما بلون السماء، بخليط من الشيفون والستان وأكمامه للمرافق. كانت جالسة في زاوية تحاول جاهدة دفع النوم عنها بإشغال نفسها في جوالها. ضربتها كادي بخفة، تقول بشيء من التسلية والتوبيخ: "مو أنا قلتلك لا تسهري على البحث ووراك عرس ترانيم تحضرينه؟"
تثاءبت لمار قبل أن ترد: "ياختي وش أسوي خلوني مسؤولة مجموعتي.." أكملت بدرامية: "لا يمكن أن أخذل رعيتي..!"
لم تكن كادي منبهرة أبدا بردها، بل أشفقت عليها عندما رأت لمار تكاد تستغرق في النوم جالسة قبل أن تنتبه لنفسها وتصحو لتعيد الكرة مرة أخرى: "لساتنا أنا وأمي ما اشتغلوا علينا، فبيمديك تاخذين لك غفوة على بال ما نخلص.." لم يبدو ذاك الاقتناع على ملامح لمار، لتردف: "دوريلك غرفة فاضية ونامي فيها أحسن لك، ولا تبغين تطيحين علينا نايمة في القاعة؟"
هذا ما أقنع أختها أخيرا، لتتجه إلى ابنة خالتهما الصغيرة سمية وتسألها أي من الغرف كانت شاغرة. لم تسنح لكادي الفرصة في معرفة أي من الغرف انتهى المطاف بلمار، فنداء أخصائية لها شتت انتباهها.
=
=
=
سأل جلال سيف في مجلس الرجال الخارجي قبل ذهابهم للقاعة: "تعرف وين ودت سمية جوالي؟"
صمت سيف لحظات مفكرا قبل أن يهز كتفا، يجيب بكل بساطة: "مدري."
زفر جلال بغيظ: "طيب روح جيبه يلا."
تحلطم سيف كرجل مسن وهو يمتثل لأمره، ليرجع خالي الوفاض لأن سمية نسيت أين وضعت جواله في معمعة البيت، ليتحلطم جلال بدوره: "يضيعون جوالي وأنا اللي أدوره، حالة والله..!"
أخذ طريقا آخر يبعده عن المجلس والصالة المحتلان وإلى الغرف الخاصة، متحققا مسبقا مع سمية التي أكدت له عدم وجود ضيوف في أي من غرف نومهم.
بدأ بغرفته بلا جدوى قبل أن يتجه إلى غرفة سمية، ليجد جواله موضوعا على طاولة التسريحة موصول بالشاحن. تنهد من طبيعة أخته الصغيرة وكثرة نسيانها: "عمرها خمس طعش وتنسى كأنها في السبعين.."
على الأقل تذكرت إعادة شحن جواله.
عندها سمع صوت أنثى يأمره بفزع: "لا تلف! خليك مكانك لا تتحرك!"
"ما في أحد جوا، هاه يا سمية؟ حسابي معاك بعدين!"
كان سيطمئنها ويقول أنه سيذهب دون الالتفات لها لولا توقفه لحظة ليبدر لفكره إدراك..
ألم يكن هذا الصوت مألوفا؟
وقبل أن ينطق باسم صاحبة الصوت، سمع الباب يُفتح وتلقائيا دون تحكم منه رفع نظره إلى مرآة التسريحة، ليرى ظهر من تأكد أنها لمار المبتعد، تصيبه بحمى السماوي الرقيق الذي كانت ترتديه. وعندما تبع أثرها غريزيا، أصابه الإحباط لرؤية أنها اختفت.
أتى صوت سمية اللاهث خلفه يوقظه من سرحانه: "يوه، نسيت إن بنت خالتي لمار نايمة في غرفتي!"
في ظروف أخرى، ربما كان جلال ليرد بحنق: "بدري!" لكن حمى السماوي ما زالت تدير رأسه. لذا لم يتفوه بكلمة يتراجع بحسرة للخارج، لا يلاحظ نظرات سمية المستغربة منه.
=
=
=
رفعت كادي حاجبا عندما رجعت محمرة لاهثة: "مسرع ما رجعتي، اكتفيتي من النوم؟"
ردت لمار بتوتر: "إيه.."
