"نعم , ولو أنك تقولينها بتهكم . فأنا أيتها الحبيبتان سأتزوج ".
توقفت نورين وهيلين عن تناول طعامهما وأخذتا تحدقان بها وتنظران الى بعضهما البعض , عندها , جلست ماريز مرتاحة وسعيدة بالاعلان الذى اذاعته لتوها . ثم قالت بغنج ودلال : "هل دهشتما ؟ لقد قررنا أنا وكيت الليلة الماضية ان الوقت قد حان لكي نتزوج ".
وعادت ماريز تنظر الى نورين وهيلين المشدوهتين , ثم غابت الابتسامة عن محياها وقالت بشيء من الألم "ما بكما ! أليس هناك اى شئ تقولانه ؟ ".
كانت نورين اول من استفاق من الدهشة والصدمة فقالت "بصراحة, أنا لا اظن ان الموضوع جدير بالبحث " .
"ولماذا هذا الكلام يا حبيبتي ؟ فأنا وكيت تخطينا أيام العشق والهيام , الا ان كلا منا وحيد وبحاجة الى الآخر . هو في الخمسين من عمره وأنا في الأربعين ,وكل عام يمر في حياتنا يفرض علينا بذل جهود جبارة لمجاراة التيارات الجارفة , وتأكدي يا ابنتي ان المرأة تواجه صعوبة أكبر في هذا المجال " .
"حسناً , مبروك و ... الى آخر ما هناك من تمنيات . وبالمناسبة , افضل الذهاب الى عملي بمفردي حتى لا تضطر أمى العاشقة لتأخير مواعيدها".
كانت هيلين صامتة طوال الوقت , وقد تحولت الصدمة في بادىء الامر من دهشة واستغراب الى استياء وذهول . وفجأة شعرت وهي تنظر الى وجه ماريز الحزين , بموجة عارمة من العطف والحنان تجاهها . فقفزت من مكانها وعانقت زوجة ابيها قائلة "انك لا تزالين في عمر الحب والزواج , فلما لا تحبين وتتزوجين ؟ اتمنى لكما , انت وكيت , كل السعادة والهناء وأنا جد مسرورة لأجلكما ".
شدت ماريز على يدها وقالت لها بارتياح " وهل تعنين ذلك ؟ لقد كنت حائرة برد الفعل الذى سيصدر عنك خصوصاً بعد ...".
عرفت هيلين بقية الجملة بدون ان تضطر ماريز لاكمالها , وقالت لها بهدوء "لا يا ماريز . كان أبى يعرف تماماً ما يعنيه البقاء وحيداً . ثم وجدك وكان سعيداً جداً معك . وأوكد لك انه لم يكن ذلك الانسان الذي يريدك ان تقضي بقية حياتك تعيشين على ذكراه ".
" انك مثله تماماً يا حبيبتي . فلديكما التفهم ذاته والجدية ذاتها في نظرتكما الى الحياة . ولديك ايضا هذه القوة الخفية التي كان يتميز بها . أنا اضعف منك بكثير , لأنه لا يمكنني مثلا مواجهة خسارة كبيرة كفقدان والدك بمثل رباطة الجأش التي تحليت بها أنت " .
أرغمت هيلين نفسها على الابتسام , لأنها تعرف ان احزان ماريز سرعان ما تتبدد , وتبدأ على اثر ذلك خطط الاحتفال بزواجها من كيت . وبالفعل , فقد أعطت الخادمة تعليمات جديدة لاعداد المنزل بصورة لائقة , كما ارسل كيت خادمة للمساعدة في ترتيب الحديقة والمدخل الخارجي .
"ومتى سيتم الزواج ؟" .
سألها جستن ذلك بمجرد ابلاغه النبأ خلال لقائهما بعد الظهر .
"قريبا جداً حسبما اعتقد . فماريز لا تتحدث الآن الا عن الحفلة التى ستقيمها في الاسبوع المقبل . وقد طلبت مني ان انقل اليك دعوة للحضور , فهل ستأتي ؟ " .
استغرب جستن الدعوة الى حدما ثم هز برأسه قائلاً " اشكريها بالنيابة عني , ولكني اشك في ان يسمح لي وقتي بذلك فمساعدي يمضي الآن عطلته السنوية , ويوم الخميس لدي مهمة تفتيشية في روغان ".
