السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
دن.. دن... واقتربت عقاربك يا ساعة .
تن... تن.. وها هو يومك يزف.
يوم يمضي وشهور تسري لتعلني عن النهاية .
تطوين صفحة الماضي بأفراحها وأتراحها...
وتفرشين بياض نسطر به حياة جديدة .
نكتب أحلامنا وأماني نصبوا لتحقيقها .
فتنادينا أن نسعى للمستقبل بعيون مشرقة...
وأن نرتضي بما يسوقه لنا القدر من محن.
دن.. دن.. دقت ساعتك، تعلني عن بزوغ فجر منير.
فتحركي يا ساعة، فلعلكي تجلبين لي عاما جديدا...
أحقق فيه ما أريد، وما تجول به أحلامي.
دندني بنغماتك العالية، لأطرب أسماعي وأرمي أوراقي المهترئة.
أناظرك بشوق، وأنتظرك بلهفة، لعل الله يخبئ لي الجميل بعامك هذا.
****************
وقفت تطالع نفسها بالمرآة وقد غدت آية من الجمال، كأنها حورية خرجت من
قصص الخيال... بفستانها الأبيض المنفوش كما الأميرة، وبتاجها البراق الذي توسد سوادها لتغدوا كما الملكة متربعة عرشها، وقماش من الستان الأبيض المخرم بنقوش صغيرة وجميلة نام براحة على رأسها ثم تهدل خلفها كذيل طويل، وقسمات وجهها تلونت بأحلى الألوان على يد خبيرة بالتجميل، ولكن بالرغم من الألوان الجميلة والملامح الفتانة كانت عيناها تنطقان بالحزن والألم، ودموع عصية ترقرقت بمقلتيها لتغدوا عسليتيها كصفحة مرآة مصقولة.
تناظر نفسها دون أن تراها، فغلال العبودية هي كل ما تشاهده.
أيا فرحة قد انكفأت مبتعدة
أراك تقفين عني ملوحة
أناديك... فتولين الأدبار
وتخبريني بأنه حان أوان الشقاء
أراك ولا أرى سوى بياض كفنك
فمالي سوى الهجر والفناء.
أيا روح قد غلغلت بقيود العبودية
ومالِ لصراخك من مستمع
تناظرين باحثة عن النجاة...
فلا ترين سوى الخواء.
أهكذا تكافئيني يا دنيا؟؟
بحبال الجواري تلتف حولي كما الأفعى!!.
ألا ترين دموعي؟؟.. ألا تسمعين آهاتي؟؟.. آلا تشاهدين دمائي المنسكبة؟؟.
ابتعدي... فقد أهديتني الكثير، وما عدت أتحمل المزيد.
فتح الباب لتدخل امرأة قد سرق الزمن من عمرها الكثير، والمرض قد التهم البقية الباقية من روحها لتغدوا هشة سريعة العطب، ولكن من يدقق النظر بعينيها ترى روح أبية تأبى الفناء والرحيل قبل أن ترى أطفالها وقد تنعموا بالسعادة.
وقفت تتطلع لابنتها لثوان، وعيونها تجري عليها وقد غشيتها دموع الفرح.
- ما شاء الله عليج يا بنتي، صايرة حلوة .
وأخذت تذكر الله وتسمي عليها وترقيها لتحميها من العين، ومقلتيها تدمعان بالسعادة، وهمست بعدها بصوت مكتوم ومبحوح:
- الحمدالله إن الله أعطاني العمر وجفتج عروس، عقبال ما أجوف عيالج يا رب.
وكان الرد عكس ما توقعت.
- ما بي أتزوج يا يومه....
قالتها وهي ما تزال على وضعها بالوقوف وتتأمل بشكلها، فتوقفت الأم وتطلعت لابنتها لثوان ومن ثم اقتربت منها وأمسكت بيديها الباردتان كبرودة الجليد، وهمست لها بحب:
- ليش تقولين جذا يا بنتي؟؟.. خلاص... ما بقى شي وتروحين معاه، وانت أصلا صرتي حرمته من لما ملجتوا، هذا بس اشهار جدام الكل إنكم متزوجين.
كتمت أنينها الموجع، وآلامها الناضحة بصدر قد عانق الأهوال، وأغمضت عينيها بانكسار لتهطل ما كانت تحبسه، وهمست بعذاب وهي تشيح برأسها بعيدا:
- بس أنا ما بي، والله ما بي أتزوج...
