كاتب الموضوع :
ام حمدة
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رواية ... محيرة لولد عمج... بقلمي \ منى الليلي ( ام حمدة )
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفصل التاسع..........
وما الجمال سوى جمال الروح، فكل شيء زائل إلى ما في داخل القلوب الطيبة والنقية.
ضجيج اخترق أذنيه، واعصار هائل ضرب صدره، وبلعوم قد جفت غدرانه.. ومقلتين لم تحيدا عن ذلك المنظر البهي بشلال أسود انحدر بسلاسة يتلاعب بنعومة ويداعب ظهرها برقة، ووجه وضاح شع ببريق الجمال، وثغر انتشى بلذة السعادة، وجسد ماله وصف سوى ما وصف على لسان الشعراء...
لم يتوقع أن تكون بهذا البهاء، وغرقت عيناه ببحور حرية البحر التي خرجت من حيث لا يدري، إلا أنها كانت تمتلك رنة جعلته يخرج من توهانه وتقطع سفره .
" يا الغبي...يلي ما تستحي على ويهك، ما تعرف تدق الباب قبل لا تدخل؟؟"
جرت عيناها باحثة عما يسترها ولم يكن بيدها سوى التقاط مخدتها وهدرت به من جديد وخصلاتها الفاحمة تتمرد مع صاحبتها لتتطاير مغطية ملامحها الحانقة، جعلت متطلعها يتطلع إليها بشغف دون أن يبالي بعصبيتها دون قصد منه، فالصمت في محراب الجمال متعة:
" اكسر عيونك يا جليل الحيا... يلي ما تستحي على ويهك..."
وفعلا انصاع بسرعة البرق وغض بصره عنها ما أن ارتدت حواسه إليه تنبهه من مغبة سرحانه بها:
" أنا... أنا..."
أمسكت المخدة تحمي جسدها من هذا الهجوم المباغت، ودمها ينفر بشرايينها وعيناها تنسكبان كما الحمم الملتهبة عليه:
" انت شو؟؟... جنيت؟؟.. كيف تدخل علينا جذا وانت عارف إني قاعدة بغرفة اختك؟؟"
صاح فيها وهو يدلف لداخل الغرفة ويغلق الباب بهدوء:
" وطي صوتج لايسمعنا أبوي ويسويلنا سالفة..."
صاحت من جديد وهي ترى اقتحامه الغير معقول وهي بعريها:
" تدخل وتسكر الباب بعد؟؟.. يا قليل الرجولة والشرف..."
فهدر بها وقد اكتفى من تقريحها له وناظرها بعيون محمرة :
" قلتلج وطي صوتج....."
وسكتت إلا أن أنفاسها سمع هديرها بأركان الغرفة، ولو أن النظرات تقتل لخر صريعا الآن... فتحت فمها تبغي سكب حممها عليه إلا أن قوله ورؤيته وهو يعطيها ظهره جعلها تهدئ قليلا وتتريث:
" أنا آسف... ما كنت أقصد يلي صار..."
ولكنها أبت الرضوخ لهذا الاعتذار فقد شاهد ما لا يحق له رؤيته:
" الأحسن لك تطلع من الغرفة، وإلا قسما بالله لأصرخ وألم عليك أهلي كلهم...."
ومن أجل بغية السلام أدار مقبض الباب وخرج دون أي كلمة أخرى تبرر فعلته الرعناء هذه، وخرج والخجل يعتريه من رؤية ابنة عمه هكذا، لم يكن يقصد!!
سب نفسه ولعنها وأخذ يطلب الصفح من الله وأن يغفر له ذنبه، ونسي هو وتناست هي بأن الشرع أحق لهما ما كشف عنهما، وهذا ما أسرته مريم لابنة عمها وهي تراها تلقي الوسادة على الباب وتتحرك يمنة ويسرى وهي تضرب الأرض ضربا، وتنفث دخانا من أنفها وأذنيها تكاد تشعر بسخونته من هذا البعد... و بعد أن خرجت مريم من صدمتها إثر دخول شقيقها وصمتها التام بحضوره دون أن تتدخل بما لا يحق لها التدخل فيه، ولكنها لم تستطع سوى ايقاظ ابنة عمها من قوقعة النسيان:
" ماله داعي كل هذي العصبية يا حصة...."
والتفتت إليها وشياطينها تحدها للخروج خلفه وسكب كل لعناتها عليه.
