في الصباح الباكر أستدعيت كندة من قِبل الملكة إلى جناحها الخاص .. استقبلتها دون أن تنهض من مكانها .. إنها تبدو تعبة ذلك ما دل عليه حالها .. أطرافها متدلية .. هامتها مسكوبة خارج حدود الأريكة التي تستلقي فوقها وكأنها سقطت للتو من السماء .. طريقة تنهدها واصفرار وجهها جعل كندة تسألها:
سيدتي .. هل أنت بخير؟
ــ نورهان المرأة التي تكبر كندة بأكثر من عشرين عاما لم تعيقها السنين عن الاحتفاظ بكامل أنوثتها: وهل أبدو لكي أني بخير .. إني تعبة .. تعبة لدرجة أني لا أستطيع النهوض .. سيقضي علي ذلك الأبله الذي يدعي الجنون ..
ــ لقد علمتِ ..
ــ لقد علمت وذاك ما قض مضجعي وأثقل كاهلي وجعلني أستدعيك .. أنتي لم تر ولم تسمع شيئا وما جرى البارحة .. اصنعي له حفرة في أعماق أعماقك واطمسيه .. لا يجب أن يخرج أبدا .. هل فهمتي؟
ــ بجدية ببرود تام أردفت "نعم" .. قالتها كندة بارتباك ثم استأذنت: سيدتي هل لي بسؤال؟
ــ ماذا؟
ــ إن كان هذا هو سيدي "أبان" فمن يكون إذن هذا الذي يجوب بموكبه الطرقات .. من يحبه الفقراء ويعشقه الناس وتدق الأجراس احتفالا بقدومه؟
ــ اكتنفت بذارعها محيط عينيها .. بامتعاض شديد: آآآآآآآآآآآآآآآآه يا له من حديث مؤلم يهد الأبدان ..
ــ عذرا سيدتي ..
ــ لولا مكانتك في قلبي وواجبي تجاهك وثقتي بأنك ستكتمين السر لما كنت أخبرتك مطلقا ..
ــ هذا كرم منك لا أستحقه ..
ــ من تحدثتي عنه ليس أبان بل هو" أسامة" ابن رئيس الوزراء شبيه أبان .. تطوع مشكورا القيام بالأمور التي تخلى ذلك الأحمق عن تنفيذها منذ عام تقريبا .. فكما شهدت فأبان لم يعد مؤهلا لأداء واجباته .. ولا عجب في ذلك .. فإهمال أبيه وتدليلي المستمر له وخوفي الشديد عليه جعل منه شابا منطويا على نفسه .. مهزوزا .. مسلوب الشخصية و مع هذا .. فقد كان هادئا بعيدا عن المشاكل إلا أنه فجأة وقبل سنة تقريبا .. انقلب رأسا على عقب .. لقد تخلى عن هدوئه .. عقله .. عن حياته .. لقد ركن نفسه جانبا .. مدعيا الجنون .. سائلا الجميع أن يصدقوا ادعاءه .. وأصدقك القول أني مع مرور الوقت بدأت أصدقه ..
ــ سيدتي .. أستميحك عذرا ولكني أرى بأن علاج سيدي الأمير بزواجه ..
ــ ومن قال لك بأني لم أفعل .. في مقتبل تلك السنة الآثمة زوجته مرتين .. طلقهن في أقل من يومين .. لقد كدن يصبن بالجنون بسبب تصرفاته .. أخبرتني إحداهن أنه أمرها أن ترقد فوق سرير محشو بالأفاعي أما الأخرى .. فقد جنت بالفعل أتصدقين ذلك .. لقد بذلت الكثير الكثير من المال لسد أفواههن .. لقد احتار الملك في أمره وأنا لم أعد قادرة على السيطرة عليه أو حمايته .. ولولا كونه ابني الوحيد لكنت .. نفيته إلى أرض نائية بعيدا عني ولينشغل حينها .. بجنونه كيفما شاء ..صمتت كندة طويلا وبعد تفكير عميق نطقت بالعجب العجاب:
سيدتي هلا منحتني فرصة؟
ــ ماذا تقصدين؟
ــ أعتقد أني قادرة على إعادة سيدي أبان إلى رشده وجعله يستقر ..