وتذكرت هيلين ان روغان جزيرة صغيرة جداً تبعد خمسين كيلومتراً عن سلمندر , ويتم فيها انتاج السكر تحت اشراف الشركة التي يديرها جستن . وكانت على وشك سؤاله عن سبب اختياره ذلك اليوم بالذات , ولكنها تراجعت في اللحظة الاخيرة , لأنها تعرف نمط العمل المنظم الذي يتبعه جستن .

ولأنه ربما لاحظ خيبة الأمل على وجهها , ابتسم وقال برقة متناهية " ان لم اتاخر كثيراً اثناء العودة فسأحضر الحفلة , هذا اذا كانت ماريز لا تعترض على وصولي متأخراً " .
"في حفلات ماريز , لايهم ابداً ان يتأخر هذا المدعو او ذاك , مادام انه لا يحضر مبكراً ويجدها غير مستعدة " .
اكدت له ذلك مع انها كانت تشعر في تلك اللحظة بأنه لا ينوى اطلاقاً قبول الدعوة , وبعد تردد وجيز سألته بهدوء " هل يمكنك ان تدلني على وظيفة ما يمكنني القيام بها ؟ " .
"هنا ؟ واي نوع من الوظائف تريدين ؟ " .
" لا ادري اي نوع يناسبني , فعلي ايجاد شيء ما يملأ وقتي خاصة وأن ماريز سوف تتزوج و ... " .
" النساء لا يعملن في سلمندر الا في مجالات التمريض او التعليم او مجالات الرعاية الاجتماعية"
" لا يهمني نوع العمل على الاطلاق ما دام انه يملأ وقتي ويضمن لي دخلا يكفيني لاستئجار شقة صغيرة خاصة بي ".
"ولنفترض انك نجحت في تحقيق ذلك , فهل تعتقدين انه سيكون كافياً لارضائك ؟ " .
"ليست لدي خيارات اخرى كثيرة . ولا تقترح عليّ مرة اخرى العودة الى انكلترا . يجب ان ابدأ من الصفر اينما كنت , وعلى الاقل سلمندر دافئة طوال السنة , والشيء الأهم انه يجب على البدء الآن باعداد الترتيبات الخاصة بسكني ".
" وهل بحثت هذه الامور كلها مع زوجة ابيك او مع اي شخص آخر ؟ " .
وبعد ان اجابته بالنفي ظل جستن صامتاً ومقطب الحاجبين . ولما شاهدت القلق يتزايد في نظراته , شعرت بشيء من الخجل وقالت له " كانت مجرد فكرة . ارجوك الا تقلق . فأنا لست إنسانة معوزة , ولكن عليّ الاحتفاظ جانباً ببعض مدخراتي . ومن المؤكد ان شيئاً ما سيحدث " .
" انت تتصورين يا عزيزتي أن ذلك امر بسيط للغاية . يؤسفني ان اقول لك انك على خطأ تام . فلن يحدث اي شيء مادمت تهربين . وأنت تهربين , أليس كذلك ؟ " .
وقبل ان يدعها تيأس وضع يده على كتفيها برفق وحنان , وقال لها وهو في طريقه الى عمله " لا تقلقي يا هيلين . اذا كانت هناك ضرورة قصوى , فمن المحتمل ان يحدث شيء ما , كما كنت تقولين . وسوف اخبرك بمجرد حدوث هذا الشيء " .
عادت الافكار المتضاربة حول جستن تضج في رأسها , وأخذت آراؤها تتأرجح بين الغضب الشديد منه لعدم قدرته على التفهم , وبين الحاجة الماسة لحل مشكلة مستقبلها بصورة فورية . لا , ليس من حقه التحدث عن الهروب . فكيف يتسنى له ان يفهم معنى الاضطرار القسري لترك المهنة التي يكرس الانسان لها حياته بكاملها ؟ لقد كرست جميع ساعات يقظتها منذ كانت في السابعة من عمرها لتصل الى ما كانت تصبو اليه وتحلم به . ولكن كيف يبدأ الانسان حياة جديدة ؟ وكيف تبني هي من جديد حياة تعيد اليها ما فقدته من فرح ومرح وسعادة ؟ لن تكون ضعيفة او عالة على احد . ستجد وظيفة . يجب ان يكون هناك عمل ما يمكن ان تقوم به في تلك الجزيرة . واذا استنفدت جميع المحاولات وفشلت , فالعرض الذي قدمه لها كيت مانتون لا يزال قائماً , مع انه سيؤلمها كثيراً ان هي اضطرت للرقص في ناد ليلي .
