كاتب الموضوع :
ام حمدة
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رواية ... محيرة لولد عمج... بقلمي \ منى الليلي ( ام حمدة )
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفصل السادس.......
صراخ علا بالأرجاء ما بين مبتهج وما بين متعجب عودتها الآن....
تطلعت أم صقر للفتاة الواقفة أمامها بانبهار... بعيونها الذباحة كما المها، وببشرتها الصافية البرونزية، وبفمها الممتلئ والمتشدق بابتسامة صافية، وبملامحها المنحوتة بإتقان، واجتاحها الحنين والشوق لرائحة صديقة كانت بمثابة شقيقة لها قد غادرتها وهمست بحنو وببكاء مكتوم وغير مصدق:
" حصة بنت موزة؟؟.. انت حصة؟؟"
هزت حصة رأسها للأعلى والأسفل بسرعة ومقلتيها قد فجرت ينابيعها وابتسامة كبيرة تألقت على مبسمها، وقلبها هفا لحضن عائلتها بعد هجران طويل.
" أنا... حصة يا خالتي.. أنا حصة..."
واندفعت لحضنها بعد أن رفعت الخالة ذراعيها تناديها الدخول بالقرب من أضلاعها وناحت الاثنتان تسكبان دمعاتهما... دمعات السعادة والحزن والفراق واللقاء، كانت مشاعرهما متضاربة ما بين لهفة وعتاب البعد..
أبعدتها بعد فترة واحتضنت وجهها بين كفيها وأسرت بصوت ملئ بالابتهاج، وأنهارها قد خضبت وجنتيها :
" ماني مصدقة إني راح أجوفج مرة ثانية، حسبت إني ماراح أجوفج خلاص، الله يعلم كم دعيت علشان هذا اليوم ايي وأجوفج قبل ما رب العباد ياخذ أمانته.."
وسارعت حصة تنشج وهي تعود لاحتضانها من جديد وتسر بخفوت :
" بعد عمر طويل يا خالتي... بعد عمر طويل..."
اعتصرتها الخالة على صدرها تضمها بغبطة وجودها بين ذراعيها ليقاطعهم صوت مشتاق ومتوله لوجه اختفى من أمام صفحة عينيها، ووجع استبد بخافق بأنه لم يحفظ أمانة من عهد إليه بلؤلؤته النفيسة:
" حصة بنت الغالي...."
تركت الخالة، والتفتت لعمها واغرورقت عيناها بالمزيد من فيضانها وسكبتها على وجنتيها تعاكس المشاعر التي كانت تسري على خدين قد حمل الحزن بفراقهم، أما الآن.. فدموع السعادة هي من تتدفق لتمحي ما قاسته في الأيام السابقة.
" عمي... عمي..."
أمسكها من ذراعها يتأملها ومن ثم سحبها على صدره لتختفي بين طيات حنانه وحبه واشتياقه للباقي من شقيق غادرهم وحملهم أمانته، إلا أنهم لم يستطيعوا صونها كما ينبغي.
بكت وبكت وهي تشد على دشداشته تكاد أن تخترق أضلاعه لتستكين بينها... إلا أن صوته القوي جعلها تبتعد مرغمة، فقوة الحب والحنين لذلك الأشيب كانت أكثر بكثير مما كانت تتصوره.
" بنتي.. حصة..."
تطلعت إليه بعيون غشيتها عواطف المحبة، وتأملت هيأته بنهم كما المشتاق لقطرة ماء بعد طول جفاء وعطش، شهقت بنشيجها، وهمست باسمه ورددته على لسانها... فكم تمنت هذا اليوم، وكم انتظرت هذا اللقاء طويلا.
" يدي... يدي..."
وانطلقت تسابق الريح ناحيته، وركعت عند قدميه تقبل كفيه ورأسه وهي تردد بنحيب باكي:
" يدي... يدي... يدي..."