هزت الأم يدها برقة تخرجها من توهانها.
- ليش يا بنتي؟؟.. ليش تعترضين لحكمة رب العالمين؟؟.. فعسى أن تكرهوا شيء هو خير لكم وعسى أن تحبوا شيء هو شر لكم، يا بنتي.. انت ما تعرفي الحكمة من زواجج منه، فلعله خير وبركة، وأصلا لين متى راح تظلين بدون زواج؟؟... العمر يركض وانت رافضة تتزوجين من أي واحد يتقدملج، وريلج يا بنتي شاريج ويبيج.
فتحت عينيها وناظرت شقيقتيها الجالستان بسكون وتناظرانها بقلة حيلة وشفقة لحال شقيقتهما الكبرى، ثم قالت بوجع استبد بخافقها من تناسيهم لوضعها:
- يا يومه.. أنا ما يصير إني أتزوج، ما يحق لي الزواج وأنا بهذي الحالة، وثاني شي انت تعرفين إني مجبورة عليه.
عضت شفتيها تكتم نوبة من البكاء توشك على الخروج فسارعت الأم تتلقفها بأحضانها وتهدهدها وتعطيها الأمان الذي تناشده، فتشبثت بها تبحث عن أمان تشعر به سحب من تحت قدميها، وسعادة سرقت من بين يديها، واستقرار تزلزل ليتفتت لأجزاء صغيرة غير قادرة على تجميعه.
أبكي دموع العجز هادرة
وأسكبها لعلها تريحني من آلامي العميقة
أنازعها الرحيل....
فتجبرني على ذرف المزيد
أيا زمن... مالي أراك وقد صددت عني؟؟
أتراك قد نويت لي البؤس؟؟
جروحي غائرة...
وأوجاعي ساقمة...
وآه من وجع القلوب الدامية...
وآه من عيون لا ترى دمعات الصدور
- اذكري الله يا بنتي وما يصير يلي تسويه بنفسج، اذكري ربج علشان يعطيج راحة البال.
وعادت تمسح على ظهرها بحنو وأمومة ونهضت شقيقتيها وسارعتا لاحتضانها أيضا باكيات فراقها وحياة ستخلو من دونها.
مر بعض الوقت حتى هدأت فأبعدتها والدتها وناظرتها بحنان وحادثتها بصرامة لكن برقة، بأمر لكن باقتناع:
- يا بنتي... كيف ما كانت طريقة زواجكم هو خلاص صار ريلج وعليج واجب طاعته، وانسي كيف صار وكيف الطريقة، في وايد ناس يتزوجون بشكل غريب وتنصدمين بعد لما تسمعين قصصهم، وباجر إن شاء الله بتضحكين على يلي صار، وبتقولين قصصج لعيالج إن شاء الله يوم الله بيكتب، هذي بداية يديدة وتمسكي فيها، الله رايد انج تتزوجين واحنا ما نعترض على قضاء الله، صح ولا أنا غلطانه؟؟.
رفض شع من حركة رأسها، ودموع تنعي بؤسها، ولكن أين المفر!!.. فهزت رأسها دون اقتناع لتتراجع الأم وتتركها وهي تقول بصرامة:
- يلا ألحين.. عدلي مكياجج، ما باقي شي علشان تنزفين.
والتفتت لبنتيها وقالت لهم بأمر لا جدال فيه:
- وانتوا بعد، يلا انزلوا تحت نسلم على ضيوفنا، ما يصير ما نستقبلهم.
وغادرت الأم مع ابنتيها تاركين خلفهم فتاة توشك على دخول عالم آخر، عالم اعتقدت بأنها لن تدخله أبدا ولن يتقبلها أحد إلا إذا كان أعمى البصر ليتخذها زوجة، أو أنه لا يبالي البتة بما فيها.
رفعت فستانها الأبيض للأعلى وتطلعت إليه للحظات، كان فوق تصورها.. لقد تخيلت بالسابق كيف سيكون فستان زفافها، لكن أبدا لم يصل لهذه الروعة.
كانت أحلامها بتلك الفترة مشرقة، متفجرة بالطاقة، وبالسعي للبحث عن حياة أفضل، لكن..... كل هذا لم يحصل.
