كاتب الموضوع :
سميتكم غلآي
المنتدى :
ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
رد: أرواح متعانقة / بقلمي
المعانقة الثانية
بعد مرور عشر سنوات
" يبدو أن الأنسة ترفه خارج نطاق الخدمة حاليا"
" ويبدو انها قد سرحت بعيدا بأحلام يقظتها"
انطلقت ضحكات خافتة من حولي وأنا استفيق من سرحاني الذي لم يأخذ إلا ثواني قليلة، لأرفع نظراتي بامتعاض إلى المعلمة علياء والتي تقف في الامام وأمام الصبورة وهي تضع يديها على طرفيّ خصرها، وحاجبيها الرفيعين مرفوعان تحت عينين سوداوتين واسعتين، وكان الازدراء والاحتقار واضحا جدا على ملامحها، بدالتها نفس النظرة وأنا أضغط على شفتيّ قهرا وكره لها
علياء ابنة خالة ذياب لا تتردد أبدا عن اظهار مدى كرهها لي للجميع، ودائما ما تحاول احتقاري بين الطالبات ونفث سموم حقدها عليّ.
في وقت الفسحة، كان الجلوس مع صديقاتي المقربات في منتصف الساحة المدرسية عادة، فنحن عباره عن عصابة نفعل ما نريد وكيفما نشاء، فلا أحدا يتجرأ علينا إنما بعضهم يحاول التقرب والبعض الأخر ينفر منا.
أجلس في المنتصف وبجانبي أقرب واحدة من صديقاتي وهي ندى، تضرب كتفي لانتبه لها، أرفع نظراتي واستعيد انتباهي الذي كان بعيدا جدا عن المكان الذي أنا فيه، وانظر إلى عينيها اللتان تشيران إلى الامام إلى الساحة الامامية الممتلئة بالطالبات والمعلمات، إلى منطقة قريبة مني، تهمس لي بعد ان توجهت نظراتي إلى علياء التي تسير وحيدة وتحمل معها حقيبتها: " لا أعرف لمَ هي تكرهِك لهذا الحد! مع وجود صلة قرابة بينكما"
اضيق عينيّ وابعدهما عنها بغضب وأقول:" ليست قريبتي انما هي قريبة أهلي الذين أعيش معهم"
صمت قليلا لأضيف بحنق:" اظن انها مجرد شخص مجنون بالغيرة والحقد لمجرد انها أخذت لقب خطيبة ذياب، فتظن نفسها ان لها الحق فيه وفي كل شيء يخصه"
اهتز صوتي قليلا لأكمل:" هي لن تكون خطيبته، فانا لن أسمح لشخص مثل ذياب ان يتزوج شخصا مثلها فهي لا تناسبه أبدا"
كلماتي كانت مشدودة، مصرة على ذلك فأنا لن أسمح لتلك الافعى من التفريق بيني وبين ذياب بزواجها منه، ولن اجعلها تحصل عليه سأحاول منعه، سأترجاه فذياب يفضلني أنا ويجيب على طلباتي ولا يرفضها.
***
أجلس في غرفة المعيشة، وورائي أم ذياب، التي تسرح شعري الذي يصل إلى كتفاي، تشده قليلا وتقول:" لقد قصصته كثيرا، انى أرَ ذلك بوضوح، لقد تعبت منكِ، فأنتِ لا تستمعين إليّ، يجب عليّ معاقبتكِ"
تمسك أمي بشعري وتجره ويدها تنتقل إلى أسفل ظهري لتقرصه، أصرخ، أحاول ابعادها عني، وانا اضحك من شدة الألم الذي حصلت عليه من قرصتها التي لا زالت ممسكة بها.
ابتعد عنها، واقف وأقول ويدي تتلمس مكان القرصة:" أمي إنه شعري، إنه شيء خاص بي وملكا لي، إلا يمكنني التصرف به كما اشاء!؟"
تهز رأسها نفيا وهي تبعد نظراتها الغاضبة عني، أعود إليها واجلس عند قدميها، واضع رأسي في حجرها، اهمس بترجي وبابتسامة واسعة:" حسنا، أنا آسفه وستكون هذه هي المرة الأخيرة، فأنا أنوي جعل شعري يصل إلى أسفل ظهري كشعركِ تماما"
تحاول الاعتدال في جلستها ودفعي عنها، كان وجهها الذي ظهرت عليه علامات التقدم في السن غاضبا، تغمض عينيها وتقول بفتور:" لقد أفرط ذياب في تدليلك حتى وصلتي إلى ما عليه الآن"
دائما ما تعيد أمي كلماتها هذه، ولا تكف عن تذكير ذياب بها ونهيه عن تدليلي
فهناك صلة قرابة بعيدة بيننا من جهة والد ذياب كما قال هو، ولهذا اخذني معه
وأيضا هو صديق والدي الذي حاول انقاذه أمام عيناي، وهو من أنقذني واخرجني من ذلك البؤس بلطفه وحنانه
أبي الذي قتل أمامي من شخص غامض غريب، لم يعرف أحدا من هو!
ذلك القاتل الذي حرمني من أبي
وحرمني من لذة النوم ليالا طويلة، وجعلني منطوية على نفسي
أذرف الدموع إلى الآن، ودائما ما أتمنى لو انني رأيته او ان ذياب ورجال الشرطة رأوه قبل ان يختفي لكي أستطيع الانتقام منه، والعيش بسلام!
فما رأيته في طفولتي كان بمنتهى القسوة
فتلك الذكرى كانت أقتم ذكرياتي وأمرها، ولا أستطيع تخطيها مهما حاولت
مع هذا فحياتي مع ذياب وأمي عوضتني كثيراً، وجعلتني أتناسى الأمر وأوصد الابواب على تلك الذكرى طويلا
ولكن الجرح ينبش كلما جاءتني الأحلام المرتبطة به، أو ذكر بأنني يتيمة.