ــ كيف؟ ــ بتردد طفيف: بالزواج منه .. ــ هه..
ــ كندة التي كان يبدو جليا أنها .. قد اتخذت قرارها أن .. ترضي فضولها وتصنع انطلاقة حقيقية لحلمها: لا أعلم سيدتي إلا أنه .. إحساس قوي ممزوج بشيء من الثقة أني .. أستطيع مساعدته وأكدت: سيدتي .. لا تلقى بالا لانخفاض صوتي وطبيعة جسدي فقوامي .. لا يكسر بسهولة وصوتي .. واصل وفاصل ولن .. أمل الصبر حتى يملني إلا أن ذلك لن يكون إلا .. بالاقتراب كثيرا منه وملازمته والزواج برأيي .. هو الطريقة الأمثل لتحقيق ذلك ..
ــ أعرضت عنها قائلة: لا أعلم ولكني أعلم أن .. أوان ذلك قد فات فهو .. لم يعد يرغب بالزواج إلا .. أن تكوني إحدى وصيفاته ..
ــ قالتها جزافا فتفاجأت بالإجابة التي عكست توقعاتها: لا بأس ..
ــ ماذا تقولين؟ هل أنتي مجنونة؟ أنتي حرة .. والحرة لا تباع ولا تشترى ..
ــ ولأني كذلك سأجعل من نفسي ملكا للأمير إن كان في ذلك علاجه .. سأحاول مليكتي فلا تحرميني هذه الفرصة أرجوك ..
ــ أدنت نورهان رقبتها .. تحدق بها:
ما قصتك يا فتاة .. لِم كل هذا الإلحاح وأنت بالكاد قد رأيتِه؟
ــ نعم إلا أني .. وحاشاي أن أكذب عليك فقد .. أحببته ولم أزل حتى اللحظة .. أفكر به وأرغب بشكل جاد مساعدته .. أن أكون لصيقة به أن أجعله يراني أن .. يراني كما أشتهي في عينيه .. تشهد السموات والأرض على كلامي هذا .. فلتأذني بذلك لي مولاتي ..
ــ اتكأت جانبا .. نظرت إليها مليا .. هزت رأسها: حسنا إذن .. لتكن المحاولة الأخيرة ..
اتفقت كندة مع الملكة أن تباع في سوق النخاسات .. أن تشترى بثمن غال كي تصبح "الصفية" والصفية هي أغلى الوصيفات ثمنا .. هي كالزوجة دون حقوق وكالأميرة من دون واجبات أو حق في الحكم .. لها أن تدخل على سيدها دون استئذان .. غرفتها هي غرفته ومائدتها مائدته .. تصطحبه في المناسبات وترافقه في المناقب .. في المواكب والاحتفالات .. يطيعها الخدم والغلمان ويأتمر بأوامرها الجند .. تعامل كحرة لا كعبدة مشتراة .. هي باختصار .. الظل اللصيق لسيدها حتى تأتي صفية تعلوها سعرا أو زوجة تمنحها الحرية.
ودعت كنده والدها بعد أن عقد قرانا وهميا يربطها بالأمير .. لقد حز في نفسها أن تشترك مع الملكة بكذبة انطلت عليه .. أنها باتت زوجته ولها من الحقوق ما يحفظ لها كبرياءها وكرامتها كامرأة حرة إلا أن .. ما أوجعها حقا هو .. اشتراط الملكة إعلان الزواج بطفل تنجبه .. لقد أغاظه ما قالت وآلمه كثيرا جواب ابنته بأنها راضية فهي تحبه .. هدأ قليلا بعد أن وعدته الملكة بأن الانفصال إن حدث فإنها لن ترمى هكذا وكأنها لاشيء بل .. سيعتنى بها أشد الاعتناء و ستجازى خيرا بما يحفظ لها حقها .. غادر محملا بالأكاذيب التي كان ختامها .. عربة تسبقه مترعة بالذهب .. مهرها الوهمي الذي تصدقت به على أهل قريتها.
