كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
أدمعت عيناها كما حال ابنتها من خلفها ما أن ظهر لهما الذي
دخل من باب المنزل بخطوات بطيئة وبصعوبة بمساعدة العصى
الطبية حيث كانت ساقه اليمنى مغطاة بالجبس الطبي كما يده
اليسرى ، هذا عدا عن الشاش الواضح من تحت قميصه يغطي
صدره والكدمات والجروح التي كانت تغطي وجهه وتحركت
عمته نحوه بخطوات مسرعة وحضنته برفق قائلة بعبرة مكتومة
" حمداً لله على سلامتك يا قلب عمتك ، حمداً لله أني رأيتك واقفاً
على قدميك أمامي يا عمير "
حاول احتضانها بيده المجبسة وقال بعتاب
" لما البكاء الآن عمتي ها أنا بخير أمامك "
ابتعدت عنه حينها هامسة تحمد الله بينما اقتربت منه ابنتها التي
ابتسمت قائلة تنظر لعينيه
" حمداً لله على سلامتك يا عمير "
أخفض نظره لحركة عكازه وهو يثبته على الأرض وقال بهدوء
" سلمك الله يا بثينة شكراً لك "
كتمت ألمها بتهربه من النظر لها ككل مرة التقيا فيها بينما قالت
والدتها ويدها تلمس ذراعه
" هيّا سأساعدك لتصل للغرفة "
قالت حينها بثينة مندفعة قبل أن يتحرك لمكان آخر
" لقد جهزنا لك الغرفة المجاورة لغرفنا هنا في الأسفل فلن
تصعد الدرج بالتأكيد "
نظر لعينيها حينها وقال
" سأستخدم غرفة الضيوف ذلك أفضل "
لم تتحدث تلعق جراحها في صمت وخيبة الأمل ترتسم على
ملامحها بينما قالت والدتها
" لكنّها بعيدة عن غرفنا وقد تحتاج شيئاً "
حرك العصا مع حركة قدمه نحو الأمام قائلاً
" يمكنني القيام بما يمكن الاستطاعة عليه وإن احتجت شيئاً
سأخبرك عن طريق الهاتف "
سارت معه حينها تحاول مساعدته بينما قالت بصوت باسم
" حسنا كما تريد "
وما أن خرجت منه أنه صغيرة وهو يستدير نحو الممر الغربي
قالت وهي تحاول إمساك ذراعه السليم
" بالرفق لا تجهد نفسك في السير "
وسارت برفقته وابنتها كما طفليها خلفهما حتى وصل الغرفة
الموجودة هناك والتي كانت مجهزة سابقاً سواء من أغلفة
السرير التي أسرعت بثينة لإخراجها من الخزانة وغطت السرير
باللحاف الخاص به ووضعت والدتها الوسائد ، حينها تحرك
نحوه واستدار مولياً ظهره له ثم جلس على حافته متنهداً بألم
وتعب تنهيدة خرجت من أعماقه جعلت قلب كل واحدة منهما يتألم
معه وإن تباينت المشاعر وأسبابها بينما قالت عمته بعتاب محب
" لقد أجهدت نفسك كثيراً اليوم "
قال وهو يضع العصا جانباً بينما لازال جالساً
" سأنام قليلاً الآن وأرتاح وأكون بخير "
قالت حينها بثينة تنقل نظرها بينه وبين الواقفة قربه
" بما أن والدتي تنام باكراً وتفيق باكراً ستأتي لك بالطعام وما
تحتاجه صباحاً وأنا سأتكفل بما تريده وقت نومها حتى تسترد
عافيتك "
رفع نظره لها وضاعت الكلمات منه يحاول صياغة جملة يرفض
فيها اقتراحها دون أن تكون جارحة فهي تبقى ابنة عمته ولا يريد
إحراجها أمام أطفالها على الأقل لكنّه لم يفعل ليس للسبب ذاته
فقط بل وبسبب باب الغرفة الذي تحرك وهو ينفتح حينها وانتقل
نظر الجميع نحو التي وقفت أمامه تمسك في يدها الحقيبة ذاتها
التي غادرت بها من هنا وقالت تنظر نحوهن
" لن تتعبن أنفسكن بكل هذا فهو وظيفتي وحدي "
*
*
*
وقف فوقها حاجباً بجسده جسدها عن ضوء الشمس بينما كانت
تجلس مستندة بظهرها على جذع الشجرة العالية خلفها تحضن
ركبتيها وتخفي وجهها فيها وحركة كتفيها تؤكد بأن حتى أنفاسها
باتت غير منتظمة ، مد يده نحوها وقال
" هيّا علينا المواصلة يا ساندرين "
لم ترفع رأسها ولم تتحرك من مكانها بينما خرج صوتها
المتعب قائلة
" يمكنك المتابعة وحدك أنا لم أعد أستطيع السير "
أمسك وسطه بيديه وقال بضيق
" ما هذا الجنون ! لن أغادر وأتركك وحيدة هنا ! "
كان يعلم بأن طاقتها في آخر مراحلها لما قالت هذا وهو من
يعرفها جيداً حتى أنها ولأسبوع كامل لازالت تثبت له بأنها أقوى
من أي فتاة غيرها وما قالت هذا إلا وهو حقيقي ، انحنى نحوها
والتفت أصابعه حول ذراعها وقال
" هيّا سأحملك على ظهري مجدداً "
رفعت راسها حينها وسحبت ذراعها منه قائلة
" لا طاقة لك لفعل هذا أكثر من ذلك ، أنت تهدر السوائل
الموجودة في جسدك "
عاد للاستواء واقفاً وقال بابتسامة مائلة
" ما أعلمه بأن جسد الرجل يتحمل أكثر وبما أن كلانا رياضيان
فسينهار جسدينا معاً "
قالت ببرود تنظر له فوقها
" وجسد الرجل يحفظ السوائل أكثر إن لم تكن تعلم "
رفع رأسه وداعبت أصابعه لحيته التي باتت أكثر طولاً
وقال بتفكير
" لا حل لهذه المعضلة إذاً "
وهو ما جعلها تقول بضيق
" لما تستهين بما نحن فيه ؟ ألا تعلم بأننا قد نموت بعد
ساعات قليلة ؟! "
فرد ذراعيه وقال بضيق أشد
" وما الذي أفعله ؟ أبكي وأنوح أو أجلس مكتئب ؟ كل هذا لن
يغير في الواقع شيئاً "
عبست ملامحها وقالت حانقة
" لما الصراخ احتفظ بسوائلك "
رمى بيده وصاح معترضاً
" لا أريدها أنا أريد أن نموت معاً "
تبدلت ملامحها حينها للحزن فجأة ونزل رأسها كما نظرها للفراغ
وقالت بوجوم كئيب
" لا يمكنني تخيل أن أموت دون أن أرى والداي وشقيقي ، لا
أصدق أنها تلك المرة الأخيرة التي ودعتهم فيها قبل الرحلة "
كان ينظر لها بحزن فواحدة غيرها كانت لتنوح وتنتحب وماتت
من قبل أيام بسبب الجفاف ، نظر للأرض تحته وحرك الأوراق
اليابسة بقدمه يبعدها ثم جلس أمامها متربعاً وضم يديه مشبكاً
أصابعه وقال بحزن ينظر للأرض مثلها
" أنا لم أراهما يومها فوضعك أفضل مني بكثير "
ارتفع نظرها العابس له وراقبت عيناها ملامحه التي لا يظهر
منها سوى أنفه المستقيم بينما تراقصت خصلات شعره الناعم
فوق جبينه وخرج صوته الشبهة باسم وإن كان يملأه الحزن
" لكن يكفي أننا نموت معاً لا أريد أن أودعك أنتِ أيضاً "
ماتت جميع التعابير عن ملامحها حينها لصدمتها بما قال قبل أن