جلست على كرسي الزينة وناظرت نفسها بالمرآة ومن ثم أمسكت بمنديل وأخذت تمسح مياه عينيها وتفكر بالحال التي وصلت إليها... اليوم يوم زفافها، بيوم ينتظره الجميع ليعلنوا عن نهاية عامهم القديم ويبدأوا عامهم الجديد بأماني جديدة وأحلام تدفعهم للمضي قدما، وتساءلت...
- يا ترى.. كيف ستكون حياتها بهذا العام؟؟...
لتجيب...
- لابد وأنها ستكون بائسة محملة بالشقاء والدموع.
فطريقة الزواج تنبئ بهذا، والرجل الذي ستتزوجه اتسم بالجبروت والقوة والتسلط والغرور، أو بالأحرى هو صار زوجها وانتهى الأمر وعليها الآن أن تتحمله وترتضي بالأمر الواقع، واقع أجبرت عليه .
زفرت أنفاسا ساخنة حارة وقد اشتاقت منذ الآن لحياتها العادية مع عائلتها.
******************
نعود للخلف لعدة أيام أو شهور لنكتشف ما بال هذه العروس الجميلة، ولما ليست سعيدة بيوم وجب أن تقفز من السعادة والبهجة والسرور، فحلم كل فتاة أن يأتي هذا اليوم لترتدي الأبيض، ويتحلق الجميع حولها مهنئين بيوم طال انتظاره، وفارسها ينتظرها بالأسفل فاتح الذراعين ليحملها ويأخذها لقصره ويعيشا معا بسعادة للأبد.
**********************
في أحد الأحياء الشعبية وبركن عند زاوية الشارع قبع منزل ليس بالصغير ولا بالكبير، منزل من طابق واحد، مكون من ثلاث غرف وثلاث حمامات ومطبخ وغرفة للجلوس، وسور أحاط بالمنزل، سكنته عائلة مكونة من خمسة أبناء وأم ووالد قد توفي منذ فترة طويلة، واحتلت الابنة الكبرى مكانه لتقود سفينة عائلتها لبر الأمان.
تجلس بركنها المفضل عند النافذة تتطلع للسماء المظلمة الموشكة للتحول للون مبهج يسر النظر إليه والتأمل بألوانه البهية، حدقت بالخارج بعيون راضية وقانعة بما ساقه الله لهم من خيرات بالرغم من حياة التواضع التي يعيشونها، إلا أنها تسد حاجتهم.
صحيح أنها بالسابق كانت تحلم وتتمنى بما يفوق خيالها إلا أنها تراجعت للخلف واكتفت بما لديها وشكرت الله على كل نعمه، فما حصل معها بتلك الأيام السابقة جعلها تقنع بما لديها وتحمد الله على نعمة العيش مع عائلتها بعد أن أهداها رب العباد ولادة جديدة.
نداء باسمها قاطع أفكارها وأنظارها الشاردة بانتظار شمس الصباح لتبزغ من خلف البحار منيرة العالم وفاتحة ذراعيها لمصرعهما تتلقف الكل وترحب بالمزيد ممن ينتظرها.
- شما... شما... وينج يا يومه؟؟
لتجيبها وهي تغلق النافذة:
- كاني هني يا الغالية .
وسارعت تلبي نداءها ودخلت لغرفة صغيرة ذات ألوان هادئة ونظيفة ومرتبة وتنبعث منها أجمل الروائح العطرة من البخور الذي تصنعه والدتها وتبيعه بالسوق ليدر عليهم دخلا لا بأس به، فتلك هواية اتخذتها والدتها لتتسلى بها بوحدتها بعد مغادرة أبنائها لمدارسهم.
سقطت عيناها على والدتها الجالسة بسريرها بابتسامتها المعهودة وشعرها الأسود قد خلله بياض الدهر، وتجاعيد تسللت بغفلة منها دون أن تدرك بأنه قد اجتاحها تماما، ومقلتيها ملئت بالحنان والأمومة وقوة تخرجها بأحلك الظروف.
اقتربت منها وأهدتها ابتسامة صافية وجلست بقربها على السرير بعد أن قبلت رأسها وكفيها.
- صباح الخير يا الغالية، شخبارج اليوم؟؟.
طالعتها الأم بحنان وتأملت ابنتها... رائعة الجمال ببيضاء بشرتها النقية، وعيونها الغاية بالروعة.. برموشها الكثيفة وبعسليتيها التي تضاهي صفار العسل المصفى ليغدوا غارقا بين سواد رموشها، وأنفها المتوسط الحجم، وبشفتيها الممتلئتين والمتوردتين، وبوجنتين تنضحان بالحياة، وبشعرها الأسود المتساقط كشلال المياه على ظهرها ينام براحة، وجسد يصرخ بالأنوثة المتفجرة.
