كاتب الموضوع :
سميتكم غلآي
المنتدى :
ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
رد: أرواح متعانقة
كان اللون الأحمر شعار تلك العيون
والأضواء خافتة بين تلك المجموعة المتمحورة حول بعضها
الكل جالس والرؤوس منكوسة في لحظة إلى الطاولة وفي لحظة أخرى ترتفع لتنظر إلى بعضها
الظلام يخفي النظرات، والمصالح تختبئ وراء زي البراءة، لا تعرف أيهم اشد خباثةً ودناءةً
وأنا أكون محور تلك العيون، ومحرك مسار أفكارهم، الكل يصوب نظراته إليّ، يتناقش معي
فلقد خُيّل إليهم أني منهم، وليس مجرد جاسوس يكيد لهم كيدا.
علي ... ذلك الكريه المتعالي مفتعل المشاكل، المجرم بمعنى أدق، والذي عشت معه معظم طفولتي ومراهقتي، لم يكن مقربا، ولم يكن شخصا محبوبا.
ولكنه جعلني رفيقه، لأنني كنت طائشا افعل الأمور على سجيتي
وقد مرت فترة طويلة إلى ان التقينا الآن
التقينا وانا في مهمة سرية في الشرطة
اختاروني فيها عن قصد بسبب لملمتي ببعض الامور
علي لم يكن يعرف أنني شرطي لان كلية الشرطة التي التحقت بها كانت في مدينة أخرى وتقريبا أخباري انقطعت عن الكل ومن فترة قصيرة وبسبب بعض المهمات نقلوني إلى مدينتي الام
علي كان يثق بي بسبب انني ساعدته من دون قصد على الفرار في أول مرة ألتقينا فيها بعد هذه السنين، لقد حاصرنا منطقة يشتبه فيها تواجد تجار مخدرات إلى جانب تواجد بعض الأمور الغير قانونية.
وكان هو هناك، وكنت ألبس لباسي العادي ومشيت معه بعد ان رآني واستوقفني ومثل الاشتياق إلي، وودعني بعد ان اخذ رقم هاتفي وخرج من منطقة الخطر، ولكن وفي مركز الشرطة اكتشفت انه لازال على عهده القديم، وانه أحد تجار المخدرات المعروفين ورئيس عصابة، وقد قتل بعض الرجال، فأصبح مطلوبا للعدالة.
التقرب من علي لم يكن شيئا سهلا، كان ماضيّ شفيعا لي، لم أكن شخصا جيدا بتاتا، انما كان لديّ صفحة سوداءً عريضة ومليئة بالندب، وكان علي رفيق تلك الصفحة.
في المرة الثانية التي التقيانا فيها بعد اتصل منه وموعد مني، سألني: " كيف هي أحوال السرقات، إلا زلت تسرق؟ وهل لازلت مع بيع المخدرات؟"
في تلك اللحظة، أقشعر جلدي وتثبتت نظراتي المتوترة عليه
خيبة تملؤها المرارة التصقت بصدري وجف حلقي لتذكري كل تلك الذكريات السيئة والتي تمثل العار، السرقة، وانعدام الضمير، والطيش الغير مبرر لكل ما فعلناه، وصحيح انها فترة من حياتي تلقيتُ منها درس لا ينسى، تعمقت فيها حتى غرقت، وخرجتُ منها بعد عدت محاولات ندم وعودة.
مرت لحظات صمت والحقيقة تلتصق ببلعومي لقولها، ونظراتي تكاد تتشتت لتفضح عني، ولكن العزيمة وذلك البرود الذي كان قناع الماضي أظهرته بتحدي لأقول: " لقول الحقيقة لقد تركته كترويج ولكنني لازلت مع الصحبة القديمة "
لقول الحقيقة أصبحت كل العلاقات القديمة سطحية وغير محببة، لأنها كانت مجرد علاقة مصلحة.
