كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
الثانية والعشرون
=
=
=
عاد شاهين إلى جناحه ليلقي السلام عليها، لترد هي السلام وتسأله سؤالها المعهود.
(محتاج شي..؟)
بدل النفي، جلس على الكرسي المقابل لها، يلاحظ تتبع منتهى المستفسر له عن هذا التغير في الروتين، قبل أن يطرح سؤالا راوده منذ إخبار لمار له عن تلك الحفلة التي منعت من حضورها، وما أخفت تلك الدعوة لها من مصائب: "بسألك سؤال وأبغى منك تجاوبيه.."
وضعت الكتاب الذي كانت تقرأه جانبا، تبتسم بتسلية متهكمة، تميل للأمام تعطيه كل انتباهها، وحتى مع ذلك فلا ينكر شاهين مدى فتنة ابتسامتها تلك: "بنخلي تبادل الأسئلة شي مستمر بيننا؟"
ليجيبها بهدوء: "ليش لا؟" ربما كان كما وصفته لمار تماما، محب تام للسيطرة، ففكرة عدم معرفته التامة بكل ما في جعبة هذه المرأة تؤرقه وتشغل تفكيره: "أسألك شي، وبالمقابل تسأليني اللي تبغين."
يعرف أنه كان يلعب بالنار، وأثبتت تلك اللمعة في عيونها ذلك: "مهما كان؟"
فضوله أضعفه. أكد: "مهما كان.."
عندما أومأت له بالقبول، سأل: "من وين عرفتي عن سوايا شذى المرزوق؟"
لاحظ تلك التسلية تنسحب من ملامها فجأة، ويحل بدلها وجوم حذر جعل من ألق عيونها خافتا حد الزوال. أجابته بسكون: "كانت أخت واحد.."
ليسأل على الفور وحدة ما اكتست هدوء نبرته: "والواحد هذا مين؟"
أجابته: "طليقي.." استطردت كأنها لا تريد السماح له بالاستفسار أكثر. حسنا إذا..: "من الثانوي كانت عندها سالفة استدراج بنات على نياتهم لحفلاتها وتوريطهم بمصايب تستبزهم فيها بعدها. أذكر إنها كانت تتعمد ترسب عشان تتم في المدرسة، ولما ما قدرت تطول أكثر من كذا بدت سالفتها مرة ثانية في الجامعة اللي تدرس فيها لمار. لما حكت لمار عن طاري حفلة، بالي على طول راح لشذى.."
ولولا الله ثم تدخل منتهى، كانت لمار ستصبح ضحية أخرى لتلك الدنيئة..
وجد شاهين نفسه يبتسم بعرفان، ودفء امتنانه يتسلل إلى صوته عندما قال، يعني كل كلمة: "مشكورة، حفظتي بنت أختي في موضع كنت غافل عنه.."
خليط من العجب والاستغراب، من عدم التصديق والتفاجؤ، مر كلمحات سريعة في عيونها، لتشيح نظرها بعيدا عنه، تحرمه من رؤية تعابير وجهها، ترد عليه بخفوت: "العفو، ما سويت شي يا أبو نادر.."
=
=
=
منذ بدئها العيش مع أبو نادر في جناحه، فإنها لم تتعدَ حدود ركن الجلوس لغرفة النوم إلا للذهاب لدورة المياه أو استخراج غرض لها من غرفة التبديل.
كانت قد أنهت توضأها للفجر وتهم بالعودة لركن الجلوس عندما استوقفها صوت آت من جهة السرير، همهمات وأنفاس متلاحقة حكت عن شيء واحد: كابوس.
لا تدري ما الذي سيرها لتتجه جهة السرير، تجلس على طرفه وتمد يدا مترددة تهز كتف أبو نادر لتوقظه. قفز هو جالسا من اللحظة التي لمسته فيها، وحتى مع الإضاءة الخافتة التي أتت من الخارج، لاحظت أن الطريقة التي نظر إليها بها لم تكن إلا لشخص لم يستوعب استيقاظه من عالم كوابيسه.