جرت عينيها على صفحة وجه ابنتها وقد غامت مقلتيها بالحزن لحالها.. فهي بـ 28 ولم تتزوج بعد، وقريناتها قد صار لديهم مجموعة من الأطفال وهي....
ربتت على وجنتها وأجابتها:
- أنا بخير دامكم كلكم بخير.
احتضنت شما والدتها بحب وقالت لها:
- كلنا بخير يا الغالية ولا تحاتين.
ابتعدت عنها وهي تتحدث وتساعدها على النهوض:
- بروح أوعي اخواني علشان يروحون المسيد ويصلون الفجر، تبيني أساعدج بشي؟؟.
- لا يا بنيتي أنا بخير ولا تحاتيني، وصرت أحسن من الأول .
- إن شاء الله دوم تكونين بخير.
ودخلت الأم الحمام لتتوضأ وخرجت شما توقظ أشقائها للذهاب للصلاة، وهتفت وهي تدخل إلى أحد الغرف وتنيرها لتتطلع إليها وقد احتلها سريرين ضم شابين حمد بـ 24 وأحمد بـ 20 .
- حمد... أحمد.. يلا حبايبي أذن الفجر، يلا صلاة .
لا رد... فاقتربت تسحب الغطاء وتهزهم برفق:
- يلا يا حبايبي... لا تفوتكم الصلاة .
تململت الأجساد راغبة بالمزيد بالرحيل مع سلطان نومهما ودفئ التحف جسديهما، لكن هناك من هو أقوى من هذا بكثير، فهمس حمد بصوت محتقن بالنوم يرد على شقيقته:
- صباح الخير.
ابتسمت له ومسحت على شعره بحب وأجابته:
- صباح الخير يا قلب اختك، قوم حبيبي وصحي معاك أحمد، بروح أوعي البنات .
رد إليها ابتسامتها وهز رأسه موافقا ونهض لتتحرك هي خارجة ومتجهة للخارج، ليس ببعيد فقط بركن ذا زاوية حادة وبعدها باب زين بمفرش طرز عليه وردة تحل فوقها فراشة والشمس مشرقة تنادي بدفئها وحبها.
دخلت الغرفة والتقطت مقلتيها ثلاث أسرة تحتوي ثلاث شقيقات... خلود
بـ 18 و بثينة بـ 15 والسرير الثالث كان لها .
أنارت الغرفة وصاحت وهي تصفق:
- بثينة خلود يـ الله حبايبي، أذن الفجر، قوموا علشان الصلاة .
وعلى الفور استيقظوا دون أي مماطلة وخرجوا للحمام ووقفوا بانتظار دورهم للدخول .
تحركت شما ودخلت المطبخ تعد طعام الافطار المكون من الخبز والعسل والمربى والحليب والبيض والجبن، أعدته بسرعة ثم اتجهت لتصلي بعد أن أقامت الصلاة .
تحلق الجميع حول طاولة الطعام يتناولون افطارهم بتأني وتمهل وأحاديثهم المرحة تنتشر بالأجواء وكل واحد منهم يحكي مغامراته المشوقة التي حدثت بالمدرسة والعمل، وبعدها انطلق الجميع للذهاب لمدارسهم وأعمالهم بعد أن ودعوا والدتهم وشقيقتهم الكبرى .
- يلا يا يومه أنا رايحة الدوام، تامرين على شي ؟؟.
ابتسمت لها بمحبها وأجابتها :
- لا يا بنيتي ما تقصرين، ونبي سلامتج .
لملمت أغراضها ووضعتها بحقيبة يدها بسرعة ومن ثم اتجهت لوالدتها وقبلت قمة رأسها وهي تقول:
- خذي دواج ولا تنسيه، واذا بغيتي شي اتصلي فيني بأي وقت .
ودارت على عقبيها وانطلقت هي الأخرى مغادرة لعملها تلحقها دعوات والدتها بالتوفيق والحماية وأن ييسر الله لها طريقها ويسخر لها الخير حيث كان .
وصلت لمقر عملها في احدى الشركات الكبرى التي يملكها أحد تجار امارة أبوظبي واسمه "عبد الله أحمد التميمي" وهي تعمل بقسم المحاسبة.