" يعني عاجبنج إن أخوج يجوفني جذا؟؟"
" طريقته بالدخول كانت خطأ، بس يا حصة... شكلج ناسية إنه ريلج وعادي يجوفج......"
ولم تتركها تكمل، وصاحت بانفعال شديد:
" أبدا ما راح يكون ريلي!!.. وما راح يكون له حق إنه يجوفني بهذا الشكل...."
ولم تستطع مريم التفوه بكلمة أخرى واختارت الحفاظ على حياتها، واكتفت بمشاهدة ابنة عمها وهي تضجع بجسدها على السرير وتنفخ رياحها العاصفة بقوة.
سار بخطى وئيدة وشكلها المغري لم يندثر من باله، بل ترسخ بالأعماق آخذا إياه للبعيد... بعالم لم يعتقد قط بأنه سيجمعه مع ابنة عمه حصة .
استقر بسريره وسؤال يسرح في خياله...
"هل من رآها للتو هي ابنة عمه؟؟"
وقد زاره السهد ليصبح رفيقه مع طيفها الذي لم يغادر مخيلته.
***************************
نهضت حصة عند الفجر بمزاج عكر... فالنوم قد جافها، وقد زارتها كوابيس كان ابن عمها هو سيدها، نفضت الفراش عنها وسارت بجفون مثقلة إثر رغبتها بالنوم، وبقدمين ثقيلتين ترغبان بالعودة والغوص بدفء الفراش... إلا أن هناك نداء أكبر يناديها لتلبي ندائه.
استدارت قبل أن تدلف للحمام لفراش مريم ونادتها بصوت أجش:
" مريم... مريم... يلا قومي.. أذن الفجر..."
وتململت الأخرى وهمست ترد عليه :
" انزين... ألحين بقوم..."
وعادت تتغطى بلحافها وأغلقت حصة باب الحمام خلفها واستحمت لتزيل عنها الارهاق وتوضأت وخرجت لتتطلع لابنة عمها وهي ما تزال بفراشها، فاتجهت ناحيتها وسحبت غطائها ونهرتها... لتستيقظ مريم بطاعة واتجهت حصة للقبلة بعد أن ارتدت ملابس الصلاة وكبرت وصلت وهي تحث نفسها أن تستمتع بوجودها بين أحضان عائلتها، ولن تجعل ابن عمها يعكر مزاجها... ولم تعلم بأن هناك من كان يترصدها وينتظر لقائها.....
خرجت من الغرفة تتهادى بمشيتها وتتطلع لما حولها بشوق وحنين لرائحة عبق الماضي التي تنخر عباب ذكرياتها السعيدة.. أجل لقد كانت تمتلك ذكريات سعيدة ولو كانت قليلة، ولكنها كانت كافية لتستحثها للعودة واغراقها بنشوة عودتها للوطن، كانت سابحة بألبوماتها القديمة لوالدتها وعائلتها حتى قاطعها صوت متهكم:
" عاد هم وصفولي شكلج، لكن بصراحة... الصورة تختلف.."
توقفت بمكانها ودوى صوت مدفع عملاق بين أرجاء أضلاعها ما أن سمعت حسا تعرفه جيدا، ولطالما كسرها وحطمها بالرغم من أنها لم تُكِن لها سوى الخير، ولا تعرف لما كانت تخصها بالسخرية دونا عن باقي بنات عمها!!... وها هي الأيام تعود.. ويبدوا أنه قد حان وقت الصدام ولكن هذه المرة لن تطأطأ الرأس، ولن تعطيها المشراع كي تتحكم بها.
استدارت بابتسامة كبيرة وتطلعت لعينيها مباشرة قائلة:
" يا هلا ومرحبا ببنت عمي حنان، شخبارج؟؟.. ما شاءالله حلوه مثل قبل، مشكورة حبيبتي على جيتج علشان تسلمين علي وتاركة بيتج وريلج، بصراحة هذا من طيب أصلج يا بنت عمي..."
بهتت حنان ولم تتوقع ردها وتحيتها لها بهذه الانطلاقة والبشاشة بالفعل لقد تغيرت تماما كما شكلها، فما كان منها سوى أن شحذت أسلحتها الفتاكة فمهما تغيرت تبقى هي وجه البومة.