قالت له نفس الكلمات التي ترددها لنفسها كل مرة راودها كابوسها الدائم: "تعوذ من الشيطان يا أبو نادر، مجرد كابوس وعدى، إنت بخير اللحين.."
عندما لاحظت عودة أنفاسه للهدوء بعد زخم لاهث، نهضت ليستوقفها سؤاله، نبرته التي خالطها الغضب المتوجس: "وش كنتي تسوينه هنا؟"
التفتت له لتقول: "كنت بتوضأ، الفجر قريب."
لم يسألها شيئا بعدها، وأخذت تلك كإشارة لتذهب.
=
=
=
شيء آخر جعله مضربا عن الزواج: كونه غير واع بما يفعله أثناء نومه.
يذكر كيف كانت تسأله زوجته السابقة نسيم عن كوابيسه، وعندما ظل غير مجيب لها لمدة قالت أن سبب سؤالها هو إيذائه لها أثناء نومه، حتى أصبحت تتجنب الرقاد جانبه. كم من مرة قالت أن غيرها لن تتحمل أفعاله تلك..
كم غضب من نفسه عندما رأته منتهى في لحظة ضعفه تلك، وكم كره أكثر فكرة إيذائه لها في تلك اللحظات قبل أن استعادة وعيه على هدوء صوتها وهي تنصحه، على صفحة وجهها الصافية الندية بماء الوضوء.
قال لها بعد رجوعه من الصلاة متنهدا: "آسف لو أذيتك وأنا نايم.."
لتجيب على الفور: "ما أذيتني بشي."
ابتسم بسخرية: "ماله داعي تخبين.."
نطقت: "أبو نادر.." وصرامة نبرتها جعلته يمعن النظر فيها، ليرى اليقين والثقة في عيونها قبل أن تردف: "لو كان عندي الظن إنك بتأذيني ما كنت بقبل فيك، ولو أذيتني ما كنت بتشوفني قدامك اللحين."
كررت بثبات، كأنها تحفر كلماتها في جلمود فكره: "ما أذيتني.."
غريب، كيف أنه صدق كل كلمة قالتها. غريب أكثر، كيف بعث ردها فيه راحة غامرة.
=
=
=
لأيام اشتكت أمها من عدم تواصل صديقتها منال معها، انقطاعها عنها وتجاهل اتصالاتها.. إلى أن ردت عليها منال وألقت على مسامع أمها خبرا، وعلى قلب أسيل قنبلة.
(تذكر سؤالها أختها صفاء، بتلبد عواطف هش، يغطي الطوفان تحته: "أنا وش ناقصني؟"
لم ترد صفاء بشيء، تنظر إليها بعجز مستاء.
أردفت تضحك بقهر: "قبل وحدة ما تسوى، واللحين المرة اللي تطلقت أخته بسبتها؟ ليه.. ليه مو راضي يناظر جهتي؟!"
حاولت صفاء التخفيف عنها: "خلاص يا أسيل انسيه، هو مو داري عنك وإنتي تقطعين نفسك عشانه! يمكن هذي نعمة من ربي تخليك تشوفين نصيبك في غيره.."
هزت أسيل رأسها باعتراض يائس، تستفزها وتحزنها بحق حقيقة أنه لا يدري عنها، تبني أحلاما يحلق هو بعيدا عنها: "وأنا مابي غيره..")
منذ ذلك اليوم وأسيل تريد أن تراها، تريد أن ترى من التي فضلها شاهين عليها هذه المرة وهي لا تستحق.
=
=
=
رأى من أصبحت زوجة ابنه جالسة لوحدها في حديقة البيت، يبدو عليها سرحانها في التفكير.
أفكاره كانت مختلطة تجاه هذه المرأة، تزيد من تشويشها القصص ووجهات النظر المتعددة التي يحملها الناس عنها.
