لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

قصص من وحي قلم الاعضاء قصص من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11-08-24, 11:13 PM   المشاركة رقم: 1781
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 



*
*
*

عبرت السيارة شوارع حوران وهي على صمتها كما لم يحاول
هو كسره بينما نظراتها تراقب الأبنية وحركة الناس من حولها
وكأنها لا ترى شيئاً منها ولا تنكر بأن السبب هو كل ما حدث
هناك وتركاه خلفهما وإن كانت ترفض التحدث عنه ومن أجله
فقط ، لكنها لم تستطع أيضاً التحدث عن أي شيء آخر والابتعاد
عن مشاكل والديها وما يحدث معهما .

تحرك رأسها نحو الخلف ما أن غادرت السيارة المدينة وكأنها
تتأكد من ذلك قبل أن تنظر نحوه وقالت مستغربة

" لقد غادرنا حوران ! "

ابتسم ونظر نحوها وقال بضحكة صغيرة

" لا أعرف واحدة تخاف من زوجها ! "


تجهمت ملامحها قبل أن تضرب ذراعه بقبضتها وقالت بضيق

" ومن قال بأني خائفة ؟ هل أخاف ممن غامر بحياته يوماً
لإنقاذي "


ضحك وقال يدير المقود جانباً

" كنت أمزح فقط لا تغضبي فها قد وصلنا "

وما أن اجتازت سيارته الأرض الترابية وظهر لها بوضوح
السياج الجديدي المرتفع نظرت حولها وقالت مندهشة

" هذه المزرعة لك ! "

توقفت سيارته أمام بابها العالي وقال

" أجل فلست ممن يعشق الحياة في المنازل المغلقة "

واستدار نحوها وهو يضع ساعده على المقود وتابع بابتسامة
جانبية

" كما أننا بحاجة لمثل هذا المكان من أجل أطفالك الذين تنوين
انجابهم كالمسبحة "

كلماته تلك جعلتها تضحك ودون توقف في وقت آخر ما تفكر فيه
هو الضحك حتى اتكأت بظهرها على ظهر الكرسي ونظرت نحوه
ما أن هدئت وقالت بابتسامة لعوب

" بلى وسأنجب حتى أبلغ الأربعين عاماً "

وعادت للضحك بسبب نظراته المتسعة ورد فعله المصدوم قبل أن
ينفجر ضاحكاً أيضاً وقال من بين ضحكاته

" وكم سيتوقف هذا بين كل طفل والآخر ! "

أدارت عينيها بتفكير وقالت تمسك ضحكتها

" يكفي عامان "


ونظرت له ضاحكة وهو يعد بأصابعه قبل أن ينظر لها وقال
بضحكة

" لا بأس بهذا فالناتج هو ثمانية أبناء "

عادت للضحك فثمانية أبناء عدد كبير لكن بالمقارنة بما كان
يتوقعه بات يراه عدداً لا بأس به ، لكنُها أيضاً لم تتركه يفرح بها
وقد قالت بابتسامة ماكرة

" لا هما عامان مع الحمل الآخر "

قال بعينين متسعة

" هكذا أصبحوا اثنى عشر "

ضحكت وقالت بصعوبة بسبب ضحكها

" حسناً لا بأس "

ضحك أيضاً وفتح باب السيارة وقال وهو ينزل

" يلزمنا مزرعة أخرى مع هذه إذاً "

ضحكت دون أن تعلق وفتحت بابها ونزلت وتبعته تسير بجانبه
تستغرب أن ترك السيارة خارجاً ولم يدخل بها بدلاً من السير على
قدميهما ! وما أن أصبحت في الداخل علمت السبب وهي ترى
المنظر متسعاً أمامها بدلاً من نافذة السيارة ووقفت تنظر مبتسمة
بسعادة للأرض الواسعة والأشجار المتفرقة فيها ومنزل كبير
بطابقين يقف شامخاً بلونه الأبيض النقي عند الجانب الأيمن
قريباً من البوابة ، لكن ما لفت نظرها أكثر هو الجانب الآخر
وساحة الخيول التي كانت تتحرك فيها خمسة منها وقالت
مندهشة تشير بسبابتها

" وهذه لك أيضاً ! "

نظر نحوها وقال مبتسماً

" بل لنا معاً "

فابتسمت له بحب تلمع زرقة عيناها الباهتة تحت أشعة الشمس
بينما فرد ذراعاه جانباً وقال بابتسامة متسعة

" لا شيء في هذا الوجود لي وحدي كل شيء لنا معاً فلا تقولي
كلمة لك مجدداً "

قفزت نحوه وحضنت خصره بقوة وقالت تدفن وجهها في صدره

" وأنت أيضاً لنا معاً إذاً "

ضحك وضمها بذراعيه وقال

" ومنذ اليوم الذي التقيتك فيه أول مرة "

ابتعدت عنه ونظرت لعينيه وقالت بابتسامة مشاكسة

" لو علمت عن عمري الحقيقي حينها كانت أمور ما ستتغير ؟ "

ابتسم ابتسامة جانبية وقال

" بالتأكيد "

وهو ما جعل عيناها تتسع لكنّه سبق هجومها المتوقع قائلاً

" لكني وقعت وانتهى كل شيء حينها وبات جنوني بك يفوق
جنون التفكير في سؤالك "

ومن قبل أن تعلق على ما قال أمسك بيدها وسحبها منها قائلاً

" تعالي نقترب منهم "

كانت عيناها تلمعان بسعادة وهي تنظر للفرس التي كانت تركض
في نشاط مختلف عن البقية وقالت وعيناها لا تفارقانها بينما
يقتربان من هناك

" هل تحب تربيتها ؟ "

نظر نحوها وإن كانت لا تنظر له وقال مبتسماً

" لا هي لم تكن شغفي يوماً لكن علمت بطريقة ما أنه ثمة من
بكت كثيراً وهي طفلة لتركبها "

توقفت خطواتها حينها قريباً من السياج الخشبيّ ونظرت نحوه
مصدومة قبل أن تقول بضيق

" مؤكد جدي دجى من أخبرك بهذا لأنه من أخبرته حينها
ليقنع والدي "


اكتفى بالابتسام دون أن يعلق أو ينفي الأمر بينما تقدمت خطواتها
نحو السياج الذي أمسكت أعلى خشباته بيديها وقالت بحزن تنظر
نحو تجمع الخيول الثلاثة

" كم تمنيت أن التحقت بنادي فروسية لكنّه رفض والسبب هو
سلامتي في تلك البلاد "


وقف بجانبها وأراح ساعده على كتفيها ونظر نحوها وقال مبتسماً

" كان محقاً ، أمّا الآن فيمكننا تحقيق كل ما تمناه قلبك يوماً "

نظرت لعينيه بحب تمنت أن عبّرت عنه بأي شيء فقد عجز
لسانها عن قول ما يستحقه ، وعلى الرغم من أنه نظر نحو
الخيول مجدداً وبات ما يقابلها هو نصف وجهه فقط لم تستطع
إبعاد نظراتها عن ملامحه الرجولية الوسيمة وتساءلت إن لم
يكن موجوداً في هذه الحياة أكانت ستجد رجلاً مثله ولن تقول
أفضل منه ؟ إن تركته وانتظرت حتى تكبر وتختار بنفسها كما
يقولون هل ستجده حينها في رجل غيره ! هو حتى لم يفكر يوماً
في تقبيلها وهي زوجته ويحل له هذا من شدة حرصه عليها فأي
فرص أخرى هذه التي ستكون في انتظارها ؟!

راقبته نظراتها وهو يبعد ساعده عنها ويضع قدمه على أحد
أخشاب السياج السفلية وبقفزة واحدة أصبح في الداخل ومد يده
لها قائلاً بابتسامة

" تعالي ثمة مفاجأة "

أمسكت بيده وهي تصعد أيضاً وما أن أصبح جسدها في الأعلى لم
يتركها تفعلها بنفسها وتقفز بل أمسك بخصرها ورفعها وأنزلها
أمامه وتبع نظرها سبابته وهو يشير بعيداً وقد قال

" هل تري تلك الفرس البُنّية هناك ؟ "

نظرت حيث الفرس التي لفتت انتباهها سابقاً وقالت

" نعم "


عاد ونظر لعينيها وقال مبتسماً

" إنها من سلالة الفرس التي دخلت بها والدتك حدود الحالك "

كان متحمساً لرد فعلها على مفاجأته تلك لكن ما حدث خان جميع
توقعاته والابتسامة تختفي عن ملامحها وهو ما جعله يتنهد قائلاً

" لا تعبسي هكذا فإن لم تفعلها ما كنت لأكون واقفاً معك هنا "

ولم يجعل ذلك لمعة الحزن تختفي من عينيها وهي تقول بأسى
بينما نظرها هناك حيث الفرس التي كانت تصهل وهي تقف على
قدميها الخلفيتان فقط

" تذكرت حين تمنت بحرقة أنها لم تفعلها ولم تدخل الحالك
تلك الليلة "

حرك كتفيه قائلاً بقلة حيلة

" كانت زوجته ومصيرها إليه دخلت حدوده أم لم تفعلها "


نظرت لعينيه حينها وقالت بأسى حزين

" لم أكن أتصور ردة فعله اليوم .. لقد فاجأني ! "

ابتسم ابتسامة جانبيه وقال

" هذا لأنه لازال يحبها "

ارتسم الاستغراب على ملامحها بينما عاد هو للابتسام قائلاً

" ويفترض بأن هذا سيسعدك "

تنهدت بأسى وتمتمت محبطة

" تبدو واثقاً ! "

ظهرت ابتسامة الثقة حينها فعلياً على ملامحه وقال يومئ
برأسه مؤكداً

" أجل فالغضب هو الحب ذاته ، وإن كانت لم تعد تعني له شيئاً
ما كان لينفجر غاضباً لأنها اعتذرت من والدها وتجاهلته "


وتابع من فوره حين لم يجد غير الحزن في عينيها المحدقة بعينيه

" من يحب يا تيما عندما يتوقف عن حب ذاك الشخص يعامله
وكأنه إنسان عادي ممن يعرفهم وفي جميع انفعالاته ، ولكِ أن
تتخيلي لو أن شخصاً عابراً أخطأ في حقه ولم يعتذر منه هل كان
سيكون رد فعله هكذا ؟ "


عبست ملامحها الجميلة بطفولية تشبهها وتمتمت

" مع شخصية والدي اجزم بأنه سيعتبره شخصاً لا وجود له "

ابتسم وقال

" ها هي أنتِ تجيبين عن نفسك "

تقوست شفتاها بحزن وقالت

" وإن فعلت هل كان ليغفر لها ! "

وكما توقعت وقتلها به حرك رأسه بالنفي قائلاً

" لا قطعاً وهو لم ينتظر اعتذارها ذاك كما قال بالفعل "

وهو ما جعلها تتنهد بحزن وهي تبعد عيناها الدامعة بعيداً تحارب
تلك الدموع كي لا تنزل بينما لم يخفى عنه هو كل ذلك ولأنه عليه
قول ما لديه وعليها معرفته واستيعابه تابع قائلاً بجدية

" جرح كبرياء الرجل ليس سهلاً فكيف برجل مثل والدك ؟ إنه
يشبه ضربة الزلزال القوي في وسط المحيط "

عادت ونظرت له وهمست ببحة بكاء خفي تحاكيه الدموع
السابحة في عينيها

" والنتيجة هي تسونامي يدمر كل شيء "

زم شفتيه متنهداً بقلة حيلة قبل أن يحررهما قائلاً

" نعم وحتى إن كان يعلم بأنه جزء من ذاك الخطأ لكنّه الآن لا
يشعر سوى بالمهانة والخذلان وبأنها من أخطأت في حقه "

عادت ملامحها الفاتنة للعبوس وتمتمت

" لما معقدون أنتم الرجال هكذا ! "

وهو ما جعل الضحكة المكتومة تعبث بتفاصيل صدره فهي لا
تفوت فرصة لا تشمله فيها ، ارتفعت يده لوجهها وقرص خدها
قائلاً بضحكة

" بسببكن بالتأكيد "

أبعدت يده بحركة من رأسها وقالت بسخرية غاضبة

" حقاً ! "

لم تغادر الابتسامة وجهه وهو يرفع سبابته مقابلة له بينما قال

" تعقيدات الرجل جميعها مجتمعة لا تساوي شيئاً أمام عقدة
واحدة من عقدكن "


ضربت قدمها الأرض قائلة بضيق

" كاذب "

ضحك وأمسك بيدها وقال ينهي الحديث في الأمر وهو يسير بها

" هيا تعالي نختبر مهارتك الفطرية في ركوبه "

فقالت تجاري خطواته وبنبرة مستاءة

" لا تتحداني كي لا تندم "

ابتسم بحب فها هي كما عرفها وأكثر ما يعشق فيها يمكنك أن
تنهي الحديث معها في الأمر متى ما أردت أنت ومهما كانت
أهميته بالنسبة لها إلا أنها ستحترم رأيك في التوقف ، صفات
كثيرة لازالت وفي كل يوم تفاجئه بها ليعلم موقناً بأنه لن يجدها
في أي امرأة من نساء الأرض .

ما أن وصل لنصف المكان حتى توقف ونظر للفرس التي عادت
للركض مجدداً وكأنها تكره فعل غير ذلك ورفع يده لشفتيه وصفّر
بشفتيه صفيراً مرتفعاً ولا شيء تغير وهو ما جعل الواقفة بجانبه
تنظر له وقالت بابتسامة ماكرة

" يبدو أنك فشلت في ترويضها وتدريبها "

ضحك وقال يشير برأسه نحوها

" هيّا افعليها أنتِ "

وكما توقع لم تمانع أو تقول كالمشابه في مثل هذه الموافق وبأنه
لم ينجح هو لتفعلها هي وهي التي تراها للمرة الأولى بل رفعت
يدها وأصدرت بشفتيها وأصابعها صفيراً مرتفعاً وانفتحت عيناها
على اتساعها وفغرت فاها مندهشة حين توقفت تلك الفرس فجأة
واستدارت بحركة واحدة وركضت نحوها وهو ما جعلها تصرخ
بحماس وصاحت تصفق بيديها

" يا إلهي لقد نجحت "

قال الذي نظر لها مبتسماً

" هذا لأنها مدربة على صوت صفير الأنثى فقط "

تغضن جبينها وقالت باستغراب

" من دربها ؟! "

حرك كتفه وقال

" امرأة بالطبع "

عبست ملامحها فجأة ورمقته بتلك النظرة الأنثوية الشرسة وهي
تمسك خصرها بيديها وقالت

" من تكون ! "

وهو ما جعله يضحك ممّا زاد وضعها سوءاً لكنّه أنقذ نفسه
والموقف سريعاً وقد قال مبتسماً

" أنا لم أرى هذه الفرس سوى من أيام فقط "


أدارت وجهها قليلاً بينما لازالت حدقتاها الزرقاء تنظر نحوه
ورمقته باتهام متمتمه

" ينتابني الشك حيال هذا "

ضحك مجدداً وقال ويده تمسك اللجام ونظره على الفرس أمامهما

" يمكنك سؤال والدك عن هذا "

" والدي ! "

همست بها باستغراب فنظر نحوها وقال

"أجل فتلك الفرس من ممتلكاته منذ الليلة التي قبض عليها فيها"

لم يزدها توضيحه ذاك إلا حيرة وقالت

" هل يملك والدي خيولاً هنا ويربيها ! "

قال الذي بدأ يتأكد من سرج الفرس وبأنه مثبت جيداً

" لا لكنّه وضعها عند من اهتم بها وعند عودته سلمه ذاك الرجل
كل السلالة التي أنجبتها وأصر على أنها له بينما ابنته الشغوفة
بالخيول هي من تولى مهمة تدريبها "


كانت تنظر له ببلاهة فأي امرأة هذه التي تدرب الخيول على
الاستجابة للإناث فقط ! انتشلها من فضولها وأفكارها الذي مد لها
حبل اللجام قائلاً بابتسامة جانبية

" هيّا أرني أفضل ما لديك "


أخذته منه وقالت ببرود

" أخبرك دائماً أن لا تسخر من قدراتي "

قال يراقبها مبتسماً

" بلى واثق منها فالأمر يحتاج فقط للشجاعة والثبات "

قالت وهي تثبت قدمها في الركاب

" الأمر أسهل ممّا توقعت إذاً "

ابتسم على عبارتها تلك وهو يمسك بخصرها وهي تمتطيها وكأن
قلبه أمره بذلك دون شعور منه يخشى عليها من الوقوع حتى
والفرس واقفة في مكانها ! وإن كان باستطاعته فلن يسمح لها
بركوبها وحيدة لكنّه أيضاً لن يتعامل معها إلا كما هي امرأة تعلم
جيداً حدود قدراتها دون أن يوجهها أحد .

لكن ما لم يستطع منع نفسه عنه ما أن ضربت قدمها خاصرة
الفرس أن قال صارخاً وهي تنطلق بها

" لا تجعليها تركض بسرعة كبيرة فلستِ مدربة يا تيما "

لكن ما رآه كان عكس ذلك وهو ما جعل ابتسامته تتسع وهو ينظر
بذهول للتي كانت تجلس فوقها بثبات وظهر مستقيم رغم
انحنائها نحو الأمام قليلاً وهي تركض بها وكأنها تركبها منذ
نعومة أظافرها وليس اليوم فقط ! بل وكأنها تكتسب مهارة
الشيء فقط لأنها ترغبه وتحبه ! بينما همست شفتاه مبتسماً

" سليلة آل الشاهين ما ستتوقع منها مثلاً ؟ "

*
*
*

لامست أصابعها الزهرة الصغيرة تتحسس أوراقها الناعمة بينما
كان نظرها يهيم في الفراغ بشرود تجلس في حديقة المنزل فهي
لم تستطع البقاء في غرفتها أكثر من ذلك تتآكلها أفكارها حتى
تكاد توصلها لحافة الجنون لذلك تكابدت على ألم قدميها ونزلت
السلالم وجلست هنا وإن لم يختلف وضعها عن هناك كثيراً سوى
في استمتاعها بالنظر للطبيعة الجميلة واستنشاق رائحة الزهور
أما ما في القلب والعقل لن يتغير قريباً أو مطلقاً كما تجزم .

مسحت عيناها بقوة قبل أن تتسرب أي دموع منهما فلن تبكي
عليه .. لن تبكي رجلاً استبدلها بامرأة أخرى وإن كان يعتقد
بأنها خانته فها هي افترق طريقهما كما خططوا لهذا تماماً
وخسرته وللأبد وكل شيء معه ، كل شيء حملته من ماضيهما
وحتى الأشياء التي احتفظت بها لديها لأعوام احترقوا مع تلك
الشقة وفي تلك الليلة ، بل وحتى الرسمة التي أهدتها لها زيزفون
تحولت لرماد أيضاً لتغادر عالمه وحيدة خالية من كل شيء ،
وهذا ما عليها أن تكيف نفسها عليه من اليوم وصاعداً .

وقفت على طولها فجأة واستدارت نحو الخلف ما أن شعرت
بالخطوات التي اقتربت منها وجاهدت نفسها بصعوبة لترسم
ابتسامة على شفتيها تهديها للذي قال مبتسماً يقترب منها


" حين علمت من ربيكا أنك تجلسين هنا سعدت فعلاً فأنا أكره
عزل الشخص لنفسه في مكان واحد "


أمالت طرف شفتيها وقالت تنظر لعينيه

" ربيكا ليست ثرثارة فقط بل وجاسوسة أيضاً "

ضحك كثيراً وقال

" لكنّها امرأة بقلب طيب محب ، هل تنكرين هذا ؟ "


حركت رأسها مبتسمة وقالت

" لا قطعاً "

اكتفى بالابتسام والنظر لعينيها وإن كانت بالكاد تفتحهما بسبب
نور الشمس المقابل لها وقال أخيراً

" لما تغلقين هاتفك ! حاولت الاتصال بك لأطمئن عليك ووجدته
مقفلا ! "

اختفت الابتسامة من شفتيها وقد تابع هو سريعاً وضحكة صغيرة
تخللت كلماته

" يرضيك إتعابي بالقدوم من نورثود إلى هنا لأطمئن عليك ؟ "

حاولت جاهدة كي تخفي صدمتها بما قال وقالت أخيراً محرجة
بينما هربت بنظراتها منه

" أنا آسفة فيبدو أنه تعطل "


كانت تكذب لكن لا حل آخر أمامها فهي لم تحاول ولا فتحه لتعلم
إن تعطل فعلاً أم لا ولا رغبة لديها في فعل هذا ولا تريد أن ترى
الخبر وصورهما في كل مكان فهي تحتاج لبعض الوقت لتجتاز
الأمر ويقتنع قلبها قبل عقلها به ، قال الواقف أمامها مستغرباً


" لما لم تخبريني لأحضر لك غيره أو تشتري بنفسك واحداً
من البلدة ؟! "


اكتفت بالصمت والهرب من مواجهة نظراته ولم تعرف ما تقول
ولم تجد كذبة جديدة لصوغها ، وأنقذها أن قال دون انتظار لردها


" حتى أنك لم تخرجي لرؤيتها أبداً ! "


وهنا كانت الورطة الجديدة وليس إنقاذاً لها فرفعت نظراتها لعينيه
مجدداً وما أن أبعدت شفتيها لتتحدث وإن كانت لا تعلم بما
ستتحجج سبقها قائلاً وكأنه تذكر فجأة

" آه أجل كيف هو وضع قدميك ؟ "

قال كلماته تلك وهو ينظر لهما في الأسفل فابتسمت بارتياح وكأنه
أزال جبلاً يجثم على صدرها فمرونة هذا الرجل تجعله ينسى
وينتقل من حديث لآخر بسهولة ! قالت سريعاً


" أفضل بكثير "


رفع نظره لها وأمأ برأسه في ابتسامة رضا لكن سرعان ما
اختفت تلك الابتسامة وظهر جمود غريب على ملامحه جعلها
ترتاب لبرهة حتى أكدت كلماته ما يحدث داخله حينها وقد قال
بجدية ينظر لعينيها


" لن نتحدث عمّا حدث ليلة البارحة بما أنك ترفضين ذلك لكن لا
أريدك أن تحزني بسبب أي شيء وأي شخص وأنتِ فرد من
عائلة مديتشي ، كل ما عليك قول ما يزعجك فقط ماري "


كانت كلماته الأخيرة أقل حدة وأكثر ليناً وهو ما جعل بريق عيناها
يضيء وكأنهما قطعتا ذهب تغوصان في الماء وضاعت الكلمات
منها وهي تبتسم له بامتنان بينما ألم خفي يحرق قلبها فكم تمنت
أن سمعت هذا ممن يعرفونها كمارية هارون وليس ماري دفسنت
فهي لا تعرف فتاة تفتقد لوالدها مثلها ، للسند والظهر والأمان
المطلق دون تغيير ولا شروط ، تجاوزت كل تلك المشاعر
بمواجهة نفسها بالحقيقة القاسية وبأنه لا وجود لذاك الأب ولم
ولن يكون له وجود وهمست ببحة وكأنها تحاول البحث عن
الحروف لإخراجها بينما عيناها تنطق رقة وامتنان خالطه كل ذاك
الحزن الخفي

" شكراً لك فاليريو "


وهو ما جعله يبتسم ابتسامة متسعة وقال بضحكة صغيرة

" لا تنظري لي هكذا كي لا أقع في غرامك "


وضحك سريعاً على رد فعلها وعيناها المتسعة وكأنها تلقت فاجعة
ما للتو وهو ما جعله يقول ضاحكاً


" كنت أمزح فقط "


وقال سريعاً وكالعادة يغير مجرى الحديث بكل أريحية وسهولة


" ما رأيك في نزهة ستعجبك كثيراً وتنسيك كل ما يحزن هاتان
العينان الجميلتان ؟ "


تلعثمت بداية الأمر بسبب تفاجأها بطلبه ولأنها لا ترغب في فعل
أي شيء فعليّاً قالت متحججة


" أخشى أنَّ وضع قدماي لن يساعد في هذا "


حرك كتفاه وقابل هو كل ذلك بابتسامة قائلاً


" عذر جميل لرفض عرض رجل "


قالت سريعاً مبررة

" لا أبداً فاليريو فأنا ... "


وتوقفت لأنه قال مقاطعاً لها


" لا بأس أفهمك ماري ، أنا فقط أريد أن تغادري المكان هنا
سيشعرك ذلك بتحسن كبير "


أراحها أن الابتسامة لم تغادر شفتيه وهو يقول ذلك ممّا يعني
بأنها لم تغضبه أو تجرحه فقالت

" سألتحق بالجامعة قريباً وسيتغير كل هذا "


رفع كفه قائلاً بابتسامة ودود

" أجل آمل ذلك "


كان واضحاً عليه تقبله للأمر وهو ما رفع عن قلبها عبئاً ثقيلاً ،
ولتنهي الحديث عن الأمر قالت تنظر لعينيه

" أعتذر إن تسببت لك بمشكلة مع عمي غستوني "