" بصراحة... واااااااااااو، شكل الدكاترة في كندا شطار وايد!!.. بدليل شكلج اليديد..."
انزوت ابتسامة ساخرة على جانب ثغرها الباسم وشعت عيناها بخبث لطالما استحوذها منذ الصغر وأكملت بشماتة:
" يعني من ويه البومة لـ......."
تطلعت حصة لابنة عمها بتأمل... هي جميلة بل رائعة الجمال ولكن قلبها كان قاسيا جاحدا لنعم الله عليها ولطالما تساءلت لما تكرهها وهي لم تسئ لها أبدا؟؟.
" أقول... لو تتوقعين إن صقر ألحين بيطالعج بعد ما تغيرتي فهذا مستحيل!!.. راح تظلين طول حياتج ويه البومة يلي هو سماج بهذا الاسم..."
وانتظرت حنان بلهفة تساقط دمعاتها بعد أن أمطرتها كما العادة بوابل من القذائف الدموية إلا أن ردة فعل حصة فاقت توقعاتها.. رفعت حصة كتفيها وأسرت بثقة وثبات:
" ومين قال إني أكره الاسم؟؟.. بصراحة مشتاقة لهذا الاسم وايد، بس يا خسارة... محد راضي يناديني فيه!!... بس انت كفيتي ووفيتي وما قصرتي بالواجب..."
لطالما أرادت سؤالها عن أسباب كرهها لها، لكن الآن علمت وأدركت بأن الأمر لا يستحق السؤال عليه فما مضى قد انتهى، وهي أرادت أن تنتهي منه وفتح صفحة جديدة لحياتها ولا تريد أن تظل حبيسته، لهذا قالت لها:
" اسمحيلي يا حنان.. كان ودي أقعد معاج وأسولف بس ودي أكلم يدي بموضوع مهم..."
والتفتت مغادرة إلا أن الشيطان أبى أن ينخرس ويدع الأمور تسير دون هواه، فاقتربت منها وأمسكت بعضدها تشده بقوة، وتغرس أظافرها الطويلة بلحمها:
" كيف تتجرئين وتعطيني ظهرج؟؟... منو انت علشان تسوين هذي الحركة؟؟.. "
نفثت بخارها على وجه ابنة عمها التي وقفت تطالعها بجمود وملامحها اتخذت الحدة، فدنت منها حنان لتصدر فحيحا بالقرب منها:
" انت وحدة لا ييتي ولا صرتي شو ما غيرتي بشكلج، راح تتمين ويه البومة يلي صقر رفسها ورماها بالأرض، لأن أصلا مستواج مثل التراب...."
انحنت حصة ناحية حنان لتجفل الأخرى خوفا بعدما شاهدت بريق عسلها المصفر ينصهر بداخل مقلتيها، وهمست حصة دون أن تبالي بفزع محدثتها:
" مو مشكلتي يا حنان إن صقر اختار وحدة غيرج علشان يتزوجها، تعرفين ليش؟؟.. لأنج ما كنت في هواه... وقولي عني يلي تبيه؛ لأنه ما عاد يأثر علي.."
ابتعدت عنها على نداء خالتها أم صقر التي قاطعت حربهما:
" صباح الخير يا بنتي يا حصة، عساه نمتي زين وارتحتِ؟؟"
ولاح لها طيفه وهو يتهجم للغرفة بعنجهيته وغروره، فقالت بضحكة خافتة مصطنعة تضيع صورته من أمامها:
" الحمدالله يا خالتي ...."
تطلعت الخالة فوق كتف حصة وشاهدت أمارات الحنق والسخط تقطران من بؤبؤي ابنة أخ زوجها، وعلمت وأدركت أنها لم تدخر جهدا في سبيل سكب كل سمومها على المسكينة كما اعتادت دوما منذ صغرها وقالت مرحبة:
" هلا .. هلا بنتي حنان، شخبارج؟؟.. متى وصلتي؟؟"
وأجابتها بكلمة واحدة :
" أمس...."
ومن ثم استدارت وتحركت باتجاه منزل عائلتها، حركت أم صقر رأسها يمنه ويسرى بأسف...
" الله يهديج ويصلح حالج يا حنان... "
والتفتت باتجاه حصة وأخذت تطبطب على كتفها بحنو:
" لا تعطين يلي قالته بنت عمج سالفة، حنان من يومها وهي جذا، الله يهديها ويصلحها..."