بعد انتهاء الاجتماع ربت علي على ظهري، نظر إليّ نظرة ذات مغزى، وخرجت معه، ممر طويل أبيض واضواء بيضاء شديدة الانارة تنعكس على جدار بنفس اللون، وسجاد أحمر وغرف متجاورة تصطف على طوله، مشينا إلى ان توقفنا عند باب خشبي ضخم ومنحوت، دخلنا إلى الداخل إلى غرفة شديدة في الفخامة والإضاءة وكلها عبارة عن تحف واثاث تراثي عربي، عند البداية كانت الغرفة فوضوية بعض الشيء، توقفت قبل أن أكمل المسير وقبل أن اصطدم بباقي الألوان وبكل ما حوتهُ الغرفة
والتصقت على وجهي الدهشة وخفق قلبي استنكارا عند رؤية أبو علي
انه هو! ذلك الرجل الهادئ والوقر، والذي يهابه الجميع، لم يكن يملك الا عيون صغيرة وفم أكبر بقليل بل كان كل وجهه عباره عن نقط الا وجنتاه، ولم يكن يملك شعرا في وجهه ولا على رأسه مما جعله ذلك أكبر عن عمره
ولم يكن يبتسم، فانا لم أرهُ قط مبتسما
وقف في مكانه، لتعلو شفتاه ابتسامة متهكمة، غير واثقة وباردة، نظراته تغيرت بدأت تتصاعد إليها القسوة والجمود
قال وهو يطيل النظر إليّ من دون ان يتزعزع: " هل أنت واثق منه! "
تبخرت ثقتي لثواني قبل ان استعيدها ثانية، وكدت أفقد تركيزي الذي انا فيه، واقر بالهزيمة لولا الجمود الذي عكسه وجهي واصراري.
قال علي وكل الثقة على لسانه: " أكيد أنه ذياب، أكثر شخص كنت أثق به فهو لم يخوني قط "
علي ساذج بل معتوه وغبي، ومتسرع لا يحسن اختيار أصحابه
ولكن صحيح أنى لم أخنه، وصحيح ما قاله!
قهقه لثواني ليكمل وقد تشكلت على وجهه ابتسامة خبيثة: " لا تنسى انه كان أحد أمهر المروجين في المراهقة "
زادني تعقيبه ثقة، اراحت تلك الثقة العالية وجه أبو علي، ولكنه اتخذ الحيطة رفيقة، ولم تتمكن الثقة منه، كان متوجسا وحذرا، بحث عني قليلا لعله يجد شيئا يدينني به، ولكن مهمتي كانت في غاية السرية ولم يكن أحد يعرف عني الا أنني درست في الجامعة الحكومية لمدة نصف عام تقريبا وبعدها هاجرت من العاصمة إلى المدينة الساحلية مع أمي، وانقطعت أخباري عنهم الا انني مع عملي التحقت بالجامعة لدراسة القانون، هجرتنا كانت بسبب اننا أنا وأمي قد مللنا من الغربة، ولم يبقى لوالدي رحمة الله عليه أقرباء والذي توفي عندما كنت في السادسة من عمري، وكل أقرباء أمي كانوا في المدينة الساحلية، كنا نعيش هناك فقط من أجل عمتي التي توفت قبل رحيلنا بثمان أشهر.
عدت إلى مدينتي على متن رحلة على القطار استمرت نصف ساعة، عدت إلى أمي وكلي شوق إليها، أمي التي ربتني وحيدة، كانت أمي مثالا للشدة واللين، فكم لقنتني دروسا، وكم أذيتها، وكم تحملت هي كل نزواتي ومشاكلي التي لم تكن تنتهي في سنّيّ الطفولة والمراهقة
الحسنة الوحيدة هي أنني كنت مروجا ولم اتعاطى المخدرات، كنت أطمع لجمع الأموال لأننا كنا فقراء
بعض الدراهم التي كانت تحصل عليها أمي من العمل في بعض البيوت والمتاجر كانت تكفي للمأكل فقط، ولأنني كنت أرى الرفاهية من بعض اقراني
طمعت وطمحت لتحقيق القليل من رغباتي، أمي لم تكن تسمح لي بالعمل وفي كل مرة تكتشف فيها عملي تخاصمني وتغضب إلى أن أحاول أراضاها وأعدها بأن أتركه
ولكنها لم تكتشف ترويجي للمخدرات أبدا فلقد كنت أعمل به في الخفاء
ولكنها كانت تشك بي دائما، وتقول لي في كل مرة أعود بها متأخرا، أو نادما مغموما: " ذياب أتعرف اشعر دائما أن هناك في قلبي مثل وخز الدبوس! ذياب أعترف هل تفعل شيئا من ورائي؟ "
كانت دائما وفي حالة القلق ترص على حجابها وتمسك طرفه الناعم والذي انسلت بعض خيوطه، وبشرتها البيضاء النمشة تنكمش قليلا لتظهر توترها
وعيون أمي سوداء الحدق كانتا تخترقانني في كل مرة، وكان التوتر يصبني عندما تلتقي عيني بعينيها، إلى ان أصبحت لا أنظر إليها، أشيح بصري عنها وأنظر إلى كل شيء عداها، أمي لم تكتشف ذلك والحمد لله على ذلك.