قالت كلماتها تلك باعتذار واضح فهو لازال يعالج جميع أخطائها
وما يراه ذاك الرجل سوء تصرف ليدفع هو الثمن ، وكالمعتاد من
شخصيته التي باتت تعرفها جيداً ابتسمت شفتاه وقال

" لا عليك لقد انتهى الأمر "

وظنت بأن الأمر انتهى بالفعل أخيراً لكنُه كان له رأي آخر وقد
تابع وذات الابتسامة لم تفارق شفتيه
" وسنصلحه في الحفل القادم "

" لا أريد الذهاب "

قالتها سريعاً مندفعة ودون شعور منها حتى أنُ الصدمة علت
ملامحها مثله تماماً لكنّها سرعان ما تداركت الأمر وقالت

" أنا ... أنا وابنته لم نتفق يوماً ولا أفضل الذهاب لهم "

تغير ملامحه حينها للتفكير العميق جعلها تطمئن قليلاً فقد بدى
وكأنه يحاول فهم الأمر وقال أخيراً

" لكنّ الأمر متعلق بوالدي ولن يعجبه هذا أبداً ، تعرفينه يكره
التصرف بغير لباقة "

تنهدت حينها بأسى متمته

" اللباقة خط أحمر سيء لديه "

ضحك فاليريو وانحنى نحوها قليلاً وهو يقول

" لو يسمعك لن يعجبه هذا فهو يحبك كثيراً "

قالت سريعاً مدافعة عن نفسها

" لم أقصد هذا لكن يفترض بأنه لي رأي على الجميع احترامه "

حرك كتفيه وقال ببساطة

" ثمة أمور تتخطى احترام الذات بالنسبة لوالدي خاصة مع مكانة
ذاك الرجل وأنك القريبة الوحيدة لنا هنا وتعيشين معنا "

أشاحت بوجهها جانباً ولم تعلق فهي لا تريد الذهاب ورؤيتهما معاً
يحتفلان بزواجهما ، أهون لديها أن تموت على أن تفعلها فلن
يحتمل قلبها رؤية ذلك تعرف نفسها جيداً ، أعادها من أفكارها
وصراعها المميت مع دموعها بسبب أفكارها تلك صوت فاليريو
الهادئ وقد قال

" عليك أن تواجهي لا أن تهربي ، المواجهة قوة والهرب
ضعف ماري "

وهو ما جعلها تنظر نحوه بحركة سريعة وقالت

" ماذا تعني بهذا ؟! "

كان رد فعلها هجومياً وهو ما جعله يأخذ وضعية التوجس مبدئياً
حتى قال مستغرباً

" أعني مشاكلك مع لوسي بالتأكيد فما الذي فهمته أنتِ "

أبعدت نظرها عنه وسحبت نفساً عميقاً لصدرها توبخ نفسها على
غبائها وتسرعها ولا تعلم ما بها ! لا بل تعلم فكم سيتحمل هذا
القلب ؟ قسماً أنها تشعر به يتمزق ولازالت تعيش ليلة البارحة
وكأنها الآن ، قالت تنقذ نفسها والموقف وهي تجبر نفسها على
النظر لعينيه مجدداً

" لم أفهم شيئاً لهذا سألت "

ابتسم وكأنه يقول حسناً لا يُهم وقال بعدها وبجدية بدت واضحة
في صوته

" لوسي امرأة ضعيفة قوتها في نفوذ والدها فقط أنتِ أقوى
منها بكثير "


" أنا ! "


قالتها باستغراب ودون شعور وكأنها لا تتوقع أن يفعلها ويقول
ذلك أو يفكر فيه وهو ما جعله يتخذ وضع الاستغراب أيضاً وقال

" أجل فمن هذا الذي أخبرك بأنك امرأة ضعيفة ! "

زمت شفتيها ولم تستطع غير التعبير بنظراتها المتأسية فمن هذا
الذي قال لها بأنها قوية من قبل ! كم اسما ستذكره له ؟ ابتسمت
شفتاه فجأة على ملامحها وقال

" قوة المرأة ليست في جسدها ولا تصرفاتها ولا صراخها
وتعاملها بوقاحة وعنف ماري ، قوتها في تحديها لنفسها وفي
اجتيازها للصعاب وحيدة والوقوف دون الحاجة لأحد "


تنهدت عند ذلك تبعد نظراتها عنه فإن كان الأمر يقاس بهذا فهي
الأقوى على الإطلاق لأنها لم تعرف يوماً سعيداً وحين وجدت تلك
السعادة وإن كانت محفوفة بالمخاطر سرقوها منها بغير أي وجه
حق ، عادت ورفعت نظرها له ما أن قال حين طال صمتها

" سمعت سابقاً أموراً عنك حين كنتِ في إيطاليا لكن حين التقيت
بك وعرفتك آمنت بأنها ليست حقيقة فلن تفعل فتاة رقيقة مثلك كل
ما أخبروني عنه "

شعرت بالدماء تجف في عروقها وهو الشعور ذاته كلما تحدثوا
عن تلك الفتاة أمامها ، ولتمنع توترها الواضح نظرت ليديها
التي تمسكهما معاً وقالت بكل ما استطاعت من هدوء

" نحن لا نصدق كل ما يقال "

وصلها صوته مختلطاً بضحكة صغيرة

" أجل آمنت بهذا الآن "

وعادت ورفعت نظرها له ما أن تابع قائلاً

" عليّا المغادرة الآن وفكري في حديثي جيداً فأنا أريد أن أراك
في الحفل قريباً "


شعرت بضربات قلبها تؤلمها وكأنها سكين حاد ما أن سمعت كلمة
حفل ، ولتهرب من الحديث في الأمر قالت بشبه ابتسامة ونظرات
امتنان

" شكراً فاليريو أنت رجل رائع جداً "

ضحك فجأة وقال

" أخبرتك أن لا تحاولي إيقاعي في غرامك "

كانت ضحكة متفاجئة رد فعلها أيضاً وقالت

" يا إلهي أنا لا أقصد هذا "

قال مبتسماً

" وأنا أمزح فقط هيّا لا تصدقي هذا "


وتشاركا الضحك معاً هذه المرة وكم شعرت بتلك الضحكات التي
تغلبت عليها تطبطب على جراحها النازفة وتطفئ النار المشتعلة
في قلبها وإن بشكل مؤقت فقط ، أي فتاة في الوجود ستكون
الأسعد إن وقع في غرامها بالتأكيد لكن معها هي تتمنى أن تبقى
مجرد مزاح كما قال ليس لأن قلبها الغبي متعلق بذاك الأحمق بل
لأنهما من عالمان مختلفان وهو ما يجهله هذا الشاب وليست
الشخصية التي يعتقدها بل فتاة أخرى غريبة عنهم كاذبة
ومخادعة سينصدم بحقيقتها .

*
*
*
ما أن انتهت من ترتيب المطبخ الذي تمهلت فيه بكل ما تستطيع
بل وقامت بتنظيفه بالطريقة التي تعشقها والدتها وتمنت طوال
حياتها أن تجدها فيها ! ها هي فعلتها الآن وبكامل قواها العقلية
تحاول تمديد الوقت بقدر الإمكان لتدخل الغرفة وتجده نائماً لأنها
تكره الاحتكاك به وحدهما وأن يتكرر حوار ليلة البارحة ،
واكتشفت بأنها تعشق اللحظات التي تكون فيها والدته معهما
بالرغم من نظراته الباردة كلما التقت عيناهما لكنّها السد المنيع
بين فتح أي حوار مشابه معه وكانت تشعر بأنها في منطقة
الأمان لكنْ الآن لا يمكنها النوم معها ولا بأي حجة .
مسحت يداها في منشفة المطبخ بحركة غاضبة متمتمه

" ما بك جبانة وحمقاء على غير العادة هكذا ! "

غادرت بعدها المكان وتوجهت نحو باب الغرفة وفتحته ودخلت
ووقع نظرها على الذي كان شبه مستلقي على السرير يدير
ساعده خلف رأسه ويمسك باليد الأخرى هاتفه ومنشغل به بينما
كان ينصب ساق فوق الأخرى وقد غير ثيابه ببنطلون رياضي
تحت الركبتين بقليل وقميص قطني أسود اللون طبعت عليه كتابة
بيضاء عريضة ويبدو من لمعان شعره الأسود أنه استحم قبل
قليل ، حركت شفتيها بامتعاض فها قد تبخرت أمنياتها في أن
تجده نائماً ، وأي نوم في هذا الوقت إن لم تكن حمقاء فالساعة
لم تصل ولا منتصف الليل !

أغلقت باب الغرفة في صمت تام وتوجهت ناحية باب الحمام الذي
ما أن دخلته حتى وقفت تمسك خصرها بيديها وهي ترى
الفوضى العارمة والتي تبدو متعمدة فكيف كان يستحم سابقاً ولا
خادمة لديهم للتنظيف ؟ أجل بات لديه خادمة الآن فلما سيهتم
بفعل كل هذا ؟ وإن يكن فلما كل هذه الفوضى والأنانية ! كانت
ستخرج له لكنها وقفت مكانها وأغمضت عينيها وبدأت بالعد
حتى رقم عشرة وشعرت حينها بالغضب في داخلها يخف تدريجياً
فأغلقت الباب دون أن تصفقه بقوة وتناوله مراده وكم حمدت الله
أنها تعقلت فإن هي ثارت وغضبت بالحديث معه أو بدونه سيتعمد
فعلها دائماً لكن حين سيكتشف بأن مخططه قد فشل لن يفعلها
مجدداً ، ومهما كررها في المرات القادمة فسيتوقف نهاية الأمر .

رتبت الحمام أولاً ثم استحمت ونظفت الأرضية وأعادته كما كان
تماماً وغادرت بعدها لا شيء يغطي جسدها غير المنشفة
الخاصة بالاستحمام وتوجهت للخزانة دون أن تنظر ناحيته ولا
من باب الفضول وأخرجت ثيابها وعادت ناحيته مجدداً .
حين غادرته كانت تلبس بيجامة ناعمة من الحرير الصناعي
ذو جودة عالية وكان بنطلونها قصيراً كما أكمامها وكانت بلون
زهري فاتح يشبه لون وجنتيها وهي تغادر المياه الفاترة للتو ،
توجهت لطاولة التزيين ورشت القليل من عطرها ، ولأنه انتهى
كل شيء توجهت نحو السرير والجالس عليه لازال على وضعه
السابق فجلست في جهتها وأمسكت هاتفها توليه ظهرها بينما
حواسها جميعها معه ، ضبطت المنبه ووضعت الهاتف على
الطاولة الجانبية للسرير واتكأت على ظهره ورفعت قدميها فوق
السرير وسرقت نظرها ناحيته وكان على حالته ذاتها ! مدت
رأسها قليلاً وفي نيتها رؤية ما يشغله لهذا الحد فقلب هاتفه بحركة سريعة على فخذه ، وما أن نظرت لعينيه كان ينظر لها
نظرة قاتمة وكأنه يقول ( جاسوسة وقحة ) لكنّها تجاهلتها
وتجاهلته وهي تنظر للأمام ، وما أن أمالت مقلتيها جانباً وجدته
لازال على وضعه ينظر ناحيتها ، وما أن عادت وأبعدت عينيها
عاد لوضعه السابق بل وأمال يده قليلاً ليصبح ما يقابلها هو ظهر
هاتفه فرمقته بضيق بينما كان ينظر للشاشة أمامه دون اهتمام ،
وما هي إلا لحظات وابتسم وبدأ إصبعه بالكتابة عليها فضيقت
عينيها ولا تعلم هل يتعمد فعل هذا أم أنه يتراسل مع امرأة ما !
نظرت للجانب الآخر وحملت هاتفها أيضاً بينما لم تتركها تلك
الأفكار ولا تفهم لما ! وكلما سرقت نظرها ناحيته وجدته مبتسماً
ويكتب رسالة فشعرت بالاشتعال وكانت توبخ نفسها في كل مرة
فهل ستغار عليه ! استوت جالسة وفي نيتها هذه المرة التحدث
ولم يعد يمكنها لا التروي ولا العد لكنّها توقفت فجأة وابتسامة
ماكرة تزين شفتيها واستدارت بجسدها وجلست على ظهر
السرير من الجهة الأخرى ليصبح مقابلاً لها في الجانب الآخر
واتكأت في مثل وضعه ونصبت ساق فوق الآخر أيضاً ممّا أبرز
جمال الساقان والفخذان العاريان ، ولأن خلفية السرير ورائه
مغطاة بمرآة عسلية اللون رفعت هاتفها وكأنها تنظر له بينما
كانت تفتح الكاميرا الخلفية وكادت تضحك وتفضح نفسها حين
وجدته ينظر ناحيتها ، ولأنه هاتف متطور وجودة كاميرته عالية
التقطت له صورة وقامت بتكبيرها حتى ظهرت لها صورة
الهاتف في المرآة وكادت تنفجر ضاحكة حين وجدت ما يُعرض
فيه هي صفحة بيضاء مليئة بالكتابة وكأنها عريضة أو وثيقة ما
وكان يخدعها ذاك الجنوبي المخادع .

عدّلت من وضع جلوسها أكثر وأوصلت هاتفها بالإنترنت وبدأت
بتشغيل مقاطع فيديو مضحكة وهو ما جعلها تضحك كل حين
وكانت تعلم بأن هذا المزاج لن يعجبه فمن المفترض أن تتآكل
غيضاً ، وحدث ذلك بالفعل فقد وضع هاتفه بحركة قوية أصدرت
صوتاً واضحاً وقال بضيق

" أطفئي النور وتوقفي عن الضحك أريد أن أنام "

وقفت حينها والابتسامة لم تغادر شفتيها وأطفأت النور لكنّها لم
ترجع للسرير بل فتحت باب الغرفة وغادرت مغلقة له خلفها
وتوجهت نحو باب غرفة والدته تضحك في صمت تتخيل
وضعه الآن .

دخلت الغرفة وقالت مبتسمة للتي كانت تستمع للمذياع
الخاص بها

" ابنك يريد أن ينام فهل نسهر معاً "

قالت التي أوقفت المذياع وبصوت باسم

" بالتأكيد وسأكون سعيدة بهذا "

ابتسمت بحب وجلست بقربها وقالت تفتح هاتفها

" ثمة برنامج خاص يعمل على الهاتف لمن هم في مثل حالتك
سأقوم بتنزيله وستري كيف ستتغير حياتك ويومك من الآن
وصاعداً "
قالت التي حركت يدها في رفض

" لا بالله عليك لا أريد أن أجلس طوال النهار أمسك الهاتف "

ضحكت زهور وقالت تنظر لها

" لا يحتاج الأمر لهذا هو يعمل بسماع صوتك فقط "

قالت الجالسة قربها مبتسمة

" يكفيني وجودك ، لا تعلمي عن مقدار سعادتي وأشعر بأني أملك
العالم بأكمله وأنا أسمع صوتك وضحكاتك "

ابتسمت زهو بحب بينما لوّن الحزن عينيها وعجز لسانها عن
قول ما تشكرها به ولا تعلم متى ستتخلص من عقدة الذنب هذه ؟
بل ولم يسعها ولا الوقت لقول شيء بسبب الصوت الرجولي
الخشن الذي نادى من بعيد

" زهور "

وكان يبدو بعيداً والمرجح أنه يقف عند باب غرفتهما فرفعت
نظرها عالياً متأففة في صمت ، أليس من طردها قبل قليل ؟
أم كان يريدها أن تغلق هاتفها وتنام أيضاً تبجيلاً له ! بينما كان
التعليق من التي قالت بضحكة

" يبدو أن النوم لا يكون إلا بوجودك "

حاولت أن تشاركها الضحك لكنها لم تستطع أمام قسوة الواقع
بينما عاد الصوت الرجولي الحازم منادياً بأمر

" زهوور "

تنهدت بضيق حينها ونظرت نحو التي لم تغادر الابتسامة شفتيها
وقالت ببرود

" هل الرجال مزعجين جميعهم هكذا ! "

ضحكت والدته وقالت

" وأكثر من هذا بكثير "

قالت حينها زهور بضحكة وهي تقف

" يبدو لي أن ابنك له خصائص فريدة من نوعها "

وتشاركتا الضحك هذه المرة وتمنت لها ليلة سعيدة مجدداً
وغادرت الغرفة باتجاه باب غرفتهما المفتوح والنور لازال مطفئ
، وما أن وصلت له قال الذي كان ينام على السرير ونظره
للسقف

" أغلقي الباب وتعالي "

تنهدت بضيق تمسك لسانها عن التحدث بالقوة وأغلقت الباب
بينما تتوعده في قلبها

( لأحمل فقط ثم سنرى يا أويس غيلوان بأي حجة ستدعوني
لسريرك )

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 11-08-24, 11:15 PM   المشاركة رقم: 1782
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 



*
*
*
دخلت المنزل وهو في سكون تام وكأن الوقت قد تجاوز منتصف
الليل وليس ما يفصلها عن مغيب الشمس ساعات قليلة ! مؤكد
والدها ليس هنا وجدها في غرفته وما يخشاه قلبها سيكون حدث
وقد غادرت والدتها من هنا ما أن جمعت ثيابها المرمية أرضاً .

تلك الفكرة ورغم الألم فيها هو ما جعلها تسير نحو الممر الشرقي
بل ونحو باب غرفتها هنا ووقفت أمامه ليس تردداً بل خوف من
أن تجدها خالية كما كانت لا شيء سوى الجدران الباردة والصمت
المميت ، فقط أنوارها كانت دائماً مضاءة وبفعل منها هي وأوامر
صارمة للخادمات وكأنها تستشعر وجودها هنا قريباً منها بهذا !
ولتهرب من كل تلك الأفكار رفعت يدها وطرقت الباب طرقتين
متتابعتين وإن كانت ترجح خلوها منها قبل أن تنتقل يدها لمقبضه
وأدارته ببطء وما أن انفتح أمامها حتى ابتسمت بسعادة وعدم
تصديق وهي تنظر للتي كانت منشغلة بأوراق ما في حجرها تكتب
بقلم في يدها وقد ارتفع رأسها ونظرت لها وبادلتها الابتسامة
بواحدة رقيقة هادئة جعلتها تشعر بقلبها يتراقص كفراشة صغيرة
تخرج من شرنقتها للتو وركضت نحوها من فورها وجلست
ملاصقة لها ونامت في حضنها تحضن خصرها بقوة وأغمضت
عينيها تشعر بملمس يدها على شعرها وقبلة شفتيها لرأسها ،
شعور أنساها الدنيا وما فيها فكم تحبها وتعشقها ولا تتخيل أن
تكون حياتها من دونها وأن لا ترى ابتسامتها ولا تسمع صوتها
وهي من وجدتها بعدما عاشت طفولتها تناجي طيفها وتنتظر أن
تراها وإن من بعيد .

" متى قرر والدك تزويجك ؟ "


كان السؤال الأكثر ألماً في حياتها وما جعل أصابعها تشتد على
قماش البيجامة بينهم دون شعور منها ولا تعلم ما آلمها أكثر
الحزن في صوتها الثابت ذاك أم السؤال ذاته ! وعلمت لما
وجهّت لها هذا السؤال ، بسبب خروجها معه وعودتها الآن
وبموافقة ذاك الوالد لذلك لم تبتعد عنها ولم تحاول النظر لعينيها
بل قالت تنظر للفراغ بحزن عميق

" لم نتحدث في الأمر ولا أريد هذا الآن "

واشتد احتضانها لها أكثر وكأنها تخشى أن تتبخر فجأة وتفقدها
بينما تابعت بأسى حزين

" ليس قبل أن تكون تلك المرأة هنا ، حينها لا أريد البقاء في
هذا المنزل ولا ليوم واحد "

واستوت جالسة ما أن أنهت كلماتها تلك بسبب التي ابتعدت عنها
في صمت ولم تتحدث عن الأمر كما تمنت وكل ما فعلته أن جمعت
الأوراق التي تناثرت على الأرض وقت احتضانها لها ووقفت
ووضعتها على طاولة السرير وتوجهت نحوه وجلست عليه
ورفعت يدها لشعرها ونزعت المشبك منه لتتسابق خصلاته
الناعمة للانفلات الواحدة تتبع الأخرى يتناثر على ذراعيها
وصدرها وبحركة من أصابعها أبعدت غرتها خلف أذنيها واستلقت
على السرير يرتفع رأسها وكتفيها بسبب الوسائد الكثيرة خلفها
بينما توجه نظرها للسقف وتنهدت بعمق نفساً طويلاً وأغمضت
عينيها ولازالت نظرات تيما الحزينة تراقبها وفكرة واحدة
تتصارع داخل عقلها

( هل ثمة رجل بكامل قواه العقلية يسمح لامرأة غيرها أن تدخل
حياته وتأخذ مكانها ؟ هل ثمة منافسة لها وحتى التنهيدة من بين
أضلعها عالم مختلف وكأنك لم تراه من قبل ! )


همست أخيراً ونظراتها تراقب ملامحها الفاتنة بحزن

" أمي "

كانت استفساراً وليس نداءً لها وسيتبعه السؤال لكنُها أوقفت كل
ذلك وهي تمد يدها نحوها ونظرت لها قائلة بابتسامة صغيرة

" تعالي بنيتي "


وهو ما أصاب شفتيها بالعدوى ومع ابتسامة أكثر عمقاً صعدت
فوق السرير ونامت بجانبها تحضنها بقوة تستشعر نعومة هذا
الحضن والرائحة التي تعشق وتشتاق لها كلما ابتعدت عنها
والأصابع الرقيقة الناعمة تبعد خصلات غرتها التي تناثرت على
وجهها خلف أذنها ، نزلت يدها من خصرها باتجاه رحمها
ورفعت وجهها لها وقالت مبتسمة باشتياق

" كيف حال شقيقي المنتظر ؟ "

وراقبت بشغف العينان المعلقة في السقف والشفاه المطبقة في
صمت حتى حدث ما أرادت أخيراً وتحركت شفتاها وقالت بكلمات
بطيئة كسولة

" لا أشعر بوجوده حتى ينتابني الشك أحياناً بأن نبضه توقف "

وهو ما جعلها تكتم ضحكة صغيرة وقالت مبتسمة

" لم أرى من هو بقوة تحمله ، يبدو برود أعصابه السبب "


وأتبعت كلماتها الأخيرة بضحكة صغيرة والتي جعلت تلك الشفاه
تبتسم بينما تمتمت صاحبتها ولازال نظرها للأعلى وأصابعها
تلعب بخصلات غرة النائمة في حضنها

" قد يكون كذلك "

جلست تيما حينها مبتعدة عنها وقالت ما كانت تريد قوله ولا
يمكنها تأجيله أكثر من ذلك

" أمي هل تنتقلي للعيش معي ومع قاسم ؟ سنسعد كلانا بهذا "

كان جوابها المبدئي الصمت ولازالت نظراتها تهيم في السقف
حتى ارتخى جفناها ببطء وهمست

" الوقت لازال مبكراً على الحديث في الأمر "

تقوست شفتا الجالسة بقربها بحزن وقالت بأسى حزين

" قلبي يخبرني بأنك تنوين تركنا جميعنا والرحيل بعيداً "

فتحت عينيها حينها ونظرت نحوها وقالت بضيق

" تيما ! "

لكنّ ذلك لم يجعلها تتراجع ولا تبعد تلك الأفكار عن رأسها بل
تابعت وبذات النبرة والألم الخفي في صوتها

" أتعلمي ما الذي سأفعله إن فقدتك مجدداً ؟ "

وملأت الدموع عينيها وهي تتابع بعبرة مكتومة

" سأقتل نفسي فلتعلمي هذا من الآن "

وهو ما جعلها تتنهد بضيق وعادت تهيم بنظراتها للسقف دون أن
تعلق ليصل لتيما جواب سؤالها ذاك وأن ظنونها في محلها تماماً
وهو ما جعلها تقول مجدداً وبرجاء حزين

" لن تتركيني وشقيقي أمي أرجوك ، ولا الكاسر فهو لن
يتحمل هذا "

ومسحت الدموع من عينيها بحركة سريعة بينما لازالت تنظر للتي
تنهدت مجدداً قبل أن تقول ونظرها لازال هناك بينما كانت
كلماتها جامدة تشبه ملامحها

" جميعكم لستم بحاجة لي ، أنتِ متزوجة والكاسر لم يعد طفلاً
وشقيقك لن يسمح والده بأن يربيه غيره "


اكتست التعاسة ملامح التي قالت

" ما توقعته صحيح إذاً ؟ "

نظرت نحوها حينها وقالت بحاجبين معقودين

" أنا لا أتحدث عن توقعاتك بل عن حاجتكم لي "

كتمت تيما العبرة التي تحرق حلقها بينما لم يختفي ذلك في
عينيها الدامعة الحزينة وقالت بتعاسة

" لا تتوقف الفتاة عن الاحتياج لوالدتها وإن كان لها أبناء
بطولها "


وراقبت بحزن وأسى العينان التي عادت للتحديق في السقف وقد
قالت صاحبتها بشرود حزين

" قدرنا لم يكن مثل البقية ومنذ ولدنا يا تيما ، علينا أن نؤمن
بهذا ونسلم له "

حركت رأسها برفض والدموع تملأ عينيها مجدداً فمدت غسق
يدها نحوها وقالت بابتسامة حزينة

" تعالي نامي في حضني لا تجعلي التفكير في المستقبل ينتزع منّا
هذه اللحظات فالله وحده العالم به والمتصرف فيه "

انصاعت لها سريعاً ونامت في حضنها جانب وجهها يتكئ على
صدرها وساعدها يرتاح فوق خصرها وقالت تنظر للفراغ بحزن

" الله لا يظلم عباده أمي أليس كذلك ؟ "

قالت التي مسحت يدها على نعومة شعرها

" بالتأكيد ولهذا علينا أن نحمده ونشكره ونرضى "


اشتد احتضان تيما لها بينما همست شفتاها باستجداء حزين

" أحبك أمي لا تتركيني أرجوك "

قالت غسق حينها والنبرة في صوتها تعاكس تماماً حزن عينيها

" نامي هيّا واتركيني أنام ورائي عمل كثير في الغد لا أريد أن
أنام على طاولة مكتبي "

لم تتحدث كما طلبت منها وتركت الغد للغد كما قالت ولتنعم بهذه
اللحظات التي تحتاجها كل واحدة منهما وصوت ما صغير في
قلبها يقول

( لعلّ الغد أجمل ولعلّ المستقبل يحمل السعادة لهم جميعاً )

بينما التي كانت لازالت يدها تمسح على الشعر الناعم انزلقت
دمعة يتيمة من طرف عينها اليمنى ونظراتها الحزينة لازالت
معلقة في السقف لا تريد أن تفكر في شيء سوى شعور اللحظة
فالله لم يرزقها بشقيقة ولم ترى أو تعرف والدتها لكنّه عوضها
بهذه الابنة التي هي ثلاثتهم مجتمعات ، وهي التي لم ترى أو
تعرف هذا فيها من قبل لأنها انشغلت عنها وعن كل شيء حولها
بأمر واحد وهو قلبها وجروحها النازفة فكانت تسعى فقط للانتقام
له ولكبريائها وكرامتها حتى كانت ستخسر كل شيء وتعود
لتبحث عنه في الوقت الذي لن تجده فيه .