أوقفت سيارتها في مكانها المخصص ومن ثم ترجلت على عجل وسارت بخطوات سريعة لكن واثقة، ودخلت الشركة تحي حارسها ووقعت على الحضور وانطلقت لمكتبها واستقلت المصعد وارتفع بها للطابق السادس، فتح الباب وخرجت منه ودلفت لمكتبها لتستقبلها صديقتها فاطمة:
- تأخرتي يا بنت !!.
وأجابتها وهي تفتح حاسوبها وتضع حقيبتها بمكانها وتجلس:
- هي والله تأخرت شوي، صاير حادث بالطريق يا الله تستر وتنجي أصحابهم، والسيارات طابور، لين الحمدالله جت الشرطة ومشت السيارات الواقفة.
وانخرطت بعدها بالعمل بين الأرقام التي عشقتها منذ الصغر فأرادت تعلمها، أرادت أن تتعمق وتغوص ببحورها، وها هي الآن تجني ثمار تعبها وتعمل في تخصص عشقته كليا، فبادرت زميلتها الأخرى " مي " بالحديث قائلة بهمس:
- سمعتوا الأخبار اليديدة؟؟...
وأكملت دون أن تنتظر من يسألها:
- المدير رجع من السفر .
لتكمل فاطمة:
- هي سمعت عن إنه رجع، وبعد سمعت إنه بيسوي اجتماع مع الكل اليوم...
قاطعتهما شما وعيناها مركزتان بالشاشة التي أمامها:
- أقول... خلوا عنكم الهذرة الزايدة وكملوا شغلكم.
وما هي إلا لحظات حتى دخل أحد السعاة قائلا بعملية وبسرعة:
- المدير طالب الكل، يلا على غرفة الاجتماع.
ورحل.. ليترك الجميع ما بيده ملبيين النداء ودخلوا للغرفة المكتظة بباقي الموظفين ووقفت الفتيات الثلاث بآخر الصف لتأخرهم بالذهاب.
تذمرت فاطمة ومي لعدم رؤية المدير الشاب الذي جاء بعد طول غياب بسبب الأجساد المتراصة أمامهم تمنعهم الرؤية جيدا، أما شما فلم تبالي، واتكأت على الجدار وهي تراقب صديقتيها لمحاولتهم اختراق الصفوف لمشاهدة المدير " ذيب عبدالله أحمد التميمي"، مدير الشركة، فبعدما سقط والده طريح الفراش احتل هو مكانه ليقود الأعمال للقمة، ومنتشرا بها حول العالم بعمر 35 ، تمتاز شخصيته بالغموض والقسوة والبرود والجبروت، يهابه الجميع من الصغير للكبير، ذكي ونبيه، متسلط ويحب القاء الأوامر، ويكره كل من يعترضه، وما يريده يناله مهما كان عصيا.
- يا ويلي على جماله، والله حلو ووسيم .
همستها مي بأذن صديقتها فاطمة بحالمية بعدما توضحت الرؤية لتوافقها الأخرى بهيام:
- يا الله ترزقني بريال مثله.. حلو ومتريش وأعيش أنا مثل الملكة.
هزت شما رأسها من أحلام صديقتيها، وأخفضت عيناها تعانق الأرض وهمست لنفسها...
- لما لا.. فهي ليست بأحلام مستحيلة، فهما تستطيعان الزواج والانجاب والعيش بسعادة أما هي.....
سرى كفها فوق عباءتها وشدت شيلتها على رأسها كأنها تخشى ظهور ما تخفيه تحت طيات سواد أخفى سرها، وسقطت يدها لتجاور جسدها باستسلام وأغمضت عينيها تستغفر الله وتشكره على نعمه ومن ثم تابعت الاستماع لحديث مديرهم يحثهم على العمل والرقي والتحلي بالأمانة وإلخ من الأمور حتى فض الاجتماع وعادوا لأعمالهم، ومر الوقت ما بين تسامر وعمل إلى أن انتهى الوقت وحان موعد الرحيل وانطلقت مغادرة وهي تبحث في حقيبتها عن هاتفها لتتصل بوالدتها تسألها عما تحتاجه، فتح المصعد ووقفت ما بين اغلاقه مانعة إياه وهي تهمهم وتبحث بداخل الحقيبة:
- وين راح هذا التليفون بعد؟؟..حاشا... جني ألعب معاه الغميضة.