أتى اليوم المرتقب .. عرحت كندة على الملكة قبل رحيلها فأوصتها الملكة بكلمات من باب حرصها وكونها أدرى الناس بابنها: تخلي عن خجلك عن ضعفك وإياك ومغادرة فراشك ففراش المرأة هو .. سحرها الذي لا يستطيع الرجل إبطاله وهو السجن الذي يتلذذ بظلمته مهما بلغ ضيقه .. وكلما سقطتي انهضي وحافظي على هدوئك مهما بلغت حدة جنونه واعلمي أن للرجل جانبان .. جانب يبرز فيه قوته وجانب مهزوز متخاذل محبوس في دهاليز إن استطعت التسربل من خلالها فقد تمكنت منه وإنما هو .. قلب واحد إن استحوذت عليه فقد امتلكته بالكامل.
احتشد الحشد الذي خلا من اسم رجل وبدأ العرض الذي انتهى سريعا فالفتيات كن ذواتا جمال أخاذ يسلب الألباب كانت آخرهن كندة التي .. برزت من بين الستائر ترتدي ثوبا شبه عار أظهر مفاتنها أبهر الحضور أثار الهمز واللمز ..
ــ صدحت النخاسة تطرب بصوتها قائلة:
سيداتي ..
أنظرن هنا .. ألا ترون ما أرى .. أم أنني الوحيدة التي ترى ..
فتاة لم يخلق مثلها بعد .. هبة السماء وثناء الأرض فتاة ..
انحنى لها الجمال وتفرق النجم ليفضي لها مكانا بينها ..
زهرة مضيئة لما تناثر على صفحاتها قطرات من الندى ..
يهزها النسيم برفق ..
فتنثر أبيات شعرها بلا حياء فتصيب بسحرها من تشاء ..
لعاعة لغوس .. شمس غموس .. فرس شموس ..
وجه كالقمر ..
عيون دعجاء ولآلئ سوداء ..
أنف من العاج وخدود من المرمر ..
فم منمنم وشفاه قرمزية وشعر مصقول ..
يتهادى حول خصر من حرير ..
بيضاء كالثلج .. كندف الثلج قد تساقطت للتو من السماء آآآآآآآآآآآآآآآه يا ويلي ..
ماذا عساي أن أقول بعد ..
جسد من عالم الأحلام وقوام جيد حسان ..
صوت يدغدغ الأذهان وسحر ليس من هذا الزمان ..
عروس بحر تاه رداؤها وحورية من السماء تبحث عن جناحها ..
من امتلكها فقد امتلك الفردوس .. أسرار البحار .. بهجة اليوم وشباب الأمس ..
من امتلكها ..
فالحق والحق لابد من أن يقال ..
أنه امتلك الفتنة بكامل بريقها وقد صدقت ..
فقد ارتفعت المزايدات حتى بلغت أوجها والنخاسة التي أدت الدور المرسوم لها بانتظار مبعوثة الملكة أن تعلن عن نفسها بسعر يلجم الأفواه .. ظلت صامتة حتى اللحظة الأخيرة: ألف ألف درهم .. استتب السكون وتمت البيعة.
وفي القصر استقبلت كندة من قِبل وصيفاتها اللاتي انحنين احتراما لها بخلاف "كهرمان" الصفية التي أستبدل مكانها والتي فعلت ذلك وكأنها مرغمة .. ألبسنها ..هيأنها وجعلنها تبدو أكثر جمالا بل أكثر فتنة واصطحبنها إلى غرفتها .. غرفة الأمير بل هو المكان حيث كانا معا .. ولجت إلى الداخل .. إنها الغرفة ذاتها .. اللون الأبيض الذي اكتنفها .. الأركان التي كانت تتوارى خلفها كي لا يمسك بها والسرير لما قفزت .. لما قفز خلفها .. كان نائما فجلست بقربه ولما .. تكون بقربه فهي لا تتمالك نفسها أن .. تتأمل وجهه أن تداعب برفق أنامِلها وجنته وأرنبة أنفه إلا أن .. تلك اللمسات الرقيقة أيقظته .. صرخ فيها: من أنت وماذا تفعلين هنا؟
ــ أجابته بارتباك لم تستطع السيطرة عليه: أنا هي الصفية الجديدة وأدعى كندة ..