***
شعري يتساقط على كتفاي، وعينيِ تنظران عبر النافذة تنتظران وصول سيارته
تصل أخيراً بعد طول انتظار، وتصلني رنته فابتسم
انتظاره اخذ مني كل ذرة صبر، كنت اعاود الاتصال به بعد كل خمسة دقائق لأسأله:" هل أنت قريب! كم بقي؟ ومتى ستصل؟"
وفي المرة الأخيرة وصلتني ضحكته للمرة الثالثة وهو يقول بتعجب: " ترفه لقد قلت سوف أصل خلال نصف ساعة، وليس اتصلي كل خمسة دقائق! "
خفت ضحكته وهو يقول مداعبا:" حسنا أظن أنهُ قد مضى من النصف ساعة خمسة عشر دقيقة فأصبحت متبقية خمسة عشر أخرى"
أمط شفتاي وأقول بصوت خافت:" حسنا"
يقول مهددا بجدية مصطنعة:" لا تتصلي، فأنا من سيبادر بالاتصال بكِ عند وصولي، ولكن ستكون رنة واحدة فقط لا رفع سماعة فيها".
تتسع ابتسامتي، أنهض من مكاني وأمشي بخطوات سريعة إلى الباب بعد وضع حجابي على كتفي، افتحه ليدخل نور الشمس وصوت محرك السيارة العالي
أتحرك خطوة تتلوها واحدة أخرى وأقف ملوحة بيدي عاليا، وانا أرَ سيارته اللؤلؤية تلمع تحت ضوء أشعة الشمس، يتوقف عمل المحرك، وينفتح الباب ويخرج منها جسده الضخم والطويل، ترتسم ابتسامة صغيرة على وجه اسمر قد لوحته أشعة الشمس وتختبأ عينيه تحت نظارة شمسية سوداء كلاسيكية، يرفع يده ملوحا لي وابتسامته تتسع
الشوق يجعل من نبضات قلبي تتسارع، وأنا أنزل من الدرجات القليلة، وأسرع بخطواتي إليه راكضة، وأقف أمامه لاهثة، وابتسامتي لازالت كما هي تتسع وتتسع
هو أطول عني بكثير فانا قصيرة جدا ولا أصل إلى كتفه، وكأن سنوات عمري السبعة عشر لا تبدو كافية لنموي.
أُحييه بابتسامتي التي لم تختفي، وانا أرفع نظراتي إلى وجهه المبتسم ويده التي رفعها إلى نظارته ليحرر عينيه السوداوتين منها:" أهلا وسهلا لقد انرت المنزل، والحمد لله على سلامتك"
كالعادة وفي كل مرة يعود فيها من رحلة عمل طويلة عينيه لا تستقران عليّ ولا تنظران إليّ كما في العادة وكأنهما شاطئ حب وحنان واهتمام مخصص لي فقط، انما تنظران إليّ ببريق أسود لامع ليبعدهما سريعا إلى كل مكان عداي، لفترة طويلة يستمر في تفادي نظراتي وكأن هناك ما يخفيه عني، ولا يريد مني كشفه!
جاءني صوته الغليظ، واسنانه تظهر من تحت ابتسامته الخفيفة ليرد عليّ:" منير بأهل بيته، سلامكِ الله يا صغيرتي"
تمتد كفي إلى حقيبته التي خلفه، أمسك مقبضها أجره، ينعقد حاجباه وعينيّ لم تفارقانه، ينفجرا ضاحكا، يهز رأسه ويقول:" لن أجدال فانا متأكد من انني لن أستطيع التغلب عليكِ أبدا"
ولكن انا كان لي خطط أخرى، أخفى ابتسامتي وانا أجري أمامه
أدخل إلى المنزل قبله، فأرى أمي جالسة على الاريكة تحمل بين يديها مصحفا تقرأ منه، تغلقه قبل ان ترتفع عينيها اللتان تشبها عينا ذياب إليّ
تعقد حاجباها في استغراب ثم سرعان ما يتحول إلى ابتسامة ناعمة، فتتسع إلى ان تملأ وجهها الممتلئ بالفرحة، وهي تقوم من جلستها وتمشي بخطوات بطيئة قد اتعبتها السنين، وترفع يديها قبل وصول ذياب إلى احضانها، تحتضنه بقوة وهو يقبل جبهتها، وانفها وخديها، ويطوقها بذراعيه أكثر وهي تفعل بالمثل.
في كل مرة يعانق ذياب أمي، كنت أشعر بالغيرة، كنت أود لو انني أستطيع معانقته أيضا كأمي والتعبير له عن شوقي، وان بُعده يشعرني بالفراغ، ولكن ذياب ترك معانقتي الصغيرة والتي كان يفعلها بسرعة بعد ان بدأت أنضج، وانتهى كل لمس جسدي بيننا منذ ذلك الحين.
أبعدت نظراتي الممتعضة عنهما، ووضعت الحقيبة من يديّ إلى الأرض لأفتحها سريعا، وبدأت ابعثر اشياءه بداخل الحقيبة، وأخرج بعض الأغراض التي اوصيته بجلبها لي واضعها جانبا، وشاح للشعر بلون زيتوني كنت أريده، حقيبة يد من ماركة عالمية، جاكيت طويل من الجلد، وأخيرا الساعة التي كنت أريدها بشدة، صرخت وأنا أقفز واقفة
بعد صراخي العالي جاءني صوت أمي المنزعج:" ما بالكِ يا ابنتي لقد افزعتني وما الذي تفعلينه، يا إلهي!"
وضعتها على رسغي قبل ان انظر إليهما، نظراتي حطت على ذياب أولا بابتسامة ممتنة وانا أرمش سريعا وقابلني هو بابتسامة تكاد تفلت ضحكتها، وما ان انتقلت نظراتي إلى أم ذياب حتى رأيت الغضب يلون وجهها، حاجباها معقودين اما فمها فهو مزموم لتقول بعد فترة قصيرة بصوت خشن غاضب:" عيب يا ابنتي، لا يجب عليكِ فعل هذا!"