*
*
*
غادرت قاعة المحاضرات تشعر برأسها سينفجر فعليها أن تدرك
ما فاتها الأسبوعان الماضيان ولازال ينتظرها الكثير والكثير لأنها
فقدت كل ما اجتهدت في القيام به في تلك الشقة ، والأسوأ من
كل ذلك أنها فقدت الرغبة والشغف لفعل أي شيء لذلك قررت
المغادرة اليوم دون فعل كل ما كانت تخطط له ويجب عليها القيام
به وأولهم زيارة مكتبة الجامعة ، بينما لم تتبادل الأحاديث مع أحد
وكم حمدت الله أنها لم تلتقي بكين كما أن فاليريو لم يزر المنزل
طيلة الأسبوع الماضي وتخلصت من محاولاته للتحقيق معها
أخيراً .

لكن يبدو أن الأسوأ كان في انتظارها ما أن خرجت لساحة
الجامعة متوجهة نحو موقف السيارات والسائق الذي ينتظرها
هناك ، ووقفت مكانها تنظر للواقف قرب سيارة سوداء لامعة
ينظر لها في صمت وكأنه ينتظر أن تقترب من هناك لكنّها فعلت
عكس ذلك وما لم يتوقعه وهي تستدير في الاتجاه الآخر
وتحركت بخطوات شبه راكضة في هروب واضح وصريح منه ،
لكنّها لم تكد تجتز سوى عمودان حجريات بسبب حركة الطلبة
حتى كانت ذراعها في قبضته وسحبها نحو الأرض العشبية الشبه
خالية وأدارها ناحيته قائلاً بحدة

" لما تهربين مارية ! "

نظرت لعينيه وقالت بضيق تحرر ذراعها منه

" أنا ماري مديتشي وابتعد عن طريقي أريد أن أغادر "

حرك رأسه بقوة قائلاً بغضب محتج

" بلى مارية هارون "

صرخت أيضاً وكأنها تجاريه في ذلك بينما أشارت بسبابتها جانباً

" لا لست هي ولن أكون بعد اليوم وإن لم تبتعد سأخبر
رجال الأمن "

حدق فيها بنظرة وكأنه يراها للمرة الأولى ! بل يبدو استغراباً
لسلوكها الجديد والغريب عنه وهو ما جعله يقول ببعض التحفظ

" ما تفعلينه ليس في صالحك مارية "

ارتسمت المرارة حينها في عينيها قبل ابتسامتها الساخرة وقالت

" وما الذي فعلته في صالحي ؟ كل ما طلبتموه قمت به وقتلتم
مارية هارون بأيديكم وانتهى "


أمسك بساعدها وكأنه لا يهتم بما قالت وابتعد بها حيث لا يوجد
أحد ولا القليل منهم وأدارها مقابلة له مجدداً وقال بضيق

" لا تتصرفي بجنون كزوجك "

وكان ذاك ما أشعلها وهي تتذكر مسألة زواجه من تلك المرأة
وتفجر الألم في عينيها وجفناها المحتقنان بشدة وصرخت تشير بسبابتها نحوه ثم نحو البعيد

" أنتم السبب .. مطر شاهين السبب في كل ما حدث ويفعل الآن فهل يشعر بالرضا وبأنه أنقذ ابنه مني "

ونزلت أولى دمعاتها بالفعل وشعرت بها كنار لسعت بشرتها بينما خرجت الكلمات من عمق مأساتها قائلة بألم

" أحرق قلبي .. أحرق الله قلبه كما فعل معي "

حرك شاهر رأسه بقوة ورفض وقال بضيق

" توقفي عن الدعاء عليه مارية فلولاه بعد الله ما كانت بلادك
كما عليه اليوم "

صرخت في وجهه مباشرة وكأنه أشعلها بما قال بدلاً من تهدئتها

" سحقاً له ولبلاده ولكم جميعكم ، تباً لبلاد ينعم شعبها بأكمله
بالسعادة على حساب تعاستي "


كانت كل كلمة تخرج من عمق ألمها ومأساتها التي تشعر بأنها
تعيشها وحيدة ، ولم يكفيها ذلك بل عادت وقالت وإن بكلمات
حزينة متأسية هذه المرة تنظر له بنظرة تذيب الحجر حزناً عليها

" بتّتُ أكرهها وأكرهكم جميعكم "

كانت تذبح قلبه فعلياً بكل كلمة تقولها لكنّه عاجز مثلها تماماً ولا
شيء بيده لذلك ترك كل ذلك فعليه قول ما هو هنا من أجله
وخالف حتى أوامر زعيمه ليفعله وهو ما جعل كلماته تخرج
مختلطة بنبرة مرارة ما أن قال

" تيم فقد عقله تماماً ولم يعد يستمع لأوامر أحد ويفعل كل ما
يفعله من نفسه فأخبريني ما الذي دار بينكما وهل علم عن كل ما
فعلناه ؟ "

كانت ابتسامة ساخرة رد فعلها المبدئي وقبل أن تقول

" تمرد على والده ومعلمه ؟! "

ثم ضحكت .. ضحكت والدموع تنزل من عينيها في تناقض غريب
يشرح ما يحدث داخلها بالفعل قبل أن يتبدل للغضب تلكمه على
صدره صارخة

" تباً لكم هذا ما كنتم تريدونه قد حدث ، لن أسامحكم ما حييت
ولا نفسي معكم "

أمسك برسغيها يمنعها عن ضربه وقال بحزم ينظر لعينيها
الغاضبة بالرغم من الدموع فيها

" توقفي مارية علينا أن نتعاون لا أن نصبح أعداءً لعلنا نخرج
من هذا المأزق ونحميه من نفسه ومن الموت على يديهم "


استلت يداها منه بحركة قوية غاضبة وصرخت من فورها
وسبابتها تشير خلف كتفه

" أخبر ذاك الذي أرسلك بأني أرفض التعاون معكم بعد الآن ولن
أسامحه ما حييت إن مات والسبب ليست مارية "


وما أن أنهت كلماتها تلك أدارت ظهرها له لتغادر لكنّها توقفت
ما أن قال

" لم يرسلني أحد ولم يطلب مني مطر هذا "

جعلتها كلماته تعود وتنظر ناحيته وقالت بجمود وإن كان داخلها
يشتعل كالحريق

" أجل فهو لا يهتم .. ألمهم لديه أنّ مارية ابتعدت عنه وكرِهها
وللأبد فلعله يسعد بابنة الاميرال الآن كزوجة له لأنها لن تأخذه
للموت مثلي "

وعادت وتركته وغادرت دموعها تسقي وجنتيها دون توقف
عجزت حتى عن رفع يدها لتمسحها وتخفيها عن الناس فها هي
صنعوا منها ما أرادوا امرأة محطمة بلا ماضي ولا حاضر ولا
حتى مستقبل لأنها باتت مؤمنة وأكثر من أي وقت مضى بأنها
خسرته وخسرت نفسها وللأبد .

*
*
*

جلست في سيارتها ورمت ملف الأوراق على الكرسي بجانبها
وغادرت البوابة الواسعة تشعر بأنها لا ترى شيئاً أمامها بسبب
التعب والإرهاق فها هي تدفع ثمن أيام تغيبها عن البرج بل
وتبعات تلك المحاكمة فها هم الآن مطالبون أيضاً بتقديم تقارير
دورية لوزارة الصحة بالرغم من كل الاحتياطات التي يتبعونها
ويقدمون تقاريراً تخصها إلا أن المشروع بات يُعامل كأي مشروع
تجاري ربحي آخر في البلاد بالرغم من كل الفوائد التي سيتلقاها
المواطن من خلاله بعد أن رفعت اليد العليا مسؤوليتها عنه
وستتعبها الإجراءات الجديدة وسيكون التحدي أمامها صعباً للغاية
، وبالرغم من كل ذلك هي مصممة على المضي فيه فعلى الأقل
لن يتبجح أحد هذه المرة بمسئوليته عن نجاح مشروعهم ولا بأن
جمالها كامرأة هو سلعتها الوحيدة .

ما أن وصلت أول تقاطع في طريقها توقفت سيارتها فجأة وفي
لحظة تغير خط سيرها وحزمت أمرها أخيراً فهي بحاجة لزيارة
هذا المكان وإن كانت تحتاج للراحة أكثر منه لكنّها لن تؤجل هذا
أكثر من ذلك وتوقفت سيارتها أمام مبنى مركز التجميل الضخم
والمكون من طابقين مرتفعين كما أن اسمه هو الأشهر في البلاد
، المكان الذي لن تكذب لو قالت بأنها لم تدخله ولا شبيهاته يوماً
لأنها ومنذ توحدت البلاد لم تحضر حفلات الزفاف ولا في العمران
ومهما كان نوع الدعوة الموجهة لها أو لعائلتها ، أما في الجمعية
أو وقت مغادرتها المنزل لم تكن تستخدم ولا مساحيق التجميل
ولا بوضع حتى ما تعتبره النساء شيء عادي وغير مرئي ، كما
لم تقص شعرها يوماً ولم تفكر في تغيير لونه أبداً ، لكنّها الآن
بحاجة لجعل طوله يبدو متساوياً على الأقل بعد الوضع المزري
الذي وصل له .

حين أصبحت في الداخل ابتسمت وإن مجبرة لأعين العاملات
اللاتي حدقن بها بذهول وتفاجئ حتى أن كل واحدة منهن توقفت
عمّا كانت تفعله وتفاوتت ردود الأفعال بينهن حتى تقدمت نحوها التي يبدو بأنها مالكة المركز أو المشرفة عليهن وقالت بابتسامة
متسعة

" لا أصدق عيناي السيدة غسق شراع تزور بنفسها مركزنا ! "

وتبدلت ابتسامتها لشيء من الإحراج وقالت

" أم أناديك السيدة غسق دجى الحالك ؟ المعذرة منك سيدتي "

بدى الحزن واضحاً على ملامح التي قالت

" لا فرق عندي كلاهما والداي "

ابتسمت الواقفة أمامها حتى كانت تلك الابتسامة ستشق شفتيها
وقالت

" مرحباً سيدتي كم نحن سعداء بهذه الزيارة ، كان يكفي أن
يصلنا اتصال منك لتكون أفضل عاملاتنا لديك وفي منزلك "


ابتسمت لها غسق بأدب وقالت بلباقة تشبهها

" أنا لم أتربى على أن أكون مختلفة عن نساء البلاد "

وتابعت والابتسامة تختلط بلمحة حزن لم تتخطى عيناها

" رباني والدي شراع على أن أكون كواحدة منكن وأن لا أوجه
أوامراً لأحد ليأتي إلي وأنا التي أحتاجه "


قالت التي لون الحزن عينيها أيضاً

" رحمه الله ، ونعم الوالد والمربي "

واتسعت ابتسامتها وقالت بشبه ضحكة

" بالتأكيد إذاً سترفضين مرافقتي للقسم الخاص بالشخصيات
المهمة "

كانت تتوقع منها أن تؤيد رأيها بما أنها ترفض أن تكون في
مرتبة أعلى من عامة الشعب لكنّها خانت توقعاتها حين قالت

" هل هو أكثر خصوصية من هنا ؟ "

قالت تلك من فورها

" بالتأكيد "

قالت حينها غسق

" لا ما نع لدي إذاً "


ابتسمت المقابلة لها وفي داخلها تقول بأن عليها توقع هذا فمهما
كانت كمية تواضعها التي تربت عليها لن تشبه العامة بشكل
مطلق بالتأكيد فقالت تشير بيدها مبتسمة

" على الرحب والسعة سيدتي تفضلي من هنا "

وما أن سارتا باتجاه المصاعد الكهربائية أخرجت هاتفها وقالت
للتي أجابت عليها على الفور

" نهال أخلو القسم الخاص لا أريد أحداً فيه "

أتاها تعليق التي قالت سريعاً وبنبرة ذاهلة

" لكن سيد... "

همست لها محذرة وهما تدخلان المصعد

" نهال !! "

فقالت التي تنهدت بقلة حيلة

" حسناً سيكون جاهزاً خلال دقائق فقط "

وما أن توقف المصعد الذي نقلهما نحو الطابق العلوي في ثواني
معدودة وغادرتا منه قالت التي توقفت ونظرت نحو غسق

" هل يمكننا شرب الشاي أو أي مشروب خلال هذا الوقت ؟ "

تحرك رأسها بطريقة رافضة وقالت

" أُفضل البدء الآن لأني متعبة وأريد المغادرة في أسرع وقت "

قالت تلك من فورها مبتسمة

" كما تريدين سيدتي ومركزنا يقدم جلسات استرخاء للوجه
سيكون الفارق بعدها رهيباً "

ابتسمت لها وقالت بلباقة

" لا رغبة لي في ذلك الآن فلنتركها لوقت لاحق أريد قص الشعر
فقط "

قالت التي اختلطت كلماتها بضحكة صغيرة

" لا بأس فهو لا يحتاج شيئاً بالفعل لأن بشرتك من أجمل وأنقى
أنواع البشرات "

ابتسمت غسق تجاملها دون تعليق بينما تحركتا من هناك حتى
وصلتا المكان الذي كان مخصصاً لشخصيات مهمة بالفعل فحتى
طلائه وأثاثه ومعداته بل والصالونات الفاخرة فيه تختلف كل
الاختلاف عن الموجود في الأسفل بالرغم من جمال ونظافة
وترتيب ذاك أيضاً ، وما أن جلست على الكرسي المريح ونزعت
حجابها قامت الواقفة خلفها بنزع مشبك الشعر وتخللت أصابعها
في الشعر الحريري الكثيف تشعر به كالماء بينها وقالت مبتسمة
تنظر لعينيها في المرآة

" كيف تريدين أن تكون قصة الشعر ؟ أم نقدم لك دفتر الصور
لتختاري ما يعجبك فشعرك واستدارة وجهك تناسب جميع
القصات تقريباً "

تنهدت بعدم اكتراث قائلة

" لا يهم المهم أن تختفي هذه الأطوال الغير متناسقة "


قالت التي بدأت تفصل خصلاته بأصابعها ونظره عليهم

" حسنا نحن هنا لدينا جزء قصيرة عن جميع الجوانب وهنا
طويلة بينما هذه أقصر ... "

وانطلقت تشرح العبث الغاضب لذاك المقص في تلك الليلة التي
عرفت بعدها معنى التغير الجذري لحياتها بينما تركت لها حرية
القرار عنها وقد قالت التي عادت ونظرت لها في المرآة بينما
تحرك يديها مع كلماتها

" سنعتمد قصة الفراشة هنا عند الوجه بسبب هذا الجانب ،
وأختار أن يكون الاتجاه نحو الداخل مع طبقة أطول لباقي الشعر
لأن وجهك ليس بيضاوياً فما رأيك ؟ "


قالت تنظر لعينيها في المرآة أيضاً

" لا مانع لدي "

ضحكت تلك وقالت

" ظننت بأننا سنتعب كثيراً قبل أن نستقر على نوع قصة لشعرك
لأن النساء من الطبقات عالية المستوى يكنّ صعبات الإرضاء "


مال طرف شفتيها بابتسامة جانبية وقالت

" عليك أن تحمدي الله أني في مزاج سيء ومتعبة إذاً "


ضحكت مجدداً وقالت وأصابعها تمشط شعرها نحو الخلف
برفق ونعومة

" أنا هنا لفعل كل ما تريدين وما يرضيك "


وعادت ونظرت لعينيها في المرآة وقالت مبتسمة بحماس

" ما رأيك بصبغة شعر أولاً ؟ "

قالت غسق سريعاً وبرفض قاطع

" لا لا أريد هذا "

قالت التي يبدو كان لها رأي آخر

" سيكون ... "

لكنّها قاطعتها وسريعاً وبأمر حازم

" قصي الشعر فقط رجاءً "

قالت التي لم تغادر الابتسامة شفتيها رغم كل ذلك بينما لازالت
تلعب أصابعها بالخصلات الناعمة بينهم ونظرها على عينيها
في المرآة

" حسناً خصلات شقراء مع لون أسود ؟ ستري جمال هذا بنفسك
وتشكريني عليه "


وتابعت سريعاً تسبق رفضها الواضح


" إنه من أنجح الوصفات لتحسين مزاج المرأة بقص وصبغ
الشعر "


التوت شفتي التي كانت تنظر لها في المرآة وتمتمت ببرود

" لا أصدق هذا "


ضحكت الواقفة خلفها وقالت

" بلى صدقي وستري هذا بأم عينك "

وما أن استشعرت منها الرفض مجدداً سبقتها أيضاً قائلة
وبابتسامة

" نَفَسي في الجدال طويل جداً وأنا مصرّة على صبغه مع هذه
القَصة ، سيكون تغيير مبهر وستري هذا بعينيك "


وكانت كما قالت عن نفسها تماماً وليست عنيدة فقط بل ولحوحة
درجة الإزعاج ودخلت معها في جدال طويل حتى أنها بدأت تريها
صوراً لصبغات شعر مشابهة وعلمت بأنها تمارس عليها
أساليبهم المعتادة في إقناع زبائنهم بالمزيد ، ولأنها تشعر بصداع
فعلي وإرهاق مميت استسلمت لها نهاية الأمر فهي فقدت طوله
الذي حرصت عليه سنوات عمرها فلن يهم الآن ما سيتغير فيه
أيضاً .

بعد لحظات انضمت لها مساعدتها وكانت الخطوة الأولى هي
غسل الشعر وما أن اتكأت برأسها على الكرسي المخصص
وبدأت تلك الأصابع بالتخلل في شعرها المبلل شعرت باسترخاء
كبير جعلها تغمض عينيها ، لكن ذاك النعيم لم يدم طويلاً فسرعان
ما جلست من أجل صبغ الشعر وقصه وقد قامتا بإخفاء المرآة
عنها بحجة مفاجأتها ، أي مفاجأة هذه فهي ليست متحمسة للأمر
من أساسه وليست بحاجة له وليس وقته أيضاً .


أخذ الأمر فوق توقعها من الوقت وهما تضعان أشياء فوق شعرها
وتغسلانها حتى شعرت بصبرها بدأ ينفذ وكانت ستقف وتغادر
وتتركهما لولا انتقلت أخيراً لقص الشعر وعلمت حينها بأنها
وصلت للمرحلة النهائية أخيراً وإن كانت استغرقت وقتاً لابأس به
أيضاً ثم تجفيف الشعر وشعرت بندم فعلي على اتخاذها هذه
الخطوة ومجيئها إلى هنا من أساسه .

وبعد صراع طويل مع أعصابها لتتمالكها قدر الإمكان انتهت أخيراً
رحلة تعذيبها بأن قالت التي جمعت يديها بحماس

" انتهينا أخيراً "


وقالت الواقفة بجانبها تنظر لها بإعجاب

" النتيجة أجمل بكثير من توقعاتي "

قالت مساعدتها

" أجل قصة الفراشة ولأول مرة تذهلني مع وجه دائري ! "


نظرت تلك نحوها وقالت تشير بيدها لنفسها وكأنها تشرح
على وجهها

" لأنها ليست للأسف بل قمتِ بتغييرها لقصة عادية هنا "


قاطعت غسق حينها حديثهما الحماسي قائلة بشيء من البرود

" بات يمكنني المغادرة بالتأكيد ؟ "


خرجت شهقة المساعدة دون شعور منها بينما ضحكت مصففة
الشعر وقالت وهي تدير كرسيها لتصبح مقابلة للمرآة

" لا ليس قبل أن تري عملنا قبل وضع الحجاب عليه "

استسلمت لهما متنهدة بنفاذ صبر بينما رفعت مساعدتها الغطاء
عن المرآة بحركة واحدة لتضعها في مواجهة نفسها فيها ، ولا
تنكر بأن المشهد الذي رأته أذهلها حتى أنها رفعت يدها لغرتها
دون شعور منها وكأنها تتأكد بأنها حقيقية !
بل الموجودة هناك بأكملها ليست حقيقة وليست هي قطعاً ولم تكن
تتخيل أن قص شعرها وصبغه سيجعل حتى ملامحها تنقلب
تماماً !! واحتاجت لبعض الوقت لتفيق من صدمتها وتبدي أول رد
فعل وهي تنظر عالياً نحو الواقفة على يميها وقالت

" وكأنها ليست أنا ! "


ضحكت تلك وقالت

" بالتأكيد وهذا ما أخبرتك عنه منذ البداية "

قالت الواقفة يسارها بحماس باسم

" وكأنك عروس جديدة "

وقفت حينها وكأن كل ذاك الانبهار والمفاجأة تلاشت فجأة وقالت
وهي ترفع مشبك الشعر الخاص بها

" شكراً لكما "


وانشغلت به تحاول تثبيت الجزء الأطول من شعرها في الخلف
بينما كانت تدرجات غرتها وجانب أذنيها كما هو عليه لتعطي
قصة الشعر جمالاً آخر مختلف ورفعت بعدها حقيبتها وأخرجت
منها بطاقة مدتها نحو مصففة الشعر قائلة

" يمكنك دفع الحساب من بطاقتي "

قالت من فورها مبتسمة

" لا اتركي هذه المرة هدية من مركزنا وأتمنى أن لا تكون
الأخيرة "

مدتها نحوها أكثر وقالت

" لا يمكنني قطع وعد بهذا لذلك خدي حسابك رجاءً "

قالت تلك مبتسمة ولم ترفع يدها وتأخذها

" حسناً يمكننا أخذه بطريقة أخرى تساعدنا وتسعدنا "

أنزلت حينها غسق يدها بينما تابعت الواقفة أمامها

" يكفينا صورة وإن بدون إظهار ملامحك وخبر على صفحة
مركزنا بأنك قمتِ بزيارته "

تبدلت ملامح غسق للذهول وقالت سريعاً

" لا مستحيل لن يرى الرجال ولا خصلة واحدة منه "

قالت التي ابتسمت محرجة

" لا بأس يمكننا وضع الخبر فقط ثم تعليق منك عليه "

حركت رأسها بالرفض وقالت

" لا هذه ولا تلك يمكنك أخذ المبلغ الذي تردينه وانتهى "

انحنى كتفاها بخيبة أمل وكان عليها توقع هذا منذ أن اختارت
الخصوصية التامة وأن تكون وحيدة ، استسلمت نهاية الأمر
ورفعت يدها وأخذت البطاقة منها قائلة

"حسناً كما تريدين سيدتي وإن كان هذا سيكون دعاية جيدة لنا "

رفعت غسق حجابها وقالت وهي تلفه حول شعرها ووجهها
بإحكام

" لستم بحاجة لهذا فمركزكم هو الأشهر في البلاد والكثير من
النجوم والمشهورين يرتادونه ويقدمون لكم الدعاية الجيدة له "


ورفعت حقيبتها وغادرت من هناك بعد أن شكرتها بكل لباقة
وهي تأخذ بطاقتها المصرفية منها وتركتهما واقفتان مكانهما
تنظران لها ، وما أن اختفت عنهما خلف الديكور الجانبي
المزخرف حتى نظرت المساعدة نحو الواقفة بجانبها وقالت
باستغراب