عانقها بقوة وغرورقت الدموع بعينيه من حرارة رؤيتها بعد غياب سنين، وشعر بروحه تعود لجسده الواهن بعد أن فارقته بفراقها:
" بنتي حصة... بنتي...."
راقب الجميع اللقاء الساخن، وهطلت دمعاتهم من شدة تأثرهم بالمشهد الذي أمامهم، وابتسمت القلوب والوجوه لعودة الغائب.
مر الوقت وهم بأحضان بعضهم حتى هتف عمها سلطان وبصياح حاد فك رباطهم وقال:
" وشله هذي كلها الأحضان والبوسات؟؟... أصلا المفروض تعطيها كف على ويها هذي مسودة الويه، وتقول لها وشـ يلي رماج علينا مرة ثانية، بسببها الناس كلت ويهنا وقالوا انا ما قدرنا نربيها زين..."
طالعته حصة باندهاش وهي تمسح دموعها التي شوشت الصورة التي أمامها، وعندها شاهدت الغضب العارم على ملامحه والمستشاطة لرؤيتها، لطالما كان عصبي المزاج وناري الطباع، وجشع يعشق المال بشدة بعكس عمها راشد، فذاك الرجل الطيبة كلها تركزت بداخله.
شهقت بفزع ما أن رأته يتقدم ناحيتها ينوي عقابها على ما فعلته بهم، ولكن صياح الجد أوقفه على بضع سنتيميترات منها جعل قلبها يقفز قفزات سريعة حتى كاد أن يتوقف من شدتها:
" تضربها بوجودي يا سلطان؟؟...."
استشاط غيضا ونفث دخانا تصاعد من رأسه وصرخ دون أي اعتبار لوجود والده:
" عيل ما تجوفها ياية بكل برود وتبوس بهذا وتبوس بهذيج ولا كأن شي صار؟؟.. ولا كأنها كانت شاردة من البيت وهايتة مع الغرب؟؟.. ولا... وما رجعت إلا بعد سبع سنوات... وانت ما قلت انها ماتت وخلاص؟؟... عيل ليش غيرت رايك ألحين؟؟؟"
زجره والده بشدة بصوت لعلع صداه بأرجاء المكان، وبرقت عيناه بشرارات قاتلة:
" صه..... اقطع حسك... بعدني ما مت!!.. ولما أموت سوي يلي تبيه، لكن دام راسي يشم الهوا أنا يلي أقوله يصير، فاهم ولا أعيد؟؟"
لم يعجبه الرد، ونفث دخانا أسودا من شدة ما كان يغلي بداخله، ونفرت شرايينه وتصلب جسده وحرنها بنظرات قاتلة شرسة، وتطلع الجميع إليها ينتظرون تقهقرها كما اعتادوا دائما، لكن لا.. لم يحدث ما خمنوا حدوثه، بل وقفوا مشدوهين وهم يناظرونها وهي تقف بإيباء وقوة وتناظره دون أن تكسر تواصلهما، جعل العم يتراجع خطوات للخلف ويخرج بعد أن حدجها بحممه اللاهبة، وتبعته زوجته شيخة، وبقيت ابنتهم تتقسى باقي الأخبار .
ظلت تناظر الخلاء وبعجب من نفسها، لم تتوقع وقوفها وصمودها بوجهه!!.. اعتقدت بأنها ستنزوي بركنها كما السابق لتلعق أحزانها... طرب صدرها ابتهاجا من انتصارها الثاني في معركتها الكبرى، فالأولى كانت بتغلبها على خوفها وبموافقتها للعودة للوطن بعد اتصال عمها بها يناشدها القدوم، وكم كانت حربها مع النفس شديدة الوطأة عليها إذ كان تفكيرها ينحصر بلما الآن؟؟.. هل من أجل اكمال زواجها من ابن عمها؟؟.. أم من أجل شوقهم إليها؟؟.. ولكن كلمات صديقتها هي من حسمت الأمر:
" لكل مشكلة ولها حل، وراح تجوفين إن عقدة الحبل راح تنحل وحدة ورى الثانية، بس عليج بالصبر وإنج توقفين بويه المشكلة وتقولين لها إنج قدها وقدود وماراح تهزمج أبدا... وإن يلي يبونه مستحيل توافقين عليه..."
