كاتب الموضوع :
الفيورا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: الأرواح تحت الأقنعة بقلمي / الفيورا
السادسة عشر
=
=
=
مضى أسبوعان منذ انتقالها للعيش مع عبد العزيز في شقته، شقته التي لاقت إعجابها واستحسانها ببنائها وملائمة الأثاث الذي اختارته مع هدى لها. قد ذكر عبد العزيز أن مالك المبنى كان مريضا أسعفه قبل سنة، وعندما صدف والتقيا وهو يبحث عن شقة مناسبة لهما، أصر عليه أن يختار مبنى شققه للعيش فيه مقابل خفض سعر الإيجار عليه بدرجة كبيرة.
لكن كانت هناك تفاصيل هنا وهناك جعلت كادي تتردد في قول أن العيش في شقتهما كان مثاليا. أكبر مثال كان جيرانهم غريبو الأطوار.
(كالزوجين الذين يعيشان في الشقة فوقهم، تسمع كادي جدالهم الصاخب في أوقات محددة بشكل عجيب عندما تقف المطبخ أو في المجلس. الغريب أنها متأكدة أنه لم يكن من السهولة أبدا سماع صوت أحد من الشقق المجاورة لهم، فكيف يصلها صوت جدالهما كل يوم؟!
كالجار في الشقة مقابلهم، البخيل بلا حياء، الذي كان يتعمد طلب التوصيل من المطاعم إلى شقتهم بدلا من شقته حتى يدفعوا عنه، ليأتي بعدها يطالب بطعامه. كان الشيء الوحيد الذي فصل بين وجهه وقبضة يد عبد العزيز هو رجاء كادي له بعدم افتعال مشكلة، لكن بعد المرة الثالثة تركت عبد العزيز يفعل ما يشاء، ولم يتعرضا لمضايقاته منذ ذلك الحين.
وأيضا كان هناك جارهم المسن في الشقة تحتهم، الذي ما إن سمع أن عبد العزيز كان طبيبا حتى بدأ يأتي له يطلب تشخيصه لأتفه شيء ضايقه، بل جلب بضع من أفراد عائلته معه مرات. اكتشفت عندها كادي أن عبد العزيز كان لينا بشكل شديد مع المسنين، وفسر ذلك مسايرته للعجوز وفحصه بجدية كل مرة.
ولا تنسى أيضا اجتماعات نسوة الشقق الأسبوعية التي لا تدري كادي إلى الآن كيف انتهى المطاف بها في حضورها، ولا تزال تبحث عن عذر يعفيها منها نهائيا).
وبعيدا عن الجيران، فإن العيش مع عبد العزيز لم يكن بذلك التقليدي، فهو أبدا لا ينام في الأوقات المعتادة كسائر البشر، ومنذ استئنافه لعمله قبل أسبوع، اكتشفت كادي أنه لم يكن لديه نوبات عمل طبيعية أيضا، فتارة يبقى معها اليوم بأكمله، وتارة لا تراه يوما كاملا، تارة نصف يوم وتارة ربعه أو ثلثيه. الشيء الوحيد الذي ألهى خاطرها من حقيقة أنها كانت تفتقد وجوده وبشدة كان عملها الذي قررت البدء فيه وقطع الإجازة التي أخذتها.
تعرف أنها وافقت عليه وهي عالمة تمام العلم بمهنته وما تتطلبه، بل عدتها كإيجابية وقتها، فكيف ستتعلق بشخص سيكون شبه غائب عنها على الدوام؟
لكنها لم تتوقع أن تلحظ غيابه ذاك، أن تكترث به لدرجة الاستياء، أن يغمرها الحبور في الأيام التي يبقى فيها معها.
شعرت كادي كما لو أنها قد وقعت في فخ، والمصيبة أنها لا تدري من أي نوع.
=
=
=
سألت لمار زوجة أبيها بترقب: "ها، وش رأيك؟"
لوحت زوجة أبيها بالملعقة الصغيرة التي كانت تأكل بها الكيك الذي صنعته لمار، بإيقاع متسلي مغيظ: "التقديم سيء، البناء هش.."
