كاتب الموضوع :
سميتكم غلآي
المنتدى :
ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
رد: أرواح متعانقة / بقلمي
المعانقة الثالثة
" ذلك الحقير هو من تعيشين تحت ظله كالمغفلة!"
هذا ما صرخ به لاستفزازها، أما هي فكانت تحدق به بوجه مبهوت وعينين متسعتين، ولا زالت أثار البكاء على وجهها
فتحت فمها ولكن من دون كلمات، لان الصدمة أخرستها، وتركت في داخلها إعصار مضطربا من المشاعر
أغاظهُ رؤيتها صامتة ومذهولة بسبب ما قاله
لا يعلم لمَ ذياب اخذها معه، أضميرهُ أنبهُ بعد فعلته!
أم أنه ينتقم منه بهذه التافهة بشخص لا يهتم بأمره من الأساس!
يا لتفاهة الأمور عنده، فبعد هربه ونجاته بحياته من ملاحقة رجال الشرطة التي استمرت أشهر طويلة، كان فيها يختبئ في مقر لا يعرفه أحدا من رجال عصابته إلا قلة كانوا معه.
وبعد ان هدأت الامور ونُسيت، خرج وبدأ اتصالاته بباقي أفراد عصابته وغير أسمه وكل شيء عنه، وبجهد كبير بدأ يسترجع أعماله وأعمال ابيه التي كانت متوقفة.
وبعد ان وقف على قدميه من جديد وتحسنت الأوضاع، بدأ رحلة الانتقام بعد هذه السنين، فهو لم ينسى تلك الخيانة التي ادهشته والتي لم يتوقعها من شخص وثق فيه، وقٌتل والدهُ نتيجة تلك ثقته العمياء، إلى جانب أصابته بالعرج.
فكيف له ان يغفر لذياب بعدما فعله، بل انه سيدفع الثمن الاغلى عليه، فهو سيدمر حياته ويحولها إلى حطام لا يعاد ترميمه!
والصدمة الكبرى التي اكتشفها، هي تبينه لأخته غير الشقيقة ابنة المرأة الأجنبية التي دخلت حياتهم طمعا وجعلت والده يفضلها ويفضل ابنتها عليه.
منذ فترة طويلة بدأ في مراقبة كل خطواته وتاريخه المهني، والذي فصل منه فترة وعاد إليه بعدها، وإلى طريقته الغير قانونية في تبينه لترفه التي لا تعرف شيئا عن فعلته وحتى العالم بأسره، لان رجال الشرطة قد أخفوا الامر ووضعوا الكثير من المبررات على الحادثة.
اما مراقبة حياته الاجتماعية فكانت عن طريق أجهزة التنصت وسائق العائلة الذي ينقل كل اخبارهم إليه من أمه إلى خالته وابنائها.
لا زالت تنظر إليه ببلاهة، وهو لا زال ينتظر منها ردة فعل تجعله يكمل خطته!
ولكن نظراتها غير المستوعبة لما يُرده تجعله يود صفعها على وجهها من الغضب، أو إطفاء السيجارة التي في يده في إحدى عينيها.
رمى السيجارة من النافذة المفتوحة، وامسك رسغها بقوة يشد عليه بقسوة مفتعلة، ويصرخ على وجهها:" ذلك الحقير ذياب، وأنتِ أحقر منه، الذي رباكِ كما أرى، لا اعلم لمَ اخذكِ معه بالضبط ولكن وحتما من الاجل الانتقام، ويظن انه بانتقامه الغبي هذا انه قد انتصر! يا لسخافة الأمر تعيشين معه بعد أن رايتي قتله لوالدكِ، نعم هو من قتله يا غبية، والكل يشهد على ذلك، ذلك الخائن للعشرة غدر بنا في حين غفلة منا"
شحب وجهها وارتعب قلبها، وعينيها شاخصتان، تبتلع ريقها وهي تشعر بغضة خانقة في حلقها، لا تصدقه! لا يمكن أن تصدقه!
ترتجف يديها التي بين كفيه وهي تحاول التحرر منه، تشد اصابعها بتشنج، وهي تهز رأسها الذي سقط حجابه عنه، تنطق وشفتيها ترتجفان:" لا، أرجوك!!! ليس ذياب لا يمكن ان يكون ذياب، فذياب رجل شرطه، ومن أكثر الأشخاص احتراما واخلاقا واكثرهم رحمة وعطفا، ومن المستحيل ان يقتل شخصا"
شد على رسغها لكي يؤلمها، وهز ذراعها بعنف وهو يخرج كلمات غاضبة يستثيرها بها:" ان لم تصدقني فسأليه! دعيه يخبركِ بنفسه، وعندما يخبركِ انتقمي لنفسكِ منه، ولماذا أكذب عليكِ بأمر كهذا! ان كان هناك شخص يحمل مأرب فهو من لديه تلك المآرب، لأنه أخذك لشيء ما أو أنه استغل ذلك ليهرب من العدالة!"
امتلأت عينيها بدموع غزيزه، وصوتها أختنق مع شهقاتها التي افلتتها من الصدمة العنيفة التي تلقتها، ليملئ صوتها الشجي السيارة، ويزعج علي ويجعله يفقد أعصابه من الغضب
يده التي تركتها اثناء حديثه، عادت إليها بلكمة عنيفة سددها إلى ذراعها وألصقها على باب السيارة، التصقت على الباب منزوية تضع يدها على وجهها المحمر من البكاء
تحاول نزع الألم من قلبها، وهي تسحب أنفاسها المخنوقة من البكاء، وتنفي ما تسمعه
لأنها لا تستطيع تصديقه!
مسحت وجهها من الدموع، ووجهت نظراتها الحزينة إليه، شهقت قبل ان تقول:" أرجوك لا تخدعني، لا تكذب عليّ بهذا الشأن، ولا تخبرني بأمور لا أستطيع تصديقها، لا يمكن ان يفعل ذياب بي هذا، ذياب يحبني ولن يجرحني"
بعد كلماتها التي اندفعت بألم وتبعتها موجة عنيفة من المشاعر الداخلية التي تحاول بيأس المدافعة عنه
صدرت من علي ضحكة قوية مستهزئة بقولها، تساقطت دموعه بسببها
أخذ يضحك وهي تبكي
وقال بعد ان هدأت موجة ضحكه، وهو يستحقر ما قالته:" يحبكِ! "
وعاد إلى ضحكه ليضيف باشمئزاز:" في وضعنا هذا ليس هنالك في القاموس شيء سخيف كالحب بل هناك الخداع والكذب، هو كذب عليكِ واستغلكِ لكي يغطي على أفعاله الإجرامية"
ازدادت حدة بكائها، وجسدها يرتعش وهي تهمس ولا تتوقف عن الهمس:" لا اصدق ذلك! أتمنى ان يكون حلما! خدعة منك! أرجوك قل انه كذب!"
كان يريد منها ردة فعل مختلفة عن هذه!
كان يريد الغضب والحقد منها لا الانهيار والضعف، صرخ عليها ويديه تمسك بكلا ذراعيها ليجعلها تقابله
قربها نحوه لتفصلهما المسافة الصغيرة التي تفصل مقعديّ السيارة، لوى رسغها وهو يفح بأنفاسه القذرة على وجهها المنتفخ من البكاء:" كفاكِ ضعفا، وبكاءً على الاطلال، هيا استعيدي قوتكِ واستعدي للانتقام لابي، أيرضيكِ موته غير العادل، واستغلال ذياب لكِ، سأخبركِ كيف تقومين بالأمر وانتِ فقط اتبعي أوامري"
تركها وهو يدفعها عنه، وابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيه، فلقد بدأ ما يخطط له يسير كما يريد!
وبدأت هي تتجاوب معه بصورة قليلة، فيبدو ان كلماته قد أثرت فيها!
رفعت كفيها المرتجفتين إلى وجهها لتمسح دموعها التي لا زالت تتساقط، وهي تحاول النهوض من الصفعة التي تلقتها في قلبها
والآن وبعد ان تأثرت بكلماته، سيبدأ في قرصة صغيرة كبداية
وسيعيث فسادا في أرضه
وسيرى إلى ما ستؤول إليه الأمور في النهاية.
***
توقفت السيارة أمام المنزل الذي بدى ضخماً وكئيباً من خارج النافذة، ومن داخل السيارة انحنى علي أمامها وفتح بابها بعنف وهو يقول بجمود:" هيا أخرجي سأتصل بكِ لاحقاً، واحتفظي جيدا بالمسدس لكي تدافعي عن نفسكِ وقت الحاجة"
لم تلقى نظرة على وجهه، انما حملت نفسها إلى الخارج بعد ان وضعت المسدس في جيب ملابسها
وانطلقت السيارة بسرعة ورحل ضجيجها في ثواني
انفاسها محبوسة وخطواتها ثقيلة، تنظر إلى الأسفل إلى قدميها، إلى دموعها التي تتساقط إلى الأرض، تأخذ نفسا سريعا وهي تمسح وجهها، تمسحه بشدة لكي تمحي دموعها وتزجرها عن السقوط
فما أخبرها علي به لم يكن شيئا هينا!