تتبدل للضيق فجأة وقالت
" ما كل هذه الأنانية ؟ لما لا تتمنى أن أعيش وإن كنتَ
أنت ميتاً ! "
رفع نظره لها وانفجر ضاحكاً فجأة ممّا جعل ضيقها يشتد ورفعت
بقبضتها مجموعة أوراق يابسة ورمتها على جسده قائلة
" ما المضحك في الأمر ؟ وهل هذا وقت ضحك ! "
قال يحاول تهدئة نفسه بينما تنفض يده قطع الأوراق اليابسة عن
قميصه
" لا أرى هذا ممكناً فهل سأتمنى المعجزات ؟ "
قالت بذات ضيقها السابق
" أجل فالأمر يتعلق بالقلب وليس بالواقع "
عبست ملامحه حينها وكأنه ليس ذاك الذي كان قبل قليل وتمتم
ببرود
" لا أراك تتمنين لي هذا "
اتسعت عيناها قبل أن تهاجمه مجدداً قائلة
" لو لم أكن كذلك ما كنت طلبت منك المواصلة والسير
وتركي هنا "
شع وجهه بابتسامة وقال
" هل يعني هذا بأن قلبك يتمنى نجاتي وإن كنتِ ميتة ؟ "
تجعدت ملامحها وقالت
" ما أسخفك من رجل "
واتكأت بظهرها ورأسها عالياً على الجذع خلفها فقال يراقب
ملامحها ممسكاً ابتسامته
" لما لا تعترفي حتى وأنتِ على حافة الموت ؟ "
لكنّها لم تهتم لما قال ولا ما يلمح له بينما لازالت تنظر عالياً
للسماء من بين قمم الأشجار المرتفعة ، بينما اتسعت ابتسامته
وعيناه لازالت ملتصقة بها فهي على الأقل لم تنكر ذلك وهذا
مؤشر جيد وما دفعه لأن يقول وإن بلمحة حزن
" أنا سأعترف بكل ما في قلبي بما أنني سأموت لا أريد أن
تموتي وأنتِ لا تعلمي عن هذا "
ابتعد رأسها عن الجذع حينها ونظرت لعينيه وقالت حانقة
" لازلت تفترض موتي وبقائك على قيد الحياة ! "
ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيه وقال
" لا يا غبية فما لا أتمناه أن أدفنك قبل أن أموت فقلبي
لا يحتمل هذا "
" كاذب "
قالتها في وجهه مندفعة لكنه قابل كل ذلك بابتسامة أخرى أشد
حزناً وقال
" لا أحد يكذب وهو يموت "
لاذت حينها بالصمت تنظر لعينيه بينما كان هو من هرب منها
ينظر ليديه المجموعتان في حجره قائلاً
" لقد أحببتك دائما يا ساندرين ومنذ كنتِ طفلة ولم أكن أفهم ذاك
الشعور حينها ولما وحدك من بين جميع الفتيات كنت أحب
إغاظتها وأشعر بنشوة غامرة بذلك ! لكن حين أصبحت شاباً
علمت لما ، حينما أصبحتِ المرأة التي ما أن أراها أشعر بمشاعر
لا أعرفها في أي امرأة أخرى وكان ذاك يزعجني كثيراً وحاولت
بشتى الطرق أن أقتل تلك المشاعر أو أقنع نفسي بعكس الواقع
لكنّ كل ذلك لم ينجح "
سكت عند ذلك وساد الصمت بينهما ولم يرفع رأسه ولم ينظر
لعينيها المحدقة به في صمت حتى قالت بصوت بدى هادئاً
كالنسيم حولهما
" ولما كنت تحاربها ؟ "
رفع رأسه ونظر لعينيها وقال بشيء من البرود
" بسبب رفضك المتكرر لي وكراهيتك ألا مبررة "
تبدلت ملامحها للضيق فجأة وقالت
" كان كل ذلك بسببك "
نظر جانباً وابتسم بسخرية وقال
" لا تتحججي بي "
كانت تشعر بضربات قلبها تتعالى لا تعلم بسبب اعترافه أم أن
الدماء أصبحت عاجزة عن الوصول له تدريجياً بينما قالت بضيق
ونظرها متركزاً على نصف وجهه المقابل لها
" بلى فأنت من كنت في كل مرة تستفزني وتشعرني بالنقص
وتسخر مني بل وتتغزل حتى بالنساء أمامي بينما ما يقوله الجميع
أنك عكس ذلك !! "
نظر نحوها بحركة واحدة وقال بضيق مماثل
" كل هذا بسببك "
قالت بغضب مفاجئ
" لا تكرر كلامي "
قال يواجهها بكلمات قوية
" هو الواقع أنا لا أكرر "
أشارت بسبابتها نحو وجهه وقالت بحدة
" أنت اعترفت بنفسك بأنك ومنذ طفولتنا تحب مضايقتي
والاستهزاء بي فهل تتوقع مني أن أحبك ؟ "
قال وملامحه لا تحمل أي تعبير وكأنه تمثال منحوت
" هل يعني هذا أنه لا وجود لأي مشاعر ناحيتي لديك ؟ "
كانت هي من أشاحت بوجهها جانباً وعادت لاحتضان ركبتيها ولم
تعلق على ما قال فقال مضيقاً عينيه
" الصمت يُفهم بمعاني كثيرة "
قالت ببرود ولازالت تتجنب النظر له
" يمكنك فهم ما تريد "
اتسعت ابتسامته وقال
" يوجد مشاعر إذاً "
نظرت نحوه فجأة وقالت مندفعة
" لا بالطبع "
خرجت منه ضحكة صغيرة وقال
" لا تنسي بأنه الاعتراف الأخير قبل موتك "
لوحت بقبضتها قائلة بتعاسة
" لا أريد هذا "
قال باستغراب
" ما هو الذي لا تريدينه ! "
قالت بضيق من غبائه
" أن يكون هو آخر اعتراف لي "
اتسعت عيناه وقال مندهشاً
" معترفة بهذا إذاً ؟ "
ضربت بقبضتها على ركبته الشيء الأقرب لها وقالت مستاءة
" بلى وأنت رجل أحمق زير نساء كنت تؤذيني دائماً "
صفق بيديه فجأة ضاحكاً ونظر لها وقال
" قولي هذا مجدداً "
تبدلت ملامحها للبرود المتعمد وكأنها تعود وتنقذ نفسها وقالت
" ما هو الذي سأقوله ؟ "
قال بابتسامة واسعة
" أنك مغرمة بي "
وقفت على طولها قائلة ببرود
" كاذب أنا لم أقل هذا "
وما أن شعرت بالدوار الخفيف ثبتت جسدها بجذع الشجرة خلفها
متكئة عليها تحاول تنظيم أنفاسها ووقف هو حينها وواجهها
وجهاً لوجه وقال ينظر لعينيها
" بلى قلتها للتو ولا تكابري وتعاندي أكثر كي لا تموتي نادمة "
تقوست شفتاها فجأة وكأنها طفلة صغيرة وقالت بتعاسة
" لا أريد أن نموت "
أخفض رأسه وحركه وقال بابتسامة متألمة
" لا أحد يمكنه إيقاف قدر كالموت "
وما أن عاد ورفعه ونظر لعينيها مجدداً سند يده بجذع الشجرة
بجانب رأسها وقرب وجهه منها وقال برجاء حزين
" أريد أن أسمعها قبل أن أموت ساندي أرجوك "
كتمت وجعها من كلماته ورجائه ولتهرب من ضعفها مجدداً
كالعادة قالت بضيق
" بل ساندرين "
حرك رأسه مبتسماً بحزن وقال
" بل حبيبتي التي لم يسكن قلبي سواها "
" كاذب "
قالتها هذه المرة بنبرة حزينة عكس السابق فحرك رأسه نافياً
وقال والابتسامة الحزينة لم تفارق شفتيه بعد
" أقسم بمن سيأخذ روحي بعد قليل "
حضنته حينها تلف ذراعيها حول عنقه وتدفن وجهها فيه وقالت
بعبرة والدموع تملأ عينيها لأول مرة