ــ آآآآآآآآه .. إذن فقد فعلتها أماه حسنا .. ليكن لك إذن ما أردت .. قذفها خارجا فارتطمت بالجدار المقابل ثم سقطت أرضا .. نفش شعرها .. مزق ثوبها .. كهرمان تبتسم بخبث وهن شاهدات لا حول لهن ولا قوة .. اغترف براحتيه ما استطاع من تراب من الحوض بقربه وبعثره عليها ثم جرها من شعرها كالماشية تساق إلى حتفها وهو يضحك بشكل هستيري وهي تصرخ من شدة الألم لا سبيل لإيقافه فلا أحد يعترض طريقه ولا نفع يرجى من مقاومته فالألم يزداد كلما حاولت لتؤثر الصمت حينها عل الصمت .. يوقفه في حين لم ينفع الصراخ ومضى حتى .. توقف مقتحما جناح والدته التي كاد أن يغمى عليها .. سحبها حتى أصبحت تحت قدميها .. جثا بعدها على ركبتيه من شدة التعب مبتسما ينظر إليها كالمجنون وهو يلتقط أنفاسه .. لم يزل على حاله البائسة تلك حتى .. نهضت تنفض الغبار عنها .. استأذنت الملكة بعباءة تسترها ثم غادرت بسكينة نحو مخدعها .. تفاجأ بها بل .. بالملكة التي سمع لصرختها دوِي ارتجت له أبواب القصر كلها: أخرج .. اختفى أبان بعدها ..
انتظرت كندة عودة سيدها حتى ساعة متأخرة من الليل حين أتى .. محمولا غارقا في النوم لكثرة ما شرِب .. تذكرت وصايا سيدتها السبع فدنت منه حتى .. التصقت به ثم احتضنته.
وفي الصباح الباكر طرق الباب .. كان أحد الغلمان – والغلمان هم
زينة القصر وبهجته .. مرفوع عنهم القلم حتى يبلغوا سن الرشد وحينها .. عليهم أن ينخرطوا في حاشية الملك ويتلقوا الواجبات الموكلة بهم – أتى يستدعي سيده لتناول الغداء بحضور الملك وزوجته ولما .. لم يجد استجابة منه تسلل إلى الداخل .. ثوان وعاد يصحبه صحبه الذين عاثوا في الغرفة خرابا: أخرجوا قالها دون أن يفتح عينيه إلا أن .. إزعاجهم الشديد جعله يفعل ذلك مرغما .. كتفها العاري ورأسها المخبأ بين أضلعه والتصاقها اللصيق به جعله ينهض فزعا:
ماذا تفعل هذه هنا؟
ــ لقد كانت هنا ..
ــ منذ متى؟
ــ لا أعلم لنسألها .. تجمع الغلمان حولها يداعبنها حتى استيقظت .. نظرت إليه بأجفانها الناعسة .. رؤيتها وإن كانت كلت من النوم فالنوم لم يملها .. تشفي الأعمش وتسكن الأرمش وتروي العطشان إلا أنه لم يرتوِ من ذلك الماء العليل الذي هو في متناوله بل ظل ساكنا ينظر إليها فزعا ومالبثت .. أن عادت إلى النوم: من أنتِ؟ ماذا تفعلين هنا ومتى أتيتِ؟ سيل من الأسئلة التي عجز الفضول عن حصرها: ماذا تفعلون هنا؟
ــ الكل يمرر الإجابة إلى صاحبه حتى أجيبت: الملك والملكة بانتظاركم على مائدة الغداء .. تمددت فوق فراشها وكل حركة تصدر منها تعبر عن أنوثة تلقائية تستطيع أن تلهب مشاعرك وجوارحك في لحظة ولكن مالفائدة وقد بدا .. كتمثال حجري لايرى لايسمع ولا يتكلم .. لهت معهم لبعض الوقت .. تعرفت على أسمائهم استمعت إلى أحاديثهم من ثم .. سارت باتجاهه فتنحنى عنها جانبا بشكل أوحى لها وكأنها وباء .. استأذنته للاستعداد ثم غادرت.