انما هو من أعظم المصائب التي حلت عليها، ولا يمكنها تصديقها أو استيعابها!
علي يكذب، بل يخدعها، ولكن لماذا يفعل هو ذلك، لماذا يتهم ذياب!
ايمكن انها الحقيقة وان ذياب من عاشت معه، واعتبرتهُ موطنها وملجأها يكون هو نفسه عدوها اللدود!
تدخل إلى باحة المنزل الداخلية، تمشي بخطوات بطيئة تحت أشعة الشمس الحارقة
تكتم عبراتها، وتمسح دموعها للمرة الأخيرة
ترفع رأسها وتنظر أمامها بقوة تحاول التمسك بها، ومع كل خطوة كانت تفقد الأمل، لتعيده ثانية.
تصعد الدرجات الحجرية، تتجه نحو الباب البني الكبير وتمسك مقبضة لتفتحه ببطء
يندفع الهواء البارد ليسقط حجابها عن رأسها ويرميه بعيدا عنها، تمسح انفها بطرف كفها تنهي به أخر لحظات بكائها العصيب، وبصرها يقع على أم ذياب الجالسة على الاريكة في طرف الصالة
على صوت فتح الباب هبت أمها واقفة وهي تراها، تهلل وجهها الشاحب المرهق ووضحت تجاعيده وهي تحاول الابتسام
امتلأت عينيها بالدموع وهي تنطلق إليها بخطوات بطيئة متعبة
نادتها:" حبيبتي أين ذهبتِ! لقد متنا جزعا لاختفائكِ، خفتُ أن أحدا حاقدا قد اختطفكِ منا"
خطوات أمها تقترب منها، تصل إليها وهي ترفع ذراعيها لتحتضنها بشدة، تطبطب على ظهرها وهي لا تعي أنها تزيد من حدة انهيارها، انهارت ترفه بين ذراعيها، تبكي بصمت ولوعة وجسمها يهتز
ابتعدت أمها عنها وامسكت وجهها بكلتا يديها، حاولت ترفه إخفاء وجهها عنها، واغمضت عينيها بشدة تمنع نفسها من البكاء
قالت أمها بصدمة وهي تحدق بها:" ما بال وجهكِ يا أبنتي أكنت تبكين؟ والذي ذهبتِ معه وأخبرونا انه يدعي انه أخيكِ، هل صحيح هذا! وهل فعل بكِ شيئا، هل اذاكِ أخبرني؟؟ أخبرني يا ابنتي ولا تخفيني!"
هزت رأسها بلا وهي تحرر نفسها من أمها بهدوء، وتصد بوجهها بعيدا عنها لكيلا ترى أمها رداءة حالها، قالت بصوت مخنوق ترد عليها:" أمي لا تخافي أنا بخير، وانا هكذا لأنني التقيت بأخي"
شدتها أمها إليها وهي تمسك يدها، ونظراتها المستغربة والمندهشة تتجول على وجهها الذي تحاول ترفه جاهدة السيطرة على مشاعره المضطربة لتكون بأفضل حال، قالت أمها بحنان واصابعها تمسد يدها:" الحمد لله يا ابنتي على هذا الخبر السار، والحمد لله والشكر له"
ارتفعت يد أمها إلى شعرها لتربت عليه وهي تبتسم بلطف، بينما هتفت فجأة متذكره:" سأتصل بذياب، سأخبره أنكِ عدتِ، فهو قد ذهب للبحث عنكِ كالمجنون!"
وقبل ان تندفع الغصة إلى بلعومها وتخنقها وتذكرها بكل ما حدث
انفتح الباب وجاءها صوته العالي الذي جمدها وأرجفها:" ترفه صغيرتي، يا إلهي الحمد لله أنكِ هنا"
تقدم صوت خطواته باتجاهها، وتوقفت قدماه اللتان انتعلتا حذاءً أسوداً أمامها، ولكنها لم ترفع بصرها إليه!
انما جعلته ينظر أمامها، إلى الفراغ الذي تكون في داخلها
أكمل حديثه بذعر:" لقد مت خوفا عليكِ، لقد بحثت عنكِ حتى يئست، الحمد لله أنكِ بخير"
أخيرا.. وبعد فترة طويلة من الوقوف أمامه، والصمت الذي أحاط بهم بعد كلماته، ارتفعت نظراتها إليه، نظراتها الحزينة والتي طوقتها هالة من الوجع
التقت عيناه بعينيها، وشحب وجهه لرؤيتها، وانكمش قلبه خوفاً لرؤية وجهها الأحمر الذي فضح مشاعر الألم والرجاء، لمدة طويلة نظرا إلى بعضهما، نظرات تقرأ الكلمات التي لا تنطق.
انطبع الخوف على وجهه، وانقبض قلبها لرؤية مشاعره التي اضطربت فجأة، كان يريد إخفاء خوفه عنها، وانكار أن علي قد فضح أخيرا الحقيقة التي حاول دفنها!
وكانت هي بيأس تحاول ايجاد أي إجابة وافية منه، أو أماني تقول لها أن ما قاله علي مجرد كذبة!
لانها تثق به أكثر من علي، ولكن كانت تلك الثقة تتزحزح في كل لحظة كانت فيها تتذكر كلمات علي
تجعلها في شك وريبة من الحقيقة التي تخاف ان تصدمها!
حاولت التمسك بقوتها التي بدأت بالانهيار مجددا، أبعدت وجهها عنه وجعلت جسده يتشنج من الخوف وقلبه يدق بعنف داخل صدره
واسرعت بخطواتها تركض ناحية الدرج، تصعد درجاته القصيرة قفزا، وهي تحاول خنق شهقاتها، والبكاء بعيدا عن أعينهم
وفي غرفتها انزوت، وعلى سريرها انطوت تبكي
انها في حيرة وتيه من الامر!
تخاف المواجهة، واخباره عما قاله علي
وتخاف من سماع شيئا يعاكس ما تؤمن به!
تخاف الخيبة، وانكسار ظنونها التي تضع أمالها عليها
جلست لوحدها طويلا إلى أن جاءت أمها إليها، دخلت بهدوء وهزتها من فوق لحافها الذي كانت تختبأ بداخله، وتحدثت وهي تمسح على سطحه وقد انقبض قلبها لحال أبنتها الغريب، فلا يمكن أن يكون القاءها بأخيها سبب كل هذه التعاسة غير المبررة.
:" ترفه عزيزتي لا تفعلي هذا بنفسكِ، وعلى العكس يجب ان تكوني الآن في قمة سعادتكِ لا تعاستكِ، لان لديكِ أخ تستندين عليه"
ترفع الغطاء عنها بعدما أحست ان موجة بُكاءها قد هدأت، ترى ابتسامة أمها تتسع وهي تحثها على النهوض، اعتدلت لتجلس في منتصف السرير، وهي تكتم ألم قلبها الذي ينشطر من الحزن، تهمس أمها وهي تضع كفها على منكبها:" هيا يا ابنتي تعالي لكي تأكلي طعام الغداء".
أومأت لها برأسها، قبل ان تخفض نظراتها الهاربة منها وصوت الباب ينغلق
تنظر إلى يديها بألم وهي تفركهما، فلقد اصطبغتا بالكدمات بسبب العنف الذي استخدمه علي معها.
بعد فترة قصيرة من الجلوس، التي أوصلتها إلى أقصى مراحل الإرهاق النفسي
فلم يكن التهرب حلا يريحها، أو طريقة لها للهروب!
كانت تريد الذهاب إليه، والافضاء لهُ عما يعتمل روحها من صراع
واخباره عن علي، وانه يفتري عليه!
فذياب من المستحيل أن يتسبب في تعاستها، وان يكون قاتل والدها!
وان يرتكب مثل هذا الاثم الذي لا يغفر بإخفائه عنها!