ولدى توصلها الى تلك النتيجة . شعرت بشيء من التحسن وقررت تحويل انتباهها كاملاً الى المشاركة في اعداد الترتيبات الخاصة بحفلة الزواج . وأثناء ذلك وصلت نورين ومعها عدة أكياس من المأكولات المخصصة للحفلات . ثم نادت هيلين وابلغتها بأن لها رسالتين من انكلترا .
هرعت هيلين لملاقاة نورين واستلام الرسالتين . الا انها شعرت بشيء من خيبة الأمل عندما قرأت اسمي ليزا وسارة . هل كانت يا ترى تأمل في استلام رسالة من كفين ؟ كلا ,فقد قطعت الأمل منذ أمد بعيد مع انه وعدها مرة بالكتابة اليها .
اخذت الرسالتين وذهبت الى غرفتها لتقرأهما بهدوء , وقررت ان تبدأ برسالة سارة . وابتسمت هيلين وهي تفتح تلك الرسالة القصيرة , وتذكرت ان سارة كانت دوماً قادرة على التعبير عن نفسها بالرقص وليس بالكتابة . وكانت رسالتها تتلخص بأنها تشك فى امكانية حصولها على دور صغير فى أحد الافلام السينمائية . وقد شرحت ليزا في رسالتها المطولة المشكلة التي تعانيها صديقتهما المشتركة على النحو التالى :

"مسكينة سارة , فهي لا تنام الليالي بسبب هذا العرض , فهل تترك رقص الباليه والفن الحقيقي لتقوم بدور انسان آلي في فيلم خرافي عن المستقبل , لمجرد اغرائها بالذهب القذر . أنا من ناحيتي لا أقلق ولا أتردد لحظة واحدة في قبول الذهب . الا انه ما من منتج سينمائى يبدو متحمساً لاغرائي بعقود الافلام المطعمة بالذهب ... " .
ابتسمت هيلين , وقرأت بسرعة المقاطع التالية التي كانت مجرد ثرثرة وأقوال سطحية . ثم وقع نظرها على فقرة جعلت يدها ترتجف واعصابها تتوتر:
"... ولا ادرى ما اذا كان يجب اخبارك كل هذه التفاصيل أم تركك غارقة في أوهامك وأحلامك . كلنا نعرف ان كفين مراهق ومستهتر الا انه حتى نحن انفسنا لم نكن نظن يوماً بأنه يصل الى حد التعلق بتلك المعتوهة أيضا . هل تذكرينها ؟ انها ضد كل شيء وكل انسان باستثناء نفسها , وكفين , على الاقل في الوقت الحاضر .
" بامناسبة هل تعتبريني قاسية لو اخبرتك انني اخذت دورك في المسرحية ! ومع تعلقي بهذا الدور وثقتي الأكيدة بأني حصلت عليه نتيجة العمل الدائب والأفكار الخلاقة , الا انني مستعدة للتخلي عنه فوراً اذا تمكنت من العودة ... " .
سقطت الرسالة من يد هيلين المرتجفة , وعادت الذكريات والأفكار المشوشة . آه يا ليزا ما اروع اخلاصك , فلولا مثابرتك وعطفك وصداقتك لما تمكنت من تمضية تلك الاسابيع الحزينة والتعسة على اثر الحادثة .
" هيلين ؟ أوه, لا تزالين هنا ؟ أرجوك يا حبيبتي , اسرعي باعداد الأزهار . وربما وضعت المزهرية الزرقاء الكبيرة في القاعة , فمنظرها جميل جداً عندما يراها الناس لدى دخولهم . ثم , اعدي نفسك للحفلة" .
وبدأت الحفلة وكان لها جميع مقومات النجاح الباهر . فالمأكولات متوافرة ومتنوعة , والمختارات الموسيقية جيدة , واكثر من ذلك فان الضيوف مصممون على الاستمتاع بأوقاتهم . الا انه كلما مضت ساعة على تلك السهرة الصاخبة , ازداد وجع رأس هيلين . فالتعب والارهاق , والذكريات المزعجة , والحر الشديد وكثرة المدخنين , اجتمعت كلها لتزيد فى الطين بلة . وفجأة شعرت بذراع حول كتفيها , فتبادر الى ذهنها ان جستن فالمونت قد دخل الى القاعة بدون ان تلاحظه . وتطلعت وراءها لتشاهد كيت مانتون يقول لها باخلاص واهتمام" أنت متعبة قليلاً يا عزيزتي , أليس كذلك ؟ " .