استقبلتني أمي بأحضانها الدافئة وبوجهها المتهلل فرحا، والدمع يكاد يقطر من عينيها شوقا، جرتني إلى أقرب مقعد وطرحت رأسي على حجرها كعادتها، واخذت تمسده، كم أشتاق إلى هذه اللحظات في كل مرة أرحل بها بعيدا عنها، وكم أدمنها!
اخذت تسألني عن رحلتي وما الذي فعلت فيها، طبعا لم أخبرها أسراري تلك فلو أخبرتها لابيض شعرها رعبا وحزنت حزنا شديدا ومنعتني منها، فانا لا أحب كسر قلب أمي، فأمي أغلى ما أملك والوحيدة التي تحتل مساحة قلبي من الطفولة، ففي بعض المرات أحزن على عدم قدرتي على تقديم ما هو أفضل لها، أمي تقول دائما عند خروجنا للتنزه أو عندما أحضر لها هدية: " ذياب لا تكلف على نفسك ولا تُتعبها فأنت أعظم هدية منحها الله لي "
كانا يومان من أجمل الأيام التي قضيتها مع أمي، ولحظات سعيدة وطويلة غيرت من نفسي وانستني صعوبة ما أقوم به، بعد العديد من الكلمات والضحكات والوجبات اللذيذة من يد أمي، جاءت ساعة الذهاب، والعودة إلى العاصمة وإلى مهمتي.
على الطرف المقابل تجلس أمي بعد ان احتسينا قهوة عربية من صنع يدي، أصريت على أمي بأن أصنعها، رفعت أمي نظرها إليّ، كادت تفر ابتسامتها وهي ترى توتري ونظري الذي انتقل إلى اصابعها التي انتقلت إلى شعرها الأسود الطويل لتمسك خصلت منه وتقول: " ذياب ما رأيك في ان اخطب لك وتتزوج؟ " عقدت حاجباي، وعبست في استغراب، فأمي لا تكف عن الهمز واللمز في هذا الموضوع من أجل الدعابة، بصوت منخفض رافض: " أمي أرجوكِ فانا لم أستقر إلى الآن ولم أكون نفسي بعد "
فأنا في بداية العشرين من عمري واشعر انني صغير تقريبا على الزواج. ملامح أمي ارتدت الجدية والعمق لتقول: " ما رأيك فقط في خطبة رسمية "
لم يخطر في بالي إلا وجه علياء أبنة خالتي، حقا وقليلا هي تروق لي، شخصيتها الخجولة والعاقلة، جمالها الملفت، بصدق كل مواصفاتها تشدني إليها.
قمت لأدرك الوقت، ولكيلا تفوتني الرحلة، واستقامت أمي معي، قبلة أمي جبيني قبل أن أقبلها، وضمتني هامسة بصوت يشوبه الحزن: " أستودعك الله يا بُني أنتبه لنفسك، ولا تنسى الاتصال بي "
حقيقة لا أحب لحظاتي هذه، ولا أحب الحزن الذي ينزرع في داخلي، دمعات أمي تملأ جفونها، تمسكها بقوة عن السقوط، ووجهها الشاحب يبتسم مخفيا حزنه، ودعتها طويلا قبل ان اغادر، قبلة خدها البارز من نحوله، وامسكت يدها الدافئة لكي اخفف عنها، ضممت جسدها الحنون إليه قبل أنا تستقبل قدماي عتبة الباب وتمسك يدي الحقيبة بشدة.
لا اعلم لَمَ شعرت بالخوف من فقدانها، أو هو خوف أخر لا أعرف سره، رحلت عنها إلى الشارع، مشيت قليلا والهواء الرطب يلفحني والشمس تلمسني والرمال الصحراوية تتوزع بالتساوي في المنطقة، والشوارع القروية والتي تحيط بها بعض النخيل واشجار الغاف هادئة تقريبا في هذه الظهيرة الا من بعض المارة، قرية أهل أمي أجمل بكثير عن مكان أقامتنا السابق وعن صخب المدينة وشوارعها، الهدوء هنا سيد المكان، والأهالي والجيران كلهم يد واحدة، المحبة والألفة هي من أركان مجتمعهم، وعند ذهابي إلى مكان بعيد أطمأن أن امي لن تكون وحيدة، ولن يكون قلقي شديد إذا ما حدث شيء لا قدر الله فهم سيكونون بجوارها، رفعت يدي وأنا أقف أمام الشارع العام، أشير إلى سيارة أجره ماره، اختطفت نظرة قصيرة إلى القرية أتأمل تفاصيلها قبل أن أصعد وأرحل.