قاطع أفكارها صوت جدها:
" قعدي يا بنتي وخبريني عن أحوالج وأحوال خالج!!"
تأملت حزنه... هي تعلم بأن ما قامت به له جلل كبير بحق عائلتها، ولكن لم يكن بيدها شيء، كان عليها فعل هذا وإلا كانت ستداس تحت الأقدام وما كانت ستنجح أبدا في الوقوف على قدميها .
جلست بقربه وقبلت كتفه وابتسمت له.
" أحوالي كلها بخير والحمدالله، وخالي ما قصر معي أبد...."
التفتت برأسها ناحية أبناء عمومتها وسألتهم بفرحة:
" شخباركم يا عيال العم؟؟"
وسألها ابراهيم بحماقة كما هي عادته بالحديث دون أن يراعي اللباقة فيه:
" انت صدق حصة... ويه البومة؟؟"
نهره شقيقه بضربه بكوعه بخاصرته، وعمه راشد سدد إليه سهام حارقة من مقلتيه فتأتأ معتذرا:
" أنا آسف ما كنت أقصد.. بس انت بصراحة صايرة غير ومحلوه وايد، لا يكون مسوية عملية تجميل مثل الممثلات؟؟"
عاد شقيقه لضربه ونهره:
" انت ما تعرف تمسك السانك أبد؟؟؟"
فأجابته حصة برقة وبثغر مبتسم:
" لا خله يا راشد، خلي ابراهيم يسأل عادي يلي يبيه، وأنا ما سويت عملية تجميل بس كبرت واستخدمت كريمات وبس..."
فتساءل ابراهيم باندهاش:
" انت كيف عرفتي أسماءنا؟؟... احنا كبرنا وتغيرنا مثلج ترى.. ولا في حد كان يرسلج صورنا؟؟"
تكسرت ابتسامتها وأجابته بأنين قد تقيح على مرور الزمن عليها دون أي حلقة وصل بين من تركتهم خلفها:
" لا.. ما كان في حد يراسلني، وعرفتك لأنك انت انت نفسك ما تغير اسلوبك الدفش بالكلام أبد....."
ضحك الكل وتابعت كلامها بكيفية التعرف عليهم والجد صامت والخالة ساكتة مع العم ينصتون باهتمام لحديثها المختلف والهادئ وبرنين نغمته الواثق من نفسه، ليتساءل ابن عمها راشد:
" انت خبرينا عن علومج؟؟.. وشو مسوية؟؟.. وشو درستي؟؟.. ولا كنت بس تلعبين؟؟"
ضحكت بخفوت وأجابتهم بعيون مشرقة بأمل أن الغد سيكون أفضل من اليوم:
" لا ما كنت ألعب... درست وتخرجت وصرت دكتورة....."
صفر ابراهيم وصاح :
" دكتورة مرة وحدة!!"
" انت صرتي دختورة؟؟"
التفتت لجدها المتسائل وأمسكت بكفه مجيبة اياه بفخر لمدى التقدم الذي أحرزته في حياتها، وأنها استطاعت أن تحقق الأحلام التي كانت تخالجها منذ الصغر:
" نعم يا يدي.. أنا صرت دكتورة وأشتغل في أكبر مستشفى بكندا..."
لكز ابراهيم خاصرة ابن عمه هزاع لينهره الآخر بخفوت لقطعه الاصغاء لإنجازات ابنة عمه، لم يعتقد بالمرة أنها كانت تطمح لنيل شهادة عالية والعمل كطبيبة، عاد ابن عمه المستهتر للكزه فدار رأسه باتجاهه بسرعة ثائرا:
" وجفيك يا الملقوف؟؟"
لم يهتم لعتراضه أو الصفة التي ألصقها فيه فقد اعتادها وهمس:
" ماراح تخبرون الصقر بأن طيره رجع..."