ابتسمت حصة برقة وهي ترى القلب الطيب الذي تمتلكه هذه المرأة التي أمامها، فبالرغم من قلة التهذيب التي حصلت عليها من ابنة عمها إلا أنها اكتفت فقط بالدعاء إليها كي تعود لصوابها.
" ولا يهمج يا خالتي، أنا ما يهمني كلام حنان وخليها تقول يلي تقوله.."
ناظرتها الخالة بقوة ثم تنهدت بارتياح.
" والله تغيرتي يا حصة وما عدتي مثل قبل، الله يعطيج القوة والعافية.."
ثم شردت بملامحها ومسحت على وجنتها والأسف كان واضحا على محياها فتساءلت حصة وهي تمسك بكفها:
" عسى ما شر يا خالتي؟؟.. وشفيج انقلب حالج؟؟"
زفرت أنفاسها وقالت تدون أن تدور وتلف بكلامها:
" ولدي خسرج من لما دور على الشكل ونسى الداخل، ولما حصل الشكل قعد يدور على الداخل...."
حركت رأسها بحسرة، فلا فائدة من الندم، ولم تستطع حصة أن تقول ما يريحها، فهي تعلم وخالتها تعلم بأنهما ليس مقدر لهما أن يرتبطان.
" تعالي يا بنيتي... بغيتج تطلين على الجوري شوي، وتجوفين حالتها...."
وخطتا للأمام باتجاه منزلها القديم الذي غدى ملكا للصقر الجارح، ودار سؤال بخلدها واستحوذت الطبيبة على حقيقتها وتساءلت:
" خالوه... من متى والجوري على هذا الحال؟؟... أقصد البكم يلي فيها؟؟"
اعتصرها الكمد على حال حفيدتها وهمست تجيبها بعيون شاردة للخلاء من حولها:
" من سنة ونص، مثل ما قال علاوي.. إن ميرة صفعت الجوري وطاحت الصغيرة ودقت راسها بالطاولة بقوة، الدكتور قال ما فيها شي غير كدمة بسيطة وغرزتين ورجعنا البيت عادي، وصارت هوشة كبيرة بين صقر وحرمته واليوم الثاني عرفنا انه طلقها..."
اجترحت أنفاسها بعمق وهي تستذكر الأحداث الماضية ثم استأنفت تدلي خيبات أمل ابنها باختياره شريكة حياته، لم تكن مؤتمنة على فلذات أكبادهم، كما أنها لم تكن امرأة يعتمد عليها بإدارة شؤون منزلها.
" طيب يا خالتي.. متى لا حظتوا أنها ما تتكلم؟؟"
لم ترد الخوض بحياته وكيف تدهور زواجه للحضيض، فلا يهمها ما حدث له بتاتا، فاهتمامها بحالة الصغيرة المسكينة هي من جعلها تتساءل لمعرفة الأسباب، والتي أرجعت وخمنت ولابد أنها أصيبت بصدمة كبيرة اثر ما فعلته والدتها فيها.
" والله يا بنتي ما عرفنا غير بعد يومين، البنت كانت ساكتة وما تكلمت من يوم رجعنا بالمستشفى، فقلنا عادي.. يمكن بعدها متأثرة بيلي صار، لكن لما كنا بالمطبخ وطاح عني الجدر وما غير عيوني راحت عليها خفتها متروعة وجفتها تصارخ بس بدون صوت وهنا أنا تروعت وركضت على وليدي صقر فجا وحاول إنه يخليها تتكلم، لكن ما قدر... وعلى طول رحنا فيها عند الدكتور وهناك خبرنا انها ما تتكلم... وانتبهنا بعد أنها تخاف لما حد يتقرب منها، بس أنا الوحيدة يلي أقدر أقرب منها وطبعا أبوها وأخوها علاوي... "
" طيب... ما قال لها علاج أو أي شي؟؟"
حركت العمة رأسها باتجاهها وتوقفت عن المسير وأجابتها بصدق:
" يا بنتي.. ما عرف شو هي التفاصيل، بس صقر اتخبل من لما عرف إن البنت فيها صدمة بسبة أمها يوم صفعتها، وراح بيت أمها ناوي بالشر... ويالله بالقوة قدرنا نرجعه البيت.. بغى يذبح الحرمة ويروح هو فيها... وما خل مكان ولا دختر إلا ما راحه، بس مثل ما تجوفين... البنت مثل ما هي... ما أقدر أقول غير "قدر الله وما شاء فعل" والله يسامح أمها على يلي سوته "
فتحت الباب ودخلت تنادي على ولدها دون أن تترك لحصة السبيل للهرب من رؤيته بعدما حصل معهما بالأمس، ولكن بالجهة الأخرى كانت مهنتها تناديها بأن تلبي نداء الاستجداء الذي كان يطل بعيني خالتها.