قفزت من سريرها، وخرجت مسرعة من الباب، وانطلقت ركضا إلى الردهة، وشعرها القصير يتبعثر حول وجهها
اقتربت من غرفة مكتبه التي يلازمها دائما، أبطأت خطواتها وشعورا بالخوف يعذبها
تصبح المسافة أقصر والباب أقرب، تقف أمام الباب الخشبي الأملس، ترتفع يدها إلى مقبضة ولكنها تسحبها بسرعة وانفاسها تختنق، وصوت ضربات قلبها يزداد في صدرها
تضع يديها على وجهها وكأنها تستعيد أنفاسها لكي تقوي من عزيمتها الخائرة
تمسك المقبض بقوة وتدفعه
ينفتح الباب ببطء، ليظهر لون الغرفة الأبيض، ومكتبته الكبيرة الخشبية المليئة بالكتب، ومكتبه البني الذي نظمت فوقه بعض الكتب الملونة، وكرسيه الذي كان يجلس عليه
كان ينحني على مكتبه، كُوعيّ على سطح الطاولة، ويديه تمسكان شعره الأسود، ورأسه منحني ينظر إلى الأسفل
عندما سمع صوت انفتاح الباب الكامل، ارتفع رأسه وحررت أصابعه شعره
ألتقت عينيها بعينيه المندهشة لدخولها السريع الذي فاجأهُ
خطواتها تتقدم ببطء ناحيته، ويدُها تتكور كقبضة متوترة
يعتدل وهو يقف ليظهر قميصه الأبيض الذي تحررت بعض أزراره من الأعلى، ويديه على جانبيه تلامسان بنطاله الأسود
أما عينيه فلم تخفضا نظراتهما عنها
أما هي فكانت تتقدم خطوة وراء الأخرى وهي تشعر بالانهيار
تبلل شفتيها لثانية وتقضم شفتها في الأخرى
اقتربت منهُ حتى توقفت أمام مكتبه وأمامه، وعيناها تقيدان عيناه تمنعانهما من الفرار تريدان كشف الاسرار، والاقرار بالحقيقة!
ولكن لم يطمئنها وجهه الحزين، أما صمته الذي استمر حتى هذه اللحظة أصبح خانقا!
على غير العادة، كان ينظر إليها من دون ان يُبعد عيناه عنها
عيناه الحزنتين واللتان تنظران إليها بأسى، جعلتها تعقد حاجبيها صدمة
فهو لم يكن واضحا من قبل بهذه الطريقة!
يديها المتشنجتان رفعتهما لتحتضن جسمها، وقد تساقطت كل أمالها وانهارت ثقتها به!
طال الصمت وأفقدها اعصابها، شدت ذراعيها حول نفسها، وكأنها تحميها من الصدمات لتقول بصوت مهتز:" لقد التقيت بعلي"
لانت عينيه بشجن، وازداد شحوب وجهه
وانفتح فمه قليلا من دون كلمات
أكملت وعينيها تنظران إليه من دون ان ترمشان:" أنت تعرف علي، وهو صديقك صحيح، لأنني اذكر هذا الشيء جيدا، علي أخيرا ظهر بعد هذه السنين بحثا عني، وأيضا.. علي أخبرني"
توقفت لتتنفس، وهي تحاول التماسك لا الانهيار، حبست دموعها قبل ان ترفع نظراتها المتألمة إليه، وتنظر إلى وجهه الذي كان أتعس حالا منها
قالت وقد تخلت قوتها عنها، وانهارت أخيراً:" أنا متعبة جدا وقلبي يتمزق، لست أصدقهُ، لان ما يقوله لا يصدق!"
أبعدت ذراعيها عن صدرها، وهي تتقدم إليه وتلتصق بالطاولة، وتضع كفيها على سطحها، وتقترب منه أكثر لتواجه وجهه، وبحزن بعثت إليه كلماتها وقلبها يتقطع:" ذياب لقد أخبرني علي أنك من قتل والدي!"
وبحزن أعمق أكملت وعينيها تنخفضان إلى سطح الطاولة:" لا أعلم لمَ هو يكرهك، ولمَ يحاول جرحي بهذه الطريقة!"
ارتفعت نظراتها إلى وجهه الذي لم تتغير تعابيره، انما ازداد شحوبا وتعاسة
وكان صمته بعد كلماتها غريب عن عادته!
اتسعت عينيها دهشة لرؤية أن كلماتها لم تؤثر فيه
وكأنها كانت تخدع نفسها بهذه المشاعر والثقة
الثقة التي تكسرت فجأة وهي تسمع صوته الهامس المخنوق يقول:" ترفه أرجوكِ سامحيني.....أنا آسف"
***
باختناق قال: "ترفه" وبانهيار أكمل وهو يتوسل إليها:" سامحيني أرجوكِ" صمت قليلا وقلبه يتمزق لمنظرها قبل ان يقول:" أنا آسف"
بعد أن سمع من أمه التي اتصلت بها مديرة المدرسة تخبرها أن لترفه أخ ظهر فجأة وأخذها من دون ان يأخذ تصريح للخروج، جن جنونه، وكاد يفقد صوابه من القلق، وعندما ذهب إلى المدرسة وتأكد من كل شيء، وأن علي قد ظهر بعد هذه السنين، وأخذها فجأة من دون أي مقدمات!
مات رعبا وخوفا من أن يفعل بها شيئا أو يؤذيها
أخذ يسير في الشوارع كالمجنون يبحث عنها، لا يعرف طريقة صحيحة للبحث!
ولكنه كان ينظر إلى داخل كل سيارة متوقفة أو سائرة
وكان يبحث عنها بين المنازل القريبة والبعيدة، وبين الأزقة والشوارع
إلى أن فقد الامل بإيجادها أو عودتها إليه!
وحينما عاد إلى المنزل على أمل إيجادها فيه، ووجدها فيه
شعر بالراحة والسعادة، ولم يصدق انها لا تزال بخير وأمامه
ولكن ترفه لم تستقبله بابتسامتها المعتادة
انما نظرت إليه بوجه حزين متألم، متردد النظرات يراهُ لأول مرة
ولم تحدثه كعادتها، إنما تركته حائرا وذهبت!
وهي ترحل بخطواتها عنهُ، أيقن أن هناك خطبا ما بها!
وأن شيئا مختلف قد حدث لها!
هل من الممكن أنها اكتشفت الحقيقة!
فهو يعرف علي جيدا، وعلي لن يتردد ابدا في تحطيمه والانتقام منه
وها هو قد فعل ذلك!
ولكن ان يكون تحطيمهُ بتحطيم ترفه، هو شيئاً لا يقوى على احتماله!
كان يجلس في غرفة مكتبه حينما دخلت عليه، يحاول السيطرة على أعصابه المرهقة من التفكير، وحل الأمر أن اكتشفت هي الحقيقة، شعور مدمر كان يجتاحه، وهو يفكر بالألم الذي ستقاسيه والصدمة التي سوف تتلقاها عندما تعلم بالحقيقة
وكيف ستكون ردة فعلها تجاهه، وما الذي عليه قوله لها!
فحتى لو كان والدها مجرما، فهو لا يريد قول ذلك، ولا تشويه صورته أمامها
سيحتمل الألم حتى لو كرهتهُ ولعنتهُ، وسيحاول التخفيف عنها بقدر استطاعته، وتعويضها عن كل شيئا، حتى لو تطلب ذلك دفع حياته ثمنا!
وها هي وبعد دخلوها الذي جعله يتجرع المرارة، ويتمنى لو ان ما حصل لم يحصل!
وكم تمنى لو كانت لهُ القدرة على دفن نفسه ودفن تلك الحادثة إلى الأبد
نظرت إليه بعينيها الدامعتين ووجهها البريء يبعث مشاعر الأمل والثقة به
كان يتحطم من الداخل كلما ابتسمت، ويشعر بكلماتها كسكاكين تطعنه
بعد كلماته التي نطقها بحسرة، تراجعت خطواتها إلى الخلف، ووجهها مذهول الملامح، قال مبررا مخففا من صعوبة المواجهة، وهو يرفع يديه إلى رأسه ويمسكه بيأس واضطراب:" لقد كان حادثاً غير مقصود وندمت عليه كثيراً، ترفه أنا لم أخبركِ بذلك لأنني لا أريد إذائكِ والتسبب في حُزنكِ، كنت أريد فقط تعويضكِ والحصول على الغفران، مع انني أعلم انه صعب فما فعلته لا يغتفر"
فقد وجهها بريقه من الصدمة، وغرقت عينيها بالدموع لتتساقط، وتمزق قلبه النابض بعنف في صدره
ترك مكتبه ليمشي نحوها ويقف أمام جسمها المهتز، مسح على رأسه بينما هو يكمل بتوتر أمام صمتها المؤلم:" سأفعل أي شيء لكِ لكي تغفري لي، اطلبي تدللي، سأعطيكِ كل شيء لديّ، أفديكِ بروحي، ولكن لا تُحزني نفسكِ وتتألمي بسببي، واقسم بالله انه لو كان بيدي لما أطلقت النار عليه، لقد كان خطأً ندمت عليه ملايين المرات"
تقوس جانبيّ شفتيها وهي تصرخ بصوت عالي توقفه عن اكمال حديثه:" كفى، كفى"
صراخها أخرس لسانه، وتغيُرِ تعابير وجهها المصدومة إلى الغاصبة والمنهارة جعلته يتوقف عن التفوه بالكلمات أكثر.