" لا يصدق عقلي بأنه ثمة رجل قد يطلق امرأة مثل هذه ليتزوج
من ريفية من الجنوب "


قالت التي اختلطت كلماتها بضحكة صغيرة ورأسها يشير حيث
المكان الذي اختفت منه

" إن لم يفعل هو هذا فسيتزوج بهذه ريفي من الجنوب "

ضحكتا معاً وقالت يدها تلامس ظهر مساعدتها

" هيّا بلغي ابتهال بأن تدخل الزبونات الموجودات في صالة
الانتظار "

*
*
*



*
*
*

غرست الشوكة في طرف قطعة الكعكة حمراء اللون المرتفعة
وقطعت جزء صغير منها لكنّها لم تحركها من مكانها ولم ترفعها
لتأكلها بل وضعت الشوكة من يدها ونظرت للجالس مقابلاً لها
يشرب الآيسكريم السائل بالأنبوب ونظره نحو الواجهة الزجاجية
خلفها والمطلة على الخارج وكان يبدو متلذذا بما يشرب
ومستمتع أيضاً فقالت بضيق

" هل نحن هنا لنستمتع بسماع أصوات الناس من حولنا ؟ "

نظر لعينيها وقال بابتسامة مائلة

" لا بل لنستمتع بوقتنا فهل يمكنك الخروج كل يوم والجلوس
هكذا في مقهى ؟ "


ضيقت عينيها ترمقه بشك وقالت

" أنت متأكد من أنّ والدي موافق على هذا ! "


" لا بالطبع "


قالها هكذا وبكل بساطة وهو ما جعل عيناها تتسع وقالت

" ماذا ! ألم تأخذ الإذن منه لخروجي معك ؟ "


حرك كتفيه وقال

" أخبرت جدي ووافق "

قالت مجدداً

" ماذا ! "

تبدل مزاج الكاسر للضيق حينها وقال

" ما هو الذي ماذا وماذا ؟! أليس جدك وله رأي وكلمة
أم تعتبرينه رجل غريب عنك ؟ "

قالت سريعاً مدافعة

" ليس هذا ما أقصده "

قال الكاسر بجدية

" هو أيضاً يخاف على سلامتنا ويعلم جيداً بأن الحرس
موجودين معنا "

ورفع الكوب وأرتشف من الأنبوب رشفه طويلة ثم وضعه قائلاً ينظر لعينيها

" هيّا لا تفسدي هذه الفرصة السعيدة بالنكد تيما رجاءً "

وعقد حاجبيه وهو يتابع

" وأبعدي هذا العبوس عن ملامحك ودعينا نستمتع "

كان يحاول فقط تشتيت أفكارها وصمتها المفاجئ المبهم فهو
يراها باتت تشك في الأمر ، ولن يستبعد هذا بسبب الحاسوب
المتطور الموجود في رأسها وموصول بالإنترنت أيضاً ، وأتاه
دليل ذلك ما أن قالت بنظرة تفكير

" بما أن جدي من وافق على هذا إذاً هو من طلب منك إخراجي
من المنزل "


وما توقعه وخاف منه ها هو حدث ، وعلى الرغم من جهله
للسبب أيضاً ووساوسه الكثيرة ناحية طلبه هذا منه لكنّه لم
يسأله، بل وعاد للمراوغة الآن مجدداً وقال يدعي العبوس لتقليد
ملامحها حينها

" بلى طلب مني هذا لأنه يرى بأنك وحيدة أغلب اليوم وعابسة
هكذا وأراد أن يتغير مزاجك قليلاً بخروجنا لكنّها تبدو سمة باتت
دائمة بك "

وقال آخر كلماته يمسك ضحكته فقالت بضيق تمسك وسطها
بيديها

" ماذا تقصد بهذا ؟ "


رفع الكوب وأشار به نحوها وقال

" أقصد دعينا نستمتع بوقتنا ، هي ساعة أو اثنتان فقط وأعيدك
من حيث جئت بك اطمئني "


وعاد يشفط منه بتلذذ بينما كانت نظراتها الصامتة له انتقلت
للحيرة والتفكير وقالت بترقب مريب

" ولن تبقى معنا هناك ؟ "

" لا "

قالها مباشرة ودون تردد وهو يضع الكوب مكانه بينما قابلت هي
كل ذاك بنظرة حزينة وقالت

" لماذا ووالدتي ليست في منزل خالي رعد ! كنت سابقاً ترفض
البقاء في مكان ليست موجودة فيه ! "


هرب من نظراتها بالنظر لطفلة صغيرة تلعب بجوار كرسي
والدتها بعيداً وقال

" عمي رماح يحتاج لمن يسليه أغلب الوقت سأكون بقربه هذه
الفترة "


عبست ملامحها وقالت تنظر لعينيه وإن كان لا ينظر لها

" هذه الكذبة ذاتها التي أخبرت بها والدتي ولم أصدقها كما يبدو
لي بأنها لم تصدقك أيضاً "

نظر لعينيها وأمال طرف شفتيه بابتسامة باردة وقال

" هي الحقيقة والحقيقة دائما تواجه بعدم التصديق بينما الكذب
العكس "

قالت سريعاً وبضيق

" لأنك كاذب وأنا أعلم بأنك تفعل هذا لتعتاد على عدم وجودها
في حياتك "

ولمع الحزن في عينيها عند آخر كلمات قالتها فهي من الصعوبة
عليها أن تبوح بها ولا بينها وبين نفسها لكنّها الحقيقة مهما
أنكرها كليهما وهو ما رأته في عينيه أيضاً ولم يستطع إخفائه
وما جعلها تقول بجدية

" لا تنكر هذا فعيناك تقوله الآن "

أشاح بوجهه جانباً ولم يعلق وها هو صمته وهربه مجدداً من
مواجهتها أكبر دليل على ذلك فقالت والدموع تلمع في عينيها
دون أن تفارقهما

" هو حقيقي إذاً ؟ "


عاد حينها ونظر لعينيها لكنّ نظرته لم تخفي الحزن فيهما هذه
المرة وهو ما زاد وضعها سوءًا وقالت تسجن عبرتها التي
ظهرت واضحة في صوتها

" أنا أعلم أيضاً بأنها ستفعلها وتغادر البلاد لهذا علينا أن نسعى
لأن يحدث العكس لا أن نستسلم "


عاد وهرب من نظراتها الدامعة ومارس ما يتقنه جميع الرجال
ومهما اختلفت أعمارهم وهو يقول بضيق

" ما تصرفات الأطفال هذه يا تيما ! "


ضربت قبضة يدها على الطاولة تحتها وقالت بضيق أشد

" ليست تصرفات أطفال أنا لا أريد أن تبتعد أمي عني بعد أن
وجدتها أخيراً "

وتبدل كل ذاك الضيق للحزن في العينان الجميلة وتابعت بأسى
حزين

" هي ترى بأننا جميعنا لم نعد نحتاجها لكني لست كما الجميع أنا
أريدها قريبة مني حتى أموت "


وعادت الدموع ترقرق في عينيها الواسعة مجدداً تمسك نفسها
بصعوبة عن الانفجار باكية ، ولأن الجالس أمامها لن يحاول
بالطبع سوى الهرب من الوصول لوضعها الحالي وإن كان داخله
يحترق حزناً أكثر منها لذلك وكالمعتاد هاجمها قائلاً

" أنتِ لديك زوج ومنزل وسيكون لك عائلة كما أنها إن خيّرتك
بين الرحيل معها وترك زوجك فلن توافقي "


تحرك رأس تيما حينها برفض تام لأفكاره وقالت مباشرة

" بل أريدها أن تعيش معي وقاسم ،أنا ابنتها وهو لن يمانع أبداً "


رمى بيده نحوها قائلاً ببرود

" ما هذه الترهات ؟ والدتك ليست عجوز في السبعين من عمرها
لتأخذيها للعيش معك ! هي لازالت شابة ومؤكد ستتزوج ويصبح
لها منزل وعائلة أخرى أيضاً "


لم تزد كلماته وضعها إلا سوءًا وقالت بتعاسة

" ستصبح في منزل رجل غريب وامرأة غريبة في منزل والدي
وبالتأكيد سيغادر جدي البلاد مجدداً ليخفي حقيقة وجوده على
قيد الحياة "


وتكسر صوتها بألم وعيناها تلمع بالدموع مجدداً متابعة

" لما يحدث معنا كل هذا ؟ "

قال الذي لازال يحاول إمداد نفسه بالقوة ومدها بها

" لأنه قدرنا ولا مهرب لنا منه فأبعدي وساوس الشيطان عنك "


لكنّ تلك الكلمات لم تجعلها تتحسن بل قالت بضيق رافض

" إن كنت أنت ستوافق سفرها بعيداً عنك فأنا لن أفعل ، لم أعد
أريد أن يكونا معاً واستسلمت لفكرة فراقهما الأبدي لكن لا أريد
أن يبتعد أي واحد منهما عني ولا أراه "


وكان رد فعله مماثلاً وهو يقول بجدية

" ولا أنا أريد هذا وأكثر منك أحتاجها فهي والداي كلاهما لكن إن
كان هذا الأمر هو ما سيجعلها سعيدة أو حتى راضية فأنا لن
أمانع "


تحرك رأسها رافضة للفكرة والحزن يرتسم مجدداً على ملامحها
وقالت بتعاسة

" لن تكون سعيدة وهي بعيدة عنّا ، لا يمكنني تصديق هذا "

تنهد الكاسر بحزن أعمق حينها وقال ينظر للكوب الشبه فارغ
أمامه

" لنترك الغد لله يا تيما فهو وحده المتصرف فيه فلم ينقضي من
المدة المحددة سوى أسبوع واحد فقط "


نظرت جانباً حينها وكتفت ذراعيها لصدرها متمتمه بعبوس
والكثير من اليأس والحزن

" سنجد أنفسنا بعد ثلاثة أشهر لازلنا كما نحن "

*
*
*

وقفت أمام المرآة الطويلة في غرفة تبديل الملابس تنظر لنفسها
صعوداً بنظرة خائبة كسيرة وها هي مجبرة على فعل هذا اليوم
لأن فاليريو لن يفعلها هذه المرة أيضاً وينقذها من والده ، بل وها
هو السيد الموقر مديتشي ينتظرها في الأسفل فلن يفعلها بالتأكيد
مجدداً ويترك السائق يتولى مهمة أخذها للحفل .

كانت قد اختارت فستاناً باللون الأسود طبعت عليه أزهار حمراء
اللون تحيط بكل زهرة ورقتان باللون الأخضر ، كان طوله قد
تجاوز الركبتين بقليل له خصر ضيق ويتسع في الأسفل وياقة
مربعة وأكمام ضيقة وصلت للمرفقين ، كان بسيطاً وجميلاً في
ذات الوقت كما أن تناسق جسدها يجعل من أي قطعة ثياب جميلة
ومميزة حتى وإن كانت بيجامة نوم .

تنهدت بضيق وشغلت نظرها بالعقد الذي بدأت بمحاولة ارتدائه
بنفسها وكان مكون من حبات لؤلؤ سوداء وكأنها اختارت أن
تكون هكذا في حداد وهي تذهب بقدميها لزفاف الرجل الذي تحب
أكثر من نفسها ، لا بل لزفاف زوج لم تحظى يوماً بحفل يجمعهما
كزوجين لتنال غيرها كل ذلك ، بل وحفلاً في كل أسبوع وليس
حفل واحد فقط .

أشاحت بوجهها جانباً ما أن لمعت الدموع الحارقة في عينيها
فهي لا تريد فعل هذا لا البكاء ولا الذهاب أيضاً وكانت تريد
التحجج بأي شيء وإن المرض أو حتى الموت لكنّها تراجعت
ليس بسبب من ينتظرها الآن في الأسفل بل بسبب كلمات فاليريو
سابقاً والتي لازالت تطاردها حتى الآن وفي كل وقت .


( عليك أن تواجهي لا أن تهربي ، المواجهة قوة والهرب
ضعف ماري )


( قوة المرأة في تحديها لنفسها وفي اجتيازها للصعاب وحيدة
والوقوف دون الحاجة لأحد )

وهي اجتازت وحيدة الكثير من الصعاب بالفعل وإن كانت هذه
الأصعب لأنها تخص من كانت تتحمل وتقاوم فقط لتكون معه
وانهارت جميع أحلامها وأملها في الحياة مع فقدها إياه ، مسحت
تحت عينيها بحركة سريعة وانحنت نحو الأسفل تلبس حذائها
أسود اللون أيضاً ووقفت بعدها ونظرت لنفسها مجدداً فها هي
الأرملة السوداء وإن كانت تختلف أهدافها عنها فإما أن تقتل
مشاعرها نحوه في داخلها أو أن تموت هي وكلاهما سواء .

كانت الطريق من بيبوري للندن هي الأطول في حياتها خاصة مع
الصمت المميت للجالس بجانبها وتوترها القاتل والألم الذي تشعر
به في قلبها فما أسهل أن تتحدث عن الأمر على أن تعيشه
حقيقة ! وكم تمنت أن تعرضوا حتى لحادث وماتت فيه على أن
تصل إلى هناك ، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يناله فالسيارة
توقفت نهاية الأمر عند وجهتهم ولا شيء يمكنه إعادة ساعة
الزمن للوراء .

نظرت من النافذة للقصر المرتفع عالياً والسكون المحيط به
وقارن عقلها سريعاً بين ما يحدث هنا وما يحدث في بلادها هناك
فحفلات الزفاف هنا وكأنها حفل عادي يقام لأي مناسبة أخرى
وكلما علت مكانة مقيمه كلما ازدادت بساطته !!

نزلت ما أن فتح لها السائق باب السيارة وسارت بجانب التمثال
الصامت المرافق لها وضربات قلبها تزداد ألماً كلما تقدما نحو
الداخل ، ولم تستطع أن تفعل مثله وترد التحية على كل من
قابلهم في طريقهم لأن قدماها الجزء الوحيد الخاضع لها حينها
تحاول فقط التحكم في الدموع التي تحرق جفنيها ولا تعلم متى
ستعلن انهزامها في المعركة غير المتكافئة هذه !

كانت وجهتهم هي الحديقة الخلفية الواسعة وعلمت حينها سبب
تواجد كل ذاك العدد من الخدم في استقبال الضيوف فالغرض
منهم إيصالهم إلى هنا ، وما أن عبروا القوس المزين بالأزهار
وأشرطة الشيفون توقفا بسبب الواقفين بجانب البساط المحاذي
له والتقطت عيناها سريعاً الرجل الذي صافحه مديتشي بقوة
وعلمت بأنه سيكون والد تلك الفتاة وقائد القوات البحرية للبلاد ،
ليس بسبب سنه لأنه أصغر ممّا كانت تتخيل ! ولا للمعاملة
الخاصة التي حضا بها من المرافق لها بل بسبب شخصيته وقوة
حضوره ووقوفه بشموخ والكثير من التعالي كما هو واضح
عليه .

كانت تحاول فقط أن لا تنظر له بما يعبّر عن دواخلها نحوه وهو
العداء القاتل والكراهية السوداء خاصة ما أن توجهت نظراته
نحوها وقال بابتسامة جانبية وهو يصافحها

" مؤكد هذه ماري ؟ "


شعرت على الفور بالطاقة السلبية الموجهة ناحيتها وهو ما
أعجزها عن قول أي شيء بينما تولى مديتشي ذلك قائلاً
بابتسامة بينما نظراته موجهة نحوها

" أجل إنها ابنتي ماري "

شعرت بالتوتر من سماع ذلك وهو ما جعلها تسحب يدها من يد
مصافحها كي لا يشعر بذلك فلا زالت عاجزة حتى الآن عن عيش
الأمر وكأنه حقيقي وتشعر في كل مرة بأنها كاذبة مخادعة
ومحتالة ، بينما استطاعت نظراتها أن تبقى ثابتة على عيني الذي
قال بابتسامة جانبية ونظراته لم تترك عيناها

" وعليها أن تكون كنتك أيضاً "

وكانت تلك الضربة الأقوى التي وجهها لها جعلت ودون شعور
منها عيناها تتسع بصدمة ممّا جعل ابتسامته تزداد خبثاً وفهمت
سريعاً بأنه يعلم عن شيء ما عنها من ابنته تلك ولّد نحوها كل
هذه الكراهية ، ولم تكن تعلم بأنها كانت ولازالت تعني حجر
العقبة بينهما وبين الرجل الذي يريدون الاستحواذ عليه بأنانية
تامة ، فها قد نالوا ما يريدون فما المطلوب منها أيضاً ؟!
سؤال تبادر سريعاً وبألم على قلبها فهي خسرت كل شيء بينما
كسبت ابنته فما يريد منها بعد ! لم تعلق أيضاً ولم يطاوعها
لسانها على فعلها بتاتاً بينما كان التعليق من الواقف جانبها
هذه المرة أيضاً والذي قال بشيء من الضيق

" لا لن ينالها ذاك الأحمق مطلقاً "

وهو ما جعلها تحدق فيه باستغراب ليس لأنها توقعت أن يوافق
على الفكرة ويرحب بها بل لأنها تعلم بأن علاقته بابنه ذاك جيدة
وبأنه شاب خلوق أيضاً فلما ينعته بالأحمق ومتضايق هكذا
ويستكثر أن تكون قريبته الوحيدة كما يسميها زوجة له !

ولم يسعها الوقت لتعلم عن هذا وإن من حديثهما لأن مديتشي
قال من قبل أن يفكر الواقف أمامها في سؤاله عن السبب بينما
تنقلت نظراته في المكان

" وأين هي العروس ليست هنا ! "

كانت ضربات قلبها هنا وصلت أعلى مراحلها في جزء من الثانية
حتى كانت تشعر بحرارة قوية تغزو جسدها وتكتم على أنفاسها
ممّا جعلها تنظر ليديها التي بدأت بشدهما بقوة ما أن قال الذي
نظر خلفه

" كانت هنا قبل لحظات "

فأغمضت عينيها بقوة ولازالت تنظر نحو الأسفل ترفض أن ترى
عيناها المشهد الذي تتوقعه جيداً تردد فقط ودون توقف

( كوني قوية مارية لا تضعفي أمامهما )

لكنّها كانت كمن يحفر في الرمال فكل ما شعرت به هو لسعة
الدموع الحارقة في عينيها وتوقف قلبها تماماً عن العمل ما أن
وصلها صوت الذي قال مبتسماً بسعادة

" آه ها هي عزيزتي صوفيا السيد غستوني مديتشي هنا "

وعند هنا توقف العالم بأكمله حولها ورفعت رأسها في حركة
واحدة وكم حمدت الله أنه لا أحد منهم كان منتبه لنظرة الصدمة
التي وجهتها نحو المرأة التي كان يبدو أنها في الأربعين من
عمرها وإن كان لا يظهر ذلك عليها بسبب أناقتها ولباقتها
وطريقة وقوفها التي تدل على أنها امرأة نبيلة وراقية ، بينما
كانت تنظر للذي صافحته قائلة بابتسامة ودود

" مرحباً سيد مديتشي سررت بلقائك مجدداً "


وتبادلا عبارات الترحيب على نظرات التي لازالت لم تجتز
صدمتها بالأمر بعد ، ليس فقط لأن العروس غير العروس التي
كانت تتوقع ولا العريس أيضاً بل لأنها تذكرت كل ما مرت به
الأسبوع الماضي وهي تتخيل بأنه تزوج من تلك الفتاة وخسرته
وللأبد ، تذكرت كل لحظة ودقيقة وثانية عاشتها في عذاب لا
يمكن وصفه حتى نومها تستيقظ منه مفزوعة عدة مرات ، فما
أتعسه من شعور هذا حين تشعر برغبة في البكاء في الوقت الذي
يفترض بأن تكون فيه سعيداً !
ولم يعد يمكنها فعلياً تحديد مشاعرها حينها فكل ما حدث معها أن
نظرت بضياع لعيني التي قالت مبتسمة تنظر لها

" أنتِ ماري إذاً ؟ قال عمك سابقاً بأنه يريد أن يعرفني عليك "

" أنتِ العروس ! "

كان ذاك فقط ما همست به شفتاها وبأمل كسير وكأنها تخشى أن
تكون الحقيقة غير ما فهمته الآن فكانت كطفلة وجدت والدتها
وتخشى أنها في حلم فقررت التأكد منها بنفسها ! وكان ذاك ما
جعل تلك الشفاه الجميلة تبتسم وقالت صاحبتها بضحكة صغيرة

" أجل ألم تعلمي بهذا ؟! "

انحنى زوجها نحوها حينها وقال بابتسامة مائلة بينما عيناه لم
تفارق الأحداق الذهبية

" يبدو أنها لا تشاهد الأخبار المهمة "

وعاد مديتشي لإنقاذها مجدداً وكأنه وجد معها اليوم لأجل ذلك
تحديداً وقد قال

" لوسي أين هي ؟ "


تحدثت صوفيا حينها قائلة بابتسامة حزينة

" في أبعد مكان عن هنا بالتأكيد "

ونظرت نحو الواقف بجانبها والذي التفت ذراعه حول كتفيها
وأمسكت أصابعه ذراعها وقال ينظر لعينيها مبتسماً بتفهم

" لن يكون الأمر سهلاً بالنسبة لها وسيتغير كل شيء ما أن
تعرفك جيداً حبيبتي "


قالت حينها تنظر لعينيه بحب

" أتمنى أن يكون هذا قريباً جداً "


في مشهد جعل الواقفة أمامهما تفسره آلاف التفاسير أهمها أن
تلك الحمراء تبدو رافضة تماماً فكرة زواج والدها وتسببت لهما
بمشكلات كثيرة ولها أن تتخيل ذلك مع مدللة أنانية متملكة
مثلها .

انصرف نظرهم عنهما فجأة بسبب الضيفان اللذان دخلا بعدهما
وتقدمت خطواتها نحو الحديقة الواسعة حينها ولم تعد حواسها
تشعر أو تهتم بوجود من دخلت هنا معه وهي ترى تجمعات
الأشخاص تزداد شيئاً فشيئاً والتي لم ينجح وسع المكان في جعله
يزدحم بهم فالطاولات هنا كثيرة ومنسقة وكأنها طاولة واحدة ،
صوت الموسيقى الخافت والمختلط بالأحاديث والضحكات العالية
تشعرك بأنك في إحدى المسلسلات التلفزيونية ! فحتى الحفل
الوحيد الذي تواجدت فيه هنا وكان في منزل ضرار السلطان لم
يكن يشبه هذا ، وشعرت بالمكان يضيق بها على الرغم من
اتساعه ووجودها في الهواء الطلق وهذا الطقس المعتدل ولا
تفهم لما ! بلى فهي لازالت تعيش مرحلة الصدمة التي تجزم
بأنها لن تغادرها قريباً .

وما أن التقطت نظراتها إحدى طاولات المشروبات توجهت نحوها
مباشرة لأنها بدأت تشعر بجفاف فعلي في حلقها وبأنها بحاجة
لشيء ما يجعلها تعود لتركيزها واتزانها بعدما تلقته من صدمات
هناك ، فما أغباها من فتاة .. لو أنها لم تهرب بجبن من فتح
هاتفها ورؤية الانترنت لكانت علمت بأنها فهمت الأمر بشكل
خاطئ .

ابتسمت بمرارة وهي تنظر للسائل الأحمر في الكأس في يدها فهل
سيتغير الواقع بتغير الأشخاص والخبر ؟ لا بالتأكيد فهما افترقا
في كلا الحالتين وإن كان قد قام بتأجيل ذبحها بزواجه من تلك
المرأة حتى الآن ولم يختاره عقاباً لها .