قاطعتها لمار: "تفاصيل جانبية! أهم شي الطعم.. كيفه؟"
أجابتها أخيرا، بتلك الابتسامة المائلة التي أصبحت جزءا منها، تدل على أنها في مزاج رائق: "حلو.. يجي منك."
هتفت بثقة: "أدري إنه حلو! سويته بعد معاناة وصراع مرير، لازم يطلع كذا ولا كنت بسوي هوايل..!"
نظرت زوجة أبيها إلى صينية الكيك الكبيرة التي أحضرتها لمار معها، ولاحظت السرور البادي عليها: "مشكورة، ما كان له داعي تكلفي على نفسك كذا.."
ضحكت لمار بخفة، ترد بأريحية: "عادي ما كان فيها شي وربي!" أكملت بخفوت شارد: "وأصلا أشغل بالي شوي عن أشياء.."
عرفت من نظرة الأخرى الصامتة أنها تستحثها على الاسترسال في الكلام، ولكونها لا تحتاج دافعا في البدء في الثرثرة، بدأت تحكي عن تطورات الأيام الماضية وعن حيرتها في أمر خطبتها، أمر لم تعلم أمها ولا كادي به بعد، فلا تريد أن تشعر أمها بالذنب، ولا تريد إزعاج كادي وهي في أسابيعها الأولى من زواجها.
تمهلت زوجة أبيها لحظة قبل أن تقول: "استخيري وشوفي اللي قلبك يرتاح له، بس أبدا لا توافقي تتزوجين عشان تهربين من وضع."
لم يفت لمار نبرة المرارة في صوت زوجة أبيها وتساءلت في نفسها، أكانت تلك نصيحة مجربة؟
وحقا، بدأت لمار تزن خطبتها هذه بين ميزانين، بين تبعات موافقتها أو رفضها، بين الإيجابيات والسلبيات، إلى أن توصلت إلى قرار.
صحيح أن خالها سيجد لها حلا آخر مع أعمامها إذا رفضت، صحيح أن جلال لم يكن أبدا شخصا فكرت في الارتباط به، لكن قدر خالها شاهين غال في قلبها، ولا تريد أن ترفض أكثر حل هو مرتاح له، وعن جلال، فلا تظن أن خالها رشحه لها إلا وهو متأكد منه ومن جدارته.
بقي فقط عدم تأكدها من أمر الزواج بأكمله الذي بقي يقض مضجعها حتى بعد أن استخارت وشعرت بالراحة تجاه جلال.
وعندما أتت لخالها تصارحه بما توصلت إليه، فكر لحظة قبل أن يقول: "وش رأيك تملكون فذي اليومين، والعرس بيكون بعد تخرجك؟ ما بيقدر أعمامك يسوون شي وإنت متملكة، وبيمديك تتأقلمي مع الفكرة."
انتباها الخجل عنوة عندما أدركت أنها استحسنت فكرته، أنها كانت موافقة. وعندما أومأت بقبول، ابتسم خالها برضا: "أجل خليني أعطي جلال خبر.."
=
=
=
كانت غالية ترتب مقاضي البيت التي أرسلت أخاها الصغير ربيع لإحضارها من بقالة القرية، وفي خضم ترتيبها لمحت مغلفات من حلواها المفضلة. لا تذكر تكليفها ربيع بإحضارها لها، ولا تظن أن ربيع قد اشتراها لنفسه، فلا أحد في بيتهم يحب هذا الصنف سواها هي.
ذهبت إلى ربيع تسأله وفي رأسها يتشكل احتمال ما: "وين الباقي يا الأخو؟ شغل الدس هذا ما بينفع معي."
تحلطم ربيع قبل أن يعطيها ما بقي.. أو بالأحرى، المبلغ نفسه الذي أعطته ليشتري المقاضي. لوحت بالأوراق النقدية بسؤال: "وش معنى ذا؟"
ابتسم ربيع عندها، يشير إلى الكيس المليء جانبه: "إيه، ذكرتيني! شفت سويلم في البقالة ودفع هو عني. عزمني اشتري اللي أبي حتى." استطرد وهو ينظر إليها بشيء من العتاب وعدم الفهم: "له فقدة والله.. مدري إلى متى بتتمي زعلانة منه..!"