وعبثت بالحقيبة تقلب بين أشيائها دون أن تنتبه بأنها تمنع المصعد من الصعود أو النزول وما هي إلا لحظات حتى هتف صوت قوي صلب ذا لهجة صارمة لا جدال فيه زلزل كيانها مرسلا شرارات من الكهرباء لتصعقها، فارتعش جسدها واهتزت يدها فانفلتت الحقيبة من بين أصابعها.
- يعني نوقف نترياج حضرة البرنسيسة لين تتفضلين علينا وتخلينا نروح فطريجنا؟؟.
ولأول مرة تكون بمواجة الذئب وجها لوجه، قريبا جدا لتفصل قسمات وجهه الوسيمة والمتوحشة.. وبدأت بعينيه العسلية التي تشبه عيون الذئب بحق عندما تناظرك بحدة وتكاد تخترق دواخلك وتقرأ ما يدور بفكرك وتجذبك لفخها بعيون مغشية، وحواجبه الكثيفة والمعتكفة فوق عينيه تزيده هيبة وقوة، وبأنفه الحاد كالسيف، وبفمه المشدود كأنه لم يعرف طعم الضحكة كيف تكون، وبلحيته المرتبة والغليظة نوعا ما تغطي فكه، وهمست لنفسها...
- يا حبذا لو شذب لحيته أكثر، لغدت وسامته قاتلة!!.
أخرجها من تأملها السريع الذي لم يمضي عليه سوى أقل من الثانية جرت عينيها عليه تصور ملامحه رنين هاتفها، تنحنحت وقالت بخفوت:
- أنا آسفة ما انتبهت...
وانخفضت تلتقط أشياءها وتعيدها لحقيبتها وسمح للباب بالانزلاق بعد أن انزاح الحاجز لتهتف معترضة:
- لا....
ونهضت تحاول الضغط على أزراره تريد فتحه ولكن قد فات الأوان، والتفتت بعد أن تحدث :
- ليش الخوف؟؟.. أنا ما أعض.
وأجابته بعد أن استجمعت طاقتها ودون خوف وعيونها تحدجه دون خشية:
- وأنا ما ني خايفة منك، بس الصح صح والغلط غلط، ووجودنا مع بعض بروحنا غلط هذا الموضوع وما فيه.
وأدارت ظهرها والتصقت بجدار المصعد ووقف هو خلفها حتى عاد رنين الهاتف يطغى على السكون الذي التحفهم.
حركت رأسها تبحث عما يخصها لتراه بين أصابعه.
- ما تقدرين تتكلمين هنا، بينقطع الخط.
مد يده ناحيتها لتمسكه بأطراف أصابعها وتشاهد الشاشة ثم تعيده لحقيبتها وانتظرت بفارغ الصبر أن يصل المصعد لوجهته وشعرت به وقد طال وقته، فقد أحست أن ظهرها يحترق بشدة بنار ملتهبة، وأعصابها تكاد تفلت من معقلها من احساسها بالخجل من وجودها مع رجل لوحدهما، وكم تمنت أن تلتفت إليها وتصرخ أن يكف عن التحديق بها بعينيه المخيفة.
فتح الباب لتتنفس الصعداء وتهرول خارجة ولم تشاهد عيناه الحادتان والغامضة وهي تراقبها إلى أن اختفى ظلها، ومن ثم تحرك بعدها مغادرا لمنزله.
- السلام عليكم.
ألقى التحية على عائلته ليبادر والده ووالدته بالرد عليه:
- وعليكم السلام
اقترب مقبلا إياهم ثم جلس بتعب، فقالت والدته وهي تشاهد حاله التي لا تسرها أبدا.
- يا وليدي يا ذيب.. ليش تتعب نفسك بالشغل؟؟.. خل الموظفين يشتغلون بدالك.
- يا الغالية أنا بخير والحمدالله، والموظفين مب مقصرين معاي.
- ولين متى راح تظل جذا يا وليدي؟؟.. ريحني الله يريحك.
- أفا... يا ذا العلم، أنا متعبنج؟؟.
ونهض وهو يكمل حديثه:
- السموحة لو أخطيت بحقج يا الغالية.
وقبلها على رأسها وكفيها ليقاطعهما الوالد قائلا:
- أمك تقصد شي ثاني وأظن إنك عارف عن شو تتكلم.