ارتجفت يدها حتى كاد أن يقع الكأس منها ما أن لامستها الأصابع
الرجولية للواقف خلفها تقريباً ووصلت كلماته لأذنها مبتسماً

" لا ليس هكذا ماري فأنا علمت بأنك لا تحتسين المشروب وهذا
سيجعلك في وضع مزري أمام الجميع "

وعلمت حينها عن هويته من قبل أن يتحرك ويصبح مقابلاً لها
وحاولت جاهدة أن تبتسم بشكل طبيعي وهي تضعه مكانه قائلة

" شكراً لك فاليريو كنت أظن بأنه شراب التوت "

لكنّه تجاهل الحديث عن الأمر أكثر من ذلك وقال ما أن نظرت
لعينيه

" سعدت كثيراً بأنك أتيتِ ولم تفعليها مجدداً "

جعلت كلماته تتلك الابتسامة تختفي من ملامحها وقالت

" ماذا تعني بهذا ؟ "

أمال رأسه نحو أذنها وأقترب منها في حركة بطيئة بينما أمسكت
أصابعه بذراعها وكأنه يحاول منعها بذلك من الابتعاد عنه أو
اتخاذ أي رد فعل رافض وهو يهمس لها بحركة بدت حميمة
بالفعل

" أعني بأنك جبانة كثيراً في الحب ماري "

كانت تشعر بتشنج مريع في عضلات جسدها بأكمله بينما تحركت
حدقتاها جانباً مع وجهه وهو يبتعد عنها حيث كانت نظرتها
مدججة بالاستغراب وهو ما جعله يرسم ابتسامة جانبية على
طرف شفتيه وقال ينظر لعينيها بينما تركت أصابعه ذراعها

" حسناً لا تتخذي مني أسلوباً دفاعياً فثمة من يراقبك من هناك
منذ وقت دخولك وأردته أن يحترق قليلاً "

وهنا ارتفعت ضربات قلبها لأعلى مستوياتها حتى باتت تشعر بها
تضرب في أذنيها وحاولت جاهدة أن لا يظهر ذلك على أنفاسها
كما ملامحها وهو ما جعل كلماتها تخرج بشبه همس وقد قالت
بتوجس ورأسها يتحرك جانباً دون شعور

" شخص مثل من ! "

أمسكت حينها أصابعه بذقنها يمنعها من ذلك بينما تمتم بابتسامة ساخرة

" لا أنصحك بالالتفات فنظراته باتت غاضبة كثيراً "

كان وحده من يرى ما يحدث هناك حيث المرأة الواقفة تحرك يدها
بطريقة غاضبة وهي تتحدث والواقف بجانبها يدس يديه في جيبي
بنطلونه الكحلي الفاخر مع قميص أبيض مثبت داخله وربطة
عنق طويلة وفقط هكذا دون سترة وكأنه تخلص منها في مكان ما
هنا ، بينما كانت نظراته مصوبة نحوهما دون أي انحراف ولا
اهتمام إن كانت الواقفة معه أو أي شخص هناك قد انتبه له أم لا
ولا حتى فاليريو الذي كان ينظر له بشكل واضح تماماً ، عاد
بعدها ونظر لعينيها وقال بنبرة بدت أشد سخرية من سابقتها

" كان عليك إخباري بأن ذاك اليوناني سبب تخلفك عن الحفل
السابق "

وعند هنا تأكد لها ما كانت تخشاه عن هوية من كان يتحدث عنه
وهو ما جعلها تقول مندفعة

" ليس هو السبب "


" كاذبة "


همس بها مبتسماً بينما ضرب على أنفها بطرف سبابته وضحك
على رد فعلها وقال

" لنجعله يحترق أكثر قليلاً "

شعرت بالتوتر بسبب شكوكه حيالها وتبدلت حينها ملامحها
للضيق وقالت في رد فعل دفاعي

" لما تفعل كل هذا ؟ لتنتقم بسبب ما فعل سابقاً ؟ ستكون مخطئاً
بالتأكيد فهو لا يهتم "

حرك كتفيه وقال والابتسامة اللعوب لم تغادر شفتيه

" لا يبدو لي كما تقولين ولست أنتقم لنفسي أيضاً بل لك أنتِ "

قالت مجدداً وكأنها تحارب تلك الفكرة في رأسه

" لا أفهم لما تتصرف هكذا ! "

مال طرف شفتيه بابتسامة لم تفهمها وقال وكأنه يحدث نفسه

" لأجلك فقط ماري كما سبق وقلت "


وأشار بسبابته نحو قلبه وقال وتلك الابتسامة تتبدل للحزن فجأة

" فهنا تسكن امرأة واحدة لا مكان لغيرها بتاتاً "

جعلها ذلك تنظر لعينيه بتفكير وصمت .. هو له حبيبة إذاً ؟ لكن
لما الحزن وهو يقول هذا ! هل لأن والده يرفضها ولأجل ذلك نعته
بالأحمق قبل قليل ؟!
كانت الكثير من التساؤلات تدور في ذهنها وكأنها تبحث عنها في
عينيه فقال مبتسماً يعود بهما لحديثه السابق بينما غمز لها بعينه

" أنا أعرف الرجال جيداً حلوتي وأعلم نوع نظراتهم وبات
يمكنني الآن تفسير كل ما حدث سابقاً "


ورفع رأسه عالياً وهو يطلق العنان لضحكته على نظراتها الحانقة
وعاد ونظر لها ما أن توقف عن الضحك وقال يشير بحاجبه
خلفها بينما الابتسامة الماكرة عادت تزين شفتيه

" حسناً هو لا يهتم لإخفاء هذا "

تبدلت ملامحها للضيق حينها وقالت حانقة وإن كانت تشعر
بارتجاف جسدها وبأن تلك النظرات تحرقها وإن كانت لا تراها

" فاليريو !! "

كانت نبرة تحذير واضحة وكأنها تأمره بأن ينهي الحديث في
الأمر لكنّها كانت وكأنها تزيده استمتاعاً بما يفعل وقد التوت
شفتاه بابتسامة لعوب وهمس وهو يقرب وجهه من أذنها مجدداً

" لازال ينظر "

تراجعت خطوة للوراء حينها وقالت ونظراتها الجادة موجهة
لعينيه بينما كانت نبرتها تحمل الكثير من الحزم

" أريد أن أغادر من هنا ، جِد لوالدك عذراً وأعدني للمنزل "

كانت تعلم بأنه مجرد قناع لا تستطيع أن توهم نفسها به لتوهم
غيرها وطلبها الغبي هذا أكبر دليل عليه فارتجاف قلبها باتت
تشعر به في ساقيها ولا تريد سوى أمر واحد أن تغادر من هنا ..
من حصار هذا المتلاعب لها ومن وجود من لازالت تتمنى أن لا
تراه ولا تلتقي به وأن تختفي هكذا فقط ، كيف وإلى أين لا تعلم
ولا يهم ، لكنّ الواقف أمامها لم يستجب لطلبها وهو المتوقع منه
بل قال مبتسماً يحرك سبابته نحوها

" لا لن تهربي يا جبانة "

شدت على قبضتيها بقوة تفرغ كل انفعالاتها بهما وقالت تحاول
مجدداً تغيير أفكاره

" أنت تتوهم أمور لا وجود لها فهو له خطيبة وسيتزوج بها
قريباً "

أبعد نظره عنها نحو الأعلى وقال وأصابعه تداعب أطراف لحيته
السوداء

" ما علمته سابقاً أنه حينما كنتم في إيطاليا لم ... "

قاطعته سريعاً قبل أن يدخل معها في ماضي فتاة لا تعرفها ولا
تعلم عنها الكثير

" ما كان في إيطاليا انتهى هناك ولا أحب التحدث فيه فاليريو
رجاءً "

ولأنها تعلم بأنه يحترم كثيراً خصوصيات الغير حينما يتم إيقافه
عند حد معين مهما كان شاباً عفوياً فقد نجح الأمر ولاذ بالصمت
ورأسه قد تحرك نحو الأسفل في إيماءة احترام واعتذار وكأنه
يقول آسف على تطفلي ، وهو ما أشعرها بكم هائل من الراحة
وإن لم تكن راحة مطلقة تلك فهي لن تشعر بذلك حتى تغادر
المكان بأكمله لذلك نظرت نحو الجانب الأيسر وتحركت قائلة

" أشعر بقدمي باتتا تؤلمانني سأجلس بعيداً قليلاً "

وغادرت معتذرة ليفهم بأنها ترفض أن يلحق بها لأن غرضها لم
يكن إراحة قدميها بل الهرب من هنا ، أجل تريد أن تهرب وتغادر
هذا المكان جبانة كانت أم غير ذلك هي تريد الابتعاد لأن هذا لم
يعد يحتمل ، أمسكت أصابعها بقماش الفستان الناعم ناحية قلبها
والدموع تلمع في عينيها وهي تجتاز أشجار الحديقة ناحية الظلام
النسبي بعيداً فهي أجل تشعر بكل شيء هنا .. بالألم بالحزن
بالوحدة بالضياع وبأنه يشبه منزلاً مهجوراً تسكنه فقط أشباح
ساكنيه لتزيد من وحشته وكآبته .

استمرت في السير مبتعدة دون أن تفكر أين تأخذها خطواتها حتى
وجدت نفسها أمام سياج حديدي مؤمن الجانبين وكأنهم يخشون
أن يتسلقه أحدهم دخولاً وخروجاً من هنا ! لكنّ الحديقة وحدود
القصر لم تنتهي عند هنا فما النفع من وجوده !

قررت نهاية الأمر السير بمحاذاته حتى تصل لبابه فلن تفكر
بالتأكيد في تسلقه رغم انخفاضه نسبياً كي لا يتمزق فستانها أو
لحم ساقيها بسبب قطع الحديد البارزة على جانبيه .

لكنّها وبعد مسافة قليلة فقط توقفت مكانها مع ارتفاع شهقتها في
صمت المكان حين أمسكت أصابع ما بذراعها بقوة موقفة إياها
وأدارتها بحركة واحدة ليصبح ظهرها مقابلاً للسياج الحديدي
ووجهها مقابلاً لمن تمنت للحظات أن كان فاليريو قد لحق بها أو
حتى والده أو أيّاً كان غير صاحب العينين التي وجدتها أمامها
تحدق فيها بطريقة لم تفهمها أهو غضب أم كراهية أو شيء آخر
لا تعلمه !
كانت فقط تحاول أن تبقي نظراتها ثابتة على عينيه كي لا تضعف
لكنّ الأمر كان أصعب ممّا تتخيل فهو سهل مع أي شخص إلا
هذا .. من تشتاق له حتى وهي تراه أمامها ، واستجلب لها عقلها
سريعاً كل اللحظات التي قضياها معاً وبدأ الحنين يفتت قلبها أكثر
تشعر بالصدر تحت القميص المشدود يدعوها للارتماء عليه ،
تحتاج لأن تبكي في حضنه أن تخبره بأنه أمانها الوحيد وعائلتها
ووالدها الذي كم تفتقده لكن ما أبعد ذلك عن واقعهما فكل ما
سيفعله أن يرفضها وبكل قسوة إن هي فعلتها ولن تتوقع غير هذا
لذلك أدارت يديها خلف ظهرها وأمسكت بهما الحديد البارد وكأنها
تمنعهما عن التهور وفعلها فهذه البرودة لا تساوي شيئاً أمام
البرود الذي ستجده في هذه الأضلع .

" ماذا كان يريد منك شاهر كنعان ؟ "

جعلتها عبارته الجادة ونبرته الآمرة تلك تحدق فيه بذهول لم يكن
بإمكانها التحكم فيه وضربات قلبها المرتفعة أساساً تزداد قوة
حتى كانت تشعر به سيخرج من خلف أضلعها فلو أنه وضع اسم
فاليريو مكانه كانت ستكون صدمتها أخف حدة وأمر متوقع
لكن ...! تباً له كيف علم بأنها التقت به ! هل يضع شخصاً
لمراقبتها أم يفعل ذلك بنفسه ؟! فهي لم تغادر المدينة ولا حتى
المنزل سوى لجامعتها .

حاولت جاهدة أن تجعل نبرتها ثابتة وبأن صدمتها كانت فقط
بسبب معرفته بما يحدث معها وقالت

" ما أردته أنت سابقاً ولم أوافق عليه "

كانت تعلم بأن كل شيء فيها سيخونها إن هو استجوبها أكثر من
ذلك لذلك لم تترك له مجال لقول أي شيء آخر وهي تتابع تنظر
لعينيه بتصميم

" لن يتحكم أحد بعد اليوم في مصير مارية ولن يقرر أحد عنها "

التوى طرف شفتيه في رد فعل لم تتوقعه بينما تنقلت نظراته من
عينيها لشفتيها وهمس بسخرية

" بسيفتيس "

شعرت بالاشتعال كما يحدث في كل مرة يستخدم فيها كلمات
يونانية لا تفهمها وظهر ذلك واضحاً على صوتها ما أن قالت

" لما لا تتحدث بكلمات يمكنني فهمها ؟ "


ارتسمت السخرية المميتة على ملامحه وطرف شفتيه وقال ولم
تترك العينان القاتمة عينيها

" لأنه لا يمكنك فهم أي شيء وبأي لغة كانت "

شعرت بإهانة كلماته تلك تصيب قلبها مباشرة فها هو لازال
يستنقصها ويصفها بالغبية ، وكانت ستهاجم بالفعل لكنّه سبقها
قائلاً بجمود وجدية

" وستغادرِ هذه البلاد ماريا أحببت ذلك أم لا "

وكانت هنا الشعلة التي اقترب بها من فتيل البارود فحركت رأسها
برفض حركة قوية وخرجت الكلمات منها غاضبة تشبه الاحتراق
المؤلم داخلها

" لا لن أفعل ولن ترحل بي لأي مكان فوالدك كان يفكر في
سلامتي لكن كل ما تفكر فيه أنت هو الانتقام لنفسك وكبريائك
كرجل "


وما أن رأت سواد عينيه يشتد وعلمت لأي نقطة أوصلته تابعت
من فورها وبكلمات قوية

" لن أغادر منزل غستوني ولن يستطيع أحد منكم إخراجي منه "

ابتسامة ساخرة كانت ما أهداها إياه وهي التي لم تتوقع قطعاً
ذلك ! ولم يتوقف عند هنا بل قال وببرود مميت وتلك الابتسامة
لازالت تزين شفتيه

"عليك أن تعلمي إذاً بأن فاليريو مديتشي لا يشبه برآء هارون "

ارتفعت يدها في حركة هي نفسها لم تشعر بها ولا تعلم كيف
فعلتها وهي تصفعه بقوة جعلت وجهه يستدير بزاوية بسيطة
فقط ، ومن شدة صدمتها هي نفسها بما حدث عادت لإخفاء يدها
خلف ظهرها تنتظر رد فعله ولازال يبعد نظره عنها جانباً وكأنها
ليست من فعلتها قبل قليل بكل جرأة ! ولم تكن تتخيل أن لا يمسك
يدها قبل أن تصل له وهو الذي يمسك بالذبابة في طيرانها بقبضة
واحدة ! فهي أكيدة بأنه لم يفعلها رجل من قبل لتفعلها امرأة ،
أجفلت فجأة ولم تجد ولا أي جزء من الثانية لتفكر فيه في إبداء
أي رد فعل قبل أن تصبح ذراعاها في قبضة أصابعه بينما دفع
جسدها بقوة نحو الخلف حتى شعرت بقطع الحديد الصغيرة
المثبتة على السياج خلفها تخترق ظهرها وأغمضت عينيها بقوة
بسبب الألم الذي شعرت به فيه وكتمت أنينها المتألم بصعوبة
وفتحت عينيها ترغمها وإن مجبرة ونظرت للعينين التي باتت
قريبة منها حتى كانت ترى وجهها في مقلتيه المشتعلة بغضب
وخرجت الكلمات من شفتيها متأنية منخفضة بسبب كتمها لألمها

" إيذائي لن ينسيك الألم الذي تشعر به "

وعادت وأغمضت عينيها ما أن شعرت بالألم يزداد في ظهرها
بسبب دفعه لجسدها أكثر نحو الخلف لازال يحكم قبضتيه على
ذراعيها وشعرت بحرارة أنفاسه على عنقها وبرائحته تخترق
خلايا رئتيها بسبب اقترابه الشديد منها واخترقت كلماته أذنها
وهو يهمس فيها بتعالي

" لن أشعر بالألم بسبب امرأة ومهما كانت "

ارتفعت يداها حينها وكأن قوة ما خفية حركتهم ودفعته من صدره
بحركة قوية غاضبة جعلته يبتعد عنها ونظرت لعينيه بالكثير من
الغضب وتعالت أنفاسها وصرخت في وجهه بينما سبابتها تشير
خلف كتفه

" لما أنت هنا إذاً ؟ ارحل هيّا "


كانت غاضبة من استنقاصه لها فإن كانت لا تعنيه حقاً لما يستمر
في إيذائها وما الذي يريده بالانتقام منها ؟!
ابتسامة ساخرة زادت وضعها سوءً هو رد فعله المباشر على ما
قالت وقال بتهكم

" لن يكون في صالحك هذا ماريا تذكري ذلك "

شعرت بالمهانة بسبب كلماته تلك وهو يهددها بمشاعرها نحوه
وعادت للصراخ في وجهه بكل قوة كان يمكنها امتلاكها لأن
الغضب وحده ما سيطر عليها حينها

" لا بل سأكون بخير ويمكنني العيش من دونك فلا تكن واثقاً جداً
وأنت تهددني "

كانت كلمات صادقة خرجت من أعماق قلبها المتأذي منه ومن
الجميع وهو ما تعلم بأنه قرأه جيداً في عينيها قبل كلماتها ، وكل
ما فعله حينها أن استدار مولياً ظهره لها بينما همست شفتاه
بجمود

" خائنة "

وكانت هي الرصاصة الأقسى الموجهة لقلبها حتى ظهر تأثيرها
على المقلتان الذهبيتان اللتان غشتهما سحابة الدموع تنظر له
وهو يتحرك مبتعداً عنها واشتدت قبضتاها بجانب جسدها بقوة
وصرخت وكأنها تنتقم من مشاعرها قبله

" أكرهك تيم .. بقدر ما عشقتك أكرهك "

توقفت حينها خطواته وإن لم يستدر نحوها ولأن جرح كرامتها
كان أعظم من أي مشاعر قد تكنها له ومهما كانت عظيمة ومهما
كانت تعلم بأنه ضحية لعبة تشاركوا فيها ثلاثتهم دون علمه وهو
ما جعلها تعاود الصراخ الغاضب وكأنها تمنعه من الالتفات
والعودة ومهما كانت الأسباب

" ارحل هيّا .. ارحل "

تحركت حينها خطواته مجدداً وابتعد ورحل بالفعل حتى توارى
عنها خلف الظلام وعند هنا انهارت حصونها وهوى جسدها نحو
الأرض واتكأت بطرف جبينها على السياج الحديدي تشهق العبرة
تلو الأخرى بينما همست شفتاها ببكاء موجع

" ارحلوا جميعكم واتركوني وحيدة "

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 11-08-24, 11:17 PM   المشاركة رقم: 1783
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*
حينما وصلت المنزل كان الوقت قد شارف على مغيب الشمس
على غير عادتها فهي تغادر البرج في العادة مقربة العصر ،
ركنت سيارتها وكانت الوحيدة في المكان كوقت مغادرتها
وعودتها كل يوم ولا تعلم المالك الآخر لسيارة هنا متى يغادر
ويرجع ! هذا إن لم يكن غادر المكان بشكل نهائي منذ تواجدها
هنا قبل أسبوع ولم تفكر في السؤال عنه ولا حتى عن عمها صقر
الذي لم تراه بعد ذاك اليوم أيضاً ويبدو مسافراً أو ما شابه ذلك
فهي ما أن تصل إلى هنا لا تغادر غرفتها سوى لرؤية والدها
بينما كانت تيما تقضي أغلب وقتها معها تقريباً وباتت تشعر
بتقارب المسافة بينهما وأصبحت تعلم الكثير عنها ، عن أفكارها
وأحلامها وما مرت به في حياتها وكيف استطاعت اجتيازه
ومشاكلها وكيف تصرفت في حلها وحيدة ، واكتشف كم كانت
الهوة بينهما كبيرة فحتى رعد كان أقرب لها منها وعلم عن
علاقتها بقاسم منذ البداية واستطاعت أن تخبره عن كل شيء
بينما هي لا لأنها انشغلت عنها بمشاكلها مع والدها متناسية بأنها
تحتاجها أكثر من الجميع وحتى من نفسها ، باتت تعلم الآن عن
صديقاتها في مدرستها عن موادها الدراسية ومشاكلها معها
واكتشفت بأنها بالفعل تحمل في داخلها قلب امرأة وعقل رجل
وليست تشبه من في سنها ليس في جسدها فقط بل وفي كل
شيء فيها وآمنت بعبارة والدها دجى حين قال قبل أيام

( تيما يمكنها أن تكون والدكما كلاكما أنتِ ووالدها لأنها
أعقل منكما )

بالرغم من انزعاجها ممّا قال حينها لكنّها اكتشفت بأنها حقيقة .
حينما دخلت الغرفة نزعت حجابها أولاً ورمته على الكرسي
وتحرر الشعر حاضناً وجهها فرفعت يدها وأبعدت أصابعها غرتها
ا للأعلى ، وما أن أخرجت تلك الأصابع منها عاد كما كان فتأففت
بضيق وعلمت بأنه عليها أن تتأقلم مع وجود كل هذا الشعر على
جانبي وجهها ، أخرجت مشبك الشعر منه أيضاً ووضعته على
الطاولة وفي نيتها الدخول للحمام لكنّها توقفت بسبب صوت
الطرق على باب الغرفة فقالت تنظر ناحيته

" تفضل "

انفتح حينها ودخلت الخادمة التي قالت

" السيد دجى يريدك سيدتي "

نظرت لها باستغراب للحظات فهي المرة الأولى التي يطلبها
بنفسه لغرفته فهو إما أن يأتي هنا أو تذهب له ليلاً قبل أن تنام !
وعلى الرغم من أنها لم تجد أي سيارة في الخارج قالت

" من في المنزل ؟ "

قالت الخادمة من فورها

" لا أحد سيدتي "

غضنت جبينها وقالت مستغربة

" وأين هي تيما ! "

قالت الواقفة عند الباب

" خرجت برفقة السيد الكاسر "

قالت غسق واستغرابها يزداد

" خرجا إلى أين ومتى جاء ! "

حركت الخادمة كتفيها دليل الجهل بتفاصيل الأمر وقالت

" منذ أكثر من ساعتين جاء لأخذها فقط كما يبدو "

تنهدت بعمق وتحركت نحوها متمتمه

" حسناً أنا قادمة "

وغادرت الغرفة ووجهتها بهو المنزل ثم باب الغرفة الذي طرقته
طرقتين متتابعتين قبل أن تدير مقبضه وفتحته ودخلت وقابلها
مباشرة الجالس على الكرسي بقرب نافذة غرفته وقد ارتفع
حاجباه باستغراب خالطه الكثير من الذهول وتمنت حينها أن
لبست حجابها مجدداً قبل أن تأتي ولعنت نفسها على أفكار
المراهقات هذه ، لكن الجالس هناك يبدو كان له رأي آخر وقد
فرد يديه جانباً وقال متنهداً وبابتسامه صغيرة

" لا يا إلهي .. غسق قلب من تنوين بفعل كل هذا "

اتسعت عيناها بذهول وقالت " أبي !! "

وتابعت من فورها موضحة وبضيق

" كل هذا بسبب مصففة الشعر ، طلبت فقط أن تقصه بشكل
متناسق لكنها برأس كالجدار لم تصمت حتى وافقت على
أن تصبغه "

ابتسم ينظر لعينيها وهو ما أشعرها بالخجل أكثر ، ولتنهي
الحديث عن الأمر قالت مباشرة

" أخبرتني الخادمة أنك تريدني فجئت من دون حتى أن أستحم
ولا أغير ثيابي "


انتقلت حينها نظراته لملابسها وجسدها الممشوق المتناسق
تحضنه بذلة سوداء جميلة التصميم كالعادة وإن كانت مطموسة
اللون وقال متنهداً

" وإلى متى كل هذا الحزن يا غسق ؟ "

وارتفعت نظراته لعينيها ما أن أنهى كلماته تلك ، العينان التي
غشاها الحزن فجأة وتابع بجدية

" أنتِ امرأة تعرف حدود الله جيداً وتعلمين بأن الحِداد أمر محرم"

كان يعلم بأنه يؤذي قلبها بكلماته لكنّها الحقيقة وعليها أن تُخرج
نفسها من الهوة السوداء التي تسحبها إليها شيئاً فشيئاً حتى
تنهيها ، لكنّ كلماته تلك تبدو لم تزد الوضع إلا سوءاً وقد تبدل
الحزن في العينان الجميلة للألم وارتفعت يدها لصدرها تشير
أصابعها لنفسها وقالت بأسى حزين ومرارة

" لم أستطع تجاوز الأمر .. إنه شيء في الروح هنا "

واغرورقت عيناها بالدموع وكأنها تنوي إيصاله لمراحل الندم
السريع على ما قال وقالت بحرقة تشير بأصابعها لنفسها مجدداً

" ولم يعد حزناً بل تحول لنار تأكل قلبي وأحشائي ولا تنطفئ "

وانقبضت أصابعها فوق صدرها وتابعت بصعوبة تخنقها العبرة

" ليته اختار أي طريقة للانتقام مني غير هذه ، ليته أحرقني حية
ولا كسر صورة والدي شراع داخلي "

كانت كلماتها كسكاكين في قلب الذي حرك رأسه في حيرة وتنهد
متمتماً

" لا أحد بات يعلم أو يفهم كيف يفكر أو ما يريد ! "

كان يشعر بالحيرة وتشتت مشاعره نحو ما يحدث بالفعل ولم
يتأخر عنه تفسيرها المنطقي للأمر وقد تبدل كل ذاك الألم في
ملامحها لابتسامة ساخرة متأسية وقالت

" ما يريده واضح تماماً وقد وصل له "

قال دجى حينها بهدوء يحاول فقط التخفيف عنها وإمدادها بالقوة

" مؤكد لشراع أسبابه ، لن نحكم من سماعنا لشيء ناقص "

تحرك رأسها برفض واستسلام لواقع لا مفر منه وقالت بكلمات
تنطق مرارة

" لو كان كذلك ما أخفى مطر هذا عن الجميع وما كان باح به
الآن تحديداً "