امتنع أبان عن تناول الغداء إلا أنه .. رضخ في النهاية فالغلمان أمروا بإحضاره وإلا .. فإنهم سيحرموا من الطعام والشراب لبقية يومهم .. وهذا ظلم لم يستطع تحمله ..
أتى متململا وجلس متململا والملك الذي .. اتقد بصره لما رآها جعل يسترق النظر إليها خلسة وأبان المستند بوجنته على لحاف المائدة يراقبه عن كثب وكلما .. التقت أعينهم غض الطرف منشغلا بتناول طعامه أما أبان فقد تحول على جانبه الأيسر ينظر إليها بلا مبالاة ثم إليه فوجد ما كان منه منذ قليل والملكة تدرس تحركاته .. عقلها لا يكاد يسعفها .. إحساس مشؤوم بأن أمرا أشد شؤما سيحدث وقد كان فقد نهض أبان .. أمسك بها بشدة من حاشية ثوبها ثم رماها في حضنه: سيدي ومولاي ..مالي هو مالك .. افعل بها ما شئت ثم ارمها للكلاب قال ذلك قفل بعدها .. راجعا إلى غرفته بالهيئة كما أتى .. شعرت بالإحراج وتجمع الدمع عند مآقيها ثم انسكب .. استأذنت الملك باللحاق به .. جذب يدها ومسح دمعها وواساها بكلمات ثم أذِن لها .. تفاجأت الملكة فهي المرة الأولى التي تراه يمسك يد امرأة غيرها .. أن يمسح دمعها أن يواسيها بكلمات .. أن يصبح طعم الطعام رديئا برحيلها ألا يكمِله .. أن يتركها عابسا دون كلمة طيبة كما اعتادت جعلها .. تقاوم بقوة بوادر شك لم تؤمن بحدوثه .. يوما مطلقا.
كان في طريقه إلى غرفته عندما تجاوزته إليها .. لم تخرج ذلك اليوم ولم يعد هو أيضا وعلى مأدبة العشاء التي أقيمت بمناسبة شفاء الملك لم يكونا حاضرين .. أمرت الملكة أحد الغلمان باستدعائهما إلا أن الملك اعترضها متبنيا هذا الأمر متعللا بِحجتي .. التجول في أرجاء القصر فهو لم يفعل منذ مدة والتقرب من أبان وإصلاح الوضع بينهما بأن يذهب إليه بنفسه .. استغراب بسيط لم يصحبه معارضة من جانبها إلا أنها .. ولما نهضت لترافقه ولما .. منعها فمن غير اللائق ترك الضيوف لوحدهم حسب قولِه .. استحال ذلك الاستغراب البسيط في لحظة إلى .. غربة لم تجد موطنا في داخلها .. تجول قليلا مبديا بعض التعليقات هنا وهناك ليصل في النهاية إلى الجناح حيث أبان .. أبان الذي لم يكن هناك .. دخل بعد أن استأذنها أحد الغلمان .. انحنت احتراما له: كيف حالك بنيتي؟
ــ بخير .. ما دمت بخير مولاي ..
ــ ابتسم لردها ثم جلس وأجلسها بقربه .. مسح على رأسها مواسيا إياها: أبان فتى طيب .. إن تحملته قليلا فإنه سيعود كما كان ..
ــ أتمنى ذلك ..
ــ ما هذا؟
ــ لا شيء .. تركت جذبة أبان لحاشية ثوبها أثرا أسفل عنقها .. أمر الملك بالعلاج فأحضرته كهرمان التي .. نسخت كل ما جرى بعد ذلك لتصبه في آذان الملكة .. لقد عالجها بنفسه .. ضمها إلى صدره ووعدها .. مدعيا أبوته وبأنها الابنة التي لطالما تمناها بأنه .. سيحميها وسيكون دوما إلى جانبها فلا تقلق ثم اصطحبها خارجا .. إلى حديقة القصر كي يجلب الأنس والسكينة إلى نفسها المتأرجحة .. كان هناك مستندا على جذع شجرة بدت مألوفة لكندة التي تكدر خاطرها فأركان حلمها هي ذاتها لم تتغير بينما الريق البارد لحلمها كي ينبض بالحياة ..