وغمز له والده بإيحاء فتابعت الأم بعتاب:
- هي اضحك ولا يهمك انت، يعني عاجبنك الولد تعبان وحالته حاله؟؟.. كله يشتغل وحيله منهد بس بالشغل؟؟.
ليجيبها زوجها:
- بس يا أم ذيب......
قاطعته وأكملت موجه حديثها لولدها الواقف أمامها يطالعها بسكون وينتظر البقية:
- يا يومه أنا ودي راحتك، خايفة أموت وأنا مب مطمنة عليك.
فأجابها:
- الله يطول بعمرج يا الغالية، وأنا ما علي شر، وأصلا.. وشلي بالعرس!!.. تراني كنت متزوج من قبل، وثاني شي أنا مب بنت علشان تخافين علي.
فسارعت قائلة:
- حرمتك الأولانية خليها تولي ما هي بكفو، طلعت وحدة ما تستاهل.
أصابه الجمود من تطرق والدته بالحديث لشيء لم يحبه قط.
- يومه... هي من حقها تختار مصلحتها وحريتها، وماهي مجبورة وملزومة فيني.
تنهد بضيق من حديث لن ينتهي أبدا، فوالدته ما أن تفتح هذا الموضوع لن تغلقه إلا بعد عناء.
- انزين... ألحين ما في اعتراض أو مشكلة، تقدر تتزوج...
وهمس يريد أن ينهي هذا الحوار الغير مستساغ:
- إن شاء الله خير
فنهضت من مكانها بفرح وهتفت:
- عندي لك بنت ولا القمر، جمال وطول وعرض ونسب وحسب...
امتعض وجهه وأشاح برأسه ناحية والده طالبا بالمساعدة ليجيبه الآخر برفع كتفه بخروج الأمر من سيطرته وليس بمقدرته ردع زوجته.
شهيق وزفير وقال أخيرا :
- ما بي يا يومه، ولما أتزوج أنا يلي بختار الحرمة يلي أبيها.
تهدل كتفي والدته وانزوى الحزن بين أركان ملامحها، فهي تعلم بأنه يماطل ولا يريد الزواج أبدا، وستظل طول سنين عمرها تشاهده وهو يفني نفسه وروحه بين الأوراق التي لن تنجب له ولن تحمل له السعادة وراحة البال.
فسارع يمحي الغم عنها فتلك هي والدته جنته وناره، فكيف لا يستطيع ادخال البهجة والسرور لقلبها؟؟.
أمسك أكتافها وهمس لها بعد أن طبع شفتيه على قمة رأسها:
- هذي المرة صدقيني راح أختار، بس اصبري علي شوي .
رفعت رأسها والأمل لاح بالأفق وهمست برجاء وهي تحيط بكفيها وجهه:
- تتكلم جد؟؟.. يعني مب نفس كل مرة تبي تسكتني وبس؟؟.
حرك رأسه وأجابها:
- لا... هذي المرة جد، بس ها...
وأشار بسبابته بأمر لا جدال فيه:
- بختار البنت يلي أبيها ومب شرط تكون بنت حسب ونسب.
- بس...
- لا يا الغالية خليني براحتي، انت يلي عليج تتقبلينها مين ما كانت، وكيف ما كانت.
عبست ولم يعجبها قوله وأمره، فسارع قائلا ينهي الجدال القائم بينهما:
- هذا آخر الكلام يلي عندي، تبيني أتزوج؟؟.. بيكون اختياري، ها... شو قلتي؟؟.
احتارت والتردد ظهر على محياها، وتطلعت لزوجها لنجدتها إلا أنه اكتفى بالمحايدة وعدم ابداء رأيه، هو مع زوجته برغبته بزواج ابنه البكر، فهو الوحيد من بين أشقائه الذي لم ينل السعادة، وأيضا يوافق ابنه برغبته باختيار عمن ستكون شريكة حياته لهذا اكتف بالصمت وترك كل شيء بيد الله فهو القادر على كل شيء.
فأسرت بعد فترة من الصمت والانتظار:
- خلاص... سوي يلي تبيه، بس ها... تحمل تييب لي وحدة من الشارع!!.. لا أخلاق ولا حشمة....
رفع حاجبيه للأعلى بتعجب وأشار لنفسه بدهشة:
- أنا... أتزوج... وحدة..... من الشارع!!.