انتحبت بعد صراخها، وهي تخفض جسمها إلى الأرض وتجلس ويديها على وجهها
تبكي بصوت مرير، وهي تشهق وتقول بصوت يختنق مع كل كلمة تخرج:" لمَ... لمَ... خدعتني، لمَ كذبت عليّ، لمَ جعلتني أعيش معك، لم فعلت بي هذا، لماذا يكون أنت، لماذااا!"
لم يبقى من الكلمات غير الغصات التي استقرت في منتصف بلعومه وخنقتهُ، كان مسلوب الإرادة أمام انهيارها الذي تهرب دائما من تخيله، ليأتي في الواقع أمر من الخيال.
هي أمامه تقوس ظهرها وتبكي بحسرة، وهو لا يملك حقا واحدا يفعله لأجلها، حتى احتضانها والطبطبة عليها حق لا يملكه، فقط الوقوف بصمت كان خياره الوحيد.
***
ترتفع يدها إلى مؤخرة رأسها لتمسده وهي تقاوم موجة تثاؤب عميقة، تعدل من جلستها وتصلب ظهرها، وتحاول فتح عينيها على وسعهما لعلها تستعيد تركيزها وتبعد موجة النعاس التي تجتاحها كلما حاولت التركيز.
ولكن مُحالا ذلك!
فبعد قضاء الليلة الماضية في مشاهدة أحد المسلسلات التلفزيونية، كان نصيب نومها ثلاث ساعات فقط، لتستيقظ بعدها بمنتهى الإرهاق والمرض.
مع انها تعرف عاقبة هذا الأمر، ولكنها لا تردع نفسها عن ذلك!
أبعدت نظارتها الطبية عن عينيها البنتين الواسعتين، لتتركها على الطاولة أمامها بجانب بعض الأوراق والاقلام
تضع ذقنها على راحة يدها، وتحاول التركيز على ما يقوله الدكتور في أول القاعة الصغيرة، ولكنه كان ملل بالنسبة لها، وهي في حاجة ملحة للاسترخاء
تغمض عينيها اللتان قاومتهما طويلا
تحاول الثبات على يدها، والنوم يتسلل سريعا إليها
كانت تطمع في القليل من الراحة، وها قد حصلت عليها أخيرا!
حل الصمت على القاعة وهي تأخذ غفوتها القصيرة، ولم تشعر بوقع صوت القدمين اللتان اتجهتا نحوها
ضرب بمجموعة من الأوراق على سطح الطاولة
استيقظت مفزوعة، وقفزت من مكانها مرعوبة من الضربة، وضعت يديها على منتصف صدرها وهي تستعيد جميع حواسها، اغمضت عينيها وهي تتنفس بعمق وتقول متأوهة بعد ان لمحت الذي ضرب طاولتها:" لقد أرعبتني فلقد خيل إليّ ان صاروخا قد سقط علينا"
انطلقت الضحكات الخافتة من حولها لثانية، واختفت في الثانية الأخرى.
ترفع عينيها النصف مفتوحتين لتقابل عينين سوداويتين واسعتين، وانف منحني بدقة، وجسد بنفس طولها تقريبا أو أقصر أو انها هي الطويلة أكثر من اللازم!
كان يجب ألا تستخف دمها أمامه، فهو دائما ما يتصيد اخطائها!
كان ينظر إليها مباشرة، وحاجبيه الكثيفين مرفوعان باستحقار
كان يحك لحيته الخفيف بيده مرة، وفي المرة الاخرى يطقطق أصابعه تعبيرا عن نفاد صبر
ظهرت على شفتيه ابتسامة متهكمة ومستخفة بمن امامها
تلك الابتسامة التي تراها في كل مرة تخطئ فيها ولو كان خطأً بسيطاً
ويجعلها تشعر أنها لا شيء أمامه!
وبأنها أحقر مخلوق موجود على سطح الكرة الأرضية!
ابتلعت ريقها، وهي ترفع يدها إلى حجابها الأسود لتعدله وتتجنب نظراته الغاضبة
أخيراً تكلم بعد طول انتظار منها لكي يحرك ساكناً، وينهي هذا الموقف المحرج:" أخرجي"
حسناً...كانت تتوقع أن يطردها بهذه الطريقة المخزية، فهذه هي المرة الثانية التي تحصل، وكانت المرة الأولى قبل أشهر، وعلى كل حال فهي قد ندمت عليها قليلا!
لم يعجبها طردها بهذه السهولة، فقالت بصوت خافت محرج وهي تتصنع الابتسامة:" لم ارتكب أي خطأ، كنت اتخيل فقط، أو قل انه من شدة اندماجي في المحاضرة"
أغمض عينيه وهو يحاول ان يمسك اعصابه، ولا يصل إلى مرحلة الغصب بسببها.
رص على فمه وجعله كالخط، وهو يقول بنفس ذلك الهدوء:" أخرجي"
ويشير ناحية الباب الذي على يمينه
بللت شفتيها وهي تحدق إلى المتواجدين باستحياء وخزي من هذا الموقف الذي وضعها فيه، نطقت بعد ان اعادت نظراتها إليها وهي تشعر بالغضب وفي قرار نفسها ترى أنه يظلِمُها:" أنا لم أقصد..."
وقبل ان تكمل باقي جملتها التي خرجت من دون تفكير، انتابتها فجأة موجة من الضحك، كانت ردة فعل عكسية تحصل لها أحياناً، وضعت يدها على فمها لتسكتها وهي تهمس من روائها:" أعلم أنه ليس الوقت المناسب للضحك ولكن"
وانفجرت بالضحك وهي تضع كلتا يديها على وجهها.
هي تعلم انها بهذا قد ارتكبت أكبر حماقة في حياتها
وتعلم انها مجنونة!
ولكن لا يجب ان يكون هذا أمام الطبيب عامر، لأنه لن يرحمها أبداً!
***
صدمت رأسها على الطاولة الخشبية للمرة الثالثة على التوالي، وهي لا زالت تشعر انها بحاجة للضحك من جديد، ولكنه ضحك يرافقه خيبة أمل
أغمضت عينيها وهي تشعر بانها قد هدأت قليلا
ما ان غرقت في الضحك وفرغت ما بداخلها، حتى صمتت وقد هالها رؤية وجه الطبيب عامر المصعوق، فلقد كان مصدوما وبعنف للتحول الذي حصل لها ولضحكها غير المبرر والذي ينافي مكانه، والذي لم يكن يتوقعه حتى في أحلامه.
لقد أخطأت عندما أسرفت في أكل الفطور مع زميلاتها، وأكثر ما أكلته كان الحلويات، وهي تعرف ان الحلويات تسبب لها الهستيرية، ولكنها لا تتوب!
في نهاية الأمر، أذعنت له بعد أن استوعبت فادحة الأمر الذي قامت به وعواقبه
ولأنه لم يتكلم معها ثانية انما ابتعد وذهب ليكمل ما كان يقوم به.
ضربت بيديها على الطاولة وهي ترفع رأسها، وتحدق بصديقتها سلوى التي تدق بأظافرها على سطح الطاولة وتشرب من كوب قهوتها، اجفلت الضربة سلوى فقالت وهي تعقد حاجبيها:" يا إلهي، أمل أرجوكِ كفي عن هذا فكوب القهوة يكاد ينسكب عليّ"
وضعت أمل الإبهام على السبابة وهي تقاطع حديث سلوى وتشير إلى يدها:" انظري أنه فقط بهذا الحجم، وكيف لهذا الجحم أن يراني كذبابة مزعجة، ويعاملني بهذه الفظاظة، وما مشكلة النوم! أن غفوة لثانية واحدة فقط بسبب التعب أهذه جريمة يعاقب عليها القانون"
هزت منكبيها وهي تنفض ذكرى ذلك الموقف وتكمل بقهر:" انه شخص كرهيه جدا، ولا استغرب كره الكثيرين له بسبب أسلوب تعامله، فهو شخص متكبر، ودائم العبوس فلم أراه في حياتي قط مبتسما، إنما متذمر ومتهكم على أتفه الأسباب"
كانت سلوى تنظر إلى أمامها وهي ترسم ابتسامة خرقاء، لم تكن ابتسامة انما كانت بعض الإيماءات الغير مفهومة لأمل!
سمعت صوت رجالي يأتي من خلفها:" وأنا أظن أن قمة الاستهتار هو ألا تهتم بآداب الزمان والمكان الذي أنت فيه، وتعطيه حقه من الأقوال والأفعال"
ذلك الصوت لم يكن صوتا غريبا عنها، ولكنها لم تعر كلماته أدنى اهتمام
فهي لم تظن أن الكلام كان موجها إليها، إلا عندما سمعت صوته الذي تردد ثانية، وجعلها تعي انه الطبيب عامر وأنه يقصدها:" ما بال قلة الآدب في هذه الأيام، يبدو ان بعض الأشخاص قد خلعوا رداء الاحترام ولبسوا رداء النفاق، ويأكلون من لحمك بدم بارد"
كان يوليها ظهره عندما وقفت والتفت إلى مصدر الصوت، رأته يجلس على إحدى الطاولات القريبة منها مع زميل له
ولسوء حظها الذي ازداد سوءا، عندما همت بالتحرك من الصدمة والاحراج علق طرف قميصها الطبي بالكرسي ليختل توازنها وتسقط معه إلى الأرض وتنعكس الصورة على رأسا على عقب.