تنهد الجالس هناك بعمق وقلة حيلة وقال في حيرة

" لا يمكنني تصديق هذا ولا استيعابه !! "

وهو ما عجزت هي عن التعليق عنه وما بات ينغص نومها
وصحوتها تشعر بأنها في كابوس تتمنى فقط أن تفيق منه ، هي
التي أحبها كابنة له وأحبته حباً لن تهبه ولا لوالدها الحقيقي وإن
عاش معها منذ ولادتها فعلاقتهما كانت أقوى وأكبر من ذلك
بكثير ومن أن تشكك بها يوماً ولا بينها وبين نفسها فما أقساها
من طعنة وما أكبره من ألم باتت تشعر بأنه يفوق طاقة تحملها ،
نظرت للأسفل ولأصابعها التي باتت تقبضها ببعضها بقوة تنظر
لها من خلف سحابة الدموع التي لازالت ترفض مفارقة عينيها
بينما خرجت الكلمات تشبهها تماماً حزينة مذبوحة تائهة ومشتتة

" آمنت بشيء واحد فقط ، أنّ الرجل السيد في قومه قد يدوس
على أي شيء من أجل مصلحة ذاك القوم "

تحرك رأس دجى في رفض لا شعوري للفكرة وقال بلمحة حزن

" ليس كل رجل .. هم الرجال بحق منهم فقط ويكون الثمن غالياً
جداً وأولها قلبه "

وأنهى كلماته تلك ونظراته الحزينة لا تفارقها يشعر بألمها
وحزنها ولا شيء بيده يفعله فما أصبح من الماضي يصعب تغييره
والجرح حين يكون من أقرب الناس إليك يصعب شفائه لذلك
اكتفى فقط بالنظر لها في صمت وقراره الأخير يزيد من إصراره
في عقله بينما نظرت هي جانباً نحو النافذة الأخرى للغرفة
الواسعة وقالت بمرارة ونظرات شاردة حزينة

" أحسد أفقر نساء الشعب على حياتها وهي تنام قريرة العين
مبتسمة سعيدة وسط عائلتها وأبنائها تفكر فقط فيما ستعده من
طعام لهم في الغد "


ابتسامة حزينة متأسية كانت رد فعل دجى الأولى وقال

" تجديها هي تحسدك لأنك ابنة سادة القوم تنامين ولا تفكرين
في إعداد الطعام في الغد "

وتنهد متابعاً من فوره ونظراته لم تترك جانب وجهها وإن بات
شعرها المقصوص يخفي أغلبه

" إنها الحياة يا غسق لا أحد فيها خالٍ من الهموم ، وإن كان ثمة
حياة مثالية ما خلق الله الجنة ووعد بها عباده الصالحين "

اخفضت رأسها واستغفرت الله بهمس تمسح عيناها بأطراف
أصابعها بينما قال الذي لم ينتظر أي تعليق منها

" طلبت منك أن تكوني هنا ومن الكاسر أن يبعد شقيقته
لأمر مهم "

وكان هذا ما جعلها ترفع رأسها وتنظر له ليس بسبب كلماته فقط
ولا إبعاده لتيما بل وللجدية في صوته والتي جعلت ضربات قلبها
ترتفع بشكل جنوني زاده بأن تابع وبذات النبرة والملامح الجادة

" وليس أنتِ فقط بل ثمة من عليهم سماع ما سأقول وقررت
أيضاً "

تغضن جبينها باستغراب وهمست في حيرة

" من تقصد ؟! "

وقف على طوله وقال بابتسامة مائلة

" شخصان طلبت منهما جلب الثالث إلى هنا حالاً "

ولم يكن لديها متسع من الوقت لتسأل أو تتساءل وتحلل من
نفسها وهي تسمع أصوات الأحاديث الرجولية الغير واضحة
والخطوات التي باتت تقترب من مكانهم واستدارت نحو الباب في
حركة لا إرادية لتجد نفسها في مواجهة العينان السوداء والنظرة
الصقرية الحادة لمن وقف عند الباب مكانه فجأة ومن تمنت أن
دخل آخرهم وليس أولهم ليجد كل واحد منهما الآخر في وجهه
هكذا ، وما أن عبر بجانبه صقر ثم قاسم أدار هو ظهره لهم
وغادر المكان من فوره والسبب وجودها هنا بالتأكيد وكأنها وباء
لم يعد يريد الاقتراب منه ، وهو ما أشعرها بالمهانة وأمامهم
جميعاً وما جعلها تتوجه نحو الباب أيضاً وفي صمت فتحرك دجى
نحوها بخطوات سريعة وأمسكها من رسغها يمنعها بينما قال
ونظره قد توجه نحو شقيقه وابن شقيقته

" اذهبا للإمساك به قبل أن يتبخر نحن قادمان "

نظر الاثنان نحو بعضهما ورفع صقر كتفيه بمعنى لا حيلة لدينا
وغادرا في صمت ، وما أن تحرك دجى أيضاً نحو الباب وسحبها
معه أوقفته قائلة بضيق

" أبي رجاءً هو لا يريد رؤيتي لما تجبره على هذا ؟! "

استدار نحوها وإن لم تترك يده رسغها وقال بابتسامة مائلة
ناظراً لعينيها

" ومن قال بأنه هارب منك ؟ قد يكون فراراً من نفسه "

وأطلق ضحكة عالية بعدها رافعاً رأسه نحو الأعلى وهو ما جعل
الأبخرة تتصاعد من رأسها وقالت بضيق أشد

" لست تعرف ابن شقيقك جيداً إذاً "


لكن ذلك لم يجعل مزاجه الغريب ذاك يتغير بل وقال وكلماته
مختلطة بضحكة صغيرة

" لا سامحها الله أنا والدك ولا يمكنني إبعاد نظري عنك فكيف
بر.... "


قاطعته بضيق

" أبي !! "


وتابعت من فورها تلوح بيدها الحرة جانباً

" أنت ترى الكراهية في عينيه وتصرفاته ، هل تقول هذا
لجرحي أنا ؟ "


سحبها من يدها نحو الباب المفتوح قائلاً بجدية هذه المرة


" بل ثمة غيره سيقال وعليه أن يستمع له ورغماً عنه
كما الجميع "

وسار بها وإن مرغمة ناحية أصواتهم وهو باب المكتب
المفتوح ، الأصوات التي اختفت تماماً فور دخولهما وتركت
حينها يده يدها وقال دجى بضيق

" سيستمع الجميع لما أقول ومن كان رافضاً التواجد هنا يمكنه
إدارة وجهه ناحية الجدار "

جعلت كلماته تلك الصمت يمتد أكثر وبينما تجنبت الواقفة بجانبه
النظر لكامل الجهة الموجود فيها طاولة المكتب كان رد فعل
الواقف خلف الطاولة هو إشاحة وجهه جانباً وملامحه تتسم
بالجمود التام فقط وكأنه يهرب من النظر هناك أيضاً لكن بطريقة
رجولية تشببه ، وكل هذا لم يجعل دجى يتراجع عن سبب جمعهم
هنا وقال متابعاً بكلمات جادة

" قررت أن أسلم نفسي للعدالة ... "


كان حديثه ذاك كوقع صدمة الموت على جميع الموجودين هناك
وباتت النظرات جميعها تحدق به وإن تفاوتت ردود فعلها ، وما
أن حاول أحدهم مغادرة ذاك الصمت المشحون متجاوزاً صدمته
بما سمع قاطعه دجى بحزم من قبل أن يتحدث

" أتركني أُنهي حديثي أولاً يا صقر "

وهو ما جعله يزم شفتيه مكرهاً وإن كانت ملامحه تعبر فقط عن
الحزن العميق وقال دجى وهو يتجنب فقط النظر لعيني الواقفة
قريباً منه ولا التقاط رد فعلها كي لا يضعف

" يكفي اجتماع مشايخ جديد للتفاوض مع شعيب وأخوته فأنا من
قتل أبنائهم وأنا من عليه تحمل النتائج "

حركت حينها غسق رأسها برفض لازالت عيناها تقاوم باستماته
الدموع وإن كان لمعانها واضحاً فيها بينما عبّرت ملامحها عن
كل ذلك وتحدثت نيابة عنها وهو ما جعله ينكسر في داخله وبقوة
فهو أبعد حفيدته عن هنا لأنه يعلم درجة تعلقها به جيداً ولا يريد
أن تعلم عن كل هذا قبل أوانه لكن غسق ما كان يستطيع إبعادها
أيضاً وعليها تحمّل تلقي الأمر ولتعتبره ميتاً كما كان وكما عرفت
عنه وعاشت كل حياتها لذلك قال يحاول الصمود والنظر
فقط لعينيها

" أنتِ امرأة قوية يا غسق ولستِ بحاجة لمساندة أحد وتعلمين
أيضاً القوانين فأنا قاتل مهما كانت الدوافع والأسباب "


لم تجعل كلماته تلك الأسى والألم في ملامحها يتغير وإن لم تعلق
على ما قال لأن الموقف كان أشد عليها من النطق بأي كلمة فعاد
ونظر نحو الرجال الواقفين هناك وتابع

" كان أبان صادقاً فيما قاله حينما كان في قاعة المحكمة فعليّا أن
أقف فيها ومن لديه حق ليأخذه بالقانون "


غادر قاسم صمته حينها وكان أول المتحدثين وقال برفض حانق

" لكن ما يريده منك أبناء غيلوان ليس عنقك فقط خالي رجاءً ما
هذا الذي تقوله ! "


نظر له دجى وقال بجدية

" مثلما في جلسة تفاوض واحدة تغيرت فيها شروطهم ومطالبهم
يمكن فعلها في جلسة أخرى وليقدموا طلباتهم مقابل سلالتي "


تحدثت حينها غسق قائلة برفض أيضاً

" لا لن تموت ولن نقدمك لحبل المشنقة ولن يقدم أي أحد تنازلات
من أجلي "


عم الصمت المكان بعد كلماتها تلك وكأنها أخرست الجميع
وتبادل صقر وقاسم نظرة صامتة قبل أن يتوجه نظرهما نحو مطر
تحديداً والذي كما توقعا نظراته الغاضبة في صمت كانت موجهة
نحوها وإن كانت لا تراها فهي كانت تقصده بالتأكيد بنصف كلامها
الأخير ، وكان الحديث له نهاية الأمر مغادراً صمته وقد تبدلت
نظراته للبرود كما كلماته وهو يصوبها نحو دجى قائلاً

" هل انتهى ما لديك ؟ "


نظر دجى نحوه وقال ببرود مماثل تقريباً

" لنعتبره انتهى "

لأنه يعلم جيداً بأن صمته السابق لا يعني موافقته على ما قال
ولولا خروج غسق عن صمتها وتوجيه تلك الكلمات نحوه لتركه
يتحدث حتى تعب ثم خرج وتركه وفعل فقط ما في رأسه ، وأتاه
دليل ذلك ما أن قال بحزم آمر

" الاتفاق الأخير هو الساري وانتهى الأمر ولا نقاش فيه "

وكان ذاك ما جعل غضب دجى يفوق مشاعر الصامتة الواقفة
قريباً منه وقد قال بضيق

" مطر الأمر ليس عناداً "

ارتفع صوت مطر حينها بغضب صارخاً

" وليس جنوناً أيضاً فما تقوله لا يتقبله أي عقل "


وعند هنا وصل الصبر بأحدهم أقصاه فأن يهينها أمر مستقل لكن
إهانة والدها شيء كان من أبعد المستحيلات أن توافقها نفسها
على الصمت عنه فاستدارت ناحيته لتواجه عينيه مباشرة في أول
مرة منذ دخولها هنا لأنها كانت تتجنب النظر له حتى وقت تحدثه
بينما خرجت الكلمات منها غاضبة أيضاً وكأنها تهاجمه بها

" هو يقدم التنازلات وتنازل عن حياته لينقد الجميع هذا لا يعني
بأنه يفكر بجنون ، لما أنت لا بأس وعلى الجميع أن يستمع وينفذ
ويصفق لك "


كان هجوماً عنيفاً لم يتوقعه الواقفون قريباً منها بتاتاً وهو ما
جعل دجى يتنهد بضيق لأنه يعلم تبعاته جيداً بينما ظهر التفاجؤ
واضحاً على ملامح صقر وقاسم ، أما الواقف خلف طاولة مكتبه
لم يصمت أيضاً لكنّ حديثه لم يتوجه نحوها بل لدجى الذي نظر له
بغضب وهو يقول

" أخبر ابنتك تصمت لأن حديثي لن يعجبها "

وكانت إهانة تجاهلها حينها أشد من أن تصمت عنها لأنها فعلياً لم
تعد تحمل من التعقل ولا جزء صغير في عقلها وهي من قررت
سابقاً أن لا تجادله في أمر ومهما كان خاصة بعدما حكاه لها
والدها عن طفولته لكن كل ذلك تبخر في لحظات ووجهت حديثها
نحوه عكس ما فعل هو وقالت بغضب

" قل ما لديك هيّا ، قل بأنني السبب في كل ما يحدث الآن "

وحينما كان جوابه الصمت ينظر لعينيها فقط نظرة لو كانت
تتحدث لأحرقتها تابعت هي وبكلمات قوية دون أن تتراجع

" إن كان عليّا دفع الثمن فأنا موافقة لا أحد يتبجح فيما بعد
بأنه من أنقذني "

وها قد رمته بذات القذيفة مجدداً ترفض بأن يقدم أي تنازلات فقط
ليحميها منهم ومن أن تدفع ثمن قضية الثأر تلك وكأنها تستهين
بكل ما يحاول فعله فلازال غضبها من استنقاصه وإهانته لوالدها
تشتعل في قلبها كالحريق فهو عمه وعليه أن يحترمه في جميع
الأحوال ، ولأنه يريد التضحية بحياته لينقذهم جميعهم وهو أولهم
لا يعني بأنه يفكر كطفل فيستنقص منه هكذا أمامهم جميعاً ، وكان
رد فعله هذه المرة كسابقتها أيضاً أن تجاهلها وهو يوجه حديثه
لدجى مجدداً وقال بحدة بينما يرمي بيده جانباً بحركة غاضبة

" أنا لن أقدم عنقك ولا ابنتي لهم ومهما حدث وكان وإن طلبوا
عنقي سأقدمه مقابلاً ... "


وعاد ورمى بسبابته جانباً هذه المرة وهو يتابع صارخاً

" ابنتك إن أرادت تسليم نفسها لشعيب غيلوان الطريق أمامها "

وكانت تلك الضربة الأعنف لكبريائها وكرامتها وما جعلها تشيح
بوجهها جانباً في حركة لا إرادية وكأنه صفعها عليه ! وهو ما
فعلته كلماته بها بالفعل ولم تعلق على ما قال لأن أي قوة في
الأرض حينها ما كانت لتخرج الكلمات من جوفها المتألم زاده
صرخة دجى قائلاً بأمر غاضب

" أوقفوا هذا الشجار العقيم الآن "


وكانت تلك الكلمات كمفتاح تشغيل لقدمي الواقفة بقربه والتي
تحركت بخطوات سريعة ناحية الباب المفتوح لم توقفها ولا
كلمات والدها المنادي بأمر

" توقفي يا غسق "


فهي لم تستجب ولم تعد تعي وتسمع شيئاً وكان عليها أن تختفي
من المكان فقط ، بينما عاد دجى ونظر نحو الواقف مكانه خلف
مكتبه ما أن غادرت وقال بضيق

" ما هذا الذي تقوله يا مطر ! "

قال مطر حينها بضيق مماثل


" هي الحقيقة أم أخطأت ؟
أم أنك تسمع فقط ما أقول أنا وهي لا ؟ "


قال دجى هذه المرة بغضب يلوح بسبابته نحوه

"بلى مخطئ ولن أسمح لك بأن تتهم ابنتي في أخلاقها وشرفها "


وما أن استشعر رفضه لما قال سبقه قائلاً بغضب أشد

" بلى ولا تنكر ذلك وهو معنى كلامك "


وتابع من فوره صارخاً ورامياً بسبابته جانباً

" طلقها فقط وسيكون خاطبيها صفاً أمام باب منزلها ومن قبل أن
تنتهي عدتها فابنتي ليست بحاجة لأن تذهب للرجال وترمي
بنفسها عليهم بل تتزوج من كبيرهم وهي جالسة مكانها "


قال صقر حينها بضيق منهياً الشجار الآخر الذي بدأ يحتدم أكثر

" يبدو أن الأمر تحول لمشاحنات ، ألأجل هذا نحن هنا ! "

قال دجى ونظراته الغاضبة لم تفارق عيني مطر

" اتركونا لوحدنا "

*
*
*
دخلت الغرفة وضربت بابها بقوة ووقفت تسحب أنفاسها بصعوبة
بينما لامست يدها صدرها تضغط عليه برفق وكأنها تمنع ألمها
وعبرتها من أن تتغلب على كبريائها بينما لمعت الدموع في
عينيها فما أقساه من شعور حينما يكون الأذى والكلمة الجارحة
من أكثر شخص تؤثر بك كلماته ، وما أقساه من وجع أيضاً عندما
نعجز على ردها عليه فقط لأننا في موضع إتهام وموقف ضعف .
رفعت يدها لعينيها ومسحتهما بحركة سريعة ونظرت نحو الباب
الذي طرقه أحدهم من الخارج وكان في نيتها تجاهله لكنّها
تراجعت خشية أن يكون والدها ولن يفعلها أحداً غيره بالتأكيد
لذلك تحركت نحوه وفتحته لتجد أمامها آخر شخص كانت لتتوقعه
وهو قاسم والذي قال بهدوء ينظر لعينيها

" أيمكننا التحدث قليلاً يا غسق ؟ "

لم تعلق على ما قال بل تركته وتوجهت نحو الداخل ووقفت مقابلة
لسريرها ومولية ظهرها له تكتف ذراعيها لصدرها لكنّ حركتها
تلك لم تجعله يتراجع ويغادر وإن فهم مغزاها بل تقدم نحو الداخل
قائلاً ونظره لا يفارقها

" أعلم برفضك فكرة زواجي من ابنتك فهل يمكنك النظر لي
والتحدث معي على أني ابن عمتك "


استدارت نحوه حينها وقالت ببرود تنظر لعينيه

" ولأجل هذا أرفض الحديث معك ليس بسبب مسألة زواجك
من تيما "

" ماذا ! "


همس بتلك الكلمة باستغراب ففي أبعد أحلامه لم يكن يتوقع أن
تكون والدته السبب ولا يفهم لما ! وأتاه جواب ذلك ما أن قالت
بما يشبه الكراهية بالفعل

" أجل كلما رأيتك أمامي تذكرتها وتذكرت حزنها وبكائها عليك كل
ليلة تنتظر فقط أن تراك حتى ماتت "


كان ألم كلماتها عليه أكبر من أن تتوقعه وإن لم يظهر ذلك عليه
وهو يسمع حديثها عنها قبل وفاتها ، وتحول كل ذلك الكره لغضب
في ملامحها وهي تتابع


" ما أقسى قلبك وما أقساك من رجل كيف يستأمنك على ابنته
لا أفهم ؟ "


كتم ألم إهانتها الأخرى أيضاً وقال والهدوء لازال يسيطر على
صوته كما ملامحه


" كنت مجبراً ومسجوناً في الهازان ، الجميع وأولهم أنتِ تعلمون
عن هذا "


" وبعد ذلك ؟ "


قالتها سريعاً وكأنها تتحداه أن يجد إجابة يقنع بها نفسه قبلها ،
ولم تنتظر منه كل ذلك بل تابعت تهاجمه بقسوة صارخة في
وجهه بينما تشير بسبابتها للبعيد خلف كتفه


" بعد أن خرجت من هناك وسافرت لإنجلترا ولم تفكر ولا في
رؤيتها من أجلها وليس من أجلك فلا يبدو لي أنك تهتم "


وعاد واستقبل كلماتها الجارحة بذات هدوءه وإن كانت أصابت
قلبه مباشرة وقال نهاية الأمر

" كنت أعتقد ... "

لكنّها لم تترك له مجالاً ولا لإكمال حديثه وقاطعته قائلة بضيق

" لا تقل هذا بالله عليك وبأنك كنت تظن أيضاً بأنها أربعة
أعوام فقط وترجع "


وأنزلت رأسها ما أن كان جوابه الصمت التام وأمسكت جبينها
بأصابعها ليخفي شعرها ملامحها عنه بينما وصله همسها محدثة
نفسها باستياء

" يا إلهي أسكت لساني "

فعلم بأنها باتت تجبر نفسها على الصمت لأن حديثها لن يكون أقل
قسوة من سابقه لذلك قال


" لا يبدو لي بأنك في مزاج جيد للحديث عن أي شيء
لذلك أعتذر "

واستدار من فوره ناحية باب الغرفة لكنّه توقف فجأة ما أن قالت
من خلفه بأمر حازم

" انتظر "

وما أن استدار نحوها واختار أن لا يتجاهلها ويغادر قالت تنظر
لعينيه بعدائية واضحة

" عليك أن تعلم بأن المرأة تدافع عن كل شيء باستماته حتى
يكون الأمر عند أبنائها فهي تحارب بأظافرها وأسنانها ولن أسمح
لك بأن تؤذي مشاعر ابنتي يوماً وإن كانت تحبك "

وحين كان جوابه الصمت ينظر لعينيها فقط بهدوء وكأنها لا توجه
له الضربة تلو الأخرى تابعت ودون أن تهتم لردود فعله تلك

" أجل لن أكذب لو قلت بأني لا أثق في رجل لم يهتم لمشاعر
والدته بأن يفعلها مع أي امرأة أخرى "


" عمتِ مساءً "


كان ذاك فقط ما قاله وهو يغادر مغلقاً الباب خلفه هكذا بذات
الهدوء الذي دخل به ممّا جعلها تشتم هامسة

" يا إلهي ما أبرده من رجل "


وسرعان ما بدأت شفتاها تتمتم بخفوت تستغفر الله هامسة دون
توقف وهي تتوجه ناحية الخزانة وفتحت بابها بعنف ، فهو
استخدم معها أسلوباً جعل من هجومها عليه تأنيباً للضمير نهاية
الأمر ولو كان حاورها بذات غضبها وهجومها لكان الأمر الآن
مختلف في داخلها بالتأكيد ، وليست تعلم هل تعمد ذلك لأنه
يعرف تأثيره على البشر أم هي طباعه فقط ! كل ما باتت تعلمه
بأنها وجدت أمامها الفريسة المناسبة لنفث نيران غضبها بها .

رمت الثياب من يديها على الأرض تحتها ورفعتهما لشعرها تبعد
الغرة المتدرجة بأصابعها نحو الأعلى تتنفس بقوة وكأنها غريق
تم إنقاذه للتو فهي بالفعل كانت تفعلها وتجلده لتريح ذاتها وتخفف
من السوء الذي كانت تشعر به ، لكنّها لم تشعر بشيء منها خفّ
عن السابق فلازالت تشعر بأدق عرق في أوردتها يؤلمها وهو ما
جعلها تمسك بطرف السرير وجسدها ينزل نحو الأرض جالسة
عليها واتكأت بجانب وجهها على ساعدها الذي كانت تسنده على
السرير بينما اشتدت قبضة أصابعها الأخرى على قماش بنطلونها
ودفنت ملامحها في ساعدها وذراعها لازالت تقاوم فقط شعوراً
بالصراخ بأعلى صوتها وكأن داخلها يوشك على الانفجار حتى
شعرت بنغزة قوية ناحية رحمها جعلتها تنحني قليلاً دون شعور
منها بملامح متألمة حزينة ذات الوقت فها هو طفلها يذكرها

بوجوده في كل مرة تؤذيه فيها ودون رأفة بصغر حجمه وحجم
قلبه المتعلق بقلبها ، وهو ما جعلها تتحامل على نفسها ووقفت
وإن ببطء وتوجهت نحو باب حمام الغرفة وقررت أن تتوقف عن
التفكير في كل ما حدث لأنه ثمة من يحتاج لأن تكون بكامل
عافيتها هذه الأشهر على الأقل .