دخلت تسمي بالله وشاهدته جالسا مع ولديه على الأرض وحولهما أطنان من الألعاب المتنوعة... تأملت هيئته البهية بابتسامته المنعشة، وبعينيه المتراقصة وهو يتطلع لابنته التي بحضنه ويقبلها فتبتسم، ويقبل ابنه المحتج والراغب بمثل تلك القبلة فلا يبخل عليه بل يمطره بالكثير منها، كانت لوحة فنية رائعة لأب حنون مع أطفاله الصغار... فيبدوا أن الزمن لم يغيرها هي فقط، بل جار على ابن عمها أيضا.
تغيرت الموجة... واختفت البسمة... واحتلتها ملامح مبهمة غامضة من كلا الطرفين.. ومقلتين ناظرتا بعضهما لثوان ثم ارتدت باتجاه آخر.
هتفت الأم دون أن تنتبه للجو المتكهرب:
" حسبي الله ونعم الوكيل..."
" وجفيج يا خالتي؟؟"
وارتدت ناحيتها قائلة بسرعة:
" نسيت أقول للشغالة تطلع اللحم للغدا اليوم، أبو صقر موصيني يبي مجبوس لحم.... برخصتكم، برجع بعد شوي..."
وقال يكسر الجمود الذي حل عليهم:
" حيا الله بنت عمي... اقربي...ليش واقفة؟؟"
واقتربت منهم ولم تستطع سوى أن تبتسم وهي ترى ابتسامة الصغير المتشدقه لرؤيتها مرة أخرى، وهتف وهو يفز ويسلم عليها:
" أنا اسمي علاوي... وعمري 4 سنوات، وهذي الجوري اختي وهي بعد عمرها 4 سنوات، ويقولون إنا توأم، أنا أمس ما قلتلج عن اسمي لأني نسيت، بس ألحين تذكرت.."
انخفضت لمستواه وصافحته ببشاشة وحب فطري ولدت عليه من طيبة قلبها:
" يا مرحبا بعلاوي... وأنا بعد نسيت أخبرك عن اسمي أمس، أنا اسمي حصة..."
والتفتت للصغيرة التي اندست بحضن والدها وانكمشت على نفسها وتشبثت أصابعها الصغيرة بقميصه الأبيض، فهمس لها بحنان وهو يربت على ظهرها يطمئنها:
" لا تخافين حبيبتي، هذي خالوه يلي خلت الحرارة تروح عنج أمس..."
ومالت حصة ناحيتها دون أن تبالي بمن يكون والدها، فلا تريد أن تحمل أطفاله ذنب ما جنته يداه.
" هلا بالأمورة الحلو... شو اسمج؟؟"
مدت يدها ناحيتها وتطلعت الصغيرة إليها من طرف جفنها بعيون فضولية ثم رفعتها للأعلى لترى ابتسامة كبيرة إلا أنها ارتدت على صدر والدها باحثة عن الأمان الذي سلب منها بلحظة واحدة، وعندما هم صقر بإقناعها... أشارت له حصة بأن لا يفعل، وابتعدت لمسافة غير بعيدة لتترك للصغيرة المساحة المناسبة كي تشعر بالأمان والراحة، وأخذت تتشاغل مع الصغير الذي رحب بها بحفاوة وركن بجانبها يحادثها بشغف ولهفة كأنه لم يكن يتكلم منذ دهور، وفتح له المجال الآن ليخرج ما بجوفه. تربعت حصة على الأرض والسعادة تملأها وهي تناظر الصغير الذي يخبرها بأحاديث شتى... منها الحقيقي ومنها الخرافي الممزوج بخيال الأطفال الغير مقيد، لقد أحبت الصغير كثيرا منذ اللحظة الأولى التي رأته فيها، وشعرت برغبة كبيرة بحضنه وبثه الحنان الذي لم يحصل عليه، ولم تدخرها لنفسها بل أحاطت بجسده الصغير بذراعها برقة ليستجيب لها كما دوارة الشمس وهي تميل لأشعة الشمس الدافئة ووضع رأسه على صدرها يستشعر تلك الأحاسيس التي يتمنى الحصول عليها دائما، رق قلبها له، وشددت من عناقها له ليحيطها الآخر بذراعيه الصغيرتين يضم جسده الضئيل إليها.. وأخذت تحادثه وتسأله عن دراسته ومدرسته ليجيبها بسلاسة وبين الحينة والأخرى تسترق نظراتها باتجاه الصغيرة لتراها تطالعهم باسترخاء وهي بين أحضان والدها.