وأشارت إليّ بيدها، وهو تغمز بعينيها الغاضبتين وتحثني على القدوم ناحيتها، تركت كل الأشياء إلا الساعة، وأنا أعض على شفتي، فأنا على علم بما تريده، فسأسمع منها نفس الكلمات تتردد ككل مرة.
اقتربت منها، جلست بجانبها بعد ان جلست هي على الاريكة، اقتربت من اذني بعد ان امسكت يدي بين اصابعها النحيلة بشدة، همست بصوت خافت لكيلا يسمعها ذياب:" شعرك يا ابنتي، كم مرة أنبهك إليه، يجب عليكِ عدم كشفه أمام أبني، أنتِ الان فتاة بالغة ومستعدة للزواج ويجب ان لا يرى شعركِ غير زوجكِ"
في الحقيقة أنا أخجل من تغطيت شعري أمامه لأنني أشعر أنني سأخالف امرا أعتدتُ عليه، ولان أم ذياب لم تنهرني عن ذلك من قبل إلا بعد ان أصبح عمري ستة عشر وكأنها لم ترى قبل هذا السن انني لم أعد طفلة!
وأيضا أشعر أنني لست مقتنعة بالأمر ولا أراه غير الأب والأخ بالنسبة لي، ولا أريد بناء تلك الحواجز العالية بيننا.
همست كهمس أمي وأنا أقترب من اذنها ممازحة:" أنا سأتزوج من ذياب"
صدرت من أمي شهقة قوية، ويديها ترتفعان إلى فمها وهي تقول:" أخفضي صوتكِ كي لا يسمعكِ، يا إلهي ما أجرءكِ إلا تستحين! كم مرة قلت لكِ ان الزواج منه ليس بهذه السهولة التي تتصورينها!"
***
ككل يوم جمعة نجتمع مع عائلة أم ذياب الوحيدة وهي عائلة اختها أم مروان وعلياء الذين انتقلنا عنهم منذ ما يقارب خمسة سنوات.
ما أن أتوا وعند مدخل الباب، انقبض قلبي ككل مرة لرؤية علياء وأمها اللتان تعكرت ملامحهما ووضح الاشمئزاز عليهما فأمها لا تختلف عنها ابدا، فوجهها الشاحب الذي ملأته التجاعيد كان متجهما اما عينيها المتكبرتان فاختطفتا نظرة سريعة لي وبنفس السرعة رفعتهما عني، دخلت تمشي على عكازة تجر خطواتها الثقيلة من دون ان ترد على تحيتي التي همست بها، بالمقابل تجاهلتها كما تجاهلتني، فهي تزدريني منذ ان كنت طفلة، وتراني مجرد عثرة في طريق أبنتها لان ذياب لم يتخذ أي خطوة إلا خطبة وحديث نساء، واعطاهم حرية الاختيار على حد قولها ولكن علياء إلى الآن لا تزال تنتظره!
وفي كل مرة تأتي فيها علياء إلينا تكون بأبهى حلة، واليوم كانت أكثر جمالا فبعض خصلات شعرها الأسود الطويل كانت تنسل من حجابها بنعومة، أما عينيها الواسعتين فكانتا مرسومتان بدقة متناهية، وكانت رموشها أطول وأكثف رموش رأيتها في حياتي!
هي أمامي وأنا فتاة أراها أجمل ما رأت عينيّ، فكيف برجل مثل ذياب أو غيره!
لم تكن بيدي أي حيلة، فهي وبوجود ذياب لم تكن لتدخل أي خصلة من شعرها أو ترفع الوشاح لوجهها لتغطيه عنه مع هذا الكم من التبرج!
دخل مروان بعدهما وبعد ان القى تحية عالية، وما ان رآني حتى اتسعت ابتسامته وارتفعت يده لتلوح لي وهو يقول بصوت عالي:" أهلا بأبنتي الصغيرة كيف حالكِ لم أركِ منذ فترة طويلة، وما أخبار دراستكِ!"
منذ ان كنت صغيرة وانا اعتبر مروان فرد من عائلتي فهو شخص ودود وطيب ولا يشبه أخته ولا أمه، ويعاملني باهتمام مبالغ جدا، ويشعرني بالخجل منه في بعض الأحيان.
بادلته الابتسامة مع بعض الكلمات المختصرة وانا أرَ نظراتهم الممتعضة لا تفارقني.
في غرفة المعيشة جلسنا على الارائك الذهبية المتوزعة والقريبة من بعضها، علياء الواضعة ساق على الاخرى تجلس بجانب أمها، اما مروان فهو بجانب أمي ويضع ذراعه حولها اما ذياب فكان على الجانب الاخر على بعد ذراع منها، اما انا فكنت بجانب ذياب، وفي كل لحظة كانت تقع عينا علياء المكحلتين عليّ كنت اقترب منه
كنت أريد أن اغيظها، واتفنن في اغضابها وأجعلها تفقد أعصابها ككل مرة، فهي ومنذ أن جلسنا كانت ترمقني بنظراتها المتكبرة، وما أن رأتني أقترب من ذياب حتى أحمر وجهها ذو السمرة الفاتحة غضبا
امسكت طرف ثوبه الأبيض، وضعت أصبعي على طرف كتفه من الوراء ولم المس جسده، انما لمست خط خياطة ثوبه من الكتف حتى نهاية يده، من دون ان يشعر أو ينتبه لي هو أو أحدا غيره غير علياء، اخذت أعيد الكرة مرتين وثلاث، الخطوة التالية كانت وضع يدي على يده، وبسرعة لكيلا ينتبه لي قبل ذلك، وضعت كفي على كفه، وانا أرفع نظراتي إلى علياء، التي قفز جسدها غضبا، وعينيها كادتا تخرجان من مكانهما، كانت تعض على شفتها السفلية، تقضمها بعنف، وتنقل نظراتها مني وإلى ذياب، أما ذياب فيده تشنجت تحت يدي، كنت أعتذر منه في داخلي على إفزاعي لهُ بهذا الطريقة، ولكن لا أظن أن لمستي الخفيفة قد تضر!