" بلى أحبك ولا أريد أن تموت "
صرخ بسعادة حينها وحضن خصرها ورفعها منه وهو يدور بها
حول نفسه وهي تضرب بين كتفيه بقبضتها ضاحكة حتى أنزلها
فقالت تدفعه عنها وبأنفاس لاهثة
" توقف عن إهدار طاقة جسدك "
وكان مصيرها كسابقتها أن ترنحت في وقوفها لكنّه أمسك بها قبل
أن تقع أو يلحظ ذلك وقال يقربها منه
" لا أريدها فلتنتهي هيّا أعيديها مجدداً "
أبعدت وجهها عنه مبتسمة وضربت قبضتها صدره قائلة
" لن أفعل ابتعد عني "
ابتسم وكان سيتحدث لكنّ تلك الابتسامة اختفت وهو يرى جسدها
ينحني نحو الخلف وعيناها تغمضان ببطء وعلم حينها بأنها
وصلت للمرحلة الأخيرة فعلياً لمكابرتها طوال الوقت فأعاد جسدها
بحركة واحدة حتى سقطت على صدره ونامت وجنتها ناحية قلبه
وثبتها بذراعه جيداً بينما رفع يده الأخرى وأبعد بها خصلات
شعرها وضرب على وجنتها صائحاً
" ساندرين انتظري قليلاً لا تموتي تباً "
ورفع رأسه عالياً وصرخ بأعلى صوته
" تعالوا يا حمقى هيّا أين أنتم "
ونظر للمكان حوله والسكون التام وللسماء عالياً قبل أن يشتم
بغضب وهو يدير يده للخلف يخرج شيئاً ما من جيب بنطلونه
ووضع ذاك الجهاز الأسود الصغير أمام فهمه وصرخ من فوره
" تعالوا بسرعة أين ابتعدتم يا مغفلين "
*
*
*
تبادلا قاسم وصقر نظرة صامتة تحدثت نيابة عنهما قبل أن ينظر
صقر ناحية الواقف عند النافذة وقال
" لا أراك في مزاج جيد لاستقبال أي أحد يا مطر "
كان يحاول إيصال معلومة ما له مفادها أنه شخص لم ينم البارحة
كما يبدو حتى أن ثيابه ذاتها ولازال حتى السترة مصيرها
مجهولاً منذ الأمس ! كما لم ينم في المنزل ومزاجه لم يتغير لذلك
هو على استعداد للقتل دون أدنى تراجع لهذا واجهه بها دون
تردد ، وما أن استدار ذاك الجسد نحوه بحركة واحدة وملامحه
تعبّر فعلياً عمّا كان يتحدث عنه سبقه صقر قائلاً يفرد يديه
" لا تهاجمني فأنا أشرح ما أراه أمامي لأنك يبدو لم تنم البارحة
وغضب الأمس لازال ... "
وتوقفت كلماته بسبب مقاطعته له قائلاً بضيق
" لا أفهم أي نوع من التدخل هذا ! "
لاذ صقر بالصمت بينما تدخل قاسم قائلاً بجدية قبل أن يتحول
الأمر لمشاحنة لا طائل منها
" هو ليس تدخلاً يا مطر فأغلب القرارات الخاطئة نتخذها ونحن
في مزاج سيء وأرى بأنك تجمع قادة الجيش حول البلاد منذ أيام
ليس عبثاً بالتأكيد "
تحرك حينها من مكانه ونظراتهم تتبعه حتى اجتازهم وفتح الباب
وغادر قائلاً بجمود
" من سيصمت منكما ليرافقني "
وغادر وتركه بعده مفتوحاً كما ترك عينان محدقة ببعضها ،
وبينما تنهد قاسم بيأس وصمت قال صقر يحرك رأسه
" لا أرى أن هذا اليوم سينتهي على خير "
تحرك حينها قاسم نحو الباب قائلاً
" فليرحم الله من ينتظرونه هناك "
وغادرا كليهما حيث الوجهة التي توجه لها مطر وكانت قاعة
اللقاءات في القصر الرئاسي حتى أنه لم يستقبلهم في غرفة
الاجتماعات الكبيرة وكأنهم طلبة عسكرية جدد وليس كل واحد
منهم يحمل رتبة من أعلى الرتب في الجيش ! وكما توقع كلاهما
كان الأمر متعمداً منه فما أن دخل القاعة ووقف الجميع له
ووصل الطاولة الكبيرة أمامهم وقف وقال بأمر غاضب وحاجبان
معقودان بقوة
" لا أحد منكم يجلس "
كانا صقر وقاسم حينها قد وقفا واحد على يمينه والآخر على
شماله والتقطت نظراتهم سريعاً التغير في وجوه الموجودين
ففوق إهانة استقبالهم هنا ها هو يعاقبهم وكأنهم أطفال ليعلم كل
واحد منهم ما ينتظره ، ولم يتأخر ذلك كثيراً بل ولم ينتهي ما لديه
بعد كما يبدو وقد قال بغضب أشد وسبابته تشير جانباً حيث
النوافذ الزجاجية العالية
" لولا أن الوقت قد تعدى فترة الظهيرة لكنت تركتكم واقفين في
الشمس لتعلموا بأنكم لم تتعدوا مرحلة الجنود بعد "
وهنا كانت الضربة الأشد من سابقاتها وبدأت الملامح الرجولية
تتباين بين الاستياء والرفض وإن لم يستطع أحد التحدث عمّا
شعر به لأنه بات يعلم سلفاً ما سيكون مصيره لذلك جهزوا
أنفسهم لتلقي المزيد فقط ، وهو ما حدث بالفعل وقد عاد وقال
بحدة وسبابته تنتقل بينهم
" هل أفهم أين أنتم يا قادة ممّا حدث ؟ "
ولأن الحديث هذه المرة سؤالاً أكثر منه إهانات واستنقاص
كسابقاته تجرأ البعض على محاولة التبرير لكنّه أنهى كل ذلك
ضارباً بيده على الطاولة تحته وبصراخ غاضب
" لا أحد يتكلم "
وتابع من فوره وبذات مزاجه السابق وأشد
" عبارات وحجج أطفال لا أريد لأني أعلم جيداً أين كان كل واحد
منكم وما فعل "
وكان ذاك ما ألجم الجميع فعلياً وكأن كل واحد منهم بات يراجع
مع نفسه ما فعل وعلم به عنه بينما تابع هو رافعاً سبابته بينهم
ويديرها باتجاهه
" جهاز مخابرات يقود الأزمة وأنتم كالبغال تحركون رؤوسكم
فقط ! "
كان رد الفعل من قاسم حينها الذي أدار عينيه جانباً وهو يتلقى
الإهانة معهم فهو لم يهينهم فقط بهذا بل وشعر بأنه يستنقص
الجهاز الذي أولاه مهمة إدارته أيضاً ! وبينما اختار هو الصمت
أيضاً كان ثمة من قد فاقت شجاعته أو جرأته الجميع حينها وقد
سمح للسانه بفعلها وقال
" اللواء ... "
" أصمت .. "
وبصرخة واحدة من مطر عاد لدس ذاك اللسان في فمه والصمت
، ولم ينتهي الأمر عند ذلك وكان عليه تلقي عقاب تجرءه على
مخالفة أمر يكون عسكرياً في وضعهم الآن فصرخ مطر في
وجهه مهاجماً
" لا يحق لرجل يتبع النساء في الشارع ببذلته العسكرية
أن يتحدث "
تأوهات صامتة أو حواجب مرفوعة باندهاش كان رد فعل أغلبهم
بينما أنزل المعني بالأمر رأسه للأرض ليوجه بذلك رسالة للجميع
وكل واحد منهم حال لسانه يقول
( لا تغامر وتفتح فمك )
لذلك ما كان أمامهم من خيار سوى تلقي المزيد وفي صمت
وتعلقت الأعين بالذي عاد صوته الجهوري الغاضب لملئ المكان
بينما رمى سبابته نحوهم ثم جانباً وكانه يرميهم بها للخارج