كان يتطلع إليها... لابنة عمه التي لم يكن يطيقها باندهاش ورهبة... كانت تلاعب طفله وتحادثه بسهولة، تبتسم وتضحك على مغامراته، كانت ضحكتها حقيقية نابعة من خافقها وليست مصطنعة كي تجامله كما باقي فتيات العائلة من أجل أن تجذب انتباهه، شعر بقلبه يطرق، وعقله يدور بحلقات مفرغة، كيف تفعل هذا؟؟.. هي تكرهه.. بل تمقته!!.. يعرف هذا علم اليقين، فعينيها نطقتا بهذا وإحساسه لا يخيب، وهي محقة بكرهها له، فهو لم يدخر جهدا بسبيل تحقيرها والاستهزاء منها، بل وصلت لدرجة أنه قام بضربها.... تنهد بأسف على ما كان عليه بالسابق، ويبدوا أن الله قد عاقبه على سوء أفعاله مع ابنة عمه اليتيمة.
اعتصر صغيرته على صدره وقبلها ثم قال بعد فترة وهو يرى صغيره قد تركها للحظات راكضا باتجاه غرفته ليحضر شيء ما ليريها إياه، فاستغل الوقت وقال:
" اسمعي... علشان ....."
شعر بالخجل وبالتوتر، وعندما هم بالكلام قاطعته بصوت هادئ:
" ما له داعي تتكلم، وأظن كلامك ما يصير ينقال جدام الصغيرة...."
" بس أنا كنت أبي أتأسف وما كنت أبي أقول غير إني ما كنت أقصد يلي صار... كنت بس ياي علشان نتكلم بموضوع مهم..."
تحركت من مكانها على الأرض وابتعدت لتجلس على الكنبة وناظرت البعيد وأجابته:
" أنا ما بي أسمع منك شي غير كلمة وحدة وخلاص..."
اعتدل هو الآخر عندما شاهد صغيرته نائمة بحجره وعدل من رقدتها فسألته عندها باهتمام:
" انت أخذتها لدكتور نفسي؟؟"
أجابها وهو يناظر صغيرته بعيون غائمة:
" انت شمتانة على يلي صار فيني؟؟.. أكيد تقولين الله انتقم منه على يلي سواه فيني، ويستاهل أكثر من جذا وأشد..."
سكت وأخذت أصابعه تتلاعب بخصلات ابنته وأكمل:
" صدقيني... أنا بروحي أقول إني أستاهل، وأن هذي حوبتي على إني ما راعيتج وإنج يتيمة ومالج حد، خسرتي كل أهلج وييت أنا وكملتها وصرت أنا والزمن عليج...."
كانت تنصت وبداخلها تشعر بقلبها يبكي ويدمع على تلك الأيام الماضية، وأخذت ذكرياتها تتهافت مؤلمة وموجعة لروحها المسكينة... هو يقذفها بسبابه ولعناته وسخريته، هو يضربها، وهو... وهو... لم تكن علاقتها به سعيدة، بل كانت كلها حزينة، وقالت بهمس بعد أن عادت لحاضرها، فكما وعدت نفسها بأنها لن تتطلع للماضي، بل ستتطلع قدما لمستقبل وحياة خاليين من أي منغصات:
" ما له داعي هذا الكلام الحين، يلي صار صار وانتهينا منه...."
ثم رفعت عيناها باتجاهه واستأنفت بقوة وبمقلتين تبرقان بأمنية لن تهدئ سوى بتحقيقها:
" وإن كنت تتوقع مني إني أغير راي بموضوع طلاقنا فانت هنا غلطان!!...."