أصدر علي ضحكة جلبت الاشمئزاز لي فأسنانه الصفراء متراكبه على بعضها، وشعره الأسود الطويل كان ملتصق ببعضه وبعنقه القصير، وكان يلمسه في كل حين، كانت بشرته القمحية شاحبة، وكان اللون الداكن تحت عينيه الصغيرتين بارزا، كان يحكي لي عن مغامراته المتهورةِ وتصرفاته القاسية، يذم كل من حوله ويمتدح والده ونفسه، يظن ان بعض الناس اسفل سافلين وهو أعلى منهم، يكاد بكلماته هذه ان يبصق على وجهي ويضمني إليهم من شدة غروره.
بعد كل التمثيلات التي قمت بها، وانصياعي الوضيع لهم، وخططي العبقرية والتي أعجبوا بها واثنوا عليها، رأيت نظرات الاعجاب بعيون الجميع الا أبو علي الذي لا زال ينظر إليّ بتوجس وحذر، وكأنه يقرأ افكاري ويتتبع حركاتي، يريد الإمساك بأي جرم قد أرتكبه ويودينني به.
كنتُ مع علي كعادتنا الجديدة، والتي أصبحت عادته هو وادمن عليها، كان يثرثر بلا توقف يخبرني بكل صغيرة وكبيرة وثقته العمياء تعميه، حدثني عن جريمة أرتكبها قبل أسابيع، كان يضحك وهو يقولها وكأنه اعتاد على جرمه، وبغرور قال السبب: " يظن نفسه شيئا لأنه أعطاني شقته مرة، هو يعلم أنني اغنى عنه ويعرف من هو والدي، حثالة يظن انه سيقدر عليّ"
قهقه بصوت عالي ووجه يعتليه الكبر والسواد: " لقد حرقت ظهره من كثرة الضرب، لو رأيت كيف كان أسوداً، لقد صرخ حتى كح دما ولا أظن ان هذا يكفيه "
الجمود والغضب سيطر على تفكيري، بعد ان أراني بعض الصور، كان يفتخر بفعلته يعبر عن إنجازاته العظيمة بإخباري بها، وكأنه حصل على ضالته، لم أكن أرَ أمامي شيئا
ولم أشعر إلا بألسنة اللهب في صدري تشقه شقا، والغضب يكاد يعميني ويخنقني، كدت أحطم جمجمته حالا، كنت أود ذلك فعلا!
فالغضب يطرق أبواب صدري لأفعل ما لا يحمد عقباه
ولكنني امسكت نفسي، وبقوة كبيرة سيطرة على كل تلك الفوضى الداخلية، واظهرت العكس ولكن داخلي قد قرر تلقين علي درسا لا ينسى.
أخيرا بدأت الخطط تسير على ما نريد، وقد قررنا يوم المداهمة قد تنجح فيها خطتنا أو تفشل، كانت اجتماعاتي مع فريقي من الشرطة تحدث بخطة مرتبة فنحن لا نجتمع مرة واحدة لكيلا نثير الشكوك، انما بشكل متفرق أو على الهاتف، أو على البريد الالكتروني، كلماتنا على هيئة شفرات لا يعلمها إلا نحن.
قرب إحدى القرى تظهر من بعيد الكثير من الأبنية والعمارات، كنت مع علي في السيارة نسير على طريق رملي صحراوي
الرمال الصحراوية كانت وكأنها تنزل كالشلال من الجبال الرمادية الشاهقة لتمر على بعض الأشجار والحشائش الخضراء والتي لم يختفي عنها اثر الأمطار
يكاد الشارع يخلو من السيارات والمكان من معالم الحضارة، وعلى أنغام الموسيقى الصاخبة كان الصمت ملاذا لنا
للحظات شدني ذهابنا إلى منطقة لم نخطط للذهاب إليها، انما لم أكن أعلم عن خطط علي شيئا
وكأن الثقة التي صاح بها منذ زمن كانت مجرد ادعاء، مررت الامر مع فتح جهاز تتبع الأثر وحاولت ابعاد التوتر الذي بدأ يغزوني متمنيا في داخلي ان لا يكونوا قد اكتشفوا زيفي.
في بلدة قرب المدينة، وفي مكان معالمه أدنى من المتوسط توقفنا
كانت النفايات والاوساخ على الأرصفة وعلى الرمال الصحراوية الخالية من النبت، والعمال يجوبون الشوارع وبعض العائلات تطوف بالأسواق الشعبية، بين الأبنية كان هناك مبنى ضخم حديث البناء، لونه أقرب إلى البني ولا يحمل لافتة، يشبه في شكله أحد الفنادق المتوسطة، هذا المكان لا يشك به أبدا لأنه قرب بعض القرى وقلة قليلة تحصل به المشاكل، وبعيدا عن مراكز الشرطة.