كان موقفا لا تحسد عليه، فالموت أفضل منه!
أخذت ثواني قليلة تنظر إلى قدميها اللتان في الاعلى وهي مصعوقة!
تحاول التحرك فلا تستطيع من الصدمة
جاءتها سلوى بسرعة وساعدتها على الاعتدال، وقفت وجسمها يؤلمها، ونبضات قلبها تجري في صدرها، تنظر إلى كل اتجاه في القاعة الكبيرة وهي تشعر انها تتقلص من الاحراج، فبعضهم يضحك عليها أما البعض الاخر فينظر باستغراب.
امسكت سلوى ذراعها تقودها تجاه المخرج، ونظرات أمل لا زالت تنتقل بين طاولتها التي تركتها وعامر الذي يعطيها ظهره، قالت لسلوى بصوت عالي وهي تشير إلى الطاولة، ولازالت اثار الصدمة واضحة عليها:" لقد نسيتِ قهوتكِ"
ردت سلوى بهمس وهي ترص على اسنانها:" تبا، دعكِ منها! فأنتِ سكبتي نصفها على ملابسي"
واكملت وعيني أمل تنظران إلى ثوبها الأخضر تحت قميصها الطبي الأبيض المبقع بلون القهوة:" لم أحرج في حياتي كهذا اليوم، أمل لمَ لسانكِ تكلم بالتحديد، يا إلهي لم تري وجهه الذي أراه لأول مرة وهو مصدوم، لقد أحمر بشدة، لا أعلم كيف أمسك أعصابه وهو يسمعك تسبينه!"
***
كانت تستلقي على سريرها عندما رن هاتفها النقال الذي بجانبها، وضعت رأسها فوق ذراعها وهي تنقلب تجاهه، تمتد يدها إليه لترفعه وترى أسم المتصل.
تحبس دموعها المنهمرة، وهي تقرأ أسم علي المكتوب على شاشته.
جلست وهي تبعد شعرها القصير عن وجهها، وتمسك بالهاتف بكلتا يديها، تضغط على زر الرد وهي ترفعه إلى أذنها، وقبل ان تصدر منها أي كلمة جاءها صوته الخالي من الرحمة:" تبا لكِ، إلى متى سوف اتصل وأعطيكِ الأسباب وادفعك للفعل لا للقول، أنتِ ابنة عاقه وغير مشرفة لعائلتنا، حتى والدكِ لا تستطيعين الانتقام له، تأجلين الامر وتتهربين من اتصالاتي، أقسم بالله أن أغلفتي على وجهي مثل تلك المرة أو تجنبتي اتصالاتي انكِ سوف ترين ما لا يرضيكِ مني، ترفه يجب عليكِ الحذر مني فأنتِ لا تعرفينني جيدا، ألا تستطيعين فعل شيئا له للانتقام أي شيء يهزه تخبرنني بنقاط ضعفه، واغلى ما يملك أو على الاقل لو أطلقتِ النار عليه واصبته في ساقه فهذا سيكون بمثابة شرف لكِ لأنكِ انتقمتِ لأخيكِ منه"
علي عديم الإحساس، فهو لا يشعر بالعذاب الذي تعانيه!
لا يعلم انها تختنق في كل ثانية تمر وتموت في اليوم ألف مرة، وتتمزق في كل لحظة تفكر فيها
لا يعرف كم من الدموع تتساقط، وكم الغصات تحبس!
وكيف تشعر وحياتها انهارت وتيتمت للمرة الثانية، من دون ان يكون هناك مجال للترميم، وفقدت استقرارها وكل شيء بنت عليه حياتها.
قبل أن يُكمل علي باقي هذيانه، صرخت عليه:" رجاءً، أتركني وأصمت وأرحل عني، فلقد اكتفيت منك ومن غيرك، ألا تشعر! أليس لك قلب! انني متعبة جدا ولا أريد سماع المزيد منك" وأغلقت على وجهه واقسمت ان لا تحادثه بعد اليوم.
كان جلوسها بين جدران غرفتها القرار الذي اتخذتهُ بعد مواجهتها مع ذياب
دموعها التي اغرقت وسادتها، كانت المتنفس الوحيد للبؤس الذي تعيشه
لا تعلم ولكنها لا زالت في حالة صدمة عنيفة، لا تستطيع الخروج منها!
فذياب ومنذ ذلك اليوم وهو يحاول الحديث معها في الهاتف أو في الرسائل النصية ويطلب منها مقابلته، ويحاول طلب مغفرتها، ولكنها ترفض بشدة ولا تعطيه المجال لرؤية طرف منها، فهي قد أعلنت الحداد على نفسها.
كانت أمها تحاول وبشدة معرفة ما يدور حولها، فذياب لم يخبرها بشأن خداعه لهم وكذبه عليهم بأنهم أقارب، وإنما الحقيقة هي أنه أخذها لأنه كان يشعر بالذنب فقط، وليكفر عن ذنبه، ويقتلها به ويجعلها تشعر أنها شخص مخذول.
وفي كل يوم، كانت أمها تمر على غرفتها من مرتين إلى ثلاث، تحضر لها الطعام، أو تدخل لتحدثها قليلا، وتحاول حثها على قول أسباب سوء حالهما، وما بالها وبال ذياب الذي لا ينطق.
أما ترفه فكانت تلزم سريرها وفي مرات قليلة تجلس قرب النافذة التي تجعلها مفتوحة طوال اليوم
تقف قرب النافذة والهواء البارد النقي يعبث بشعرها الناعم الذي لم تمشطه منذ أيام، وعينيها يمتد بصرها إلى الخارج، إلى الرمال الصحراوية والأشجار التي تناثرت في كل مكان، يخيل إليها في هذا الوقت من الغروب وتحت ضوء القمر ان تلك الأرض تدعوها للذهاب إليها لكي تخفف من حزنها.
أمها الواقفة ورائها، تنطق بعد صمت قصير وبعد أن طافت في الغرفة لترتب بعض الأغراض فيها:" ترفه أنا غاضبة منكِ ومنه، وأريد سؤالك قبله فأنا لديّ تصرف أخر معه، ما الذي يحدث معكما! لماذا أكون أنا خارج الدائرة بما يحدث هنا ولا أعرف شيئا، أسأل فلا يرد على اسئلتي! أتوسل فلا أجد إجابة، ألست أمكما! تعبت في تربيتكما وهذه حصيلة تربيتي! أهكذا أُكافئ!"
كانت كلمات أمها تقطر حزنا، تؤلم قلبها الذي حن إلى احضانها وإلى مشاركتها أسرارها.
ألتفت ترفه إليها وشفتيها تتقوسان، كانت تكتم الكثير وتحاول الخروج من تلك الدائرة التي هي فيها.
ابتلعت الثلاث خطوات الفاصلة بينها وبين أمها، لترتمي في أحضانها، تشد جسدها الحنون إليها
وتبكي بصوت مسموع خرج أخيرا بعد كل هذا الكبت، تطبطب أمها على ظهرها وتشدها إلى احضانها هامسة بحنان:" أبكي يا أبنتي ان كان البكاء يريحكِ، واخرجي ما في قلبكِ فأني كلي لكِ آذان صاغية"
من بين صوت بكائها قالت:" أمي.. أن الذي في قلبي لا يقال، والذي أشعر به أكبر من قوة احتمالي، والنطق به صعب"
تزيد من قوة الاحتضان وتكمل همسها:" أمي أنا أحبكِ كثيرا، ولا أعلم كيف كانت ستكون حياتي لولاكِ، لولا وجودكِ الآن معي لفقدة عقلي وفعلت أشياء لا تليق بأخلاقي"
لا زالت أمها تُطبطِبُ على ظهرها وتحثها على افراغ ما بجعبتها، ولكنها فضلت الاحتفاظ به لنفسها
فهي لا تريد ان تُحزن أمها في أبنها الذي تعشقه، فهي لا دخل لها فيما بينها وبين ذياب، فأمها ربتها كأبنتها من دون مقابل، ولم تبخل بحنانها وعطفها عليها.
ذهبت أم ذياب عنها بعد ان يئست منها، وهي غير راضية عن حالها الذي هي فيه.
بعد وقت طويل جدا من الجلوس في الصمت الخانق الممتلئ بالحسرات والآهات.