أصابه الذهول من طلبها للوهلة الأولى، ثم قال لنفسه:
" نعم... هي أبد ما راح تمثل وتخدعني مثل الباقيات علشان تكون معاي..."
فقال وعيناه تعانقان ملامح ابنته المسترخي بين ذراعيه:
" بس الكل يقول عكس يلي تبيه..."
ناظرته مدققة... وبأجفان مغلقة سألت بقلب راجف:
" والقصد..."
رفع رأسه وأجابها:
" يدي... أبوي... أمي.... كلهم يبونا نكون مع بعض.."
فقالت بتهكم:
" لا... دخيلك لا تقول لي انك انت بعد تبيني ومتمسك فيني؟؟... "
فزت من جلستها وهمست تجز على أسنانها بقوة خوفا من ايقاظ الصغيرة من نومها:
" تحلم.... انت تحلم... مستحيل نكون مع بعض... مستحيل ويه البومة تقعد مع شيخ الشباب..."
اقتربت منه واستطردت وهي تنحني :
" تعرف ليش؟؟... لأن هذي هي الحقيقة وما راح تتغير حتى لو أنا تغيرت شكليا، وصرت انت تجوف إني أناسبك علشان أكون حرمك المصون...."
اعتدلت، ورمته بسهام عينيها وتابعت بثقة وعزم:
" بس خلني أقولك إني أنا مثل ما أنا.. وأجوفك ما تناسبني أبد..."
ولم تعطيه المجال للحديث إذ استدارت مغادرة ولم يمنعها هو، فهو بذات نفسه محتار ولا يعرف ما يريد!!... وأثناء هذا خرج علي ومعه كراسة بين يديه واشراقة كبيرة احتلت وجهه الصغير، ولكن ما لبث أن تكسرت ابتسامته لرؤيتها متجه للباب... فهمها حاله... إذ رأت الخذلان بمقلتيه وخمنت أنه دائما ما وجده بحياته صغيرة السن هذه، فغيرت مسارها صائحة:
" تأخرت... فقلت أكيد نمت ونسيتني، فقلت أحسن إني أروح وأرجع بعدين..."
وتساءل برجاء:
" يعني كنت تبين تجوفين يلي رسمته؟؟"
وصاحت بانفعال:
" أكيد كنت بجوف ابداعاتك مثل ما تقول المعلمة... ولا لا تكون كنت تكذب علي؟؟"
عادت الفرحة تجتاحه وأمسك كفها بسرعة وأعادها لمكانها على الأريكة وجلس يريها ما رسمه على الكراس وهي تهتف بين الحين والآخر بالبطل والروعة والمدهش، وصقر جلس يتأمل جمالها ورقتها وحنانها العفوي، فلطالما كانت لطيفة ومراعية... رفع كفه باتجاه صدره وتساءل بحيرة قد تملكته منذ ظهورها...
"هل يمكن أن يحدث!!".
****************************
" انت جنيت يا سلطان؟؟... شو قاعد تقول؟؟"
" يلي سمعته، ورث أخوي احنا أولى فيه من حصة، هذي وحدة هايتة لاحسيب ولارقيب، والله يعلم مين مرابعة برع، ويمكن تعطيه كل حلالنا ونروح احنا فيها"
حدق راشد بشقيقه دون تصديق، هل ما يسمعه منه حقيقة أم خيال؟؟.. وسأله بهمس وذهول:
" انت تتكلم من صدجك؟؟.. هذي بنت أخوك!!...."
قاطعه وهو يشيح بيده بسخط:
" روح لا... قال بنت أخوي.. هذي إن ما يابت لنا مصيبة ونبتلي احنا فيها... عقب وين نودي ويهنا من العرب؟؟.. أقول... خلك منها وروح وقول لأبوي إنه يقسم بينا الحلال....."
وخرجت صرخة زلزلت أركان المنزل، كما زلزلت الأعماق:
" سلطان وويع... تبي تاكل مال اليتيمة؟؟.. حسبي الله ونعم الوكـ......"
ولم يكمل.. فقد شعر بألم حاد يخترق صدره، وشاهد السواد يلوح أمام مقلتيه، ومن ثم سقط يتوسد جسده الأرض، وكان آخر ما سمعه هو صراخ أبنائه... ولجة سوداء تسحبه بدوامة لا يعرف إن كان سيخرج منها هذه المرة.
|