جلسنا أنا وعلي في غرفة كبيرة بيضاء ذات اثاث رمادي بسيط، احتسينا فيها القهوة إلى جانب بعض الاطباق الجانبية
علي الذي يجلس في الجانب المقابل لي، كان عابس الوجه متوتر النفس ويدخن بشراهة، يرفع عودا وراء الاخر قبل ان ينهي الذي بدأه، ولم يأكل شيئا من الطعام إلا بضع لقيمات صغيرة
انعكس ما يشعر به عليّ، تضايقت كثيرا من زفيره ونقر قدمه منذ ان أتينا، لم أتكلم فانا لا أبادر بالحديث قبله
وهو لم يخبرني شيئا، جاء اتصال هاتفي له امسك الهاتف بسرعة وعلامات التركيز على وجهه
كان أبو علي على ما أظن والذي امسك زمام المحادثة فعلي لم يقل إلا نعم ولا وبعض الكلمات المختصرة ونظرة يسترقها في كل حين وأخر لي، ضاق صدري من نظراته، واحسست بأن الهمس عني وان شيئا يدور حولي، خرجت بعد ان طالت المحادثة ودخل هو أحد الغرف.
في أقرب زاوية لي وقفت، والممر الطويل ذا الفرش الأزرق والجدار الأبيض خالي تمام من الأصوات والحركات
أخذت نفسا وراء الاخر ونظري منصب أمامي وإلى الجوانب تارة، لا يجب ان أكون هكذا اليوم يجب أن أكبح كل تلك الأفكار عني، وأننا من الممكن أن نفشل!
أو ان حدثا أخر قد حدث! ما به أبو علي! أشعر ان هناك خطبا ما!
رفعت هاتفي فوقعت عيناي عليه وهو يرن رنته الأولى، لقد كانت أمي، حاولت ضبط انفعالي قبل ان اجيب بهمس: " السلام عليكم، أهلا بالغالية "
لم يبدو همسي مقنعا لأمي، أجابت بسرعة: " أهلا بُني أين أنت، وما بك! ولمَ صوتك منخفض؟ "
ضحكت من فوج الأسئلة المنهال عليّ حتى انها نسيت رد السلام، حدثتها: " أنا في العمل يا أمي، ومنهمك فيه "
استرسلت أمي في الحديث عن أمور شتى كانت مهمة وغير مهمة، أخبرتني أنها لمحت لخالتي عن رغبتها في خطبة علياء لي، كنتُ أحاول الانصات إليها ولكن ذلك محال لانهماكِ في التفكير ومراقبة خطوات قد يفوتني خطوها، احست أمي بانشغالي فودعتني وأغلقت الهاتف.
بعد ان أغلقت أمي هاتفت أحد أفراد الشرطة لأوافيه بأخر الاخبار، وأرَ كيف هي أمورهم، طمأنني عن الأحوال انها على ما يرام، وانهم قد استطاعوا تحديد المكان وهم الآن مٌتجهين إليه، ولكن بقي شيئا واحد وهو أخباري لهم بموعد المداهمة ومتى سيكون أبو علي الرئيس ومحرك العصابة حاضرا وفي وقت لا يمكنه الهروب منه وفي وقت يكونون فيه متلبسين بالجرم.
عند عودتي إلى الشقة بعد جولة سريعة في المكان، كان علي قد غير مكانه وجلس في مقعد طويل رمادي عند الزاوية وترك مساحة فارغة أمامه وخالية من السجاد، ولم يكن لوحده انما كانت معه عصبته التي هي كظلة، رجاله الذين تحت أمرته والمشاركين في كل جرائمه لم أكن أحبهم فهم مجرد تبعه وغير مستقيمين في تصرفاتهم.