رفعت كتفيها بلا مبالاة وتحركت جالسة ووضعت قدم فوق الأخرى وتابعت:
- مب قصدي جذا، يعني أبي وحدة محترمة وخلوقة ومأدبة، وتكون حلوة أفتخر فيها بين القبايل، تراك أنت مب شوي، انت ذيب ولد عبدالله التميمي، ولد الحسب والنسب....
وتحرك إلى غرفته بعد نهاية الجدال العقيم مع والدته وفكره يشطح بمن ستكون سعيدة الحظ بالزواج منه.
*****************
عادت للمنزل محملة ببعض الأغراض وهي تهتف مناديه وتضع الأكياس على الأرض:
- حمد... أحمد... وينكم؟؟.. تعالوا وساعدوني!!.
وسارع الأخوة بالسلام عليها وحمل عنها الأكياس واتجهت لوالدتها الجالسة مسلمة عليها ومقبلة رأسها:
- شخباره الحلو؟؟.. عساه بخير اليوم؟؟.
- بخير يا بنتي والحمدالله، وانت شخبارج وأخبار الدوام؟؟.
وبلمح البصر احتلت صورته أمامها بهيأته الطاغية، والكاريزما التي تشع من ثقته الكبيرة بنفسه تشعرك بظآلتك أمامه، وأجابتها وهي تعاتب خيالها من استحضاره له:
- الحمدالله... الدوام زين.
ونهضت.
- بروح أفصخ العباية .
وأكملت تقول:
- خلود حبيبتي، حطيلي الغدا، ميتة من اليوع .
لتسارع شقيقتها بالهتاف:
- خسى اليوع!!.. انت بدلي وبتجوفين الغدا جاهز، أمي اليوم مسوية مجبوس يطير العقل، وراح تاكلين أصابعج وراه.
توقفت ودارت ناحيتها قائلة:
- أكيد بيكون لذيذ، دام الوالدة طابخة فالأكل بيطلع ولا طبيخ الشيفات.
وتحركت خلود ومعها بثينة تساعدها بإعداد السفرة لشقيقتهما.
وقبل أن تدلف لغرفتها صاحت والدتها:
- بعد ما تتغدين يا بنيتي أبيج بكلمة راس......
تناولت طعامها بشهية مفتوحة ثم حملت استكانة من الشاي وجلست بالقرب من والدتها وقالت تعطيها الضوء الأخضر للحديث:
- آمري يا الغالية؟؟.. وشـ بغيتي؟؟.
ترددت الأم للحظات:
- والله يابنتي ما عرف شو أقول!!... بس هو ترجاني إني أرجع وأفتح الموضوع مرة ثانية.
عقدت حاجبيها بحيرة، وأخذت تعيد جملة والدتها حتى هتفت:
- تقصدين إنه رجع مرة ثانية؟؟
هزت الأم رأسها تجيبها، لتتوحش نظرات شما، وتستعر نارا حارقة بجوفها وبزقتها:
- يومه.. أظن إنا انتهينا من هذا الشي.....
- بس يا بنتي.......
- لا يا يومه، احنا انتهينا منه من زمان، من لما تخلى واختار، وياي ألحين يطلب يرجع؟؟.
طالعت الأم ابنتها وشاهدت علامات الغضب تشكل محياها، وسألتها:
- هذا آخر كلام عندج؟؟
احتدت نظراتها وأجابتها بصلابة:
- نعم يا الغالية، هذا كل يلي عندي.
مضى وقت العائلة ما بين حديث واستذكار لدروس الأخوة وحل الواجبات إلى أن حل المساء، أعدت شما مع شقيقتيها العشاء وتحلق الجميع يتناولونه وسط الضحك والحديث عن يومهم، وعندما حل وقت النوم اتجه الجميع لأسرتهم من التعب والانهاك وناموا غائصين بأحلامهم يكونون هم أبطال أحلامهم، أما هي فقد زارها ذئب ظل يراقبها من بعيد دون أن يتحرك أو يبدي أي ردة فعل برغبته بالهجوم عليها والتهامها، فقط جلس ينتظر شيء ما أو حدث ما، وجلست هي ويا للعجب غير خائفة منه بل ظلت تترقب مثله الخطوة التالية.
وبلحظة تشدقت شفتيه بابتسامة هازئة ماكرة شاخصة لها حتى انقض عليها مباغتا إياها بغفلة منها، فنهضت من نومها فزعة وأوصالها ترتجف بشدة، وتلفتت حولها ليطالعها الظلام، ومن خلاله شاهدت ذهبيتان تتطلع إليها