*
*
*


كان يقف مكانه صامتاً تراقب عيناه الواقف عند النافذة يوليه
ظهره يجمع يديه خلفه في صمت طويل وكأن كل واحد منهما
يعطي مساحة للآخر ليهدأ قبل أي حديث قد يدور بينهما ، وبالفعل
جعلت تلك اللحظات عقل دجى يراجع خطوات كثيرة اتخذها وكان
ينوي اتخاذها وأمور كثيرة قيلت ما كان يجب أن تقال ، وتمنى
في قرارة نفسه أن يكون الواقف هناك قد راجع نفسه في الكثير
أيضاً وأن لا يعتبر صمته هذا تراجعاً عن فكرة التحدث معه لذلك
قرر أخيراً أن يغادر صمته وقال ونظره لم يفارقه بينما كانت
كلماته جادة تشبه ملامحه

" تذْكر بالتأكيد ما قلته لي حينما طلبت أن أزوجها بك مجدداً قبل
أربعة عشر عاماً وبعد أن طلقتها وغادرت البلاد ؟ "

وحين لم يبدر منه أي رد فعل تنفس دجى نفساً طويلاً وكأنه
يرتجي من نفسه الصبر وقال مجدداً وبضيق

" تذكر أم أعيده على مسامعك بالحرف والكلمة ؟ "

" أذكر "

كان جوابه كلمة واحدة باردة تشعرك بالقشعريرة وكأنه لامسه
بها وهو ما جعل مزاجه يزداد ضيقاً وقال

" هو سؤال واحد يا مطر ، إن كان أحدنا من اتهمك بأنك تصر
على موافقة شروطهم كي تتزوج بشقيقته وتصل لها أكان
سيرضيك هذا ؟ "

استدار نحوه حينها وقال بضيق مماثل

" عمي لا تخلط الأمور رجاءً ولا تتهمني بأفكارك نحوي "

قال دجى مباشرة يدير يده نحوه

" فسر لي الأمر بمقصدك أنت لأرى "

حركته تلك وكلماته جعلت مزاجه يتبدل للغضب لأنه يستهين
بأسبابه بشكل واضح وهو ما جعله ينفجر قائلاً بغضب

" لما لا نرجع لكل ما قيل ولتفسيره ؟ لما ما يقوله مطر فقط
يجب أن يُفسر وأن يُحاسب عليه ؟ "

قال دجى معترضاً ومدافعاً

" هي لم ... "

لكنّ مطر لم يترك له المجال لينهي كلامه وهو يكمله نيابة عنه
وبذات صراخه الغاضب

" هي فعلتها واتهمتنِ بأني أفعل كل هذا لأتبجح بأني من أنقذ
الجميع وضحى من أجلهم ، فعلت أم لم تفعل ؟ "


قال دجى معترضاً بقوة

" هي دافعت عن رأيي وليست تتهمك "


رمى مطر يده نحوه قائلاً بذات غضبه

" لن تراها مخطئة وإن دفعتك بيديها لحبل المشنقة "

لم تجعل تلك الكلمات دجى يتراجع رغم قسوتها عليه وقال بكلمات
قوية صارخاً


" أجل فهو قدري فقط ولن ألومها لأنها ليست المخطئ الوحيد
في الأمر "


واجه الواقف هناك كلماته بابتسامة ساخرة جعلته يشتعل
أكثر قائلاً

" كونك غاضب منها لأنها رفعت ضدك قضية طلاق ولأنها خانت
ثقتك بها أمر وأن تنكر الحقائق أمر آخر يا مطر "


رماه بالحقيقة في وجهه ولأنه يعلم بأنه سيرفض الاعتراف بها
أسكته بحركة من يده من قبل أن يتحدث وقال بجدية

" هي أخطأت لا أحد ينكر ذلك لكن ما الذي دفعها لهذا ؟ "

وأنزل يده عند نهاية كلماته ينظر للعينين السوداء الغاضبة في
صمت وكأنه يتحداه أن ينكر ذلك ، ولم ينتظر منه أي تعليق وهو
يتابع بكلمات جادة قوية


" جميعنا أخطأنا وأخفينا أموراً عنها وعاملناها كالغريبة بيننا ،
أنا وأنت وشراع وتيما وحتى صقر بل وجوزاء وجويرية في
مسألة نسبها فمن الملام الآن هي أم نحن ؟ "


واجه مطر كل تبريراته تلك بأن صرخ رامياً بسبابته

" ابنتك من كانت ترفض الاستماع لي لست من أراد إخفاء كل
شيء عنها "


عاد وواجهه دجى بالصراخ ذاته وهو يشير له برأسه بحركة
غاضبة

" وها أنت تقول الآن وهي تستمع ! جعلت تيما تقرأ أوراق
الاتفاقية في المحكمة وهي تسمع ، جلست تفضح أسرار من
رباها في التلفاز وهي تسمع ، فما الذي تغير ؟ "


وتوقف يتلقف أنفاسه الغاضبة ينظر للذي لم يعلق بأي كلمة كما
توقع ، وهو ما جعله يشد قبضتيه بقوة بجانب جسده وقال ما
كان يحارب نفسه بين فعله أو لا وها هو دفعه نحوه طواعية بينما
كانت كلماته قوية حازمة

" كنت قد قررت تسليم نفسي للعدالة لكني تراجعت الآن ولن
أترك ابنتي وحيدة في هذه الحياة بعدي وما أن تطلقها وتتزوج
من ابنة غيلوان تلك سوف آخذها وأسافر بها خارج البلاد والأيام
كفيلة بجعلها تنساك وفلذة كبدها معك ولن أتركها للذل والمهانة
مجدداً "

وتركه وغادر ضاربا الباب خلفه بقوة مخلفاً ضجيجاً من نوع آخر
بسبب الذي ضرب الأوراق المكدسة على مكتبه بيده جعلتها
تتناثر في كل مكان من الأرض هامساً من بين أسنانه بغصب

" وأنا أتزوج بابنة غيلوان لما ؟ أليس لأنقذك وأنقذهما "


*
*
*
ضربت بطرف حذائها على الأرض بتوتر ونفاذ صبر فهي جاءت
على موعدها المحدد ورغم ذلك ها هي جالسة تنتظر دورها منذ
أكثر من خمسة عشر دقيقة وجل ما تخشاه وباتت أكيدة منه بأنها
ستقف وتغادر في أي وقت ، لا تنكر بأنها ليست مقتنعة بشكل
كافي لتزور عيادة هذه الطبيبة فمنذ أن التقت بها وأعطتها الكرت
الخاص بعيادتها وهي تعيش صراعاً حقيقياً لفعلها والمجيء ،
ففي دروس محاكاة العقل الباطن التي تتابعها عبر الانترنت ومن
أحد أهم بنودها أن يعتاد عقلك على أنك تقرر ثم تفعل ليس أن
تتخذ قرارات وتتراجع عنها طوال الوقت وبذلك ستكون شخص
متردد ومتخوف طوال حياتك ، ولأن عقلها قال في لحظة ما عليك
الذهاب لها كان عليها التنفيذ مهما ظهرت من قيود أمامها إن
كانت ملموسة أو حسية .

توقف سيل أفكارها ما أن انفتح الباب يساراً وخرجت منه امرأة
في منتصف العمر تقريباً وأغلقته خلفها وتوجهت نحو
السكرتيرة وتحدثت معها قليلاً قبل أن تغادر ، حينها نظرت لها
الجالسة هناك وقالت مبتسمة

" يمكنك الدخول الآن سيدتي "

وقفت حينها وتوجهت ناحية ذات الباب وطرقت عليه طرقتين
متتابعتين قبل أن تفتحه وتدخل وأغلقته ونظرت نحو الجالسة
خلف طاولة مكتبها والتي قالت مبتسمة

" كانت زيارتك لي في أقرب ممّا توقعت ! "

حاولت الابتسام وهي تقترب من مكتبها قائلة
" أحاول أن أعوّد عقلي على فكرة التنفيذ السريع للقرارات "
وتصافحتا معاً بينما قالت الطبيبة مبتسمة

" هذا رائع وجميل جداً "

قالت جمانة وهي تجلس في الكرسي المقابل لطاولتها بينما كانت
كلماتها محبطة بوضوح

" لكنّي لازلت أجد الصعوبة في بعض الأمور "

قالت التي لم تغادر الابتسامة الواثقة شفتيها

"هذا لأنك توجهتِ نحو الدرجات الأعلى ولم تبدئي بأسفل السلم "

تبدلت ملامح جمانة للاستغراب وقالت

" أنا لا أفهم معنى هذا ! "

قالت التي وقفت مغادرة كرسيها وبصوت باسم

" سيحدث ذلك مع الوقت ، هيّا تعالي معي "

وتحركت من خلفها بينما دار رأس جمانة معها دون أن تقف
ونظرت لها وهي تجلس على الكرسي المقابل لسرير موضوع
عند النافذة يشبه قليلاً كراسي عيادات الأسنان وقالت من مكانها
ونبرة عدم الاقتناع واضحة في صوتها

" هل سيكون الوضع هناك أفضل ! "

قالت التي استدارت نحوها بالكرسي الجلدي

" بالتأكيد لأنه عليك أن تكوني مسترخية تماماً وأن نكون
قريبتان من بعضنا "

وتابعت من فورها بضحكة صغيرة

" كما عليك أن تُزيحي من عقلك فكرة أنّ من ينام عليه هو
مختل عقلي "


ابتسمت جمانة محرجة ووقفت قائلة

" لا ليس الأمر كذلك بالطبع "

وتحركت نحوها ووقفت قرب السرير تنظر له في صمت حتى
قالت التي لازالت تراقبها مبتسمة

" هيّا استلقي فكل ما سنفعله أنّنا سنتحدث قليلاً "

ابتسمت بارتياح أخيراً وما أن استلقت عليه شعرت بتشنج لحظي
لكنّ الابتسامة على الوجه الدائري الممتلئ قريباً منها جعلها
تسترخي أخيراً بينما قالت الطبيبة مبتسمة

" هيّا أخبريني عمّا يزعجك ومن البداية "

غابت الابتسامة عن وجه جمانة ونظرت نحو السقف الأبيض
وقالت

" بدأ الأمر بدخول تلك المرأة لمنزلنا وحياتنا "

وتوقفت فجأة ونظرت للتي قالت بابتسامة لم تصل لعينيها

" لا ليس ذاك الوقت أعني ولا تلك المرأة بل منذ طفولتك أنتِ "

انعقد حاجباها الرقيقان وقالت

" لكنّ مشكلتي تكمن في المرأة التي سرقت زوجي مني
وليس طفولتي "

كان صوتها كما ملامحها قد اندمج فيها الرفض مع الكراهية كما
الألم فقالت التي كانت تراقبها بتفهم باسم

" هذا من منظورك أنت وليس أنا "

لكنّ ذلك جعل النائمة على السرير تعود لمرحلة التشنج وأمسكت
يديها بطرفه وكأن الخطوة القادمة هي مغادرته وقالت بضيق

" وأنا صاحبة المشكلة والاستشارة "

كان سلوكها هجومياً ناحيتها بل وفيه تعالي واضح عليها لكنّها
استقبلت كل ذلك بصدر رحب كما اعتادت مع جميع مرضاها
وقالت والابتسامة لم تغادر شفتيها

" سنصل لتلك النقطة ولكل ما في حاضرك يا جمانة لكن علينا أن
نبدأ من البداية "

جعلها ذلك تسترخي مجدداً بينما كانت كلماتها مقتضبة حين قالت
وكأنها تهرب من السؤال لاجتيازه في أسرع وقت

" طفولتي عادية ولدت في عائلة غنية كثيراً وكنت أنا وشقيقتي
جيهان الولادة الوحيدة لوالدتي ، درست في ... "

وتوقفت ما أن قاطعتها التي قالت تريد الوصول لما تريده هي

" وكيف كانت تلك الطفولة ؟ ما الذي تكرهينه ولا تحبين تذكره
فيها ؟ وما الجميل فيها أيضاً ولازال منغرساً في ذاكرتك "


كان رد فعل جمانة المبدئي أن غابت في صمت مبهم تنظر للسقف
وكأنها ترجع بعقلها للوراء بينما انتظرتها الطبيبة بصبر حتى
قالت أخيراً

" لا شيء جميل سوى أني كنت أنال ما أطلبه ويمكن شرائه
بالمال "

لم تعلق الجالسة قربها لأنها تعلم بأنه ثمة مزيد وما قالته مجرد
بوابة الدخول ، وذاك ما حدث فعلاً فقد تابعت بنظرة شاردة
حزينة

" كنت دائماً الطفلة الحمقاء بينما جيهان المختلفة تماماً والمميزة
وكانت تلفت نظر الجميع وحتى والداي "

قالت الطبيبة حينها

" هل كنتِ تتلقي المديح اللازم عند أي عمل إيجابي لك ؟ "

نظرت نحوها وابتسمت بمرارة هامسة

" لا "

قالت التي انشغلت بدفترها تكتب فيه

" توقعت هذا ، جيد من هنا بدأنا وهو جرح الظلم "

قالت جمانة باستغراب

" ما يعني هذا ! "

رفعت نظرها لها وقالت

" معناه بأنك لم تتلقي التشجيع والتقدير في طفولتك "

حركت جمانة رأسها موافقة بملامح تعيسة بينما قالت الجالسة
قربها

" هل كان والداك يغدقانك بمحبتهما ؟ "

قالت مباشرة

" كانا يحبانني نعم "

قالت الطبيبة موضحة

" ليس هذا أعني ، أقصد هل كان هذا واضحاً في معاملتهما لك
كعدد المرات التي يحتضنانك فيها يومياً "


غاب نظر جمانة في عينيها وكأنها عادت للسفر لذاك الزمن البعيد
وقالت أخيراً وبتعاسة واضحة

" لا أذكر الكثير من هذا "

تنهدت حينها الطبيبة تحرك رأسها وعادت للتدوين في دفترها
هامسة بخفوت

" لدينا هنا الاحتياج العاطفي أيضاً "

وقالت ما أن رفعت رأسها ونظرت لها مجدداً

" من كان المسؤول عن القرارات في عائلتكم ؟ أم ثمة توافق
بين والديك في الأمر ؟ "

قالت جمانة ببرود

" بل كان والدي صاحب القرار بينما كانت والدتي لا تجرؤ ولا
على مواجهته بأنه يقوم بتهميش قرارتها ، لقد كانت شخصيتها
ضعيفة ومهزوزة "


عادت الطبيبة للتدوين في دفترها في صمت قبل أن تعود وتنظر
لها وقالت

" ومن هنا أصبح لديك جرح التعلق يا جمانة وباتت شخصيتك
بثلاثة أبعاد سلبية جعلت من مشاعرك نحو زوجك الآن تصل لهذه
المرحلة وهي مرحلة التعلق "

قالت التي رمقتها باستغراب

" وما علاقة كل ذلك بعلاقتي بوقاص ! "

قالت الطبيبة مبتسمة

" كل العلاقة يا جمانة ، طفولتنا لها كامل العلاقة في تحديد
شخصياتنا وقرارتنا وأفكارنا وكل شيء "

وتابعت من فورها تنظر للتي لازالت تحدق فيها باستغراب

" هل تعلمي بأنها تؤثر حتى في اختيار الأشخاص لنا وما نمثله
من دور في حياتهم ؟ "


وكان ذاك ما جعل عيناها تتسع بذهول وقالت

" في اختيارهم لنا ! "

ابتسمت الطبيبة وقالت

" أجل سواءً الأصدقاء مدراء العمل وشركاء الحياة ، كل هذا
يتحكم فيه جروح طفولتنا "

كانت تنظر لها وكأنها تتحدث بلغة لا تفهمها وهو ما جعلها تتابع
موضحة

" على سبيل المثال الشخص النرجسي ينتقي ضحاياه دون
شعور منه فهو يراهم مناسبين لأنهم يحملون عقداً من طفولتهم
وهكذا بالنسبة للجميع ، وليس بالضرورة أن تتذكري تلك الطفولة
قد تكون أمور حدثت وأنت في الثانية أو الثالثة من عمرك لكنّها
تؤثر في مستقبلك كثيراً ، فكثير يشتكون لي بأنه جميع علاقاتهم
مع أشخاص بشخصيات أو سمات متشابهة وبأنه لا ينجذب
لهم سواهم "

همست التي لازالت تعيش الذهول ذاته

" كم هذا غريب ؟! "

ابتسمت الطبيبة وقالت

" ومنطقي أيضاً فحتى أجسادنا يتحكم فيها هذا ، ولهذا تتميزين
بجسد ممتلئ فهو جرح الإذلال لأنك من اختار هذا الجسد ليس
لأي عامل آخر "

تنهدت حينها جمانة بإحباط وقالت

" هذا معناه أننا بحاجة للذهاب لطفولتي أولاً بالفعل "

قالت التي ازدادت ابتسامتها اتساعاً حينما وصلت لما تصبو له
أخيراً وهو إقناعها

" نعم وما أريده منك الآن أن تغمضي عينيك وتسترخي "

انصاعت لها سريعاً وعن اقتناع تام هذه المرة وبات ما تسمعه
هو صوتها فقط وقد قالت

" والآن أنتِ في أكثر مكان تحبينه في طفولتك وتقضين أغلب
وقتك فيه "

استرخى جسدها أكثر وتبادر لذهنها سريعاً صورة لحديقة منزلهم
حيث المكان الذي كانت بالفعل تقضي أغلب وقتها فيه تلعب
وحيدة ليصبح ملجأها أيضاً وهي كبيرة ووصلها صوت التي
قالت بما يشبه الهمس وكأن صوتها ينسكب في عقلها مباشرة

" نادي الآن على جمانة الطفلة في قلبك وكأنك هناك بالفعل
ولتخرج لك من هناك "

تعالى صدرها بنفس عميق ونادت في قلبها على نفسها وبدأت
ترى في عقلها بالفعل طفلة تشبه صورها في طفولتها تخيلت
بأنها خرجت لها من خلف منزل كلبها ذاك الوقت وركضت نحوها
ما أن نادتها مجدداً ووصلها صوت الطبيبة مجدداً هامسة

" هيّا تحدثي معها الآن بصوت مسموع واساليها عمّا يحزنها "

شعرت بتشنج غريب في حنجرتها وبصعوبة تحريك فكاها وخرج
صوتها ضعيفاً ما أن قالت ولازالت تنظر للطفلة المبتسمة التي
كان يرسمها لها خيالها

" جمانة ما الذي يحزنك يا صغيرة ؟ "

وتحول الأمر في آخر كلماتها لعبرة مكتومة ونزلت الدموع من
طرف عينيها المغمضتان وبدأ صدرها ينتفض فقالت التي أمسكت
بيدها

" لا تقاومي دموعك يا جمانة يمكنك البكاء كما تشائين ثم
المحاولة مجدداً حتى نصل لهدفنا ونجعلها تتسامح مع تلك
الطفولة وأولهم والداك "

وكان ذاك ما جعلها تنفجر باكية ولازالت ترفض حتى أن تفتح
عينيها وكأنها تعيش جميع جراج تلك الطفولة الآن .

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 11-08-24, 11:19 PM   المشاركة رقم: 1784
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 



*
*
*

تأففت وهي تجلس تبعد شعرها عن وجهها فلا نوم يلوح في
الأفق وهي تعلم لما ، لم يوافق الكاسر على أن يرجع بها للمنزل
حتى تجاوز الوقت مغيب الشمس ولم ينزل معها أيضاً وهو ما
بات يحزن قلبها أكثر فكان وكأنه يجهز نفسه لفراق طويل لا يريد
أن يتجرعة دفعة واحدة ليقتله فاختار هكذا أن يموت بالبطيء
رويداً رويداً .

مسحت الدمعة من رموشها تنظر للأرض بحزن فها هو الكاسر
استطاع فعلها وبدأ يقنع نفسه بأمر رحيلها عنهم بينما عجزت
هي حتى عن تقبل الفكرة وتشعر بأنها عادت وخسرتها مجدداً
وكأنها حلم من أحلام طفولتها ظهر ثم تلاشى وانتهى وعليها أن
تستفيق للواقع الآن .

وقفت خارج السرير عند تلك الفكرة وتوجهت نحو باب غرفتها
وغادرته متجهة نحو باب آخر لا تستطيع سوى مطاوعة قلبها
والسير باتجاهه بالرغم من أن جدها أصر عليها أن لا تراها الليلة
وقت وصولها ولم تفهم لما وما الذي حدث بعد ذهابها ! وعلى
الرغم من قلقها الشديد لم تستطع مخالفة أوامره خاصة أن
ملامحه حينها كانت تقلقها ومتأكدة من أن شيء ما حدث وقت
غيابها وباتت تشك بأمر إصرار الكاسر على الخروج معاً وبأنه
ثمة اتفاق لإبعادها ! ومع توصيات جدها الكثيرة أن تتركها
لوحدها الليلة ازداد قلقها وخوفها وشكوكها أيضاً ، تكره مخالفة
أوامره لكنّها وصلت لمرحلة الآن لم تعد تستطيع فيها قدماها
إطاعتها ورفض عقلها وقلبها النوم قبل عيناها لذلك قررت أن
تراها فقط ثم تغلق الباب بهدوء وترجع لغرفتها .

وذاك ما حدث بالفعل فما أن وصلت الباب أدارت مقبضه بحركة
بطيئة كي لا توقظها إن كانت نائمة ، وما أن فتحته واتسع قليلاً
وتسلل نور الممر نحو الداخل راسماً خطاً طويلاً ناحية سريرها
توقفت يدها تنظر للنائمة فعلاً فوقه لكن ما جعل نظرتها تتبدل
للاستغراب هو تنفسها القوي وشفتاها المنفرجتان قليلاً فلا ينام
الشخص الطبيعي هكذا ! وكان ذاك ما شجعها على التقدم نحو
الداخل واقتربت منها حتى وقفت فوقها تماماً تنظر لوجنتيها
المحمرتان ، الأمر الذي زاد قلقها شدة ومدت يدها نحوها ببطء
حتى لامست أطراف أصابعها بشرتها وارتدت يدها لصدرها سريعاً
مع شهقة صامتة فحرارتها كانت مرتفعة جداً ! نظرت حولها
بضياع لحظي وكأنها تستشير عقلها للخطوة القادمة وهي الركض
خارجاً وطلب المساعدة من جدها أو عمها صقر لكنّها تروت
قليلاً وتراجعت عن ذلك ومدت يدها نحو كتفها وحركتها منه
ببطء قائلة

" أمي "

لكنّها لم تستجب لها على الرغم من تكرار ذلك عدة مرات تهز
كتفها بقوة أكبر وتناديها ولا من مجيب وحالها كما هو عليه
فركضت حينها ناحية باب الغرفة دون انتظار أكثر تشعر بضربات
قدميها الحافيتان تطرق في قلبها المرتعب خوفاً عليها وعلمت
حينها بأن شكوكها جميعها كانت في محلها وثمة أمر كبير جداً
على قلبها حدث هنا يبدو كتمته فيه حتى أعياها !.

ما أن وصلت بهو المنزل كانت وجهتها محددة ومعروفة وهي
ممر غرفة عمها صقر تتمنى في قلبها أن يكون موجوداً فيها
فجدها لا يمكنه مغادرة المنزل ولن تقلقه الآن ، ولأن صقر يتأخر
غالباً كوالدها خشت بأن لا تجده ولا حل أمامها غير دجى حينها
، لكن شيء من كل ذلك لم يحدث وقد اصطدم جسدها بجسد ما
في ظلام المرر الطويل الساكن ما أن دخلته حتى كادت تسقط
أرضاً لولا الأصابع التي التفت حول ذراعها في الوقت المناسب
ممسكة بها وتخلل صمت المكان بعد شهقتها القوية الصوت
الرجولي العميق

" تيما ما بك ! "

وأدركت حينها من يكون صاحبه فيبدو بأنه كان في مكتبه وغادره
للتو وليس خارج المنزل كما كانت تعتقد ! لمعت عيناها بالدموع
وهي تنظر للملامح التي يخفي أغلبها ظلام المكان وقالت بقلق
وكلمات مندفعة

" أمي إنها مريضة وحرارتها مرتفعة أناديها ولا تجيب ، تبدو
نائمة وليست نائمة ولم تفق مهما حا... "

" اتصلي بقاسم فعمي صقر ليس هنا وليأخذها للمستشفى "

كان ذاك فقط ما قاله وهو يترك ذراعها واجتازها وعيناها الدامعة
المتسعة بصدمة تتبعه وشعرت بقلبها وكأنه آنية زجاجية وقعت
على الأرض وتحولت لأشلاء ، حتى أنها لم تتحرك من مكانها
رغم اختفائه من المكان تنظر له من خلف دموعها وهو يغادر
باب المنزل وأدركت لحظتها بأن شيء كبير جداً تحطم داخل ذاك
الرجل ليس ثمة وقت كفيل بترميمه ، لا تصدق عيناها ولا
يمكنها استيعاب هذا فهل أصبحت بالنسبة له امرأة كأي واحدة
غريبة عنه هكذا !!