جلست على المقعد المجاور عند ملاحظتي لشخصين غريبين، ونظراتي تنتقل فيما بينهم، كانا راكعين ومن هزالة اجسامهما وملابسهما الرثة والرضخ والخوف الذي على وجهيهما، ظهر لي انهما من المساكين، وانهما شخصين بعيدا كل البعد عن الشر، كأنهما عاملين بناء أو نظافة، كانت نظرات علي مسلطة على الشخصين في صمت وكأنه يستمتع بتوسلاتهما، رفع أحدهما يديه وضمهما إلى بعضهما وهو يقول: " أرجوك سامحني لقد أخطأت، لم يكن ذلك عن قصد لقد رميناه بالخطأ ولقد كان.. أقصد لم أعرف كيف ضاع عنا، أرجوك سامحني" صاح فرد من عصبة علي وهو يشتم: " يكذب !! على الأكيد أنه يكذب، والصحيح أنه باعهُ "
حدثت جلبة بين أتباع علي فمنهم من يريد ضرب الشخصين ومنهم من يلفق أقاويل أخرى عنهما، التفت علي إليّ وكأن لا شيء يعنيه مما يحدث، وقال لي بوجه خالي من المشاعر: " لقد وصل أبي انه في أخر غرفة في الممر ويريدك فيها "
بعد ان أنهى جملته ضغطت بأصبعي على الهاتف على الرقم واحد، ضغط ضغطة طويلة إلى ان اتصل الهاتف بنفسه وأعلن النهاية
لقد انتهى كل شيء اليوم بعد هذه الضغطة، وبدأت بداية جديدة
في الحقيقة احسست بالنشوة والاثارة، لأن ساعة نهاية هذه المهمة قد اقتربت
وأخيرا سوف أتخلص من هذا التعكر الذي أنا فيه
كنت سأتحرك واخرج لولا ان منظرهم استوقفني، احسست بأن علي لا ينوي خيرا بهم
وامام عينيّ ركل علي الأضعف والاصغر منهما على وجهه، وقفز عليه وهو على الأرض ووضع باطن قدمه على رأس الرجل الذي أطلق صرخة قوية، وأخذ يفرك حذائه عليه
الرجل يصارع قدم علي العملاقة، ويحاول ضربه بيديه ولكن اُمسكت يديه وقدميه بأحكام من قبل الرجال
كادت جمجمته تتحطم من قوة ضغطها على الأرض، ويتهشم وجهه عليها، صراخه انقطع وحركات المقاومة لا زالت مستمرة
عند هذه النقطة وقفت، وفقدت كل تركيزي ووعيّ
ولا شيء سوى صوت انفاسي ووقع قدميّ كان يسمع وانا أجري نحوه، وبقبضة عنيفة أمسكت علي من عنقه وكالريشة طار من بين يديّ ليحط على الأرض بأقوى ما لدي من قوة
كادت الأرض تتزلزل من قوة سقوطه، الكل ذاهل والعيون تسير وتجيء عليّ، وعلى علي الراقد على الارض والذي بالكاد عاد وعيه إليه
وأنا وكل الغضب يفور في دمي، كنت أقترب من علي بخطوات بطيئة وعيني تكدحان شرا
كنت اريد ضربه، فلقد ضقت ذرعا من أساليبه، وكرهت رفقته
فكل ما يفعله لتسلية فقط!
لم يتحرك أيّ منهم للحظات قبل أن أنهال عليه بالركلات
أمسكوني وانا أبعدهم عني، قيدوني بشدة، وعلي مطروح على الأرض وعلى بطنه وعينيه الصغيرتين قد كبرتا فجأة من الصدمة وهو يهتز بأكمله، وذراعيه لا تقويان على حمله، يقوم في ثانية وفي أخرى يقع
صرخ عليّ بعد أن وقف واستعاد وعيه من الصدمة، وكل علامات الاستنكار تجمعت على وجهه: " ذياب كيف تتجرأ وتضربني! كيف لك أن تفعل هذا! "
هجم عليّ، وأخذ بضربي من دون أن يحدد وجهة ضرباته، ضربني على بطني لعدة مرات متتالية حتى فقدت حاستي فيه، وبكل قسوة وقوة وكأنه يكرهني أشد كره، ولم يتردد أبداً عن البصق عليّ ولعني
ولم يكن بمقدوري الدفاع عن نفسي أو تحريك أيّ جزء من جسمي، لأنهم كانوا يشدون وثاقي، ويمنعونني من الحركة، كف علي عن الضرب فسقط عن أيديهم إلى الأرض، انخفض علي إلي، وامسك شعري دفعة واحدة وهو يصرخ على وجهي:" أتعاطيت المخدرات! أم أصاب عقلك الخلل لتفكر بضربي! صدقني لن أغفر لك"