" كل واحد منكم مسؤول عن معسكر بأكمله وكتيبة كاملة
ومخازن ذخيرة كان بإمكانه شن حرب أو إخمادها فماذا كنتم
تنتظرون ؟ أوامر من بِشر ؟! "
وقال آخر كلماته وسبابته تعاود الإشارة بعيداً ، وبينما استقبلوا
ذلك من دون أي رد أو تعليق كما بات معلوماً لديهم وهو
الاستماع فقط تابع هو بغضب أشد صارخاً
" لو أنه لم يكن له وجود حينها ؟ ولو أن مطر شاهين ومن معه
أموات في ذاك اليوم كيف كنتم ستتصرفون ؟ ما الذي تسعون له
؟ تفكيك البلاد من جديد ! "
كان يوجهها نحوهم كاتهامات أكثر منها أسئلة وهم واقفون لا أحد
منهم يستطيع ولا الدفاع عن نفسه ، ولأنه كما يبدو يعلم جيداً ما
يدور في رأس كل واحد منهم وما سيكون تبريره حال ترك له
مجال قال بهجوم غاضب
" كل واحد منكم أمسك حدوده العسكرية وأغلقها من كل جانب
والباقي لم يعد يعنيه ! أهكذا تم تدريسكم في المعسكرات ؟ "
وعاد وضرب بيده على الطاولة قائلاً بحدة
" أنتم بحاجة لإعادة تأهيل إذاً "
كانت الصفعات تتوالى عليهم وهم من تقف سرايا الجيش رهبة
واحتراماً لهم ولوح بسبابته نحوهم مواصلاً جلده لهم
" ليكن معلوماً لديكم جميعاً ما حدث لن يمر مرور الكرام لأن
تكراره مجدداً معناه أن يرجع كل واحد منكم رجل مدني
كما كان "
وتابع بكلمات قوية وسبابته تضرب على صدره
" ولن أسمح وفي صدري نفس واحد بأن تضيع تضحيات رجالي
ودمائهم هباءً "
ورمى تلك السبابة جانباً قائلاً والغضب يسيطر على صوته مجدداً
" الرجال الذين كنت أراهم يتساقطون أمامي على الحدود قتلى
وتركو عائلاتهم وأحبّائهم فقط لتكونوا أنتم اليوم هنا ، وماذا كان
المقابل ؟ "
وعاد وتابع مهاجمته لهم صارخاً
" إن لم تكونوا رجالاً مثلهم فغيركم الأجدر بالأوسمة التي
تحملونها على أكتافكم "
كانت الإهانات تنهال عليهم من شفتيه كالرصاص القاتل بينما لا
شيء يصدر عنهم سوى التحديق في صمت على الرغم من أنه
قال بصوت عالي ويده تضرب الطاولة تحته مجدداً
" من لديه تبرير واضح ومقنع غير الذي قلت فليتحدث الآن "
ولأنه لا أحد لديه ما يقول بعد الذي قيل ولا ليدافع عن نفسه وهو
من واجههم بحقيقة قاسية مهما رفضتها عقولهم لا يمكنهم
سوى الاعتراف بها ويخشى كل واحد منهم إن تحدث يكون
مصيره كسابقه لذلك اكتفت الأعين بالتحديق به في صمت ،
الصمت الذي طال من ناحيته في المقابل وعلى غير العادة في
باقي هجومه الغاضب نحوهم قبل قليل بينما تركت عيناه ونظراته
الصقرية الغاضبة التحديق بهم وللمرة الأولى منذ دخوله وأخفت
جفناه تلك الأحداق عنهم وكأنه يستقطع لنفسه لحظات بعيداً عن الجميع
، وكان ذاك ما يحدث فعلاً وكأنه صراع ما داخلي يسبق قرار مصيري وصوت
المياه المتدفقة بقوة يسيطر على سمعه وشعوره بالجسد المبلل في حضنه
والملامح الجميلة المدفونة في صدره وإن كانت صاحبتها لا تعي شيئاً ممّا
يحدث ثم الصوت الأنثوي الهامس برجاء حزين من بين أنفاسها المتلاحقة
( لا تعاقبني أكثر مطر أرجوك )
ارتفع نظره لهم مجدداً وأصابعه تشتد في قبضة واحدة وكأنه
يعتصر بها شيء ما وتحركت شفتاه نهاية الأمر وقال بكلمات
قوية جادة تشبه نظرته الموجهة نحوهم
" الخطوة القادمة هي مناطق صنوان المتمردة "
وكان هذا ما جعل الرؤوس تتحرك حول نفسها وكأن كل واحد
منهم يحاول التقاط رد فعل الآخر بينما كانت الصدمة تعلو وجوه
الجميع ليعود ويسرق انتباههم ضربه بطرف سبابته بقوة على
الطاولة تحته ورفعها نحوهم ما أن عاد الجميع للتحديق به قائلاً
بأمر حازم
" كل واحد منكم سيعود لمكانه حتى تصلكم الأوامر والتنفيذ يكون
بالحرف الواحد ، أي خطأ أو هفوة أو تسريبات مصير صاحبها
سيكون المحاكمة العسكرية "
ورمى بتلك السبابة ناحية الباب قائلاً بحدة
" انصرفوا جميعكم "
هكذا فقط وانتهى ! كانت أوامر لا نقاش فيها وكأنه ليس جزء من
البلاد ذاك الذي بات ينتظر قرار مصيري منه وإن بتدمير منازله
على ساكنيه ! ليعلم كل واحد منهم أن ما عليه هو التنفيذ فقط
ودون إبداء رأي أو اعترض ، وبدأ الجميع بالانصراف الواحد
يتبع الآخر والوجوه يعلوها تجهم غريب وإن كانت الأجساد
والخطوات تتفجر ثقة وهم من أفنوا أعمارهم في تدريبات تعجز
عن تحملها الوحوش .
كان الجميع وجهته واحدة وهو باب القاعة المفتوح بينما لم
يتحرك مطر ولا مرافقيه من مكانهم والصمت هو السائد من
طرفهم أيضاً حتى لم يبقى في المكان سوى شخص واحد منهم
وكان ( اللواء يعقوب العقاد ) والذي ما أن تحرك من مكانه لم
تأخذه خطواته ناحية الباب كما الجميع بل تحرك نحو الطاولة
والواقفين خلفها ووقف مواجهاً لمطر تحديداً ولا شيء سوى
النظرات الصامتة ، وفي حين كانت سوداء غائمة من ناحية مطر
الذي لم يتغير مزاجه أساساً عن السابق كانت متزنة شبه هادئة
من يعقوب الذي ارتفعت يداه لكتفه الأيمن وبينما نظراته لم تبتعد
عن تلك العينان كانت أصابعه تنزع قماش الكتف المثبت عليه
الشارات والرتب الخاصة به ، وما أن نزعها وضعها على الطاولة
أمامه قبل أن يفعل مع كتفه الآخر الأمر ذاته وقال ما أن انتهى
واستقام في وقوفه
" أنا أقدم استقالتي وستصل ورقة الطلب لمكتب سيادتكم "
كان تعليق مطر الصمت فقط بينما ارتفع رأسه وعيناه لم تترك
عيني محدثه والذي اعتبره موافقة صامتة ، نقل بعدها نظره كما
انحرف جسده ناحية صقر هذه المرة وقال بجدية
" أنا أكرر طلبي السابق بمقابلة السيد دجى الحالك أو نقل طلبي
له وأريد أن أكون أول خاطبي ابنته "
*
*
*
أخفت نصف وجهها خلف ركبتيها تحضنهما جالسة فوق السرير
وتركزت الحدقات الزرقاء الغامقة على النافذة المقابلة لها أو
البناء الذي ارتفع عالياً وأصبح له سقف ، وخلال أسبوع واحد
ها هو عالمها الجديد بات له وجود .