لكن عبد المحسن كان متأكدا من شيء واحد، مهما بلغ تحفظه تجاهها، فلن يسمح أن يصيبها ضيم في كنف بيته، ليس وهي وصية تكفل في اتمام تنفيذها.
سألها عن شاهين ومعاملته إياها، فكم خشي أن يغلب حبه لأخته منال على الواجب والعهد، منتقما لما تسببت به. كم خشي أن تكرر شكاوي ومآسي طليقة ابنه..
لكنها فاجأته عندما أجابته، بثقة عرف أنها تعني ما تقوله: "ما شفت من أبو نادر إلا الخير، رجال والنعم.."
ابتسم عبد المحسن والفخر يتسلل لقلبه المثقل بالخيبة تجاه ابنه الوحيد، وشيء من التعاطف تجاه هذه المرأة: "لو ضرك ولدي بشي لا تحسبي إن ما وراك أحد. قولي وبوريه شغله."
ملامحها تشكلت بعدد لا يحصى من الردود والأسئلة، لكنها في الأخير اكتفت بإيماءة: "تسلم يا أبو شاهين، هذا من طيب أصلك.."
=
=
=
باغتت لمار زوجة خالها بالسؤال: "كيف تعامل خالي معاك؟" وعندما بدا على الأخرى الاستغراب من سؤالها المفاجئ، حاولت صرف النظر عن شعورها بالقلق حيال معيشتها الجديدة في بيت جدها بالمزاح والاستظراف: "قاعدة أحاول أثبت فرضية."
كررت زوجة خالها، لا يبدو عليها تصديقها أبدا: "فرضية؟"
أومأت لمار بنعم: "فرضية إن أي أحد فيه دم الجبر لازم يكون فيه عرق رومانسية."
صمتت زوجة خالها، كإشارة لأن تكمل، كصدمة مما قالته؟ لا تدري. المهم أنها أكملت: "أكبر إثبات روميو زمانه جدي وقصته مع جدتي عزيزة. عندك خالتي غادة اللي قصتها مع زوجها قصة وأمي بعد.. حتى كادي اللي دوم تقول إن ما عندها خرابيط الرومانسية تروح توزع ابتسامات كل مرة يرسلها الدختور حقها مسج. مدري عن خالي عبد الرحمن، بش شكله واحد رومانسي ورايق. أما عن خالي شاهين، متعشمة فيه خير كثير!"
لا تذكر تفاصيل كثيرة من زواج خالها الأول، لكنها تذكر أنه كان سخيا مع زوجته ذلك الوقت ولا يقصر معها بشيء، حتى لو لم يبدُ أنه يحبها. إذا أحب وبصدق، فلابد أنه سيبذل الضعف!
ابتسمت زوجة خالها بخبث تراه لأول مرة: "إذا كذا، جربي فرضيتك على ولد خالتك وبشرينا."
وعندما تلعثمت لمار خجلة لا تعرف بماذا ترد، انطلقت زوجة خالها في الضحك بنعومة تُحسد عليها، تخفي ملامحها الضاحكة بكفها.
=
=
=
أيام تمضي، وشاهين يقضيها في تحليل زوجته، مراقبتها عن كثب لأسباب لا تتعلق بالماضي. أحيانا يتحجج لنفسه أنه يراقبها ليشغل نفسه، أحيان أخرى حجته كانت فضوله، وأحيانا.. أحيانا يقر أن أسبابه مختلفة تماما عما كان هو مرتاح بالإعتراف به..
لاحظ مجموعة كتبها التي أحضرتها معها، اختلاف مواضيعها وعشوائيتها، وأكثر من ذلك، قلتها وعودة منتهى لقراءة أحدها أكثر من مرة.
لاحظ حرصها الشديد على لبس كل ما هو طويل وواسع، على عدم التزين.. لكن، أمثلها تحتاج للتزين أصلا؟
لاحظ أخذها لكريمات بشرة وترطيب معها لدورة المياه، حتى تلك الخاصة بالأيدي.