بهت لثوان حتى أدرك المقصد ونهض على فوره خارجا من المجلس مخرجا هاتفه وسار بساحة المنزل منتظرا فتح الخط الذي لم يتأخر طويلا....
****************
كان بمحل الألعاب يختار لأطفاله بعض الألعاب، كان مزاجه اليوم ناريا.. فقد بدأ نهاره سيئا ومزاجه عكرا على غير العادة حتى رن هاتفه واستله من جيبه وأجاب بملل:
" هلا أخوي شو الأخبار؟؟"
انتظر ثم أجاب:
" ومين هذا الضيف يلي تباني أجي وأجوفه؟؟..."
تململ بوقوفه وأخذ يعبث ببعض الدما ويطالعهم وهو ينصت لشقيقه الذي يحثه بإصرار لعودته بسرعة:
" انزين... انزين أنا ياي ألحين..."
أغلق هاتفه وانتقى احدى الدمى لصغيرته، وسيارة الكترونية لابنه، نقد البائع ثم خرج باتجاه منزله....
******************
وفي إمارة أخرى وقفت امرأة مكفهرة الملامح، ويدها على خاصرتها، وعلا صوت صراخها الناشز ليضج بأركان غرفة الجلوس، وانكمش الصغار خائفين مرتعبين من صوتها الحاد الذي أدخل الرعب لقلوبهما الصغيرة، ووقف زوجها أمامها محتد القسمات:
" مالي شغل.. أنا بسافر هذي السنة يعني بسافر!!.. كل الناس قاعدة تسافر وتطلع وأنا قاعدة في البيت!!.."
" تراني أقولج إني ما أقدر هذي السنة إني أسفرج، ما عندي افلوس.. كل يلي عندي أخذتيهم علشان تفرشين البيت وتجددين أثاث ما كان له داعي إنه تغيرينه، وتراني قلتلج وخيرتج بين السفر ولا تفرشين البيت؟؟.. وانت اخترتِ...."
" ما لي شغل.. عندك فلوس ما عندك انت مجبور توفرلي كل يلي أبيه... روح تسلف من البنك...."
رد عليها بغضب وانفعال وقلب قد مل من زوجه كل همها التبذير والسفر والتفاخر على حسابه وحساب أطفاله الصغار الذين لم يرتوا من نبع حنان الأم منذ والدتهم:
" ويلي أعرفه إن الحرمة السنعة تقدر ظروف ريلها وما تروح وتكسر ظهره بطلبات مالها داعي... وأنا أصلا مو مقصر معاج....."
قاطعته بنفاذ صبر صائحة:
" قلتلك أنا ما يخصني!!.. أنت ريال البيت وتقدر تتصرف، ولا الناس أحسن منا؟؟... تباهم يضحكون علي ويقولون حنان الزيودي ما تقدر تسافر!!!"
أسقط كفه للأمام قائلا بنبرة عالية :
" واحنا وشعلينا من الناس؟؟.. خليهم يقولوا يلي يقولونه، أصلا ذيلا ناس فاضية وماغير عندهم يتبعون حياة الناس فلان شو سوى وفلانة تطلقت وهذيج تزوجت، اتركيهم عنج وصدقيني راح نكون بخير.."
قالها بأمل أن تعود كما تخيلها دائما مثل اسمها.. ناعمة، رقيقة، جميلة وحنونة، لهذا سعى للزواج من ابنة خاله لتكون زوجته، ولكنه أخذ صدمة عمره باكتشاف أن شكلها يعكس ما يضمره خافقها.
عادت تهدر به دون أي حياء من أنه زوجها وأنها تصرخ به أمام أطفالهم الصغار:
" أقول... خلي عنك الكلام يلي مانه فايدة، وأنا هذي السنة مسافرة وكلام الناس اذا مايهمك انت يهمني أنا، أنا انسانة اجتماعية ولي مكانتي بين الناس وما راح أسمحلك إنك تهزها..."