أسبوع لم ترى فيه من غادر هذه الغرفة ولم يرجع بعدها أبداً
بينما ها هو ينجز ما قرر فعله وهو القسم الخاص بها في
المستشفى النفسي ، المكان الذي لا تعلم هل سيكون مكانها
الأخير وجولتها الختامية في هذه الحياة أم مجرد محطة من
محطات مأساتها الطويلة وكم ستكون سجينة جدرانه الباردة ؟
كل ما تعرفه بأنه ملجأ آخر لإنقاذ شقيقها الوحيد من كل شيء
وأولهم هي لهذا لا يمكنها سوى الرضوخ والموافقة عليه .
أبعدت نظرها عن هناك بل وارتفع رأسها واتكأت به عالياً على
المقبض الخشبي للسرير خلفها وتعلق نظرها في السقف الأبيض
الخالي من أي تقاسيم بينما كان إبهامها يضغط على أصابعها
بالتتابع فلا شيء هنا ولا شيء تفعله سوى التفكير والتفكير حتى
باتت تكره صوت نفسها داخل عقلها قبل أصوات الذكريات
والأشخاص فالوحدة كفيلة بجعلك تعيش تفاصيل حياتك مرة
أخرى وكأنها الآن .
لكنّها لم تكن هكذا ! هي اعتادت وتأقلمت على أن تعيش وحيدة
وعلى أنّ أصوات تلك الذكريات أمر لا تراه سوى في نومها
ودرّبت نفسها على العيش بذاكرة سوداء وعقل فارغ تماماً حتى
كانت تمضي الأيام والأشهر لا تتذكر فيها شيئاً ولا تفكر في أحد
، وهذا من أبشع النتائج التي أوصلت لها عقلها الباطن وهي
تتشافى بنفسها من ماضيها ، كان طبيبها ينصحها بعدم فعل ذلك
لكنّها كانت تفعلها لأنّه حينها أرحم بالنسبة لها من سماع كل تلك
الأصوات والصراخ ومن مشاهدة صور الراحلين عنها حتى
وعيناها مفتوحتان ، كان يقول في كل مرة
( لا تقتلي زيزفون الطفلة في داخلك حتى وإن كانت ذكرياتها
جميعها سيئة بل تصالحي معها لتكون هناك زيزفون امرأة
وزوجة وأم مستقبلاً )
ابتسمت شفتاها بمرارة فعن أي تصالح يتحدث ؟! يومها أقسمت
لنفسها بأن ذاك الرجل لا يعرف شيئاً عمّا درسه ويمارسه على
مرضاه فكيف لها أن تحب تلك الطفولة وتتصالح مع كل ما مرت
به فيها ومع كل من آذوها ؟!
كيف ستجد مستقبلها في تلك الطفولة المليئة بالسواد والألم ! هي
جزء منها أجل لكنّها لم تخترها لنفسها وما كان عليها أن تكون
كذلك وما كانت لتكون لو أنّ أمر واحد تغير فيها وهو أنّ ذاك
الشيطان المدعو ضرار السلطان لم يتركهم خلفه ابتداءً بجدتها
وابنه وانتهاءً بها وبشقيقها .
صوت الطرقات على باب الغرفة أخرجها من كل ما كانت فيه
واستوت في جلوسها فالممرضات وحتى الأطباء يدخلون مباشرة
واللبق منهم يطرق طرقتان ثم يفتح الباب ويدخل أذنت بذلك أم لا
وأحبت هذا أم كرهته ، لكن هذه المرة لم يفتح الباب أحد ولم تأذن
هي بالدخول أيضاً وكأنها تتحدى الواقف في الخارج أن يفعل ما
يخبره به قلبه فهي باتت تعلم عن هويته .
وانتصر القلب أخيراً بالفعل واستدار مقبض الباب ببطء قبل أن
ينفتح ببطء أشد وكشف عن الواقف خلفه والذي تركه من يده
ليكمل طريقه وحيداً ينفتح على اتساعه بينما وقف عنده دون
حراك ونظراته لم تفارق عيناها التي تركزت على عينيه أيضاً .
كانت أقل عبارة يمكن وصفه بها حينها أنه بقايا رجل وجثة ميتة
تمشي بين الأحياء ! ثيابه الغير مرتبة على عادتها ولم يكن يلبس
سوى بنطلون البدلة الفاخرة والقميص الأسود المتروك فوقه
بإهمال ، لحيته ولأول مرة تراها ليست مرتبة ومشذبه بعناية
وكانه يفعل ذلك كل صباح كروتين يومي ! .
كان الاحمرار في جفنيه واضحاً والأرق والتعب رسم خطوطاً على
وجهه الوسيم ليؤكد لها ولكل من يراه أي أسبوع مرّ عليه ، بل
الحقيقة التي تجهلها بأنه لم يراه أحد غيرها هي وشقيقها حتى
الآن لأنه كان سجين مكان واحد لا شيء فيه سوى أفكاره
وصوتها يعيد ويكرر كل ما قالت داخل عقله حتى كاد يصل به
لمراحل الجنون ، وما كان يجزم بأنه يستطيع فعلها والقدوم
ومواجهتها من جديد ، لكن خلف عقله كان ثمة قلب لازال ينبض
وينبض دون توقف وبما أنه كذلك ولم يفارق الحياة فلن يأمره
بشيء غير فعلها والمجيء .
تحركت خطواته أخيراً وتقدم نحو الداخل بينما أغلقت يده الباب
خلفه وما أن كان قرب سريرها توقف وهنا تركت عيناه عيناها
ونظر أولاً باتجاه النافذة والبناء الذي وصل حيث أخبره ذاك
المهندس بالفعل ودس يديه في جيبي بنطلونه فإن فقد أناقته
واهتمامه بنفسه لم يفقد أبداً الأرستقراطيّة التي عاش وتربى
عليها ومُزجت مع شخصيته لتميزه عن غيره من الرجال حتى
وهو يسحب الكرسي الوحيد الموجود في الغرفة ويجلس عليه
مقابلاً لها وفي صمته ذاته بينما انحنى نحو الأمام قليلاً يشبك
أصابعه الطويلة في بعضها ونظره عليها وطال الصمت وتحديق
الجالسة فوق السرير به وكأنها تحاول ولأول مرة فهم ما يدور
في رأسه وما ينوي قوله وما قرر فعله بعدما علم منها عمّا حدث
في ذاك الماضي ويخصها تحديداً ، وللمرة الأولى أيضاً تهتم
لرأي أحد وأحكامه عليها فهو أعطى لنفسه مساحة واسعة ليفكر
في كل هذا وما أصبح هنا إلا بقرار فعلي من نفسه ومن عقله
قبل قلبه فما علمه ليس من السهولة على رجل أن يتجاوزه فكيف
وهو يحمل في قلبه نحوها كل تلك المشاعر .