لاحظ قراءتها وردها في أوقات متأخرة من الليل، وأحيانا عندما لا يزوره النوم، يقف على عتبة باب غرفة نومه يستمع لتلاوة صوتها الرخيم الهادئ.
لاحظ معدومية طلباتها. حتى عندما دنا وقت التجهز لعرس ابنة أخته ترانيم، لم تفترق شفاهها بطلب الذهاب للسوق.
لاحظ قلة نومها والإرهاق الذي تبعه. لا يذكر حتى رؤيتها نائمة مرة.
الأهم أنه لاحظ تشكيل باله لإجابة ما، كل مرة سألته إذا كان يحتاج منها شيئا، لكن إلى هذه اللحظة لا يستطيع تبين ماهية إجابته تلك.
رجع أبكر من المعتاد الليلة، ليراها وياللعجب، نائمة. لم يكن ليقترب ويزعجها، لكن منظرها هذا كان جديدا عليه. اقترب حتى انحنى يتمعن في ملامحها، كيف بدت جميلة وديعة بشكل مؤلم وهي مستسلمة تماما للنوم، تجعله يدرك المقدار الهائل من الحواجز الي تضعها في يقظتها.
مد يده ينتوي إبعاد خصلة شريدة من على صفحة خدها كأنه مسحور، لكن لحظة لمس طرف أحد أنامله لبشرتها استيقظت هي تقفز جالسة، بعيدا عن لمسة يده، تنظر إليه بعدم استيعاب خالطه.. الهلع.
استقام في وقوفه يكبت شعورا مريرا غير مبرر بعدم الرضا اجتاحه على حين غرة. سألها: "تعشيتي؟"
لم تجبه لبضع لحظات، لتنظر إليه بعدها وكأنها جلدت نفسها بمئات الأقنعة، تجيبه بهدوئها المعهود: "لا.."
منذ أن خيرها بين النزول وتناول الطعام مع باقي أفراد العائلة وإحضار وجباتها لجناحه ومنتهى قد اختارت جناحه: "طيب قومي، بيجيبون العشا بعد شوي.."
امتثلت لما قاله، ومشت مبتعدة بخطاها عنه وظل هو ينظر في إثرها، لا يستطيع إلا التساؤل عن سبب ردة فعلها تلك تجاه لمسته.
=
=
=
ما إن انتهت من صلاة العشاء حتى استلقت تعبة لتستغرق في النوم على الفور.
لم تعهد نفسها بتلك التي تنام بسهولة منذ سنين بدت كدهر، لكن ربما كان لقدرة جسدها على تحمل أرقها حدود. دعكت عيونها تفكر بحاجتها لشراء منوماتها، فمنذ أن انتهت آخر حزمة لم تشتر أخرى.
عادت بعد اغتسالها لترى أبو نادر ما زال في ركن الجلوس، جانب أطباق مغطاة خمنت أنها تحوي العشاء الذي نسيت أمره في تفكيرها.
تشدق هو لمرآها عائدة: "العشا صار ثلج.."
هزت كتفا دون مبالاة، تجلس: "عادي عندي.."
مال متقدما في جلوسه: "بس أنا مو عادي عندي. ثاني مرة استعجلي لما الناس ينتظرونك."
رمشت تستوعب: "إنت.. ما تعشيت؟"
رفع حاجبا: "ما كان واضح؟"
شيء في إجابته ما زال يزيدها عجبا: "ليش انتظرتني طيب؟"
ليرد عليها: "ليش لا..؟"
لطالما ارتبطت فكرة وجبات الطعام لديها بالأكل لوحدها، بعد أن ينتهي الناس ويتفرقوا لشؤونهم، حتى غدت لا تكترث لحضور تجمع مائدة ولا وقتها.
ربما لن يعلم أبو نادر بوقع ما قاله في روحها، فعله دون دراية شيئا لم يفعله أحد لأجلها قط:
انتظارها..
انتهى البارت..~
|