اقترب منها وقد طفح به الكيل من استخفافها به وأمسك من ذراعها وعيناه تقدحان شررا:
" حنان... احترمي نفسج واعرفي انت مين تكلمين؟؟"
سحبت يدها منه وقالت بهياج:
" أنا عارفة مين أنا والدور عليك يلي لازم تعرف مين انت..."
رفع كفه للأعلى وعندما أراد أن يهوي به بعد أن فلتت أعصابه من معقلها.. التقطت مقلتيه هيئتهما الباكية والجامدة بمكانهما وهما يرون والديهم يتشاجرون، فما كان منه سوى أن أسقط ذراعه للأسفل ودفع زوجته من أمامه وتخطاها لتخرج من صدمتها صارخة:
" كنت تبي تضربني؟؟... انت كنت تبي تصفعني؟؟... كيف تجرأت؟؟"
دار على عقبيه ناحيتها وأمسكها من رقبتها يعتصرها بقبضته وحادثها بأسنان مصكوكة:
" احمدي ربج إنها جت بس على صفعة مو ذبح، تعرفين الشي الوحيد يلي مصبرني على وجودج معاي بنفس البيت؟؟... هو علشان خاطر يدي لأني ما بي أطلع قليل أصل ورجعت لهم بنتهم، وإن كان علي كنت رديتج بيت أهلج من زمان..."
تركها على مضض وكان شيطانه يحثه على تشديد قبضته على رقبتها لينتهي من عذابه معها، فعاد للهمس باستهزاء:
" عاد تخيلي بريستيجج كيف راح يصير لما الحريم الباقيات يعرفون إنج صرتي مطلقة ورجعتي بيت أهلج..."
تركها والتفت ناحية صغاره سيف ومها بعمر الرابعة والثالثة، ابتسم لهم بحنو:
" شو رايكم نروح الألعاب؟؟"
لم يجيباه بل تطلعا لوالدتهما بخوف ليغطي صورتها ويكون هو الطاغي عليها.
" وبنروح بعد ناكل من مكدونالز، شو رايكم؟؟"
لم ينتظر جوابهما بل أمسك بكفيهما وسحبهما دون أن يعطي المجال لأن يتطلعوا للخلف ويرون الاعتراض عليها... رمت حنان بجسدها على الأريكة وهي تهتف بحنق وهي تمسد رقبتها المحمرة:
" الله يلعنك من ريال!!.. بغى يذبحني..."
وضربت فخذيها بسخط واستطردت:
" الله يغربلني أنا لما وافقت عليه، بس شو كان لازم أسوي...."
وأكملت بأسف وخسارة:
" كان ودي بصقر بس هو اختار وحدة غيري.. حسبي الله عليها غلبتني وسرقته مني، بصراحة ما عرف شو جاف فيها؟؟.. هي لا جمال ولا شي، أنا كنت أحلى منها بوايد...."
تأففت وقالت بغيض :
" والله بلاني بواحد ما هو بمثله أبد..."
قاطع حديث النفس رنين هاتفها لتتلقفه ما أن علمت المتصل وأجابتها بسأم:
" هلا خدوي شو الأخبار؟؟"
فزت من قعدتها وهي تصرخ:
" شو تقولين؟؟... ويه البومة رجعت وهي ألحين دكتورة!!.."
أصابت ملامحها الصدمة وما هي إلا ثوان حتى أكملت باستعجال:
" يلا خدوي بسكر ألحين.."
وأغلقت دون سلام ومازالت علامات المفاجأة ظاهرة على محياها حتى هتفت:
" سنية... سنية ووجع..."
أقبلت الخادمة برعب وعيناها تناظران الأرض:
" نعم مدام..."
" انت صمخة؟.. ماتسمعيني وأنا أناديج يا الحيوانه؟؟.."
وما كادت الخادمة تبرر حتى أشاحت بيدها بالسكوت وأمرتها:
" روحي جهزي شنطتي..."