تحركت شفتاه أخيراً وإن لم يرفع رأسه ولم ينظر لها وقال
" زيزفون ... "
كانت كلمة وحيدة هكذا يتيمة تشبهها اختار الصمت مجدداً بعدها
وكأنه يحاول صياغة المزيد وعاجز عن فعل ذلك ، هو من وقف
في قاعات المحاكم وترافع في قضايا كبيرة وحساسة دون خوف
ولا تردد ولا تراجع يعجز عن فعل هذا الآن أمام شخص واحد
وفي غرفة خالية من سواهما لأن ما هو فيه الآن لم يشبه أي
شيء من كل ذلك ، بلى لأن ما يقوده ويوجهه حينها هو عقل
وقلب محامٍ لا يمثل له صاحب القضية سوى عميل لديه ومهما
كانت درجة تعاطفه مع قضيته تلك فهذه ليست المرة الأولى التي
يعرف فيها حوادث مشابهة لما حدث معها لكنّ الأمر مختلف
الآن وكامل الاختلاف .
علا صوت تنهده واضحاً في المكان الساكن وعاد وقال أخيراً وإن
لازال يتجنب النظر لها
" ما أن ننتهي من قضاياك هذه جميعها ستُرفع قضبة أخرى
ضد جدي ووالدي وأنا ... "
لاذ بالصمت للحظات ولم يرى نظرة الاستغراب في عينيها أو عدم
التصديق بمعنى أدق لأنه لازال ينظر ليديه بينما تابع أخيراً
وبكلمات جوفاء كئيبة
" ثلاثتنا علينا أن نُحاكم ونحاسب على هذا "
وعاد للصمت ما أن أنهى كلماته تلك وعلمت الآن أي مرحلة من
تأنيب الضمير وصل لها الأيام الماضية حتى بات يضع نفسه بل
ووالده في ذات المرتبة مع جده من ناحية إجرامه نحوها ،
غادرت صمتها أخيراً وقالت وإن بنبرة هي الأقرب للبرود
" من أجلي ستفعل هذا أم من أجل نفسك ؟ "
وكان هذا ما جعله يرفع رأسه ونظر لعينيها وقال
" بل من أجلك "
" كاذب "
بالرغم من أنها همست بها بخفوت لكنّها كانت من القوة بأن
وجهتها كرصاصة نحوه جعلت ملامحه تتجمد تماماً بينما لم
تنتظر هي تعليقه ولا إنكاره وقد تابعت وبكلمات قوية
" تذكر بالتأكيد حين كنت تعارض فكرة تقديم جدك للعدالة ؟ فما
الذي تغير الآن ؟! هي زيزفون ذاتها "
كانت نبرة التحقيق واضحة في صوتها جعلته يصمت تماماً وكأنه
يعطي نفسه الفرصة لترجمة ما تقول ، هو يذكر ذاك اليوم جيداً
في المطعم الفرنسي حين سألته إن كان يرضى الترافع عنها ضد
جده وكيف كان رده ورد فعلها الغاضب ، لهذا انتظر وفي صمت
أن تتابع حديثها وكما توقع كان ثمة المزيد لديها بينما تبدلت
الزرقة في عينيها لما يشبه الغيوم الرمادية القاتمة تشبه كلماتها
التي خرجت بحزم غاضب حينها وكأنها تصفعه بها
" الألم ذاته بالنسبة لي .. موت جدتي احتراق والدتي
وما فعله زوجها بي ، لكنّ الأمر كان مختلفاً لديك لأنك تتألم
لما يعنيك فقط "
جعلته كلماتها تلك يهب واقفاً على طوله وكأن كل عصب في
جسمه أبدى رفضه لاتهامها على حدى ودون شعور منه بينما
كانت نظراته المتسعة بذهول موجهة لعينيها المعلقة عالياً بعينيه
وكأنها تتحداه بالقوة النابعة منهما ، هي تتهمه وعلانية بأن ما
يعنيه هي كامرأة وكجسد يريده لنفسه لم يقترب منه رجل من قبل
ولأجل هذا فقط هو يريد تقديم ثلاثتهم للقضاء متجاهلاً كل ما
مرت به في طفولتها غير ذلك لأنه لا يعنيه ، ولأنه غاص في
صدمته لم تترك له المجال ليدافع عن نفسه وهي تهاجمه مجدداً
مسكتة إياه من قبل أن يفكر في قول ما يريد قوله بينما كانت
كلماتها غاضبة قاسية
" لا تبرر فالأمر واحد ، أنت غاضب من أجل نفسك الآن وليس
من أجلي وتريد أن تتحرر من عقدة الذنب "
رمى يده جانباً بقوة تشبه قوة كلماته ما أن قال مستنكراً
" ليس صحيحاً وسبق وقلت يا زيزفون القانون لن يعترف
بأن جدي متهم في كل ما حدث "
قالت ببرود وكأنه لم يصرخ غاضباً من اتهاماتها
" وما تغير الآن ؟ "
قال بجدية بينما عيناه تحاول إقناع العينان المحدقة بها
" تغير أسباب توجيه التهمة وأنك على قيد الحياة فالأموات عدالة
الأرض لن تقدم لهم شيئاً ولن يعلموا عنها فعدالة الله هي وحدها
ما يريدون "
جعلتها كلماته تلك دون غيرها تقف على طولها أيضاً مغادرة
السرير وقالت تنظر لعينيه وكأنها تبحث عن الجواب الذي تعلمه
جيداً فيهما ، بل وكأنها تتحداه ليغير أقواله السابقة بينما حركت
رأسها بطريقة رفض غاضب
" وماذا عن الأحياء الذين شهدوا على ذلك ! كم أنت
مناقض لنفسك "
كانت اتهاماتها له تتوالى وكأنها تضعه في جلسة مغلقة مع نفسه
، بل وكأنها تريد الوصول لنتيجة كلاهما يجهلها وحتى هي نفسها
للأسف ! وكأنها تريد أن يقول شيئاً عجزت عن معرفة ما يكون
وهو ما جعله يهاجمها بحنكة محامي بارع قائلاً
" تفهمين جيداً ما أقول يا زيزفون وإن كنتِ ترفضين الاقتناع به
أو فهمه وكأننا ندور في ذات الحلقة المغلقة دون توقف ! "
وكان ذاك ما جعلها ترجع فعلياً لنقطة البداية وكأنها تدافع عن
نفسها بسبب اتهامه بالهرب منه وقالت بحدة تلوح بيدها بغضب
" على جدك فقط أن يُحاسب وعلى ما حدث لعائلتي جميعهم
وليس أنا وحدي "
ولأنها حررته أخيراً من حصارها الخانق ذاك أعطى لنفسه لحظة
تنظيم لأنفاسه وأفكاره وعاد هو أيضاً بعقله لنقطة متأخرة أكثر
ممّا حدث معها وقال ونظراته لا تفارق عمق عينيها
" لديّا سؤال واحد فيما يخص الأمر يا زيزفون ويمكننا التوقف
عن الحديث فيه الآن حتى وقته المناسب "
جعلتها كلماته تصمت تماماً هذه المرة فمعنى ما قال بأنه سيغلق
ملف ما فعل زوج والدتها حتى الوقت الذي قال بأنه عليهم أن
يُحاسبوا عليه بخصوصه أمام القانون وهو معناه أنّ الأمر
سيعود للظلام من جديد ، وما فكرت فيه كان حقيقياً ترجمته
كلماته ما أن قال بشيء من الهدوء بينما كانت نظراته لعينيها
ملؤها تساؤل
" لما لم تُتَخذ هذه المسألة ضده في المحاكمة لتبرئتك من مسألة
قتله بسبب الضرر والدفاع عن النفس ؟ "
كان صمتها التالي هو الأثقل على الإطلاق حتى فهم بأنها
ستتهرب من الجواب لكنّها فعلتها بشكل مغاير وهي تقول
" كان هناك قضية مقتل والدتي أيضاً "
حرك رأسه برفض للفكرة من أساسها وقال
" لن يصعب على أي محامي محترف حينها أن يلصق التهمة
الأخرى به أيضاً سواءً فعلها أم لم يفعل "
وهنا حاصرها في الزاوية وبينما كان بإمكانها أن تقول لست أعلم