لم يكن يهمني شيء في تلك اللحظة، غير أن الأمر سينتهي قريبا، ومهما فعل علي فسوف يدفع ثمن فعلته غاليا
جسمي المتصلب من الألم كان يتشنج وأنا على الأرض وبين يديّ علي
رفعت وجهي وسيل من الدماء المر أتذوقهُ في فمي، لأنظر إلى علي بصعوبة واحاول الابتسام، كنت أستهزئ به، مجرد ثواني لم أكن فيها أعيّ، ما الذي كان يريده مني، ولكن قبل أن يحاول قتلي أو يفكر فيه، دخل أحد رجاله بشكل مفاجأ ليصرخ: " أيها الزعيم أن رجال الشرطة يحاصرون المبنى، وأظن أن بعضهم قد تسلل إليه خفية"
حدثت جلبة سريعة بين أتباع علي، تركوني فيها لينفتح الباب ويخرجوا دفعة واحدة
علي كاد أن يفر معهم هو الاخر، ولكن وبسرعة أمسكت قدمه، وبعينين مفتوحتين ووجه أصفر نظر إلي، هز قدمة بعنف عني، شددت من قوة امساكِ، ليضربني بالأخرى، يرفعها ويهز الأرض من تحته ويضرب أيّ جزء ظاهر من جسمي بكل قوة، وأضربه أنا بيدي وأمنعه من الإفلات، وهو كالثور الهائج يحاول إبعادي، وأنا مصر على عدم تركه، أخيرا أفلت مني، ومن دون أن ينتبه لطريقة ضرب ساقه اليسرى على حافة طاولة زجاجية حادة مكسورة، لتدخل الزجاجة إلى داخل ساقه، وليصرخ صرخة صريع، وبسرعة انتزع ساقه منها لتتفجر الدماء على ملابسه وتتساقط قطراتها على الأرض البيضاء وتشكل بقعا حمراء
أخذ علي يلعن ويشتم وهو يحاول الركض، غير آبه للدماء التي تتساقط على طول طريقة، وخرج من الباب قبل أن أقفز أنا وراءه راكضا، عند الباب توقفت ونظراتي تنتقل من علي الذي يعرج متجها إلى السلم، وإلى الغرف المتجاورة وإلى الغرفة الأخيرة المقابلة والتي خفت أمامها الأنوار وسكنها الهدوء، تلك الغرفة التي أخبرني عنها علي
رفعت هاتفي النقال، والصقته بأذني بعد ضغطي على أحد الأرقام، جاءني صوت رجل على الطرف الأخر، فقلت قبل أن ينطق بكلمة:" أحتاج الدعم في الطابق السابع غرفة 88، فالرئيس موجود فيها ومن الممكن أن أدخل قبل حضور الدعم إذا حصل أي طارئ، بجانب أن هناك أخرين قد فروا الآن"
خطواتي تتقدم إلى الأمام ناحية الباب الخشبي الضخم، يبدو أن أبو علي لم يتحرك خطوة واحدة إلى الخارج، أو من الممكن انه قد هرب!! اظن انه يجب عليّ ان اتفقده واتأكد من الامر واحصاره ان كان في الداخل!
وصلت إلى الباب، وبخفة أمسكته وبدفعة خفيفة فتحته، قابلتني صالة واسعة مضاءة أثاثها فخم وخالية من أي شخص، وعلى جانبي الأيمن كانت دورة المياه وبجانبها غرفة واحدة، غرفة صدرت منها أصوات خفيفة لا تميز، جعلتني اقف لثواني في تردد ءأدخل أم أنتظر، ولكنني اتجهت إليها لأتأكد من الامر، ومن أسفل بنطالي عند قدمي انتزعت المسدس الصغير، وأصابعي تمسك أكرة الباب وبأبطء حركة فتحته، تحرك من دون صوت وانفتح بسرعة إلى غرفة خفت انوارها، كان ظل أبو علي يتشكل امام عيناي، إلى ان ظهر جسده بأكمله، كان يقابلني ظهره الذي أرتدى سترة سوداء طويلة، وكان يضع يده على الطاولة الخشبية ويده الاخرى إلى أسفلها، ينحني مرة ويعتدل أخرى، لم ينتبه لي للوهلة الأولى، ولكنه تجمد بعد سماع صوتي الذي اطلقته بثقة وانتصار:" قف مكانك الشرطة هنا، أنت محاصر، ارفع يديك واستدر!"