أي نوم تلقاه بعد فزعها ذاك؟ كانت في خضم استسلامها للنعاس على سرير سمية عندما سمعت الباب يُفتح ودخول شخص. لم تعر الأمر اهتماما في بادئ الأمر، ظانة أن الداخل كانت إما سمية أو كادي.. لكن تبين أن ظنونها كانت خاطئة، والداخل كان رجلا.
قفزت لمار هلعا عندما سمعته يكلم نفسه، لتأمره بالالتزام محله حتى تخرج، تكتب معلقات في ذهنها عن ندمها لاستماع نصح كادي وأخذ رأي سمية في النوم في غرفتها.
على الأقل، تجربتها هذه نزعت النعاس منها انتزاعا، وجعلتها يقظة متنبهة لآخر درجة.
ضحكت سمية بتوتر عندما صادفتها: "والله نسيت إنك كنتي فغرفتي. ما تذكرت إلا بعد ما كلمت جلال..!"
الذي دخل الغرفة كان جلال؟
تناست الأمر، تحمد الله أن الذي دخل لم يكن إلا من ارتبطت به، وزودت صوتها بحزم نادر منها تنبه سمية: "ما عليه حصل خير، بس ثاني مرة انتبهي. لا تودي الناس بداهية بسبة نسيانك..!"
=
=
=
عندما اتصلت منال بها طالبة خدمات مشغلها من أجل عرس ابنة أختها، توقعت أن تلقى زوجة شاهين الجديدة أثناء التحضيرات، ليأتي اليوم الموعود وتصيبها خيبة غيورة من معرفتها أن شاهين سيوصلها للقاعة مباشرة.
كانت من أروع الحفلات التي حضرتها، حفلة زفاف ترانيم. لكنها لم تستطع الاستمتاع بها وهي تترقب رؤية من كانت السبب الأول في حضورها.
سمعت ابنة منال الصغرى لمار تهتف لنفسها لمرآى امرأة تمشي مقتربة: "للحظة حسبت إنها ما راح تجي.."
لا تذكر رؤية امرأة مثل هذه في أي تجمع حضرته، ولابد أن الكثيرات شاركن رأيها، فقد كانت الأنظار الفضولية متجهة نحوها، والهمسات المثرثرة تصدح في إثرها.
لا عجب، فهذه المرأة كانت ملفتة في جمالها الذي لا يحتاج لأي زينة ليبرز، ولا أي مبالغات في تصفيف الشعر. كانت ترتدي فستانا مخمليا أنيقا طويل الأكمام، ذا لون بنفسجي داكن يلمع فاتحا في الثنايا التي انعكس الضوء عليها. أكملت طلتها بأقراط ذهبية تتدلى من أذنيها، وحقيبة صغيرة بنفس لون فستانها بين يديها.
تقدمت إلى لمار تسلم عليها، تسألها عن مكان جلوسها، لترشدها لمار إلى طاولة قريبة كانت أم عبد الرحمن تجلس عندها.
حرك الفضول المتوجس أسيل لتسأل لمار حال رحيل المرأة عن نطاق السمع: "مين هذي؟ ما أظن إني شفتها قبل.."
لتجيبها لمار، تخطو مبتعدة عنها لاستدعاء أمها لها، لا ترى وقع إجابتها في أسيل: "هذي زوجة خالي شاهين."
=
=
=
لأول حفل تحضره، كانت منتهى تشعر بالضجر. أهكذا كانت الأعراس عادة؟ بهذه الضجة والمعمعة؟ إذا كان الوضع كذلك، فلم يفتها شيء.
تكفلت أم عبد الرحمن بتعريفها إلى الحاضرات والصلات التي تجمعهم، وعلى الرغم من تحفظها تجاهها، فإن منتهى قدرت لها مساعدتها هذه على الأقل.
لفتت أم عبد الرحمن نظرها إلى امرأة مرت جانبهم، تلقي بنظرة مثقلة بالمعاني لها، نظرة رأتها في أم كادي قبل سنين، قبل أن تكمل سيرها: "هذي أسيل، بنت صاحبة منال." ابتسمت لها بمواساة، تردف بشيء من التردد: "من بعد طلاق شاهين الأول ومنال تحاول تجمعها فيه، وما أظن وقفت محاولاتها، صح..؟"
(أنا واثقة إن أسيل بتداريك وما بتلقى أحسن منها. لا تروح من يدك..)