أو لم أهتم اختارت طريق آخر مختلف تماماً وهي تدلي بالحقيقة
قائلة بجمود
" الرجل الذي قام بتولي مسؤوليتي حينها هو من رفض وأغلق
ملف مسألة الاغتصاب نهائياً "
أبعد نظره عن عينيها في لحظة لا يعرف هرباً أم ضعفاً أم غضب
يشعر به اجتاح أوردته جميعها بالفعل وذات الشعور الذي كان
يحترق به طيلة الأيام الماضية عاد لمهاجمته يتمنى أن كان أمامه
الآن وعلى قيد الحياة ليجعله يموت بالطريقة التي تبرد ناره هو
وتليق بأفعال ذاك السادي المجرم ، ولأن الأمر بات أبعد من
تحقيقه عاد ونظر لما هو موجود واقع أمامه الآن وقال ونظراته
تركزت على عينيها مجدداً
" لكن لِماذا ومن يكون هذا الرجل ؟! "
كان عليه أن يفهم السبب بينما كان بإمكانهم تخليصها وشقيقها
بإثبات أفعاله تلك ! وتغلب عليه فضوله أيضاً لمعرفة هوية ذاك
المجهول ممّا جعله يسأل عنهما معاً لكنّها وكالمتوقع اختارت ما
تريد الجواب عليه فقط وقد قالت بابتسامة ساخرة
" هل تفعلها أنت الآن ؟ "
كان جوابه الصمت التام .. صمت قرأته بسهولة وهو ما جعلها
تقول
" وهو فكّر مثلك تماماً لم يكن يريد لإسمي أن تتناقله الصحف
والأخبار وأن أصبح امرأة مشوهة في نظر الجميع وأولهم الرجل
الذي اختاره زوجاً لي "
جعلته كلماتها الأخيرة يصاب بما يشبه الشلل الدماغي المؤقت
وكأنه توقف عن العمل بينما قال يحدق فيها بعدم استيعاب
" رجل ماذا ! "
قالت حينها وبكل بساطة وكأنها ليست تلقي عليه قذيفة مدمرة
" زوجي وأنا زوجته ومنذ أعوام "
" زوجك !! ... "
صرخ بتلك الكلمة في وجهها وكأن عقله عاد للعمل فجأة بينما قبضت
أصابعه بعدها على ذراعيها وصرخ في وجهها متابعاً بملامح أقل ما يقال عنها
أنها تعيش الفاجعة الأشد في حياته
" أنتِ متزوجة الآن من رجل غير نجيب ! "
*
*
*
كانت تقف كالتمثال الحجري وكأنها لا تسمع ما تقول الواقفة
أمامها بينما تابعت الخادمة تنظر ناحية باب غرفة الملابس
" لابد وأنه لديك شيء باللون الأسود لترتديه "
قالت مارية وكأنها لم تسمع ما تقول
" جنازة من ! "
وكانت نظرة ربيكا لها تشبه أفكارها تماماً ورغم كل ذلك أعادت
قائلة
" صديق السيد غستوني سبق وأخبرتك آنستي ! "
تأففت حينها وفردت يدها وقالت بضيق
" وما علاقتي أنا ؟ لما أكون معه وصديقه مات وعائلته
لا تعرفني ؟! "
نظرت الخادمة ناحية الباب بصدمة ثم نحوها وقالت
بصوت منخفض
" لا يسمعك السيد ويغضب ، أنتِ فرد من عائلته ويريد أن
تكوني معه في مراسم الدفن "
أشاحت بوجهها عنها حينها وفي صمت ، يا ألهي ما هذه
المصيبة التي حلّت على رأسها فهي لا تعرف حتى طرق دفن
موتاهم ولا ما يقولون ولا أين ستذهب لكنيسة ما أم مكان آخر !
يكفيها ليلة البارحة المتلفة للأعصاب لما يصر على أخذها للأحياء
والأموات ؟
تنهدت باستسلام نهاية الأمر متمتمه
" حسنا أنا قادمة "
ودخلت غرفة تبديل الملابس تبحث عن المطلوب منها وشفتاها لا
تتوقف عن التذمر فهي بالكاد استطاعت أن تنام ساعات قليلة بعد
الفجر وتشعر بأنها متعبة وتعيسة وتريد أن تكون الميت لا من
المعزين فيه ، تأففت مستغفره الله بسبب أفكارها تلك وهي تنزع
الفستان الأسود من علاّقة الملابس ونزعت ثيابها ولبسته فهو
يوافق شروطهم كما أن طوله وصل لنصف ساقيها لكن المشكلة
أنه بدون أكمام وهو ما جعلها تقف أمام المرآة تنظر لنفسها تكور
شفتيها جانباً فلا فستان أسود غيره والسيد المبجل غستوني
مديتشي لا يحب غير الفساتين ، كما أنها لا تملك سترة أو
جاكيت باللون الأسود لتلبسها فوقه .
نظرت حولها ووقع نظرها على قبعة سوداء كبيرة وفي فكرة لا
تعلم ما تكون تلك أخذتها ووضعتها فوق رأسها وكأنها ستخفي
ذراعيها بها ! وما أن نظرت لنفسها في المرآة كانت الصدمة أنها
اعجبت بها بالفعل وكانت جميلة جداً مع الفستان وكأنها خرجت
من إحدى الرسوم المتحركة الإنجليزية القديمة ، وقررت أن
تذهب بها فهي سوداء وستساعدها على إخفاء ملامحها وهي
تخفض رأسها وإخفاء الناس عنها لأنها فعلياً ليست في مزاج جيد
لرؤية أحد ولا التحدث مع أحد .
ما أن ركبت السيارة وجلست بجانب الذي وجدته ينتظرها داخلها
توقعت أن يعلق على تأخرها أو قبعتها لكن ما لم تتوقعه هو ما
قال فور تحرك السيارة بهما
" كانت طريقة مغادرتك الحفل البارحة ليست لبقة مطلقاً "
كانت نبرته الباردة تعبر عن استيائه الفعلي بسبب ما فعلت فهي
غادرت بالفعل وطلبت من السائق أن يبلغه بعد أن يغادر بها من
هناك على الفور ، نظرت ليديها في حجرها وقالت بهدوء وإن
كان داخلها يتألم بشدة من مجرد ذكرى ما حدث
" كنت متعبة وبالكاد استطعت الوصول للخارج وأبلغت السائق
لكي يتصل بك ويخبرك "
قال الذي يبدو لم يقنعه تبريرها ولا أسبابها بينما بدأت نبرته
تتسم ببعض الضيق
" ليس نفسي أعني بل أصحاب المكان كان عليك توديعهم قبل
مغادرتك "
اكتفت بالصمت تشد على شفتيها بقوة كي لا تقول ما في قلبها
وتندم عليه فيما بعد ، وكان لصمتها ذاك ثمناً فقد قال الذي بدأ
الضيق يظهر عليه واضحاً
" لقد كنت بموقف سيء وأنا أودعهم وحيداً وأخبرهم بأنك
غادرتِ قبل وقت "
حررت شفتيها متنهدة برفق وقالت
" معك حق عمي أنا آسفة ولن يتكرر هذا مجدداً "
لكن يبدو أن أسفها ذاك لم يجد صداه لدى الذي قال بجدية
هذه المرة
" كان سابقاً وتكرر وأتمنى هذه المرة أن تكون الأخيرة بالفعل "
اغمضت عينيها بقوة ولازالت تحارب نفسها على الصمت ، ولأنه
عليها مسايرته لأنها طباعه التي تربى عليها كما يقول ابنه ولأنها
أيضاً ليست في مزاج للتحدث أكثر قالت مستسلمة
" أعدك "
وعلى هذه الكلمة انتهى الحديث بينهما ليعم الصمت السيارة حتى
وصلا البلدة والمقبرة المخصصة فيها ونزلت برفقته تنظر
للمكان حولها وهما يجتازا سورها فهي المرة الأولى التي تدخل
فيها مكان مماثل هنا في إنجلترا وإن كانت تراه في التلفاز كثيراً
لكن الأمر على أرض الواقع مختلف تماماً ، بل هو الشعور به
مختلف عن رؤيته في التلفاز أو عبر الانترنت !