وعندما اجابته بالايجاب الذي رافقته ابتسامة شكر وامتنان , قال لها " لقد ارهقت نفسك لضمان نجاح هذه الحفلة . اذهبي واجلسي قرب النافذة وسأحضر لك كأساً من العصير المثلج " .
أحضر لها كيت العصير البارد فأخذت ترشقه بهدوء وتمهل , وتتأمل في الوقت ذاته تلك الغرفة ومن فيها . هل سيتأخرون كثيراً ؟ هل ستزول رائحة الدخان العابقة ؟ وهل سيتمكن احد من تنظيف ذلك المكان ؟ وما هي الا دقائق معدودة حتى وضع احد الساهرين اسطوانة قديمة ليتذكر الماضى , على حد قوله . وتشاء الظروف ان يكون المقطع الأول هو اللحن الرئيسي في مسرحية الباليه الشهيرة ( بحيرة البجع )
سقطت الكأس من يدها وقفزت من مكانها مسرعة باتجاه الباب . اذلم تعد لها القدرة على التحمل وعلى سماع تلك المقطوعة الموسيقية . الا انها كيف تهرب من نفسها , فالموسيقى تسرى في عروقها . وظلت هيلين تسمع ذلك اللحن الحزين لمدة طويلة . لماذا هذا العذاب ؟ لماذا ؟ وماذا تفعل هي هنا في سلمندر ؟ انها لا تنتمي الى هذه الجزيرة الحارة والكسولة .
وتوقفت هيلين قرب شجرة قديمة وأخذت تردد لنفسها ان عليها القبول بوضعها الحالي ونسيان الماضي بصورة تامة . لقد قبلت بواقعها خلال الاشهر الثلاثة الماضية . وهي لن تعود , لا يمكن ان تعود . لماذا لا تفهم بأن حياتها كراقصة باليه قد انتهت ؟ لماذا لا تفهم بأنه لن يحدث اية عجائب , وان الوقت وحده هو الذي يساعدها على النسيان الحقيقي والنهائي ... ؟
" هل انتهت الحفلة ؟ " .
استدارت هيلين بعصبية متطلعة نحو صاحب الصوت , لتشاهد جستن ينظر اليها بشيء من القلق ويسألها عما بها .
" أنا , أنا ... " .

"وتلعثمت وانهمرت الدموع من عينيها , ثم قالت " لا و لا " .
حاولت ان تذهب بعيداً عنه . الا انه امسك بذراعها وقال لها "لا ليس بهذه السرعة . ما بك , اخبريني الآن " .
"لا شيء , لا شيء , ارجوك ... " .
وابعدت وجهها عنه متجنبة نظراته , محاولة في الوقت نفسه اخفاء دموعها . وضغطت يده على ذراعها بقلق وحنان , وقال بلهفة واضحة " لا شيء ؟ ما هو السبب الحقيقي ؟ هل أحد ... " .
" لا , قلت لك لا , لم يحدث شيء . لا يمكنني ان اشرح لك . دعني أذهب , أرجوك لن تتمكن ابداً من فهم ما حدث . لن يتمكن احد على الاطلاق , لأن ... ".
" هيلين ! " قالها بلهجة صارمة لا تقبل الجدل , ثم وقف امامها وجهاً لوجه وأمسك بكتفيها مضيفاً " اصغي يا هيلين . لن تتمكني من الهرب الى ما لا نهاية . يجب ان تواجهي هذا ... هذا الواقع " .
هذا ما يقوله الجميع . ولكنه ليس من السهولة ابداً أن ... " .
وتلعثمت مرة أخرى . وأخذ جسمها يرتجف ويرتعش بقوة , وعادت مرة اخرى الى البكاء . وبيدين باردتين كالثلج حاولت ازاحة يديه عن كتفيها لتهرب منه مجدداً , ولكنها سمعته يقول لها " يجب ألا تخجلي من البكاء فالدموع تساعد كثيراً على غسل الأوجاع والآلام . بالله عليك يا هيلين , انهي هذا العذاب الذي يقض مضجعك * وليكن ذلك بشكل نهائي , عوضاً عن ... " .