وبهدوء أبعد يده من تحت يدي
حسنا.. هذه المرة كانت الأجرأ على الاطلاق، فأنا لم أتجرأ عليه من قبل، ولم ألمس يده منذ فترة طويلة
فأقصى جراءة كانت الجلوس بجانبه أو لفت انتباهه بأي شيء أو الخوض معه في حديث طويل عندما تحاول هي محادثته، فقط لأُري علياء انني قادرة على فعل الكثير معه، أما هي فلا!
ولكن ان لم تكن تتجرأ على هذا، فهي لديها وسائلا أخرى لإطاحتي والتقليل من شأني
كان الدفء يملأ الأجواء بينما تتداخل أحاديثهم بين ذكريات ومواقف، والنظرات تنتقل من أمي إلى أم علياء لتستقر أخيراً على مروان الذي ينعش بعض الذكريات الفكاهية
قبل ان ينتهي الحديث، تدخلت علياء وأرسلت ضحكة مقصودة لي، سرعان ما أرسلتها إلى ذياب بنعومة، تغنجت قليلا وهي تسرد بعض ذكريات الطفولة:" لقد ضربني ولد الجيران بالحجارة على رأسي حتى غرقت بالدم، ووقفت مذهولة من الصدمة، أما أنت فهربت وكأنك تشاركه فعلته"
ابتسم ذياب حتى ظهرت اسنانه، وهو يبرر لنفسه:" لقد تعاركت معه قبل ذلك، ذكره الله بالخير لقد كان مجرما، عندما لم يستطع فعل شيء لي استغل ضعفكِ وانتقم مني، ولقد هربت لأخبر والدك بذلك"
تعالت الضحكات بينهم وهم يكملون سرد بعض المواقف، وكانت نظراتي مصوبة إلى علياء، ومن دون شعور مني فتحت فمي وحاولت تقليد ضحكتها بازدراء، وهي وضعت كفها على خدها لتنقل نظراتها بين الجميع إلى ان وصلت إليّ وتوقفت عليّ، لتقول بابتسامة مستهزئة تحت انفها الصغير:" اظن ان لديك امتحانات منتصف الفصل الدراسي الأول، فدرجاتكِ متدنية ويجب عليك بذل الكثير من الجهد لرفعها"
وادارت دفة الحديث إليّ، وجعل النظرات تتجه ناحيتي
رفع مروان حاجبيه مشيرا على معرفته بما يدور بيني وبين علياء، وتجاهلت أم مروان وجودي، أما أمي فتحدثت بهدوء وهي تعدل من جلستها:" انها الجمعة وهو يوم استراحتها، ستذاكر دروسها لاحقا في المساء"
نطق ذياب بعد صمت أمي بهدوء كهدوئها:" صغيرتي تبذل جهدها، ولا ضير من بعض الراحة اليوم"
قفزت ابتسامتي عاليا، واشتعل داخلي بهجة، وانا أرَ أحمرار لون وجه علياء وكأنها ارتكبت خطأ لإدخالي في الحديث
استأذن كُلن من مروان وذياب للذهاب
بعد ذهابهما، كنت أجلس في زاويتي البعيدة عنهم على الاريكة قرب التلفاز اقلب قنواته متجاهلة سماع محور حديثهن
علياء ما ان تجد فرصة حتى تستغلها، كان صوتها يصلني وكنت اتجاهله
كانت تذم درجاتي وتذم سلوكي بمبالغة، ولكن ليس بأسلوب مباشر كالذي خرج سابقا وكان غلطة، انما بخبث تستغل فيه دراجاتي الدراسية التي لا تعد منخفضة انما جيدة بخلاف مادتها التي تحاول افشالي فيها.
مرت فترة صمت التفت فيها إليهن، ورأيت أنه لم يبقى غير علياء التي كانت مخفضة رأسها تنظر إلى هاتفها النقال، أبعدت نظراتي عنها وأنا متيقنة انها لن تمرر ما حدث وستبدأ حربها الآن!
كُنت مستعدة لها بشراسة ككل مرة تحاول فيها تحديّ، بعد برهة من الزمن، تقدمت خطواتها المسموعة باتجاهي، كان صوت كعبها العالي حاد ومزعج، اما عطرها فكان ذا رائحة قوية فواحة.
جلست على الطرف الاخر تقابلني، ووضعت ساقا على الأخرى وظهر لون ثوبها الأخضر الحريري أمام عينيّ، لم اتجاهلها انما رفعت عينيّ بتجاهها متحدية
نطقت شفتيها المطليتين باللون الأحمر بهدوء:" لم أرَ أوقح منكِ بفعلتكِ تلكِ، وأيضا لا تنظري إليّ بنظراتكِ هذه يا فأرة"
ثار الغضب في صدري، انعقد ما بين حاجبيّ وانا اشد على اسناني وأقول:" من تظنين نفسكِ لتقولي لي فأرة، ألزمي حدودكِ يا زرافة "
اتسعت عينيها بغضب، لتقول لي بصوت عالي وقدميها تعتدلان على الأرض:" احترمي نفسكِ يا قليلة الادب، فلا أحد قام بتربيتكِ يا لقيطة يا عديمة التربية"
تصاعدت الحرارة إلى وجهي واشعلته، واهتزت شفتيّ غضبا وألما، كيف لها ان تتجرأ وتنطق وتدعوني باللقيطة
صرختُ وأنا أقف رامية عليها كل غضبي:" لست لقيطة وربيت أفضل منكِ، وليس لكِ الحق بنعتي بها، كيف لكِ ان تتجرئي على ذلك!"