سمعت صوت الباب يطرق، لم تجب على الطارق، فدخل من دون أذنها، رفعت جسمها عن السرير وهي تجلس على طرفه، وعقدت حاجبيها بغضب ونظراتها تسقط على الخادمة.
صرخت عليها:" لمَ تدخلين، وأنا لم أسمح لكِ بذلك!"
كان وجه الخادمة الأسمر شاحباً، وعينيها الحمراوين تنظران إليها باضطراب، تقدمت خطوتين قبل ان تقف وجسمها يرتجف:" انستي، المنزل خالي من السيد والسيدة"
غرفت عينيها بالدموع فجأة وهي تكمل بصوت مخنوق:" هناك رجل يريدكِ، انه يهددني بالقتل إن أخبرت أحداً بوجوده لهذا لم أتصل بهما، أرجوكِ ما الذي يجب علينا فعله فأنا أكاد أموت من الرعب فالرجل يحمل سلاحا وهيئته مخيفه وكأنه رجل عصابات"
قفزت من سريرها كالمصعوقة، نظرت إليها وعينيها متسعتين من الدهشة، وقالت بصوت عالي:" علي، أنه علي أنا متأكدة من ذلك"
أكملت وهي تشدُ يديها كقبضة، وتتقدم بتجاه الخادمة التي ترتعد أمام الباب:" ما الذي أحضره إلى هنا، وما الذي يريده، اللعنة عليه!"
كانت الخادمة تهز رأسها بجهل، لترد بصوت مرتجف:" لقد وضع السلاح على رأسي فخيل لي انه سيطلق لا محال، ترفه أرجوكِ لا تذهبي إليه فأنا أخاف أن يقتلنا، يجب علينا أن نخبر السيد"
لم تعر حديثها أي اهتمام، إنما تقدمت لتتجاوزها نحو الباب وتفتحه ولكن وقبل أن تخرج أمسكت الخادمة ذراعها تترجاها بعدم الذهاب، ولكنها نفضت ذراعها منها لتخرج.
فعلي أخوها ومن المستحيل أن يقوم بإيذائها، إنما تظن أنه غاضبا بسبب تصرفاتها معه، وأنه لم يستطع التحكم في أعصابه فجاء إليها
ستناقشه وتحل الأمر معه بكل بساطة
وتخبره أن يأخذها معه ان أمكنه ذلك
لأنه لا يمكنها العيش مع ذياب بعد اليوم، فحياتها معه قد انتهت منذ معرفتها لحقيقة خداعه لها
في أول الصالة وقفت بعد رؤيتها لعلي الواقف مستندا على الباب الخارجي
لم يختلف شكله عن المرة السابقة التي رأته فيها، فبدلته الرمادية الأنيقة تشبه تلك التي كان يلبسها
كان يدخن وينفض غبار سيجارته إلى الأرض، ويمسك بيده الأخرى الهاتف وهو يتحدث بصوت منخفض
يعقد حاجبيه لثانية ويرخيهما في الثانية الأخرى، وهو يرسم ابتسامه صغيرة خبيثة على شفتيه
نفث دخانا كثيفا، وهو يرمي السيجارة من يده وعينيه تريانها
اغلق الهاتف فورا، ووجهه الاسمر لم يظهر أي ردة فعل على رؤيتها
جر قدمه المصابة وهو يتقدم بتجاهها، وهي تقدمت بخطوات مترددة ناحيته
للحظة شعرت بالذعر، وضاق صدرها من النفور الذي أحست به تجاهه!
توقفت هي قبل ان يتوقف هو على بعد خطوتين منها
عينيه الخالتين من المشاعر حدقتا بها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها
وقبل أن يصدر أي ردة فعل أو يتحدث، قالت هي بسرعة ويديها على خصرها:" ما الذي أحضرك إلى هنا؟ انت لم تعطني الوقت الكافي للتفكير واتخاذ القرار النهائي، وأيضا انت تصر على فرض رأيك عليّ، ولا تجعلني اتخذ قراري بنفسي! ولكنني قررت الآن انني سأترك كل شيئا له وان كنت تستطيع أخذي معك فخذني بعيدا عن هذا المنزل"
صمتت بعد سردها السريع للكلمات، ولكن وقبل ان تستعيد انفاسها لتكمل، جاءها كف سريع وقوي على وجهها وأخرسها
لم تستوعب ما حصل لها، لأن علي انقض على شعرها يمزقه بين يديه ويجرها به إلى الخارج، حاولت مسك يديه عنها، ضربه بكل قوتها للخلاص منه، تضرب صدره مرة ومرة أخرى بطنه، تصرخ عليه من شدة الصدمة والألم:" أتركني، أترك شعري ولا تضربني" ولكنه يزيد من قوة شد شعرها، وكأن ضربها له لا يؤثر فيه اطلاقا فهو كالحجر.
يدفعها على باب سيارته، يمسكها من ملابسها ليرفعها ويُلصقها على زجاج النافذة، يبصق عليها ليلجمها، ويحول صدمتها إلى اندهاش واضطراب يبعثر استقرارها النفسي
يرص على اسنانه وقد كبرت عينيه فجأة، يصرخ على وجهها قائلا:" لقد طفح الكيل، لقد حذرتكِ مسبقا مني، ولكنكِ لم تلتفتي إلى تحذيراتي"
يرص على قبضته الممسكة بياقتها، ويرفع يده الأخرى الحاملة للمسدس إلى رأسها، ينتفض جسمها ويتشنج وعينيها المتسعتين مصوبتين إليه من دون ان ترمشان، يهزها بعنف ويكمل وعينيه لا تحيدان عنها:" إن كُنتِ تريدين مني أن أخذكِ معي فسأخذكِ واقتلك بيدي أيضا، إن كان هذا يرضي غروركِ!"
وبوجه غاضب غير متردد يضغط بفوهة المسدس على رأسها
نبضات قلبها تطرق صدرها بعنف
ويلتصق شعرها على جانبيّ وجهها المبهوت من الرعب
وتتنفس بصعوبة وتشهق وهي ترى الموت في نظراته المحدقة بها
كانت متجمدة لا تحرك ساكنا أمامه، انما انصتت برعب إلى صوته الذي اختلف لتظهر ابتسامة مخيفة على وجهه وتبرز تجاعيد عينيه، وهالاته الداكنة:" ولكن أظن انني سأغير رأيي من ناحية قتلكِ، لأنه اتضح أنكِ أكثر نقاط ضعفه تأثيرا"
أبعد يديه عنها، ليبتعد المسدس عن رأسها وتسقط على قدميها المخدرتان من الفزع.
بقسوة أمسك ذراعها ودفعها بعيدا عن الباب ليفتحه ويعيدها بنفس القسوة إلى داخل السيارة
زجها إلى الداخل من دون ردة فعل مقاومة منها
جلست على المقعد الجلدي وظلام الليل يخفي كل الألوان عنها، احتضنت جسمها المرتعش
وأغمضت عينيها وهي تبتلع غصة وقفت في منتصف صدرها
كانت غير قادرة على اخراج الكلمات أو الصراخ، فصوتها لا يخرج انما يختنق مع كل نفس يخرج منها.
فلقد صدمتها ردة فعله وأرعبتها!
فهي لم تتوقع ان يكون قاسيا عليها وهي أخته!
من البداية تغاضت عن شكله المخيف، وعن تصرفاته التي كانت تدل على قوة بطشه وعنفه.
ولكنها لم تضع في الحسبان أن يضربها بهذا العنف ويهدد بقتلها، انما تصرفت معه كما تتصرف كالعادة مع أيّ شخص، وكان هذا خطأً لا يغتفر منها
والآن وبعد تهديده لها ايقنت انها لن تفلت من عقابه، وسيكون حسابها عسيرا.
***
كان يحبس نفسهُ في معظم أوقات فراغه وبعد عودته من العمل في غرفة مكتبه، كان يجلس فيها هو يشعر بالاكتئاب الشديد بسبب ماحل بترفه من بعد معرفتها للحقيقة.
كانت تمتنع عن الطعام والكلام، وتمتنع عن رؤيته وترفضه بشدة عندما يحاول طلب مغفرتها أمام باب غرفتها.