والتفت ناحيتي فرفعت المسدس ليقابل وجهي ويقابله، علامات الصدمة اندفعت إلى وجهه، ليعقد حاجباه بشدة وعبوس، وبحركة تتبعتها أخرج مسدسه من جيب بنطاله الفضي ورفعه ناحيتي، ولكن لا زالت يده الأخرى في الأسفل وتحت الطاولة، وتلاشى كل ذلك العبوس، وتحولت كل طاقته إلى يده التي في الأسفل، هز رأسه وعينيه الصغيرتين تصغران أكثر وهو يشد على شفتيه ليخرج كلمات هامسة:" دعني الآن لكيلا تندم مستقبلا"
زدت ابتسامتي في ثقة وأنا أهز رأسي رفضا، أمام وجهي كان مسدسه يقابلني، أصابعه تتحرك على الزناد، يزداد عبوس وجه وضيق عينيه ويده الاخرى الضاغطة إلى الأسفل، وفي لحظة مباغتة أطلق عليّ، انطلقت رصاصته إلى كتفي وخدشتني لترتطم بالباب خلفي وتصدر صوتا خافةً، صُدمة منه وعدلت من وقفتي التي اختلت من المفاجئة، وبكلتا يديّ أمسكت على المسدس جيدا ووضعت أصبعي على الزناد وأنا أقاوم ألم كتفي، وارتفعت نظراتي إليه وانا اراهُ على هيئة كما كان، بملامح خالية من المقاومة، مستسلمة من الجدال، قال:" دعني أرحل".
قطرات العرق كانت تتساقط من على جبينه المتغضن، وكانت تقاسيمه مريبة خالية من شدته التي لم يتخلى عنها يوما منذ أن عرفته إلا اليوم!
كنت انتظر وصول الدعم سريعا، قبل ان اتصرف معه من دونهم ان تأخروا!
انفاسي تخرج سريعة لاهثة، وانا لا أزال أمسك بالمسدس واتابع حركاته المريبة،
والتي تدل على أنه ينوي فعل شيئا لي.
عيناه تنظران إلي في لحظة وفي اللحظة الأخرى إلى تلك الزاوية التي تقع تحت الطاولة، كان يحاول إخفاء شيئا ما فيها او اظهاره، فأنا شككت في أمره فنظراته متوترة غير ثابتة، وكأنه يخفي شيئا خطيرا تحت الطاولة، ازدادت نظراتي قسوة عليه ورفضا لكلماته، وكأنني أخبره انني غير موافق على تركه يرحل أبدا.
المسدس لا يزال مرتفعا بين يديه بحركة مرتعشة، ومسدسي ثابت في مكانه ومستعد لأي لحظة مباغتة، انزل يده وجسده قليلا وكأنه ينوى التحرك أو الاستسلام، وانخفض إلى الأسفل وكأنه يظهر شيئا ما، وبسرعة اعتدل في وقفته، وصوب ناحيتي وأطلق مرة أخرى إلى الاسفل
كنت اتتبع تحركاته المريبة والتي تدل على ما ينوي فعله، وبحركة سريعة من يدي الممسكة بالمسدس باستقامة ضغطت على الزناد مصوبا على ذراعه الممسكة بالمسدس، ولكن وفي حين غفلة منه، اخفض جسده وانطلقت الرصاصة لتستقر في خده
من تحت يديه التي امتدت وذراعيه التي انهارت وألقت بالمسدس، ظهرت أيادي صغيرة من تحت الطاولة، يتلوها رأس مغطى بشعر بني قصير، ينكشف رويداً رويدا كل جزء من ذلك الجسد الصغير المغطى بثوب أصفر قصير، أمسكت الفتاة ببنطال أبو علي تشده إليها، وتنادي ب" أبي" الذي انهار فجأة أمامها قبل أن يهم باحتضانها!
توقف كل شيء عن الحركة، وأصبح الجو شديد الحرارة، وتوقف الاكسجين عن الوصول إلى رئتاي، وانا أرَ وجهه الذي قفزت إليه المفاجأة وعينيه التي جحظت ألما، والتي كانت تنظر إليّ وكأنها تلومني، تزجرني على فعلتي المتسرعة، وصوت الطفلة المنادي يزداد ارتفعا، وينتظر مجيبا!
سقط المسدس من يدي من الصدمة، وتساقطت كل مشاعري معه وبقي الندم ملتصقا في قمة صدري ممسكا بعنقي، مشعرا اياي أنني قد ارتكبت أعظم جريمة في حياتي!
انهارت يديّ على جوانبي، ونظراتي المهتزة المليئة بالمرارة والدموع تنتقل من الطفلة إلى أبو علي في ألم يمزق قلبي
فأنا لم أكن أنوي الاطلاق على وجهه أو قتله، لقد كان خاطئ غير مقصود!
لقد كنت انوي إيقافه عن إطلاق رصاصة أخرى نحوي!
ما هذا هل كانت كل تحركاته تدل على حرصه على اخفائها، وحمايتها!
ففي اخر كلماته كان وكأنه يترجاني لتركه، لماذا لم أستمع إليه، لماذا كنت بهذا التهور!
|