ارتد رأس الخادمة وهتفت ببهجة لم تستطع مداراتها:
" انت في سفر مدام؟؟"
عبست وقالت وهي تهمهم لنفسها:
" للأسف لا.... بس مو على كيفه بسافر يعني بسافر..."
أعادت مقلتيها باتجاهها لتراها واقفة بمكانها لتنهرها بشدة :
" وانت بعدج واقفة بمكانج؟؟.. يلا أجوف تحركي وسوي شغلج..."
ركضت الخادمة وبداخلها تدعوا لها بالموت لترتاح، وعادت تجلس هذه المرة بهدوء :
" عيل رجعت!.. غريبة؟؟.. معن يدي قايل لنا ننساها وهذي هي رجعت، ولا صايرة دكتورة بعد..."
نفت هذا التخيل.. فالصورة برأسها لوجه البومة لم تتراكب مع هذه الأخبار.
" شكلها اختي ما سمعت زين، عاد ويه البومة تصير دكتورة؟؟.. والله هزلت... خليني أروح وأجوف شو السالفة، وبالمرة أطلب من أبوي فلوس علشان السفر، وأرتاح من هم البيت هذا يلي يقصف العمر"
مرت ساعات وبعدها انطلقت بسيارتها ناحية المنزل الكبير لتستسقي الأخبار الجديدة.
******************
خرجت من المجلس بعد أن حكت كل حكايتها وما فعلته بغربتها وتوقفت تشاهد الشمس وهي تشد رحالها تشد عدتها للمغيب أضفت بأشعتها على أركان المنزل ضوء بهيا جعل السكينة تتسلل لقلبها ويشدو سرورا بعودتها للوطن بعد غياب ولم شملها مع عائلتها من جديد، صحيح أن هناك ما يزال العتاب والحزن على ما حدث بالماضي، لكن كل هذا سيختفي مع مرور الأيام.. فالزمن كفيل بمداواة الجروح وهي تعلم أن قلب جدها كبير وسيسامحها، فهو ما أن سمع بإنجازاتها حتى شاهدات أمارات الفخر تزين محياه وربتته على ظهرها كانت كفيلة بجعلها تطير للسماء العليا من أنه سعيد بما حققته .
تحركت ساقيها باشتياق ناحية منزل ضم أسرتها بالسابق، وغامت عيناها بذكريات الماضي الأليمة والسعيدة بآن واحد.
توقفت عند عتبة باب منزلهم ولمسته بحنين ثم دفعت الباب ووقفت بردهة المنزل تتطلع للتغييرات التي طرأت عليه بمفروشاته الجديدة، وبرائحته المختلفة، لقد تغير وطغى الجديد على القديم طامسا إياه... أصابها الحزن وجالت مقلتيها باحثة بين أركانه عنهم، وجالت أمامها عدة صور تتذكر بها الماضي حتى قاطعها صوت جهوري صلب متسائلا:
" منو انت؟؟"
شعرت بقلبها ينقبض، وعقلها يضج بذكريات الماضي حتى احتلت صورته بعينيه الصقرية وهي تقدحان شررا وتهددها... والتفتت دون ارادة وقدرة على كبح نفسها لتراه بعد طول غياب لتلتقي العيون، وتبحر فيما خلق الله وأحسن خلقه، سافر بجمالها الفتان، وبعينيها العسليتين الصافيتان كالماء العذب، وجرت مقلتيه بملامحها التائه عن ذاكرته وتوقف عند شفتيها ليزدري لعابه... لا يعرف كم من الوقت قد مر عليه وهو فقط يغوص ويبحر بجمالها حتى ارتد رأسه بسرعة كبيرة كاد مع دورانه أن يقتلعه عندما اخترق صوتا مجاله :
" حصة يا بنتي.. أنا جهزتلج كرفاية ( سرير) مع بنتي مريم.... تعالي وارتاحي..."
فقاطعها هتاف ابنها المصدوم دون أن تدرك الأخرى وجوده لاختفاء جسده خلف الباب:
" حصة.. حصة بنت عمي..."
|