أما الآن فأصبحت عادته تصفح الكتب التي لديه، قراءتها مرارا وتكرار لعلها تشغل وقته عن التفكير بها، وتنسيه همومه التي تزيد من حجم معاناته
وأيضا لكي يغطي على نفسه ولا يجعل ما به مكشوفا لأمه
أمه التي كلما رأتهُ يدخل من باب الصالة أو يخرج من غرفته ذاهب إلى غرفة مكتبه تأتي بطعام الغداء لأجله، ليحمله عنها في احراج، ويحدثها بصوت مخنوق وعينيه تحدقان بعيداً عنها في توتر:" سلمت يديكِ يا غاليتي، أنا سأحضره في المرة القادمة، أرجوكِ لا تتعبي نفسكِ به"
تكشف عيون أمه ما به عندما ترتفع لتنظر إليه مطولا دون حديث
كانت تضيق عينيها في ضيق منه، فتبرز تجاعيدها لتوضح مقدار معرفتها به
واجهتهُ في أول الأمر، وبعد ان رأت ترفه تخرج من غرفة مكتبِه منهارة وتبكي، وكان هو قد ذهب إلى غرفته بعد ان أصيب بالإحباط والالم من ذلك الموقف العصيب
أغلق الباب عليه، وبعد ثواني قليلة دخلت أمه عليه من دون طرق، حدق وجهها الذي لا زال مصدوما به، انتظرته لمدة قصيرة لعله يخبرها قبل ان تنطق، ولكنه ذرع الغرفة بصمت، فقالت وبصوت منخفض النبرة ولكنه منزعج النفس:" أخبرني ما الذي يحصل! ما بال ترفه، هل حدث لها أيّ مكروه ولم تبكي بهذه الطريقة وتتلفظ بهذه الالفاظ الغريبة عنها" "
توقف في مكانه، وهو يحاول طرد الألم الذي يشعر به، والتخفيف من شدة توتره ومحاولة جعل نفسه طبيعيا أمامها
صمتت قليلا قبل ان تكمل وحاجبيها ينعقدان بحيرة واستغراب لحاله وكأن مصيبة حلت على رأسه:" ذياب إني ومنذُ زمان طويل حينما جئت بها إلينا وأنا اشعر أن هناك شرخا كبيراً حدث فيك، بُني أن حدسي لا يخطأ فيك، أنت لم تعد ذياب القديم الفتى المليء بالحيوية والنشاط والذي يحب المغامرة، إنما أصبحت شخصا حذرا في كل خطوة ومترددا عند كل كلمة، تخفي وراءك الكثير من الهموم والاحزان، نظراتك تفضح عنك ووجهك يظهر الكثير، ما الذي بينك وبينها أفصح عنه، أخبرني لعلي أساعدك فيه"
لانت ملامحها، وهي تقترب منه وتمسك يديه بين أصابعها الناعمة
تشد على يديه، تنتقل كفها الى كتفه الأيمن لتربت عليه وتحثهُ على التحدث
ولكنه لم يستطع النطق بأي كلمة، لأنهُ غص بالكلمات وأصبح اخراجهن من أحباله الصوتية صعبا
أنه صعب بقدر تذكره لها، فتلك الحادثة لا زالت شديدة التأثير على نفسه، فكيف لو عرفت أمه بها!
توسل إليها بعينيه لعلها تُعفيه من الجواب، وترحمه من الذكرى لأنها موجعة.
لم يعطيها أي إجابة، انما حاول التعلث طوال تلك الفترة، واخبارها أن ترفه اكتشفت أن أخيها شخص سيء وأنه لا يريدها، وهذا ما استطاع قوله لجعلها تكف عن الإصرار لمعرفة ما يخفونهُ عنها.
ولكن أمه لم تقتنع بما قاله، إنما توجست من الأمر خفية، لم تظهر ذلك ولكن كانت تصرفاتها واسئلتها تحاصره في كل مرة، إلى ان أشتد غضبها وأرهقها حال ترفه، فأصبحت ترميه بالكلمات في كل حين، تلمح عن شكوكها مرة ومرة أخرى تقولها بصريح العبارة انها تشك فيه، وأنه يكذب عليها ويخبئ عنها امراً جليلاً.
ولكن اليوم على غير العادة مؤخرا استقبلته أمام الباب، وبعد أيام من الصدود الذي بدأت تمارسه معه، وكان فيهم يحاول استرضاءها ووضع الأعذار لها لكي يخفف من شدة غضبها.
كانت تزيل بعض الأوراق والحشائش عن نباتاتها التي في الواجهة، عندما اقترب منها وهو يحمل حقيبته السوداء ويلبس بدلة العمل الزرقاء
في الحقيقة لم يكن استقبالا، ربما كانت صدفة هي تواجدها في الخارج في هذه الظهيرة
انخفض إليها وإلى رأسها المنخفض إلى الأسفل وهي لا زالت تقوم بعملها، طبع قبلة على رأسها الذي تغطى بوشاح ازرق مزخرف، أحتضنها قليلا وهو يهمس:" السلام عليكم، كيف امسيتي يا الغالية"
اخذ نفسا عميقا ليضيف:" أرجوكِ أرفقي بي، فأنا لا أقوى على غضبكِ"
بصوت منخفض ردت السلام عليه، وهي لا زالت كما هي لم تعتدل من جلستها، ولم تنظر إليه.
أبعد يديه ببطء عنها، وهو يعتدل ليقف، وألما يشق صدره على عدم قُدرته على تغير هذا الوضع المجنون الذي هو فيه.
فالآن أصبح الوضع أصعب وأمر بغضب أمه عليه، وقبل ان يحرك خطواته بتعب واحباط ويأس من مسامحة أمه له وتبديد شكوكها عنه.
سمع صوتها الهامس يقول:" أريد الذهاب معك إلى أحد اقربائي بعد صلاة المغرب".
بعد صلاة المغرب، كان ينظر نحو الممر الطويل والغرف التي تواري غرفة ترفه عنه، وبابها الخشبي الذي يخفيها عن ناظريه
فهو لا يجرؤ على الذهاب إليها بعد الآن
ولا يجرؤ أيضا في المحاولة مع أنهُ يتوق لذلك
لأنه توصل إلى أنه ليس له الحق في ذلك، وأنه يجب أن يدفع ثمن إخفائه لتلك الجريمة التي ارتكبها في حقها، إلى أن تغفر هي له.
جاءت أمه بعد مدة قصيرة، بمشيتها البطيئة التي وضح العمر عليها، ولباسها الأسود يغطي كامل جسدها ليظهر وجهها وكفيها فقط
كان وجهها الأبيض متعكر الملامح، وعينيها متوتران ترمشان كثيرا، تبعد نظراتها عنه وهي تمشي باتجاهه، تجرح قلبه الذي اعتاد على نظرات اللهفة والمحبة منها، أسرع إليها وقد ضاق صدره على التعب الواضح عليها، وندم كثيرا على جعلها تعاني بسببه
أمسك كتفيها في ضمة يحاول فيها احتوائها، فلم تمانع هي ذلك إنما مشت معه نحو الباب وخرجا.
في السيارة وعند ذهابهما لم تتطرق أمه إلى موضوع ترفه، وكان الصمت رفيق بداية الطريق إلى أن فتحت أمه موضوع اقربائها وأخذت تحدثه عنهم، وكأن لا شيء حدث بينهما ولم يكن هنالك أيّ خلاف، انما عادت المياه إلى مجاريها.
بعد زيارتهم لأقرباء أمه البعيدين عن منطقتهم، وبعد وداعهم الذي استمر دقائق قصيرة، خرجا بالسيارة من تلك المنطقة السكينة الريفية
كان في الطريق لا يفقه شيئا من صوت الراديو العالي، كان جل اهتمامه منحصرا على ترفه التي تركها لوحدها في المنزل مع الخادمة، كان قلقلا عليها، ومشتاق لرؤيتها، ولرؤية ابتسامتها التي اختفت بسببه، انقبض قلبه وهو يشد على المقود ونظراته منصبة أمامه إلى الأضواء التي تختفي وتعود وإلى الشارع المظلم الخالي من السيارات، كان يزيد من سرعة العداد من دون أن يشعر، الى أن نبههُ صوت أمه:" على رسلك يا بني خفف من سرعتك"
خفف من قوة ضغطه على الفرامل، وهو يأخذ نفسا عميقا ويلقي نظرة سريعة على أمه التي كانت تحدق به بعيون حادة في هذا الظلام، عدل من جلسته لعله يعيد تركيزه الذهني إليه ويبعد التوتر قبل أن تلاحظه أمه
همست له بصوت غامض:" لقد أجلنا الأمر طويلا، وبات التأجيل مجرد أعذار واهية وغير محترمة، فأنا قد مللت من الانتظار، ومللت من رؤيتك تعيش بهذه الطريقة وأنت متعلق بالفتاة بهذه الدرجة غير المعقولة وكل شيء تأجله من أجلها، وما تهذي به عندما أفتح الموضوع معك هو ترفه وترفه وكيف ستعيش ترفه ومن لها، وكأنك لا تعيش من دونها".
عقد حاجبيه متفاجأً من كلماتها التي فجرتها فجأة بينما هو يلتفت تجاهها، تصبب عرقه بتوتر الجو، وهو غير قادر على الرد على غضب أمه الذي وضح في صوتها الذي كان يخنق مشاعره.