ذراعيّ على جانبيّ، وانفاسي تخرج مختنقة، وانظاري تستقر عليها وعلى وجهها المليء بالمشاعر الحاقدة الواضحة والمستمتعة بإغضابي، يديها تحتضنان صدرها، وشفتيها تخرجان الكلام بسرعة:" وما أدراني ان كنت لست لقيطة، فالذي اعرفه أنك مجرد لقيطة، دخلت إلى عائلتنا رغما عنا بحجة انها منا، وهي بخلاف ذلك"
ضغطتُ على شفتيّ بعنف، وانا احبس الدموع في عينيّ من القهر، ويدي ارتفعت في لحظة غضب عميق لتستقر على وجهها للحظة لأرفعها بسرعة في اللحظة الأخرى بدهشة، تراجعتُ خطوة إلى الخلف واستقريت في مكاني وعيناي متسعتين على وجه علياء الذي اختفت ألوانه من الصدمة، لم تمر إلا ثواني قليلة حتى توقف صوت كعبها الذي أصدر صوت عالي وهي تقف وتتقدم مني ويحل الصمت قبل ان ترتفع يدها إلى وجهي، وتصفعني مرة ومرتين على جانبيّ وجهي وهي تصرخ:" يا عديمة الاحترام، لقيطة تتجرئين على ضربي"
ارتفعت كفاي إلى يديها لتوقفا سيل ضرباتها، ضغط بأظافري على رسغيها وأنا ابعدها عني وأصرخ:" أنتِ من بدأ، ابتعدي عني ولا تناديني باللقيطة، فأنا يتيمة، أنتِ لا تعرفين شيئا عني، وليس لكِ الحق في قول أي شيئا "
اهتز صوتي قليلا لأعيد تماسكه وثباته وأقول بتصميم وانظر إلى وجهها المنفعل وعينيها الغاضبتين:" سأخبر ذياب بأنكِ نعتني بلقيطة، سترين ذلك"
وكأنني بكلماتي هذه ضربت وترا حساسا فيها، ما ان قلتها حتى هربت الألوان من وجهها ليبهت ويتردد، فهي تعرف انني لا أمزح بهذا الشأن، وما أن أقول حتى افعل!
استعاد وجهها ألوانه سريعا، وبعينين لا زالتا غاضبتين، تقدمت خطوة واحدة ناحيتي وهي تزيد من رصها على ذراعيها المعانقتان بعضهما، أخرجت كلماتها بثقة وصوت عالي:" ذياب سيتزوجني رغما عنكِ، فأنا من قدر لها الارتباط به منذ البداية، وما أنتِ إلا عثرة طريق"
تقدمت خطوة مع تقدم خطواتها ناحيتي، ورفعت رأسي في تحدي
فأنا لم أكن يوما عثرة طريق في طريقها، ولكن إن كانت تريد أن أكون كذلك فسأكون.
ارتفع طرفيّ شفتيّ بغضب وانا أرد عليها رافضة كلماتها:" أنا لا أرَ ذلك القدر الذي تتحدثين عنه وتهذين به في كل مرة اراكِ فيها، وصدقني لن يحدث ذلك فذياب لن يتزوجكِ"
عينيها اللامعتان اهتزتا لكلماتي، واطبقت شفتيها بغضب وهي تقول:" من أنتِ لكي تقرري عنا، لان القرار قد اتخذ منذ زمن طويل وقبل مجيئكِ وتم معظمهُ، ولا جدال فيه لان الكبار من تكلم فيه، وبسببكِ ذياب أجل الامر طويلا لأنكِ كنتِ تحت راعيته والآن كبرتِ وانتهى الامر"
بعد كلماتها صمت فلم أكن املك ردا يردعها، فمن أنا كما تقول هي لكي أقف أمام الجميع وأنفي ما يقوله الكبار، ولكن أليس رأي ذياب أيضا مهما كرأيهم!
بعد الجدال معها وبعد الخسارة التي تلقيتها فضلت الانسحاب من تلك الجلسة التي لازالت مستمرة، وجلست في غرفتي وفوق سريري وأنا اضم ساقيّ إلي
كانت كلماتها لا تفارقني، وإهاناتها تقتلني، تقول عني لقيطة تتهم والدايّ وهي لا تعرف شيئا عني، لا تعرف انني اموت في كل لحظة أتذكر فيها أمي التي لا اذكر منها إلا بعض المواقف غير الواضحة، وأبي الذي حين أتذكره ينفتح الجرح الذي في صدري لينزف وينزف بلا توقف.
تتساقط دموعي الحارة، أجهش في البكاء فيهتز جسمي معي، أضع رأسي على ركبتاي لأغرق في البكاء أكثر، أشعر باليتم وبالألم أكثر، صحيح انني أحب حياتي مع ذياب ولا أستطيع تخيلها من دونه أو من دون أمي، ولكنني أشعر في بعض الأحيان انني لا انتمى إليهم، ودائما ما أشعر بتلك الحساسية بيني وبين افراد عائلتهم الباقين، ولكنني أحاول التقلب عليها فلست شخصا اقابل الحسنة بالنكران، فحبي لهم يتقلب على احساسي هذا.
رفعت رأسي وأنا أمسح دموعي، لا يمكنني ان أضعف لبعض كلمات ليست صحيحة، كلمات اخرجتها انتقاما مني، هي لا تحبني وهي من حملت الضغينة ضدي أولا، فأنا لا اتخيل ان أعيش معها تحت سقف واحد ولا اتخيل نفسي اخرج من هذا المنزل ابدا، أذن ان أعلنت هي الحرب فأنا من سيبدأها أولاً!