إذا هذه أسيل..
لم تجبها، تخمن أن أم عبد الرحمن تريد إشعال شعلة اعتمادا على ردة فعلها، لذا قررت ألا تعطيها شيئا، تشغل نفسها بحلوى لم تستسغ طعمها.
وكان عندما انزعجت من الضجة بشكل مفرط أن قالت أنها ستذهب لدورة المياه، التي تبين أنها كانت أكثر الأماكن هدوءا في هذه القاعة، خصوصا عندما تم إعلان قرب الزفة.
لكن.. لم تمضي دقيقة إلا وتم قطع عزلتها، وكانت معرفة من كانت الدخيلة مفاجأة.
أسيل.
لم تتأخر في إعلان سبب لحاقها الواضح بها: "بصراحة، لساتني مانيب مصدقة إن شاهين سواها وتزوجك. مانيب مصدقة إن فيه ناس عديمين إحساس مثلك..! كيف ترضي تتزوجين واحد كنتي ضرة أخته؟ لا، وبعد العدة على طول. ليه، ما صدقتي خبر؟"
كانت ابتسامة منتهى لاذعة عندما ردت، ترفع حاجبا بتحدي: "وبصفتك مين تتكلمين عن زوجي كذا؟" أكملت عندما لاحظت تلعثم الأخرى بسبب ردها: "راح أغض النظر عن كل اللي قلتيه، بس ثاني مرة لا تحشري نفسك في أمور ما تخصك."
تركتها دون إزعاج نفسها بسماع ردها.
=
=
=
غريب، كيف كان من المفترض أن تكون زوجة شاهين مكسورة الجناح، ضعيفة سهلة التسيير، لتواجه صعوبة في معرفة إذا كانت تنجح أم لا.
تذكر استخدام أسيل كحافز مع ابنة أختها نسيم، تثير غيرتها عندما لم تكن منال تعتبر أسيل مرشحة لأخيها حتى. هاجس زواج شاهين عليها دفع نسيم لحدود الجنون.
والآن، عندما كان لأسيل الأفضلية في كل شيء، فإنها لم تتبين من منتهى شيء، ولا تظن أنها ستفعل. بدأت تستسلم معها بحق.
لمحت عندها أسيل خارجة تلقي بنظرات تتطاير حقدا لمنتهى، وابتسمت.
ربما سيكون عليها قلب موازين اللعبة، وتغيير من ستستخدمهم كبيادق.
=
=
=
نبه شاهين جلال، يلحظه يرشق زوج ترانيم بنظرات حادة كان الآخر غافلا عنها وهو يتلقى التبريكات والتهاني من الحاضرين: "لا تذبح الرجال بنظراتك."
رد بحمية أخ على أخته: "أعرف ترانيم ويباس راسها، لساتني مانيب مصدق إنها وافقت عليه بالساهل كذا."
كم ذكره بنفسه.. لكن على الأقل كان جلال أكثر ضبطا لنفسه منه في صغره، فقد كاد يتسبب في كارثة في حفل زفاف منال لولا تدخل وتوبيخ أبيه الشديد له. تنهد: "سألت عنه وما لقيت إلا الكلام الزين. إنت بس ادعي ربك يوفق أختك وبلاها رمي السهام ذا. روح قم بالمعازيم مع أبوك أبرك لك."
من الفرحة البادية في زوج أخته سامر، بدا كأنه هو العريس. أكان مطمئنا للوليد إلى هذه الدرجة؟
زفر جلال بضيق، لكنه سرعان ما بدا كأنه أدرك شيئا، يسأله على توجس: "خالي.. متى قلت بتكون حفلة زواجي؟"
أجابه شاهين وابتسامة تسلية تبدأ في الارتسام على شفتيه: "بعد ما تتخرج لمار."
ليسأله جلال مرة أخرى، بإصرار جعل من إجابته مصيرية: "ومتى تخرجها؟"
"أثاري الولد رايح في خرايطها.." رد ببرود: "توها بادية في السمستر قبل الأخير، فيمكن ست لسبع شهور."