وفجأة توقف عن الكلام , وحملها بين ذراعية , وتوجه بها الى منزله . وبعد ان ادخلها الى القاعة , وضعها على الكنبة وأحضر لها فنجاناً من القهوة الجاهزة وأمرها بتناوله على الفور . شعرت هيلين بتحسن كبير على أثر ذلك , خاصة ان الهدوء كان شاملا , وجو البيت نظيفاً وغير عابق بالدخان والروائح الأخرى . وعندما شكرته على اهتمامه البالغ ورعايته المخلصة , سألها جستن " والآن , أخبريني عما جرى لك وكاد ان يوصلك الى حافة الانهيار العصبي " .
" لا شيء , حقاً . لقد كنت سخيفة الى حد كبير ولم أتمكن من السيطرة على أعصابي ومشاعري . والآن , من الأفضل لي ان اعود فوراً الى البيت قبل ان يبدأ اي منهم بالبحث عني . اشكرك مرة اخرى , واعتذر لأني , لأني ... " .
" لأنك ماذا ؟ وعلام تعتذرين بحق السماء ؟ ".
" عن كونى هكذا وبهذه الحالة . كنت اعتقد ان الرجال يكرهون الدموع ".
" لا ليس الأمر كذلك. فالرجال لا يحبون عنصر الابتزاز العاطفي في دموع النساء وليس الدموع بحد ذاتها" ريحانة
" كنت هناك بطريقة الصدفة , وكان بامكانك الذهاب " .
" اذهب من ارضي ؟ " .
"لم اطلب منك احضاري الى هنا"
"لم تكوني يا عزيزتي فى وضع يسمح لك بسؤالي عن شيء , او حتى بالاهتمام بنفسك . وهل كنت تتوقعين حقاً ان اتركك في الوضع الذى كنت فيه ؟ أنك حقاً تغالين . ثم ,ألا يمكن الاعتراف لى بالقليل من العطف والتفهم ؟ ! " .
شعرت هيلين بقليل من الخجل وقالت لجستن " صدقني , فأنا لم تكن لديّ اية رغبة بممارسة الابتزاز العاطفي . اني اكره ان يراني احد باكية " .
" أعلم ذلك . ملاحظتي كانت فى غير محلها وغير وقتها . اعذريني " .
وبعد ان تساءل بصوت عال عن المدة التي مضت عليها منذ حادثتها , وهي ثلاثة او أربعة اشهر كما قال , اخذ جستن يعظها قائلاً " انها فترة طويلة جداً واكثر من كافية لنسيان الماضي وللتفكير بما كنت ستصبحين لو لم تقع تلك الحادثة , انها فترة طويلة جداً للبقاء في هذا السجن الذي بنته هيلين الحزينة حول نفسها . وكلما طال الوقت وأنت في وضع كهذا , صعب عليك الخروج منه والتخلص من آلام الماضي " .
"انك تتحدث كأحد الأطباء النفسيين أو أحد الواعظين , وتحاول حل عقدة مستعصية ... ".
" انك لا تزالين ترتجفين . فهل تريدين التحدث مطولا عن هذا الموضوع ؟ " .

"وهل هناك أي شيء لأتحدث عنه ؟ لقد وقعت لي حادثة أليمة أنهت حياتي العملية كراقصة باليه . وهذه الحوادث قد تقع لأي كان . أنا محظوظة لأنني لم أمت , ولم اصبح مقعدة , او عمياء او خرساء . كما أنني لا زلت قادرة , ولو قليلاً , على ممارسة الرقص . وهنا تكمن المشكلة , قادرة ولست قادرة . والناس يقولون أننى صاحبة حظ كبير , وانني يجب أن أكون ممتنة . ولكني لست كذلك , وهذا ما يؤلمني كثيراً " .
"وهل كنت تفضلين الشلل على وضعك الحالي ؟ " .
"لا أعلم , لا أعلم . فمن الخطأ الفادح ان افكر هكذا " .
" صحيح ما تقولين . ولكنني بدأت افهم مشكلتك بشكل اوضح . مهنتك كانت شيئاً خاصاً الى ابعد الحدود . ويبدو ان الفن كان جزءا منك . ولهذا كانت الصدمة قوية الى هذا الحد " .
وسألها كيف وقعت الحادثة , فأخذت تشرح له بالتفصيل . وعندما انتهت من رواية ما حدث , قال لها بحنان "وهل تعتقدين ان من الصواب سلخ نفسك كلياً عن العالم الذي كنت تنتمين اليه ؟ " .
" لم يعد لي مكان في ذلك العالم " .