***
رأيتها جالسة في غرفة الجلوس عندما عدت من الخارج وكان الوقت متأخراً، وعندما رأتني قفزت من مكانها وتقدمت ناحيتي بخطوات سريعة إلى ان توقفت أمامي
وأول ما وقع نظري عليه كان لون ثوبها الأصفر الطويل، ذلك اللون الذي يعيد الذكريات إليّ ويوقظ الاوجاع، أبعدت نظراتي عنها في ألم ولكن سرعان ما أعدتها إليها لأنظر إلى وجهها المضطرب، وجهها الذي تورد لونه الابيض بوضوح، أما عينيها العسلتين فكانتا ذابلتين
كانت شفتيها تحاولان الابتسام ولكن سرعان ما تنهارا وتتقوسان
همست ونظراتي لا تفارقها انما تتأمل كل تفاصليها:" صغيرتي اهناك شيء يضايقكِ، أتريدين شيئا وأنا نسيته!"
بللت شفتيها ورفعت رأسها قليلا ليتساقط شعرها البني إلى الوراء، لمعت عينيها ورصت على شفتيها قبل ان تخرج كلماتها بصوت حزين:" هناك شيء يضايقني، لقد تسببت علياء فيه، لقد جرحتني عميقا"
قوست شفتيها ودموعها تطفو في عينيها لتضيف بصوت مخنوق:" لقد نعتتني باللقيطة، بجانب انها تكرهني ولا اعرف سبب كرهها لي، ولكن ان تقول عني هذا وتجرحني بألفاظها فلا اظن ان لديّ الطاقة للسكوت عنها أكثر"
رفعت كفيها لتمسح دموعها وعينيها تنخفضان عني، وأنا وقفت محتار وغاضب، غاضب من علياء لأنها احزنت ترفه، واشعر بالاستياء منها لوضع نفسها مع الصغيرة، مع انه لم يكن يخفى عليّ الكره الواضح بين الفتاتين تجاه بعضهما، وكلماتهما المتقاذفة بين الحين والأخر ولكن أن يصل الامر إلى هذا، فهو ما لا يرضيني بحق ترفه!
ولكنني محتار في اتخاذ القرار، فأنا متردد من التحدث مع علياء وأحراجها وأحراج نفسي أمام أمي وخالتي وافتعال مشاكل أكبر، ولأنني من جعلت علياء معلقة إلى الآن من دون اتخاذ خطوة حقيقية في موضوع الزواج منها
ولأنني اشعر بالذنب تجاهها بسبب انها لا زالت تنتظرني حتى الآن وقد مضى من عمرها الكثير وقاربت هي من سن الثلاثين، فأمي لا زالت مصرة عليّ بشأن الإيفاء بالوعد الذي قطعته عليها، وخالتي تلمح بين الحين والأخر وتُحرجني، أما أنا فلست مستعدا إلى الآن ومترددا لهذه الخطوة، وليس لدي أي عذر أضعه الآن!
فيما مضى كنتَ استغل صغر سني، واتعذر بكثرة عملي وسفري.
همست لها وأنا أحاول الربت على مشاعرها المجروحة:" وأنا لا أسمح بمضايقتكِ أبداً، سأحاول التحدث معها بهذا الشأن، وأنتِ حاولي عدم الاحتكاك بها، ولا تهتمي بشأنها"
رفعت عينيها الدامعتين ناحيتي، واستقرت نظراتها على عينيّ اللتان ابعدتهما عنها وأنا اشعر بتلك النار التي بدأت تشن هجومها على صدري لتحرقني، لأعيدهما ثانية إلى وجهها المتردد، ارتفعت اصابعها إلى مؤخرة رأسها، لتعبث بشعرها وتعدل خصلاته الناعمة وهي تقول بخفوت:" ذياب لا تتزوج من علياء"
انعقد حاجبيّ، فأنا لم أكن أتوقع ان تقول هذا!
تابعت حديثها من دون ان تعطيني مجالا للاستيعاب:" ذياب أنا لا أتخيل نفسي أخرج من هذا المنزل، في الحقيقة أنا لا أستطيع، فكيف أعيش بعيداً عنك وعن أمي، أعرف أنها انانية مني، ولكنني لا أعرف غيركما في حياتي وتعرف أنني بلا أهل غيرك وأن أبي قد قتل، فأصبحت وحيدة من بعده"
تلاشى انعقاد حاجبيّ، وتجمدت ملامحي من الالم، وتجمعت كل مشاعري في صدري وخنقته
لا داعي يا صغيرتي لتذكريني بذلك، فأنا لم أنسى ابدا
لان وجودكِ محفور فيها
ورؤيتكِ تجدد المواجع
وحتى بعد مرور كل هذه السنوات لم يختفي شيء انما ازداد سعيره، ولم يتغير ما أشعر به انما ازداد تعلقي بكِ ليعذبني، وكأنكِ انفاس حياتي التي لا أعيش من دونها.
ابتعدت نظراتي عنها، ونظرت إلى كل ركن من غرفة الجلوس عداها، ونطقت بعد جهد:" حسنا"
واكملت وانا ابتلع دفعة من الهواء:" منزلي هو منزلكِ وسيبقى كذلك إلى ان اموت، ولن يخرجكِ منه أحد"
وصلني صوتها المنخفض الناعم:" وعلياء!"
عينيّ اللتان اختطفتا نظرة سريعة إلى عينيها اللامعتان، واللتان اشرقتا وتبدل حزنهما إلى فرح
بعثرتاني ووترتاني
قلت وانا أسرع بالنظر إلى هاتفي المحمول الذي أخرجته من جيب ثوبي:" حسناً"
***
الضوء المنبعث من الباب المفتوح يتسلل إلى داخل الغرفة، وخطوات مسموعة تقترب مني وتتوقف بجانبي، بجانب الاريكة التي انام عليها كالعادة عندما أجد صعوبة في النوم.