المقبرة كانت قطعة أرض كبيرة يغطيها بساط أخضر جميل قد
وضعت فيه قطع جيرية عند كل قبر مكتوب عليها اسم صاحبه
فقط هكذا دون أي ارتفاع في الأرض ولا أضرحة ! سوى من عدد
قليل جداً تراهم من بعيد وبدأ عقلها يرسم صوراً يقارن المقابر
في بلادها أمام هذه وكادت تضحك فالمقابر هناك غالباً أرض قاحلة
يابسة والقبور بارزة فوق الأرض وصخور فوقها توضح جنس الميت
حسب تعاليم دينها ، وحار عقلها هل سيهتم الميت
للمكان المدفون فيه !! لا بالتأكيد فلن يكون معه هناك تحت
الأرض سوى عمله صالحاً كان أم فاسداً .
جعلتها تلك الفكرة تحضن نفسها وهي تسير خلفه عكس اتجاه
الهواء الذي كان يتلاعب بأطراف فستانها الواسع عند الأسفل
حتى أمسكت القبعة بيدها على رأسها خشية أن تطير وتراءى لها
تجمع بعيد لبعض الأشخاص حيث وجهتهم وعلمت بأنه المكان
المقصود وكان قريباً بعض الشيء من الجانب الآخر لسور
المقبرة يحده من جانبه مبنى كنيسة صغير بعض الشيء عرفته
من الصليب الموجود أعلاه وآخر قريب منه قديم وجدرانه باهتة
اللون ويبدو لكنيسة أيضاً لكنّها كانت أكبر بكثير من مجاورتها
وبثلاث أو أربع طوابق عالياً كما كانت تبدو مهجورة تماماً ، وما
لفت انتباهها وجعل نظرها كما الموجودين هناك يتوجه نحوها
هو تجمع الطيور الذي طار منها نحو الأعلى ممّا جعل الأعين
جميعها تحدق به والرؤوس تلتفت نحوه لحظة وصولهما !
وانشغلت عنه سريعاً بمصافحة عائلة الميت الذين تراهم للمرة
الأولى بينما اكتفت بالصمت تكاد تسير ملتصقة بالسائر جانبها كي
لا تضطر للتحدث بأشياء لا تعرف ماهي وتخطئ وتقع المصيبة
على رأسها .
وتنفست الصعداء ما أن انتهت مهمة مصافحة الجمع الصغير
هناك ووقفت بجانب غستوني تراقب المرأتان الباكيتان حينما
بدأوا بإنزال التابوت على صوت صلوات رجل يبدو من لباسه
كاهناً أو ما شابه ، وارتفع نظرها مجدداً ما أن طارت مجموعة
أخرى من الطيور من ذات المبنى وتساءلت بشكل غريزي هل
يحدث هذا هناك دائماً وبدون سبب أم أنه بفعل فاعل
أو لسبب ما !!
أبعدت نظرها عن المكان وأخفضت رأسها لتصبح عيناها
وملامحها خلف قبعتها السوداء لكن سرعان ما عادت ورفعته
ونظرت نحو ذاك المكان وكأن شيء ما في داخلها يجبرها على
ذلك ولم تفهم نوع ذاك الشعور !!
كان الجميع منشغل بمراسيم توديع الميت بينما كانت نظراتها هي
تبحث في النوافذ المقوسة هناك بعيداً وكأنها ترسم لها صوراً في
عقلها الباطن ! بل وكأنها تخترقها نحو الداخل ، وبينما كانت
الأنظار جميعها موجهة نحو التابوت الذي بدأ ينزل ببطء نحو
الأسفل نظرت هي ناحية غاستوني الذي كان يفصلها عنه شخص
واحد وكأنها توقعت أن يكون يراقبها وغاضب من تصرفها
وتعالت ضربات قلبها بجنون واتسعت عيناها مع توقف أنفاسها
وهي ترى بقعة الضوء الحمراء على قماش قميصه الأبيض من
تحت سترته السوداء المفتوحة تتلاعب بها الريح لتصبح تلك
البقعة ناحية قلبه وانتقلت نظراتها نحو البناء مجدداً وكأنها
تحاول التأكد ممّا تراه جيداً والتقطت نظراتها بالفعل هذه المرة
مقدمة بندقية القناص من طرف إحدى النوافذ عند الزاوية
واستطاع عقلها في جزء من الثانية استحضار الحقائق متتالية
بداخله والأصوات تتكرر فيه .
( تيم فقد عقله تماماً ولم يعد يستمع لأوامر أحد ويفعل كل ما
يفعله من نفسه )
( لعلنا نخرج من هذا المأزق ونحميه من نفسه ومن الموت
على يديهم )
( ستغادري هذه البلاد ماريا أحببت ذلك أم لا )
( ستغادري هذه البلاد ماريا أحببت ذلك أم لا )
وعند تلك الفكرة علم عقلها من سيكون الواقف هناك ومن قد
يفكر فعلها برجل تقاعد من البحرية الملكية قبل أعوام طويلة
وليس سوى رمز من رموزها القديمة ، وتخيل عقلها سريعاً ما
سيكون مصيره كما الجميع بل ومصيرها إن تهور وفعلها ، وفي
حركة لا تعلم هي إشارة من عقلها الباطن أم كانت بلا شعور منها
وفي خطوة واسعة جعلت الجميع يقف مذهولاً وهي تحتضنه لم
تهتم حينها سبقت رصاصته أم لا ورآها وتوقف أم لا ألمهم أنها
فعلت ما قاله قلبها قبل عقلها الذي تأخر قليلاً ليدرك بأن
الرصاصة التي لا صوت لها قد اخترقت جسدها بالفعل وبأنها
سبقتها بأجزاء قليلة من الثانية لتكون بينه وبين هدفه المحدد
بدقة قناص ماهر ، ورأت كل ذلك في عيني غستوني المصدومتان
وهو يحدق في عينيها قبل أن تشعر بألم قوي لم تعرفه حياتها
في جسدها الذي تهاوى بين ذراعيه ولازالت عيناها المتسعة
تنظر لعينيه وهي تسقط ببطء نحو الأسفل .
********
المخرج :~
بقلم : Hanita
❤زيزفون❤
أسيرة أنا فمتى أتحرر؟!!
أسيرة ماضٍ أقسى من الحجر
أسيرة عذاب سنين و ألم و قهر
أسيرة ذكريات مريرة طبعت بهيئة صور
أسيرة طفولة باتت ضحية لشر قد انتشر
فمن ينقذني و هل حقاً أريد أن أتحرر؟!!
أم أنني أسعى لانتقام كالجحيم إذا استعر؟!!
*******
نهاية الفصل التاسع والعشرون
|