" أنا لا أعرف الكثير عن عالم الباليه والمسرح والفن . ولكنني اعرف أنه وقعت حوادث مماثلة او أسوا بكثير لعدد كبير من الفنانين ولم يقعدهم ذلك عن متابعة العطاء . الموسيقي الشهير بيتهوفن حقق معظم اعماله الخالدة وهو مصاب بصمم تام . اي انه لم يتمكن من سماع السيمفونيات الرائعة التي ألفها " .
"الأمر يختلف بالنسبة الى الرقص " .
"هل حقاً يختلف ؟ أنا لا اعرف شيئاً البتة عن حياة الراقصين , ولذلك فلن أجادل في هذا الموضوع . ولكنك فتاة شابة والمستقبل كله امامك . ثم , أليس صحيحاً ان الهدف الحقيقي للنساء يتحقق في مجال فريد ومميز ؟ " .
"وهل تعنى الزواج ؟ " .
"ألا يلعب الزواج اي دور في رغباتك المستقبلية ؟ " .
" لا , فالزواج ليس حلا لمشكلتي" .
" اذاً فماذا تقترحين لحياتك ؟ أتريدين تمضينها في التحسر والندم على الآمال المفقودة ؟ أتريدين ان تظل جروحك هكذا , غير مضمدة , ومعرضة بين الحين والآخر لمثل ما حدث الليلة ؟ متى ستبدأين الحياة من جديد ؟ "
"لهذا السبب أتيت الى سلمندر . تركت لندن لأبتعد عن كل ما يذكرني بأحزاني " .
" يبدو ان محاولتك هذه باءت بالفشل " .
عاد التأثر البالغ الى نظرات هيلين , ثم أخبرت جستن عما حدث في حفلة ماريز , وكيف انها لم تتحمل سماع تلك المقطوعة الموسيقية . وتحدثت مرة أخرى عن معاناتها الشديدة بتأثر بالغ , فقاطعها بهدوء وهو يمسك يدها برفق ومودة " انت محقة في كل ما تقولين . ولكن السعادة في الحياة يا عزيزتي لا تقتصر على مجال واحد . فليس هناك ليل بدون نهار . ثم , أهو حكم مؤبد ؟ لا , فأنت شابة في مقتبل العمر , وروح الشباب تتخطى جميع الصعاب . ولماذا انت متأكدة هكذا من انك لن تتمكني من الرقص بعد الآن ؟ اذا شفيت رجلك بصورة طبيعية ... " .
"هذا ما يقوله الجميع , ما عدا الأشخاص الذين يعلمون . كفين قال لي كلاماً كهذا . وقال لي اني سأرقص مرة أخرى في المسرحية الجديدة , وعلى الموسيقى التي ألفها خصيصاً لي . وكفين الآن ... " .
وأجهشت بالبكاء وقد شعرت بأن جميع الاحزان والآلالم التي حاولت طمسها عادت فجأة الى الظهور وبصورة أعنف من السابق , وظل جستن جامداً بدون حراك لفترة طويلة , ثم وضع يده على رأسها وأعطاها باليد الآخرى منديله المطرز قائلاً " كان عليك تنفيس هذه الضغوط منذ زمن بعيد , فهذا هو الحل الطبيعي لمثل هذه الأحوال . اذهبي واغسلي وجهك , وأنا احضر لك فنجاناً آخر من القهوة " .
شربت قهوتها بتمهل , ممتنة لصمته ولتفهمه . وبصمت أيضاً تقبلت منه فنجاناً آخر من القهوة شعرت على أثره بتحسن كبير وكأن مشكلة ما قد حلت . ثم تنهدت مرتاحة وقالت له وهي تشعل سيكارة تحمل الحرف الأول من اسمه مطبوعاً بالذهب " دعني أخبرك عن كفين . فهذا الانسان مؤلف موسيقى كان يسكن في شقة فوق تلك التي كنت اسكنها . التقينا في العام الماضى ,أنا في الثامنة عشرة من عمري وهو يكبرني بعامين تقريباً . وكان آنذاك ينهي دراسته للتوزيع الموسيقى وكتابة الألحان . لم اعرف مثله في حياتي , ولم اشعر تجاه اي رجل آخر كما شعرت تجاهه . ذهبنا معاً الى كل مكان وقمنا معاً بجميع اعمالنا الرائعة منها والمجنونة . كان يعزف على البيانو المقطوعة التي كتبها , وكنت ارقص على الطاولة الصغيرة امامه , وكنا نتدرب على الحركات والأنغام حتى المساء " .