بدت الصدمة واضحة على وجه جلال: "تمزح صح؟"
مثل شاهين اللامبالاة وهو يريد أن يضحك: "تحقق إذا مو مصدقني."
في بادئ الأمر كان شاهين يريد تلقين ابن أخته درسا وجعله يتقبل زواجه بلمار بعيدا عن غروره، فلا يريده أن يُشعر لمار أنه يتفضل عليها. لم يظنه سيتعلق بها إلى هذه الدرجة، لكن يبدو أن قلب جلال كان أكثر طراوة من المتوقع.
لو لم يسليه رؤيته يتخبط بين كبريائه الذي يمنعه من الاستسلام وشغفه الجديد، ربما كان شاهين ليرحمه.
=
=
=
لم يدر الوليد بما يشعر، الترقب أم التوتر أم الفضول؟
هاهي ليلة زواجه، من إنسانة لا يعرف أي تفصيل عنها، ولا حتى هيئتها.
لكن لا يهم، فهو مرتاح في خطوه خطوته هذه. سيناسب خاله سامر وسيكون في شقته صوت غير صدى الوحدة. لا تهمه هيئة عروسه فهو متقبل لها في كل حال، قد قطع عهدا على نفسه بألا يصلها ضيم منه، ألا يكون تكرارا لظلم أبيه لأمه.
لكنه تفاجأ عند رؤية عروسه أخيرا.
من صفاء بشرتها الذي أبرزه فستان زفافها اللؤلؤي، من شعرها النبيذي المصبوغ المموج بأناقة، من ملامحها البهية في حسنها، إلى روعة لمعة عيونها البنية.. بدت كأميرة في أحد الحكايا، ولم يصدق حظه.
لكن، أكان يخيل له، أم أنه رأى لمحة من الحزن في عيونها؟
=
=
=
مهما حاولت التناسي، فإن ترانيم لم تستطع مشاركة فرحة الناس بها، فشعور بالغبن يسيرها، وغصة دام دفعها بعيدا أمام الناس ليوم بدا كدهر، لينتهي بهدوء جناح الفندق الذي حُجز لهذه الليلة.
جالسة جانب من ظفر بها عنوة بعد تبديل ملابسها لأخرى أكثر راحة وصلاتهما، وجدت ترانيم الخجل يخالط عواصف أفكارها، فما زالت شابة لم يختلي بها مكان قط مع رجل.
لاحظته يحدق بها بطرف عينها، لتتوتر أكثر. ما خطبه؟
وكأنه أحس بمسار أفكارها، قال: "معليش بس ما توقعت إنك حلوة كذا. أحس إن صار فيه غلط وبياخذوك مني."
فاجأتها، عفوية غزله وأريحية ابتسامته. تعترف بمضض أنها أُعجبت بملامحه، وسيم بطريقة لم تجد لها وصفا سوى شقية.
رغما عنها أرضى كلامه غرورها كأنثى، خصوصا عندما أردف لنفسه وابتسامته تتسع لرؤيتها تنظر إليه مباشرة للحظة: "الله أنعم عليك يا الوليد.."
صدح عندها صوت جوال لم يكن لها بإصرار، ليلتقطه ويقطب حاجبيه لرؤية المتصل، يعتذر منها ليخطو خارج غرفة النوم وإلى مجلس الجناح. وكان بعد فترة ضجرت من البقاء لوحدها أن اقتربت من باب غرفة النوم المفتوح وسمعت مقتطفات من حديثه على جواله. مستنتجة أنه كان يحاول إقناع شخص في أخذ مكانه لعمل ما دون فائدة.
قضت ليلتها هكذا، ما بين جلوسها على السرير والاستماع لتقدم الوليد في مهمة إقناعه الغريبة تلك.. لكن في آخر مرة لم تسمع منه شيئا، وخطت خارجة لتراه قد استغرق في النوم.. جالسا.
"وأنا اللي كنت متعجبة من بنت خالتي ونوماتها، يجيني هذا اللي يقدر ينام جالس!"
شعرت بالغيظ الكاسح. حتى لو كانت مجبرة، فلا يرضيها أبدا أن يتم تجاهلها هكذا!
انتهى البارت..~
|