الوحيد من إخوتها الذي لم يعرف بحقيقة وضعها مع سالم كان ربيع لصغر سنه، فكلهم أعطوه الفكرة أن غالية هنا بإرادتها هي. لطالما كان سالم ذا علاقة جيدة مع إخوتها، حتى أنهم تفهموا سبب انقطاعه المؤقت عنهم رغم عدم رضاهم عن طوله، فكلام أبيهم كان مهينا جارحا لا يرضاه حر على نفسه.
بصمت أرجعت لربيع المبلغ الذي أخذت منه قبل أن تعود إلى المطبخ، إلى النظر إلى مغلفات الحلوى بمزيج مُر من الشجن والسرور.
=
=
=
اتصل خاله به، يقول: "البنت موافقة."
ليرد جلال بثقة مغترة: "كنت أدري إنها بتوافق، ما يبغالها سؤال يا خال..!"
سمع تنهد خاله بسأم في السماعة قبل أن يكمل: "بتملكون بعد الخطبة على طول عشان نسد الطريق على أعمامها، وعرسكم بيكون بعد تخرجها."
رفع حاجبا من هذا الجدول، لكنه لم يعترض: "طيب، خير إن شاء الله.."
ليقول خاله بنبرة تفكير: "الحمد لله إنك مو مستعجل، لأني ما أبغاك تشتتها وهي في سنة تخرجها."
"كأني ميت وولهان عليها عشان أتعب نفسي وأشغلها.." رد عليه يسايره: "لا تخاف يا خال، ما بزعجها ولا بقابلها إلا ليلة العرس."
ليقول خاله وشيء من الخبث يتسلل إلى صوته لم يفهم جلال مغزاه: "بخليك عند وعدك ذا يا ولد أختي." أردف ونبرته تعود للحيادية: "اللحين كلم أبوك وأمك عشان نخلي الأمور رسمية."
قرر البدء بأمه، فأليست هي من سعى وراء زواجه بإصرار؟ إذا، آن الوقت لإنهاء سعيها ذاك.
كانت أمه تشرب قهوة وتتفحص مجلة في مجلس النساء عندما أتى يبدأ يقول دون مقدمات: "نويت أخطب يمه.."
شرقت أمه بفنجانها ليتجه إليها يربت على ظهرها وهي تسعل، حتى هدأت وأشارت له بالابتعاد لتقول: "لا تلعب مقلب علي زي المرة اللي فاتت، لما قلت ناوي تخطب بنت شاهين اللي بعدها ما جات على الدنيا!"
رفع جلال يديه بمسايسة: "لا، لا. وش الظن الشين ذا؟ السالفة وما فيها إني شفت خالي مزودها بتأخيره في توصيل عروس أحلامي لي وقلت خليني أمضي في حياتي وأشوف مستقبلي وأفرح أمي.."
لم يبد على أمه التأثر بالمشهد المسرحي الذي مثله: "بنت مين اللي ناوي تخطبها؟"
جلس جانبها راسما أعرض ابتسامة يمكنه رسمها: "البنت ذي تعرفيها وتعرفي أهلها أكثر من أي أحد.."
بدا على أمه الاستغراب التام والفضول المتزايد، تكرر سؤالها: "طيب مين؟"
أجابها أخيرا: "لمار، بنت خالتي منال."
ضيقت أمه عيونها بعد لحظة صمت تستوعب إجابته: "ما قلتلك لا تلعب مقلب علي؟!"
استغرب من ردة فعلها هذه: "وأنا أتكلم من جد. أبي أخطب لمار."
حدقت به تبحث عن أي دليل يقول لها أنه يكذب ولم تجده، لترفع حاجبا بعجب: "لمار؟ من بين كل البنات.. لمار؟"
سألها ما زال مستغربا منها، فهو قد توقع فرحها بمعرفة أنه يريد خطبة ابنة أختها: "ليه متعجبة؟ شايفة منها شي ولا..؟"
قاطعته بحدة: "هذي تربية منال يا ولد! البنت طيبة وما شفت إلا الخير منها، بس.."