أغمضت عينيّ اللتان فتحتهما عند سماع تحركاتها التي احفظ تفاصليها
كتمت انفاسي وانا أشعر بها تقترب مني أكثر وتجلس على الأرضية، ويلتصق رأسها على سطح الأريكة
أطبقت على أسناني، وانا أسمع صوت انينها الذي وصل إلى مسامعي وشق صدري
العادة التي لم تتخلى عنها منذ ان كانت طفلة ها هي عادت بعد ان كانت متقطعة، عادت اليوم وأنا في أشد حالاتي تعبا وحزنا، لتذكرني بذلك الذنب العظيم
فلم يخفف عيشها معي من حقيقة ما فعلته، انما زادني عذابا وندما
يسترخي رأسها على طرف الاريكة، تبتلع موجات بكاءها المسموع، وانفاسها تخرج سريعة، لتنطق بصوت خافت:" ذياب إني خائفة"
" لقد راودني ذلك الحلم المخيف"
تغرق في البكاء ثانية، ولكن بصوت أعمق وأقوى، يخرج من عمق صدرها المتنفس بسرعة
أسمعها تكمل بصوتها المتشرب للألم:" ذياب أنت مستيقظ! أتسمعني! حتى لو كنت نائما فأنا سأواصل الحديث معك، فليس لدي غيرك من يسمعني ويعرف مقدار حزني وألمي"
اغمضت عينيّ بشدة، فصوتها الحزين كان يخترق صدري وايادي خفية تخنق قلبي
كان جسمي متصلبا وانفاسي مكتومة، وانا أنصت إلى كلماتها المتوجعة:" في الحلم كانت الدماء الحمراء المروعة تحيط بي، ووجه أبي كان واضح الملامح ولقد كان يبكي بشدة، وقلبي كان يتمزق"
ضربت بقبضتها عدة ضربات على صدرها، وواصلت الحديث وهي تشهق:" كنت اريد إنقاذه، واحتضانه وتقبليه ولكن لم احصل على شيء من هذا! حتى في اسعد احلامي لم أكن احصل عليه!"
تنفسها السريع هدأ، وشهقاتها انتهت، وبقي الهدوء سيد تلك اللحظات الثقيلة، والتي كانت كالجبل على صدري، إلى ان ظهر صوت ضرباتها مجددا، ضربت مرة لتتبعها بثانية وثالثة وهي تقول:" لم أكره شخصا في حياتي قط مثله، بل أن الحقد كان يكبر معي في كل يوم"
تمسكت في طرف قماش الاريكة لتشدها إليها، وكأنها بها تشدني من عنقي، وهي لا تعي انها تصيبني في مقتل بكلماتها، أكملت بصوت حزين مثار:" كيف هرب ومن هو، ولماذا لا يعرفه أحد! ولمَ لم يقبض عليه! كلها تساؤلات لا زالت تتردد في نفسي! لا أجد أي أجوبة عليها من أحد، اتعرف مقدار الألم يا ذياب انه قاسي جدا، فأنا أتمنى قتله بيديّ لكي أُريح نفسي ولكي تجف دماء أبي، ولكن كيف لي أن أفعل ذلك! ذياب أرجوك ابحث عنه.. قدمه للعدالة.. اقتص منه لأجلي، ذياب أنا أثق بك، وأنت لن تخذلني أبداً"
ورحلت بعد هذه الكلمات، مخلفة وراءها فوضى مشاعر من الندم والانكسار
جلست بعد ان اختفت الأصوات وحل الهدوء
ورأسي بين يديّ، واصابعي تضغط عليه
وانفاسي تخرج باختناق
"لا أريد خذلانكِ، لا أريد ذلك!"
فانا سأجعل ذلك السر يتبعني إلى قبري، ولن أكشفه لكِ
لان في كشفه ستتأذين كثيرا، وأذاكِ يؤلمني.
***
وضعت الصدفة الأخيرة على اللوح الخشبي، فلقد أكملت اللوحة الغريبة من وجهة نظر المعلمة ولكنها صفقت لي قائله:" رائعة يا ترفه، لقد أحببتها"
كانت الأعواد الصغيرة الملونة تشكل لون السماء والشمس وقت الغروب، اما الاصداف بتدرجات ألوانها البحرية شكلت أمواج البحر، وامتد الشاطئ برماله التي الصقتها بعشوائية، لتشكل لوحة متعرجة والوانها ساطعة
وضعت يديَ على جانبيّ خصري وأنا أقف وانفض بعض الغبار الذي علق على ملابسي المدرسية، وضعت إصبعي مرة اخرى على الصدفة قبل أن أسمع صوت ندى تنادي بصوت عالي، عدلت من حجابي ووضعته على رأسي، والتفت ناحيتها إلى جهة الساحة المدرسية الواسعة والخالية من الطلاب، كانت تحسر عن ملابسها المدرسية الرمادية ليظهر سروالها الأبيض وهي تركض ناحيتي، وصلت أخيرا لتضع كفها على كفي وتنخفض إلى الأسفل وهي تلهث، رفعت وجهها الأسمر إليّ، لتتحرك شفتيها الرفيعتين بنفس مرهق:" ترفه أخبريني" صمتت قليلا ثم قالت بعد ان أخذت نفسا أخر من بين أنفاسها السريعة:" الديكِ أخ، انتِ لم تخبرني بذلك!"