أكملت أمه بصوت جاد وهي تبعد نظراتها الغاضبة عنه، وتكتم غيظها وتنظر إلى الطريق الذي وجه نظره إليه أيضا:" الآن أذهب بي إلى منزل أختي لكي نخطب علياء رسمياً، ونحدد يوم الخطوبة"
رفع يده إلى صدغه وهو يدعكه باضطراب، وباليد الأخرى شد على المقود، وقال بانفعال وهو يرفع من درجة التكيف:" أمي، الوقت ليل وغير مناسب، وهناك بعض الأمور المعلقة التي يجب حلها أولاً، وأرجوكِ انتظري قليلا عليّ وسأفعل بعدها كل ما تريدينه"
شهقت أمه قبل أن تعيد نظراتها المصدومة إليه، ويعلو صوتها وهي تقول:" ما أريده أنا، بعد كل هذا الانتظار والتأجيل يكون الأمر هو رغبتي أنا! وليست رغبتك أنت!!"
ارتفعت يد أمه إلى الأعلى لتشير لهُ بالتوقف وقد احتد صوتها:" توقف على جانب الطريق فأنا قد ضقت ذرعا منك، وصمت كثيرا لعل قلبك يرق عليّ ويخبرني بما يخفيه"
وقفت السيارة على جانب الطريق وعلى الرمال الصحراوية، وبقرب إحدى لوحات الطرق ومصابيح الشارع الصفراء تسقط ضوئها عليهما.
أمه الجالسة على الطرف الأخر، كانت تضم ذراعيها إلى صدرها، وقد ازدادت العقدة بين حاجبيها ضيقا، أما اتساع عينيها فكان يعبر عن غضبا عميق، الصقت شفتيها ببعضهما قبل ان تفرج عنهما موجهة كلماتها إلى داخله الذي عثاه الاضطراب:" أن كنت ستستمر بوضع الاعذار والتهرب، ما رأيك في إلغاء الأمر برمته قبل أن يمضي عمري وعمرك هباءً، وتترك علياء لتلملم باقي عمرها بعيداً عنك، وتتزوج من ترفه أن كنت تهيم بها ولا تستطيع رؤية عداها"
اتسعت عيناهُ دهشة من كلمات أمه الأخيرة، وارتفعت يداهُ إلى وجهه لتمسحه، وهو يبلل ريقه بصعوبة قبل أن يقول بصوت مأخوذ بما سمعه:" أمي كيف أتزوج من ترفه، أمي كيف وصلتي إلى هذا الاستنتاج غير المعقول والذي لم أفكر به اطلاقا، فترفه مثل أبنتي وأنا شاركت في تربيتها معكِ"
قاطعته أمه باستهزاء وصوتها الغاضب لا يزال يحتفظ بنبرته:" لا داعي لتفكر به فهو واضح من أفعالك قبل أقوالك، وشاركت في تدلليها وتنفيذ رغباتها بشتى الطرق حتى وصلت إلى مرحلة الهوس"
صمتت قليلا لتتحول نبرتها إلى الساخطة:" ذياب أكاد أصاب بالجنون بسببك في هذه الفترة، لقد أوصلتني إلى أقصى مراحل الغضب والشكوك، حتى أوصلني الامر إلى النبش في أغراضك لعلي أجد فيها ما يدلني على ما تخفونه عني أنت وهي ولم أجد شيئا يدينكما، الآن اعترف لي، أخبرني قبل أن يحصل وأغضب عليك إلى يوم القيامة".
انهارت الحواجز التي بناها أمامه عند قول أمه، وفقد قدرته في التمسك بأسراره، إلا غضبها وحزنها!
حتى لو تسبب في حزنها، فسيكون أخف من التهرب وإخفاء الأمر عنها، وكذبه المتكرر عليها والذي لا يتقنه.
فمن الممكن أن تضع هي الاعذار له كما وضعها غيرها من الناس، وقد ترى هي الموضوع من وجهة نظر مختلفة عن رؤيته!
ما بال قلبه قسى عليها، وكيف يجرؤ على ذلك!
وقبل أن ينطق ويفضفض لأمه عن كل شيء
رن صوت الهاتف الذي كان معلقا أمامه على الزجاجة الأمامية في ذلك الصمت القصير، لينبههُ على اتصال أتي من رقم مجهول
وضعه على الصامت واهملهُ حتى أغلق من نفسه
أخذ نفسا عميقا وهو يلتفت إلى وجه أمه الذي ينتظر اجابته بنفاد صبر، وقال:" أعتذر منك على فعلي لهذا، فلقد كانت لديّ أسبابي والأمر صعب على نفسي .."
وقبل أن يسترسل في الحديث أكثر عاد الرنين العالي ثانية ليسكتهُ، عقد حاجبيه وهو يرفع يده إليه ويلتقطه مشيرا إلى أمه:" لعل الأمر طارئ أو من العمل، سأرد لأعرف من المتصل"
جاءهُ صوتً واضحً وخشن من الطرف الأخر:" وأخيراً، فلقد ظننت أنك لن ترد أبداً، فلقد نفد صبري"
اختنق بالهواء، وهو يشعر أنه يعرف جيدا صاحب نبرة الصوت هذه، كاد يكذبها بعد كل هذه السنوات، ولكن صوته تردد ثانية ليثبت حقيقة صاحبها:" لقد اشتقت إليك يا حثالة"
ترددت ضحكته المثيرة للاشمئزاز عاليا، لتذكره بكل تلك الذكريات التي كانت معه، وتذكره بمن أذى ترفه، وكشف لها الحقيقة التي عذبتهما كل هذه المدة!
انقبض صدره بشدة، حتى كاد يتصلب من شدة الضغط عليه
اتسعت عينيه وهو يضغط الهاتف على اذنه من الرعب
فلقد خيَّل إليه ذهاب علي إلى ترفه!
فهي لوحدها في المنزل!
يا لجنونه كيف لهُ ان يتركها لوحدها هناك، كيف لهُ أن يقترف مثل هذا الخطأ الفادح، لماذا نسي علي! وكيف هو بعد الذي فعله!
ضغط على الفرامل بأسرع ما يمكنه، وهو يرص على اسنانه بشدة ويقول:" ما الذي تريده!"
قال بصوته البارد، ونبرته الهامسة المستفزة تصيبه بالجنون:" أريد منك أكثر مما أخذت مني، أريد أن أحول حياتك إلى جحيم، أريد الانتقام والاقتصاص منك"
تشنج جسمه من شدة الانفعال، لهث وهو يصرخ عليه بصوت لم يستطع التحكم به: " إياك وإياك أن تقترب من ترفه، لأنني سأمزقك أن فعلت ذلك مرة أخرى"
نخر علي بعد كلمات ذياب، ليتبعه بصفير عالي شديد الاستفزاز، وقال ونبرته تدل على استمتاعه في اغضابه:" أذن هي إحدى نقاط ضعفك، كنت أشك في ذلك ولكن اتضح الآن أنها أكثر نفعا مما تبدو عليه!"
فقد قدرته على السيطرة على نفسه، فداخله يشتعل من الحرارة وجسده يرتعش من التأثير، أما الهاتف فكاد يتحطم بين يده التي تضغط عليه بكل قوته
شد على شفتيه واخرج صوتاً غاضباً يتوعد:" علي إني أحذرك وأحذرك للمرة المليون الحساب معي وليس معها، أيها المجنون إنها أختك من لحمك ودمك، أختك أيها اللعين".
لم تتغير نبرة صوت علي وهو يرد على ذياب ببرود قاتل: " الحساب معك وسيظل معك ومع كل ما يتصل بك ويخصك حتى ان كانت أختي التي لا تعني لي مقدار جناح بعوضة، فهي الآن مجرد أداة استخدمها لتحقيق انتقامي، وأيضا اجعل الحساب بيننا ولا تدخل الشرطة فيه وإن أدخلتها فأنك سوف تندم ندما لن تبرأ بعده".
وفي لحظة اغلق الهاتف على وجهه، وجعله كالمجنون يقول:" انتظر، علي، سحقا لك، اللعنة عليك"
ضرب ذياب بيده على المقود، ورمى الهاتف تحت قدميه بكل ما اوتي من قوة.
في لحظة يائسة أحس بيد أمه التي كانت تشد على ذراعه، وهي تصيح عليه بصوت خائف وهو يزيد من سرعة سيره التي تخطت المئة والثمانون:" ذياب ما الذي يحدث أخبرني، وما بها ترفه!"
قال ونفسه منهارة، وقلبه ينشطر عدة انشطارات غير متوقفة، وداخله يثور بين رعب وغضب:" أمي، ذلك المجنون يريد استخدام ترفه للانتقام، يريد اذيتها على حسابي، سأموت ان لمس شعرة واحدة منها، لا أستطيع تخيل ان صغيرتي قد تضرب منه، انني اعرفه جيدا فهو شخص عديم الرحمة ومجرم حقير نجس، اللعنة عليه".
|