استحثها: "بس؟"
أكملت: "إنتوا الاثنين مختلفين بزود.."
هز كتفا غير مكترث بهكذا سبب: "زي ما يقولون يمه، الأضداد تتجاذب. المهم.. فرحانة؟"
ابتسمت أمه له بصدق وراحة: "إيه والله فرحانة! سبحان الله إنت وأختك قررتوا تتزوجون وتريحوني في نفس الوقت."
ضحك: "اللي يسمعك بيقول أنا وترانيم بضاعات بايرة!"
شهقت أمه بجزع: "في العدو ولا فيكم! بس وش أسوي؟ شيبتوا راسي بعنادكم وأنا متشفقة على عيالكم..!"
قبل جبينها بحب وأحاط كتفيها بذراعه، يضمها جانبه. كم يحب هذه اللحظات النادرة مع أمه، عندما تكون بعيدة عن تمثيليات مجتمعهم المخملي. ربما كان زواجه بلمار خيرا إذا كانت بداية بشره هذه.
=
=
=
اتصل شاهين بمنال يخبرها أنه يقف أمام بيت صديقتها ينتظرها، لكن الصوت الذي أجابه لم يكن ذاك لأخته، بل لغريبة. سأل وطلب جوابا فوريا بندائه: "منال؟"
لتجيبه تلك برقة طبيعية وليست مصطنعة كالتي يتلقاها أحيانا: "تركت جوالها في الشحن وجالسة مع أمي."
من جوابها هذا عرف أن من تكلمه كانت إحدى بنات صديقة منال. تنهد من عادة أخته في نسيان شحن هاتفها، ليدخل في دوامة كلما حاول الاتصال بها: "طيب، قوليلها أخوها يستناها برى."
أقفل الخط دون انتظار الرد.
=
=
=
قد قال بضع كلمات، برسمية وباختصار، لكن سماع صوته بذاك القرب كان كفيلا بجعل قلبها يلهث نبضا إلى درجة مؤلمة.
لا تدري ما الذي سيرها لتجيب على جوال منال عندما رأت الشاشة تنبض باسمه، لكن ألم يكن هذا طبعها مع حبها هذا؟ الخروج عن المعهود؟
قد حاولت أسيل التماسك عندما نقلت رسالته لأخته، لتبتسم تلك بمعنى وهي تقف ناهضة مودعة لها ولأمها.
بصراحة، تعبت. تعبت من مشاعرها هذه، تعبت من تلميحات منال دون أن تلقى لآمالها صدى.
=
=
=
أتى إعلان جلال برغبته الزواج من ابنة خالتها لمار كصاعقة تسببت في شغل بالها عن ملكتها ليلة الغد، وحالما أنهى أبوها قوله أنهم سيزورون بيت جدها عبد المحسن من أجل تلك الخطبة بعد ملكتها مباشرة، أخذت ترانيم جلال جانبا وسألته بعجب: "من جدك تبي تخطب لمار؟"
نظر جلال إلى الأعلى بقلة صبر ثم إليها وقال: "وشفيك إنتي وأمي عليها؟ تراكم خليتوني أبدا أتردد.."
ضربته بخفة على كتفه: "حرام عليك، لمار طيبة وعلى نياتها. الخوف منك تظلمها معك!"
ليرد باستنكار: "ومن وين بتلقى مثلي؟"
ما زالت غير مستوعبة للفكرة، تهز رأسها بعدم تصديق: "إنت.. ولمار؟ زيت وماي؟ شرق وغرب؟"
أكمل جلال عنها بضجر: "يمين وشمال، فوق وتحت، الربع الخالي والقارة المتجمدة الشمالية.. أدري يختي، اثنينا مختلفين، فيه غيره؟"
لوت ترانيم شفتيها بعدم رضا: "الله يعينها عليك."
انتهى البارت..~
|