انعقد حاجبيّ، لتخرج الحروف ببطء:" لا"
وتوقفت لأسمع صوتها الذي بعثر المشاعر في داخلي
قالت بسرعة وبصوت عالي:" عندما كنت عند المديرة كالعادة، فجأة حضرت الاخصائية الاجتماعية وقالت ان هناك شاب يدعي انه أخو ترفه سيف، الاخصائية كذبته في البداية لأنها تعرف انكِ يتيمة وتربيتي عند أحد اقربائكِ، ولكن الصدمة"
اتسعت عينيّ وخفق قلبي بسرعة لأسمعها تكمل بصوت متفاعل وعالي جدا:" هي انه قد اراها بطاقة الهوية وجواز السفر قديمان، انه نفس اسمك بالضبط " علي سيف حسن" وأيضا كان هناك خلاصة قيد قديمة حملت أسمكِ وأسمه وأسم والدكِ ووالدتكِ ولكن كان هناك اختلاف بينكما وأنكما من أم مختلفة "
تمسكت اصابعي في ثوبي لأرص عليه بقوة، لا يمكن هذا! أيمكن أن يحدث ذلك، " أخي علي حي وموجود"
حركت قدما وراء الأخرى لأركض، خطواتي تسرع وانفاسي محبوسة، الهواء يعبرني والألوان تندمج
أتقدم سريعا في الساحة وإلى المبنى البني أمام البوابة الكبيرة أسرع، وصلت وعند باب غرفة المديرة المفتوح وقفت، أحدق في الغرفة، أرَ في أخر الغرفة البيضاء والواسعة المكتب وكرسيه فارغ، أتقدم إلى الغرفة المجاورة ولا أرى أحدا فيها، أصل إلى البوابة، أتقدم بخطوات سريعة وانا أرص حجابي الابيض على رأسي، افتح الباب الزجاجي المظلل، ينفتح ببطء وأخرج منه، انزل الدرجات القصيرة والقليلة، أقف والتفت يمنة ويسرة، عينيّ تبحثان عنه بين صف سيارات المعلمات البعيدة عني، وقلبي يرجف في صدري خوفا وأملا
أتمنى في داخلي أن أجده، وأتمنى ألا يكون حلماً!
اتقدم خطوة وخمس خطوات أخرى، أقف وأنا التفت إلى الجهة اليسرى التي هي بتجاه البوابة الرئيسة، واتابع خطواتي وانا أرَ سيارة سوداء وبجانبها يقف رجل ضخم الجثة يبلس بدلة رمادية ويحمل عصا كبيرة في يده اليسرى.
أقف على مسافة قصيرة منه، وانظر إليه من دون ان أتقدم خطوة أخرى، ترتفع يده الأخرى الحمالة لسيجارة مشتعلة إلى فمه وهو يرفع وجهه لينظر إليّ، حاجباه الغليظين انعقدا، أما عيناه اللوزتين الصغيرتين فصغرتا أكثر لتعبرا عن الاستغراب.
قلبي لا يزال يخفق ويخفق وانفاسي محبوسة، وعينيّ تتجولان على وجهه الغريب عني، وجهه الاسمر الذي خلا من الشعر كمنتصف رأسه، تقدمتُ خطوة منه لعلي اثبت ان هذا الشخص هو أخي، وليس أحدا غيره!
ولكن لم أعرفه فلم أكن اذكر شيئا عن علي غير اسمه، وضخامته أمام حجمي الصغير!
اتسعت ابتسامته وفمه ينفث دخانا كثيفا، اعتدل في وقفته، تقدم بخطوات بطيئة نحوي وهو يجر قدمه التي وضح العرج عليها، أما أنا فتجمدت مكاني واختنقت بأنفاسي، اقترب إلى توقف أمامي مباشرة
نطق وهو لا يزال يحمل سيجارته ويقربها من فمه:" لقد مرت أعوام طويلة وكبرتي فيها بشكل لا يصدق"
وضع العود في فمه لينزعه بسرعه وينفث الدخان أمامه وقرب وجهي ويخنقني به، وهو يقول:" أنت ترفه صحيح! أختي ترفه التي اشتقت إليها!"
فجأة ومن دون مقدمات، تجمعت مشاعري في صدري وانفجرت، مشاعر ألم وحنين طوقتني، وشوق إلى منبع جذوري، إلى أبي الذي لا انساه وأخي الذي من لحمي ودمي
أمسك بيدي فأمسكت به بكلتا يديّ وانفجرت في البكاء، بكاء عميق مؤلم ابث فيه سعادتي، وعدم تصديقي لما يحدث لي!
أخيراً رأيتُ أخي!
أخيراً سوف يلتم شملي بسندي!
طبطب علي على كتفي وهو يفتح باب سيارته ويدخلني بداخلها، ومن دون ان اقاوم دخلت، وجلست على المقعد وكفيّ لا زالتا على وجهي تكفكفان دموعي الغزيرة.
وجلس هو على مقعد السائق، ليدير مفتاح السيارة وننطلق
في اثناء سيرنا، علي لم يعطي مجالا للصمت أو الحزن، انما جعلني استمع إليه بلهفة عندما بدأ يسرد ذكريات الماضي ويصف أبي ويصف منزلنا وحياتنا القديمة، وكيف كان أبي يُفضلني ويحبني ولا يرفض لي طلبا، وكيف كان هو يحبني، ثم غير دفة الحديث فجأة بعد ان أوقف السيارة على جانب الطريق قرب المحلات التي عج الشارع بها، وانتشر ضجيج السائرين فيها:" لا زال اعاني من الغصة حتى الآن بسبب طريقة موت أبي، لقد غدر بنا ذلك النجس، وقتله عن قصد، لقد افقدنا والدنا بطريقة وحشية ذلك الحقير"
توقفت عن التنفس، وخفق قلبي، وأنا استمع إلى كلماته الهادرة بصوت غاضب غليظ، وعينيّ تتجولان على وجهه العابس باختناق، قاطعة كلماته وأنا أصرخ بانفعال وغير تصديق:" أتعرفه، أخبرني من هو!"
وجهه الذي لم يكن ينظر إليّ، التفت باتجاهي أخيراً، وتجاعيد عينيه الواضحة تتأمل ملامحي المنهارة، وابتسامة شفتيه تزداد اتساعا، سيجارته المطفأة رماها بعشوائية داخل حفرة المطفأة القريبة منه وأنا أراقبه، وانتظر إجابته بقلة صبر، أخرج واحدة جديدة ليشعلها ببطء شديد، وهو يفتح نافذته لتدخل الأصوات وتزيد من توتري.
همس بعد مدة وبعد ان وضعني تحت ضغط شديد جدا جعلني كالمنهارة، والتي يتمزق صدرها في كل ثانية تمر:" ذلك الحقير هو من تعيشين تحت ظله كالمغفلة!"
|