هو .. وليس هو ..
متذبذب مترنح بين مد عال وجزر .. أوشك على السقوط أرضا .. حاولت كهرمان ولكن كندة كانت الأسبق إليه .. أسندته على صدرها وأسدلت رأسه بين نحرها وعاتقها ..
ــ بضيق واضح نهره: أبان أبان .. ماذا تفعل هنا؟ هيا قم ..
ــ أبان الذي لم يكن في وعيه فقناني الشراب الفارغة التي كانت بمحاذاته لا تبشر بخير: آآآآه يالها من رائحة زكية وما أحسنه من وجه .. استغراب يسير تبعه هلع بحجم جنونه فقد انكب عليها محاولا تقبيلها ..محاولا الاعتداء عليها .. أن يصنع بها كما يصنع الزوج بزوجته .. لا خجل ولا حياء .. أمام أعين الجميع .. أمام والده الذي حيره أمره وأثار غضبه ..
ــ انتزعنه بصعوبة منها .. هربت بعيدا عنه واختبأت خلف شجرة أخرى .. صاح فيه الملك الذي كان قد كتم غيظه طويلا حتى ضجر: ألا تخجل من نفسك؟
ــ بوقاحة: ولم الخجل ..إنهن ملك يميني .. أفعل بهن ما شئت متى شئت .. من عليه أن يخجل حقا هو أنت .. ألا تستحي أن ترافق حريم ابنك دون إذنه ..
ــ يا هذا ألا تعلم من تخاطب؟
ــ بلى بلى .. أعلم من .. أنت أبي .. لا لا لست كذلك .. بل أنت مولاي .. لا لا لست كذلك .. بل أنت مليكي .. لا لا لست كذلك .. إذن فمن تكون أنت ومن أكون أنا؟ نظمها أغنية وجعل يترنم بها طوال الطريق إلى السجن الذي .. ألقِي به عقابا له على جرأته ووقاحته ..
عادت كندة إلى جناحها .. لم تسمح لهن بالتخفيف عنها تركنها لوحدها تفتكر في حالها الذي تبعثر إلى أشلاء إلى .. التيه الذي وقعت فيه بسببه إلى .. الفجوة التي تزداد عمقا فعمقا بين جرحها الذي علا صوته وبين خيبة الأمل التي تنازعها ..
هو يوم واحد فكيف لي .. أن أتحمل أيام .. حسرة وندم اجتاحت أحلامها تلك الليلة سلبت .. من تحت جفنيها .. سلوى النعاس .. جعلتها في أرق لم ينقطع بل .. استمر مغرظا حتى الصباح.
غادر الملك المأدبة مبكرا وترك للملكة استقبال الهدايا .. لم ينم تلك الليلة هو أيضا بل ظل .. بانتظار الصباح ولم يهنأ له بال إلا بعد .. أن تناولت الإفطار بصحبته والملكة تراقبه وترى .. اهتمامه البالغ بها وتكتم غيظها كتما كمن .. يبتلع لقمة هي أقسى في مرورها من فتات خبز يابس: ما بالك بنيتي؟ ألم يعجبك الطعام؟
ــ لا .. ولكني لست جائعة ..
ــ لابأس .. كلي القليل لأجلي ..
ــ مدت يدها وما عتمت أن عادت إلى موضعها: مولاي .. هلا أفرجت عن سيدي ..
ــ ضرب المائدة بيده فارتجت الأطباق: أضيقك هذا كـله سببه ذلك اللعين أبان ..
ــ ...............
ــ غمزت لها الملكة فانحت ثم غادرت: مولاي .. اهدأ قليلا .. إنه لا يستحق غضبك ..
ــ نظر إليها شزرا: إن تمادى أكثر .. أقسم أني سأقتله .. ذلك اللعين .. كيف قبلت به وسمحت له بأن يولد قالها أثناء نهوضه .. رحل هو الآخر فالمتعة وهناء البال كانا قد رحلا برحيلها ..
ــ أجابته بهمس شابه بقايا غيظ وغضب: أقتله .. وسأقتلكما معا ..