أطاعتها قدماها أخيراً وركضت عائدة من حيث جاءت وكانت
ستتوجه لباب المنزل أيضاً لكنّها تراجعت فجأة فما الذي ستقوله
وما الذي سيجدي ؟ تعلم بأنه سيأمرها بالعودة فقط وانتهى فهي
لطالما كانت المطرودة كلما حاولت التحدث عمّا يخصهما لذلك
عادت خطواتها الراكضة نحو الممر الذي جاءت منه وعادت
للغرفة ولم تذهب لغرفتها ولم تتصل بقاسم كما طلب فوصوله إلى
هنا سيحتاج لوقت ومن ثم نقلها للمستشفى ولا يمكنهم جلب
سيارة إسعاف للمنزل وجدها هنا لذلك دخلت الغرفة مجدداً
وأنارت الأضواء وركضت نحو السرير وجلست على طرفه
وعادت لمحاولات إيقاظها ورفع رأسها لعلها تستجيب لها حتى
تحول الأمر لبكاء وهي تحضن رأسها قائلة بعبرة

" أمي أرجوك افتحي عينيك لأعلم ما يؤلمك .. أرجوك "

ولا جدوى من كل ما تفعل ولا شيء سوى شعوها بحرارتها
المشتعلة وصوت أنينها الخافت وهو ما جعلها تحضنها بقوة أكبر
وقالت باكية بوجع

" أمي ما بك ؟ لا تتركيني أرجوك أمي .. يا إلهي ماذا أفعل ؟! "

كانت تشهق العبرة تلو الأخرى تحضنها فقط وكأنها تستجدي من
جسدها سحب كل تلك الحرارة المشتعلة منه لتدخل جسدها هي
فتفتح عينيها على الأقل ، وتوقف كل ذلك واختفى صوتها الباكي
من صمت المكان ما أن شعرت باليد التي أمسكت بكتفها فنظرت
للخلف عالياً وارتسمت الابتسامة وسط كل ذاك البكاء والتعاسة
وهمست شفتاها

" أبي !! "

كانت تنظر له بما دمج السعادة بعدم التصديق فلم تصدق عيناها
أنه هنا وعاد ولم يغادر فكانت تنظر له هكذا وكأن معجزة ما
تحققت أمامها حتى قال بجدية ويده تبتعد عن كتفها ونظره على
عينيها

" اتركيها وابتعدي قليلاً هيّا "

أعادتها حينها مكانها رأسها على الوسادة الكبيرة البيضاء وقد
تناثر الشعر المقصوص بخصلاته الشقراء حول وجهها ولازالت
كما هي لم يتغير حالها وتراجعت للوراء قليلاً تاركة المكان للذي
ثنى ساقه وجلس عليها عند طرف السرير بينما لامست يده
وجنة النائمة أمامه وضرب عليها برفق وتكرار قائلاً

" غسق .. غسق "

والحال كما هو عليه فرفع كفه لجبينها يتحسس حرارتها
الواضحة من اشتعال وجنتها أساساً ونزل بها لنحرها ولامسه
بظهر أصابعه بينما أمسكت يده الأخرى برسغها وضغط بإبهامه
برفق حيث أوردتها لثواني معدودة قبل أن يضعها مكانها وهمس
من بين شفتيه وكأنه يشتم

" النبض يضعف "

وانتقلت يده للحاف وبحركة سريعة أزاله عن جسدها بأكمله
وبدأت أصابع كلتا يديه بفتح أزرار بيجامتها الأول الثاني الثالث
وتوقف فجأة واستدار رأسه نحو الخلف وحيث الواقفة مكانها
والتي كانت تنظر لما يحدث أمامها بطريقة مصدومة وكأن عقلها
في حالة استيعاب لما يجري واخرجها منه صوت الذي قال

" ابقي في الخارج قليلاً يا تيما ولا تخبري جدك "


تحركت حينها مسرعة بخطوات راكضة وأغلقت الباب خلفها
ووقفت أمامه تشعر بجسدها متعرق بأكمله خجلاً تشتم نفسها فهو
وإن كان نسى أمرها كما يبدو ما الذي كانت تفعله هي واقفة
تشاهد كالبلهاء ! ارتفع رأسها ونظرها نحو الأعلى ورفعت يديها
لشفتيها هامسة بقلق وحزن

" يا رب احفظ لي والدتي يا رب "

وعادت الدموع تسبح في عينيها وهي تتذكر همسه عن أن نبضها
يضعف وفكرة أن تموت وتفقدها تجعل من وضعها يزداد سوءًا ،
وحمدت الله في قرارة نفسها أنها أطاعت قلبها وجاءت لرؤيتها
وأن قلب الموجود في الداخل لم يطاوعه أيضاً للذهاب وتركها
دون أن يهتم لأمرها وعادت الأمنيات لقلبها الصغير بأن يجتمعا
معاً كما حلمت دائماً ، لتعود وتصطدم بجدار الواقع وهي تتذكر
شروط المدعو شعيب غيلوان .

مسحت عيناها بظهر كفها بحركة سريعة وتراجعت خطوة للوراء
ما أن انفتح باب الغرفة ووقفت تنظر باستغراب للذي خرج وثيابه
مبللة بالكامل تقريباً ونظر لعينيها بصمت للحظة حتى خمنت بأنه
لن يقول شيئاً لكنّ شفتيه تحركت فجأة وقال بصوت بالكاد سمعته

" لا تبكي هي بخير "

أشعرتها تلك الكلمات والنبرة برغبة أكبر في البكاء بل والارتماء
في حضنه لكنّه تحرك من هناك وقال وهو يتجه يساراً ليغادر

" إن لم تنخفض حرارتها اتصلي بي "

تحركت حينها قدماها وركضت خلفه قائلة

" ألن تنام هنا في المنزل ؟! "

قال وهو يتوجه نحو باب المنزل

" لا .. إبقي بجانبها "

وغادر وتركها واقفة أمام الباب تراقبه بحزن وهو يركب سيارته
حتى أنه لم يغير ثيابه وكأنه يهرب من المكان بأكمله !.

صوت منبه سيارته القوي جعلها تنتفض في مكانها وهو يستدير
بها وكأنه يأمرها به أن تفعل ما طلب منها ، وبالفعل تحركت
خطواتها نحو المكان الذي جاءت منه ودخلت الغرفة ولمعت
عيناها بالدموع ما أن وقع نظرها على النائمة مكانها السابق لكن
بمظهر مختلف تماماً هذه المرة فشعرها المبلل كان متناثراً على
الوسادة والمياه قد تشبعت بها الوسادة في بقعة كبيرة بينما ما
كان يغطي جسدها هي منشفة الحمام الخاصة أما أنفاسها فبدت
لها أقل حدة من السابق وإن قليلاً وتبدو وكأنها نائمة بالفعل الآن
، ركضت نحوها وارتمت على جسدها تحضنها بقوة وإن كانت لا
تراها ولا تشعر بها كما يبدو بينما أغمضت عينيها بقوة هامسة
بحزن

" أحبك أمي لا تتركيني أرجوك "

*
*
*
فتحت الظرف الورقي وأخرجت نتيجة الاختبار منه ونظرت لها
لبضع ثواني قبل أن تخرج الورقة الأخرى وعاد لها نفس الشعور
وكأنها تراها للمرة الأولى ! بل وكأنها تعيش التجربة الآن فما
أقساه من أمر وما أقساها من لحظات تلك التي جلست فيها أمام
الطبيبة النسائية وهي تحاول إيجاد صيغة لما ستطلبه منها وكأنها
ليست من لم تتوتر يوماً حتى وهي تلقي خطاباً في حفلات
الجمعية سابقاً لتعجز الآن عن قول بضع كلمات قليلة ! وعاشت
مهانة وإذلال من نفسها أمام نفسها لم تعرفه يوماً .

طوت الأوراق وأعادتها مكانها ما أن طرق أحدهم باب غرفتها
لكنّها لم تجد وقتاً لإعادة الظرف للدرج مكانه السابق لأن الباب
انفتح حينها ومن كانت تظن بأنها والدتها اكتشفت بأنه شخص
آخر وهو قائد الذي جعلها النظر لابتسامته الموجهة نحوها تضع
ما في يدها على السرير ووقفت وتوجهت نحو ذراعاه المفرودة
لها وصدره الذي استقبلها بكل حب وحضنته بقوة قائلة بسعادة

" حمداً لله على سلامتك وعلى أنك بخير "

لعبت أصابعه بشعرها ولازالت في حضنه وقال ضاحكاً

" يبدو أنك صدقتِ بالفعل أني كنت مسافراً "

ابتعدت عنه حينها ونظرت لعينيه وقالت مبتسمة بدفء

" بل لأني أراك أمامي وبخير ولم ينفذوا تهديداتهم لك
والحمد لله "

اجتازها نحو الداخل قائلاً بينما كانت عيناه تنظر باستغراب
للظرف المسجل عليه اسم مصحة معروفة في العمران

" حمداً لله كانت حفرة سوداء عميقة ونجت البلاد من
الوقوع فيها "

واستدار نحوها دون أن يقترب منها بينما تنهدت قائلة

" يبدو لي وكأنه حلم يصعب تحققه وحدثت معجزة ما وتحقق ! "

حرك كتفيه وقال بهدوء

" أتمنى أن تنتهي مشكلة مدن صنوان أيضاً وبحكمة كما
حدث الآن "


تمتمت بآمين متمنية ذلك من أعماقها وسرعان ما شردت عيناها
للفراغ وقالت بحزن

" أرى غسق الخاسر الوحيد فيما حدث "

وصلتها كلماته التي استشعرت فيها شيء من الحزن وإن
لم يظهره

" كانت تريد الطلاق وستناله "

ارتفع نظرها له وقالت محتجة

" كان هذا حين كانت لا تعلم عن الحقيقة "

دس يديه في جيبي بنطلونه حينها وحرك كتفيه قائلاً ببرود

" قد يكون ألمها لمعرفتها بكل ذلك أكبر من حجبه عنها "

تغضن جبين جليلة حينها واقترب حاجباها باستغراب وقالت
تنظر لعينيه

" هل تبني آمالاً على هذا يا قائد ؟ "


اتسعت عيناه وقال بضيق

" جليلة يفترض بأنك أكثر من يعرفني ! "


مال طرف شفتيها وقالت ببرود

" في قلوب الرجال اكتشفت بأني لا أعرف شيئاً "


قال والضيق لم يغادر ملامحه ولا صوته بعد

" لهذا لا تفهمين حقيقة الرجل الذي يكون زوجك "


كان هجوماً مباغتاً ولم تتوقعه لذلك كان رد فعلها هو الصمت قبل
أن تقول بضيق مماثل

" وما علاقته بالأمر الآن ؟ "

قال مباشرة

" هو الموضوع ذاته "


لاذت بالصمت للحظة وكأنها تراجع نفسها فيما تنوي قوله وإن لم
يؤثر ذلك شيء في هجومها المباغت وقد عادت وقالت بكلمات
قوية جادة

" لا .. فما في قلبك ناحية غسق لا يشبه قصتنا "

كانت تتوقع منه هجوماً ممتثلاً وهو ما حدث فعلاً وقد قال بكلمات
بدت غاضبة وإن حاول إخفاء تلك المشاعر بينما أشار بإبهامه
خلف كتفه

" قولي ما كان في قلبك ناحيتها .. "


وهنا لم تخفي هي صدمتها بذلك فهي المرة الأولى تقريباً التي
يعترف فيها بأنها لم تعد تعني له شيئاً وأن مشاعره ناحيتها باتت
من الماضي ! بينما تابع هو وسبابته تشير لوجهها هذه المرة


" ثم أنتِ من تحدث عن قلوب الرجال وأنا أعطيتك المثال
الأقرب لك "

وكان تعليقها الصمت حينها تنظر لعينيه وكأنها لم تغادر أفكارها
نحو ما قال سابقاً بينما فهم هو ذاك الصمت بشكل مختلف تماماً
لذلك قال بنبرة تحقيق واضح

" هل اتصلت به أو قمتِ بزيارته وإن من باب أنه زوجك أمام
الله والناس ؟ "

أبعدت نظرها عنه حينها بينما قالت ببرود

" المكالمات كانت لا تمرر له ، ولا أنت ولا وسام موجودان
لأخذي "

ابتسم بسخرية وقال

" وهو السبب أم أنها الحجة المناسبة ؟ "


ارتفع نظرها له مجدداً وقال مستنكرة

" قائد ! "


ولأنه يعلم بأنه يقول الحقيقة وإن رفضت الاعتراف بها قال بجدية
وكلمات حازمة

"هل لازلتِ تنتظري أن يحضر حقيبتك أو يأتي بنفسه يا جليلة؟ "

أشاحت بوجهها للجانب الآخر ولم تتحدث وكأنها تنهي الحديث
في الأمر لكنّه لم يستجب لرفضها ذاك وقال بجدية

" جليلة ! "


نظرت له وقالت

" غدير اتصلت بي اليوم "

كانت تريد جذبه لموضوع آخر ويبدو نجح الأمر فما أن سمع
اسمها حتى تبدلت ملامحه للاستغراب وانتابها الشك للحظات في
أنه سيسأل عن السبب لكنّه خان توقعاتها وهو يقول

" حقاً ! وكيف حالها ؟ "

قالت ما كانت تريد قوله متجاهلة سؤاله

" كانت تدعوني لحفل زفافها "

وراقبت باستغراب رد فعله وعيناه تتسع بصدمة قبل أن يقول

" زفاف غدير ! "

قالت بضيق تدعي فهمها للأمر بما يبعد الشكوك عنها

" أجل غدير أليست امرأة ويحق لها أن تتزوج ؟ "


قال حينها مبرراً

" لم أقصد هذا أنا استغربت الأمر فقط فهي لم تخبرني ! "

اقترب حاجباها باستغراب فهي اتصلت بها اليوم بالفعل وكم
حزنت لذاك الخبر الذي يفترض بأنه يسعدها لكنّها أيضاً احترمت
فيها شجاعتها وتحديها لنفسها وإن كانت قد تدمر حياتها وللأبد
بالعيش مع شخص لا تحبه لكنّها على الأقل أوقفت ساعة
الانتظار التي طالت وطالت ، حتى أنها لم تسألها عنه وهي ظنت
بأنها اتخذت قرارها بإبعاده عن حياتها وبشكل نهائي لكنّها الآن
اكتشفت بأنها قد تكون اخطأت فقالت متسائلة بريبة

" هل كنتما على اتصال الأيام الماضية ! "

حرك رأسه نافياً وقال

" لا لم أتواصل مع أحد "


عادت حينها لنقطة البداية وبأن غدير اتخذت الخطوة بشجاعة
حتى أنها لم تفكر في إخباره ! وبينما كانت هي تعيش مع تحليلها
للأمر تابع هو ينظر لعينيها المحدقة فيه

" كنت أعني لم تتحدث سابقاً عن الموضوع ! "


انتهزت الفرصة حينها وقالت

" ولما ستتحدث معك عن الأمر ! أنتما زملاء ولستما حبيبان ولا
حتى أصدقاء "

عبس حاجباه الأسودان بطريقة لم تفهمها بينما قال باقتضاب

" علاقتي بها كانت تفوق كل ذلك "

ارتفع حاجباها حينها وأجبرت نفسها بالقوة كي لا تطلب تفسير
هذا لأنها كانت تخشى أن يقول كشقيقة بالنسبة لي وكأنها هي
من ستتأذى بذلك فقالت موضحة حينها

" هي أخبرتني منذ يوم زواجي حين التقينا في شقتك بأنه ثمة
من يلح كثيراً على شقيقها عكس كل من رفضتهم في السابق "


لا تعلم لما تعمدت أن تذكر له وتذكره بكل الفرص التي أضاعتها
سابقاً وتركت العمر يسرقها وهي تنتظر أن يشعر بها ، وجل ما
تخشاه أن يكون يعلم بمشاعرها نحوه ويتجاهلها كي تفقد الأمل
فيه ! كانت تراقب ردة فعله بالكثير من الفضول خاصة وأنه أبعد
نظره عنها للفراغ أمامه وكأنه غادر مع أفكاره للحظات وهو ما
جعلها تنتظر بترقب مريب درجة أنه لو صرخ في وجهها فجأة
لأفزعها حتى سقطت للوراء لكن ما فعله كان يشبه ذلك كثيراً بل
وأقوى منه وشفتاه تتحرك أخيراً وقال بشيء من الهدوء المبهم
ولازال يشرد بعينيه بعيداً

" غدير فتاة رائعة تستحق كل ما يناسبها "

كادت أن تصفعه حينها أو تصفع نفسها حتى أنها كانت تشد على
قبضتيها بقوة وكأنها تمنع يديها عن ضربه وإبراد نار غيضها
منه لكنُها اختارت غير كل ذلك وقد قالت ببرود معاكس تماماً
لدواخلها

" أجل وسيكون الرجل الأسعد في الوجود فلن يجد امرأة مثلها
مهما عاش "


وكانت وللمرة العاشرة تنتظر منه رد فعل يجعلها تتحدث عن أمر
مشاعرها نحوه لكنّه اختار الهرب الفعلي هذه المرة واستدار
ناحية الباب فقالت توقفه

" أين ستذهب تناول الغذاء معنا "

استدار نحوها مجدداً وقال

" أنا مغادر لا وقت لدي لنتركها ليوم آخر "


قالت سريعاً قبل أن يستدير مجدداً

" ما هي وجهتك القادمة ؟ "

حرك كتفيه وقال

" سأغادر لحوران بعد ساعتين من الآن لأنه عليّا زيارة شخص
في إحليل قبل ذلك "


قالت بعد تردد لحظي

" هناك شيء أريدك أن تأخذه معك إذاً "

أمال طرف شفتيه بابتسامة ساخرة وقال

" ظننت بأنها أنتِ من تريد الذهاب معي وليس أشياءً ! "

تجاهلت تلميحه الواضح واستدارت ناحية سريرها ورفعت
الظرف من عليه دون أن تعلق على كلامه وما أن نظرت له قال
ينظر لعينيها

" هو غادر المستشفى اليوم يا جليلة "

أرخت نظرها نحو الأسفل وقالت بهدوء حزين

" أخبرتني الطبيبة في الأمس "

قال باستغراب

" تعلمين إذاً ؟ "

مدت الظرف له قائلة

" أجل "


كان هذا فقط ما قالته دون حتى أن تخبره بالموجود فيه ولا إلى
من تريده أن يأخذه لأنها واثقة من أنه يعلم دون الحاجة لذلك ،
وما فعله حينها أكد كل ذلك وهو يأخذه منها دون أن يسأل بينما
قال وهو يستدير مغادراً

" بلغي سلامي لوالدتي سأراها فيما بعد "


وغادر وعيناها تراقبه وهو يغلق الباب خلفه لكنّه توقف فجأة قبل
أن يوصد تماماً وفتحه مجدداً ببطء حتى عاد ونظر لعينيها وقال
بابتسامة مائلة

" أن يكون جرح كرامتك بسببه أمر وأن يكون الجرح أمام نفسك
أنتِ وهو من شهد عليه فقط هو أمر آخر مختلف تماماً يا جليلة لا
تنسي هذا "

وما أن أنهى تلك الكلمات أغلق الباب وغادر هذه المرة .


*
*
*


وضعت صينية الحلويات على طاولة المطبخ وقالت لحفيدها

" هيّا أخبر عمك عمير بأن الشاي أصبح جاهزاً "

قفز حينها الفتى ذو العشرة أعوام واقفاً وغادر المطبخ بخطوات
راكضة بينما نظرت بثينة لوالدتها وهي تغلق الثلاجة قائلة

" وما الذي سنقدمه بعد الغذاء في هذا الحال ! "


قالت التي عادت لترتيب الحلويات والتأكد منها

" عمير من طلب هذا وقال بأن التشاركية المختصة ستتكفل
بالغذاء وكل ما معه وبعده "

وتنهدت بضيق متابعة ولازالت منشغلة بما تفعل

" لو أنه تركنا نعد لهم الغذاء بدلاً من شرائه من الخارج "

اتسعت هنا عينا بثينة وقالت وهي تسحب الكرسي وتجلس عليه

" أمي هو يريد أن نرتاح لما نجلب لأنفسنا الشقاء ! .. "

وتابعت تشير بيدها نحو نافذة المطبخ

" عدد الوافدين لا يتوقف عدا عن من جاءوا معه من المستشفى
فهل لك أن تتخيلي كم سنعد من طعام ؟ "


وقفت حينها والدتها على طولها وقالت بابتسامة حزينة محبة

" حمداً لله يكفي أنه بخير "

تمتمت حينها التي ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها

" أجل لرمتنا تلك المتعالية في الشارع الآن "

انعقد حاجبا التي عادت و جلست في الكرسي المقابل لها وقالت
تدعي عدم وصول تمتماتها تلك لها

" ماذا تقولين فلست أسمعك ؟ "

تنهدت حينها بثينة بضيق وقالت

" قلت بأن المال يجعل الحياة سهلة بالفعل وستري بعينيك شكل
الغذاء حين سيصل "

كانت والدتها ستعلق على ما قالت فابنتها يبدو لم تتغير ولم
تعلمها الحياة وما مرت به درساً مفاده بأن المال ليس هو السعادة
ولا أهم ما في الحياة لكنّها توقفت بسبب حفيدها الذي دخل وقال
متوجها نحو الطاولة

" لقد جاء أحدهم لأخذه "

وقفت حينها مسرعة ورفعت الصينية المليئة بأكواب الشاي
وقالت بصوت منخفض وهي تمدها له بحذر

"هيّا أوصلها له وانتبه وأنت تحملها ثم عد لأخذ طبق الحلويات"

أخذها منها وسار بها نحو باب المطبخ وساد الصمت بينهما حتى
تأكدتا من خروجه بالصينية وابتعاد من جاء لأخذها ، حينها وقفت
بثينة ونظرت من نافذة المطبخ المغلقة تبعد الستار بيدها جانباً
وقالت بعدم رضا

" يفترض بأن يتركوه يرتاح ، ما كل هذا !! إنها سيارة جديدة
تدخل المنزل ! "

قالت التي عادت ووقفت وناولت حفيدها طبق الحلويات

" كل من علم من المقربين له سيكون هنا بالتأكيد "


تركت حينها يد بثينة الستارة ونظرت لوالدها قائلة بضيق

" وهل سيُمضي اليوم بأكمله جالساً على الكرسي وهو لازال
متعباً ؟ ليرحموه قليلاً "


رمقتها والدتها بطرف عينيها وقالت بريبة وبرود

" لا أفهم أي نوع من القلق هذا يا بثينة ؟ "

اتسعت عينا التي عادت نحو كرسيها وسحبته قائلة تتجنب النظر
لها

" ابن خالي ما في الأمر إن قلقت على صحته ! "

قالت التي لازالت ترمقها ببرود

" هو أعلم الناس بنفسه وبما أن الطبيب وافقه على ما يريد
فسيكون بخير بالتأكيد "


لم تعلق على ما قالت والدتها لأنها تعلم ما تلمح له ولتهرب من
الحديث بأكمله بل ومن الدفاع عن نفسها لمهاجمة الغير قالت
بابتسامة ساخرة تنظر للفراغ أمامها

" لم أرى أحد من عائلة زوجته هنا ! ما هذا الغرور الذي
يعيشون فيه "

تبدلت ملامح الواقفة قرب الباب للضيق ليس من كلام ابنتها فقط
بل ومن أنها تعلم حتى عن الموجودين هناك ومؤكد استعانت
بابنها لمعرفة هذا وقالت نهاية الأمر وضيقها يزداد حدة بينما
رمت بيها نحو الباب

" لما لا تشغلي نفسك بأمورك واذهبي وابحثي عن ابنتك "

تأففت بثينة حينها ووقفت وغادرت المكان ونظراتها تتبعها بينما
همست تراقبها وهي ترمي طرفي وشاحها للخلف

" ليرحمك الله من عقوبة أقوالك يا بثينة "

*
*
*

شعرت بثقل كبير في جفنيها وقد تبدل لألم مفاجئ وهي تفتحهما
ببطء وحدقت في السقف لثواني قليلة ليدرك عقلها الباطن ما
حدث وبأنها منذ نامت البارحة وهي تشعر بألم في كامل جسدها
لم تعي شيئاً بعدها حتى اللحظة ! ارتفعت يدها لشعرها ورفعت
خصلات غرتها وشدتها نحو الخلف تشعر بالألم يتسلل لرأسها
وأغمضت عينيها متنهدة بتعب ، وبسبب شعورها بثقل ما يمسك
طرف اللحاف جانب جسدها أدارت رأسها لتلك الجهة وحاولت
الجلوس ببطء مستندة على مرفقها تنظر بابتسامة حزينة للنائمة
جالسة على الكرسي بجانبها بينما ينام نصف جسدها العلوي على
السرير تخفي وجهها في ساعديها المضمومان تحته ، وما أن
مدت يدها نحوها توقفت تنظر مستغربة لما كان يغطي يدها وهو
كم منشفة الحمام ونظرت لنفسها وكأنها تتأكد من ذلك وكان
بالفعل لا شيء يغطي جسدها سواها وعلمت حينها سبب كل ذاك
الألم قبل أن يتحول كل شيء لسواد حولها ولما هي هكذا الآن ،
سرق نظرها التي جلست فجأة وفركت عينها قبل أن تبعد شعرها
عن وجهها قائلة بابتسامة مرتخية

" أمي هل أفقتِ أخيراً "

ابتسمت لها غسق وإن كانت ابتسامة شاحبة تشبه ملامحها تنظر
لأكثر ما تعشق في هذه الحياة وهو الوجه الجميل الباسم الذي
قالت صاحبته

" كيف تشعرين الآن ؟ هل أنتِ بخير ؟ "


كان القلق قد زحف لتلك الملامح عند آخر كلماتها وهو ما جعلها
تقول وإن مكابرة

" أجل بخير لكن ماذا حدث ! "

قالت تيما وحزن الذكرى يظهر على صوتها كما عيناها

" دخلت غرفتك البارحة ووجدتك نائمة وحرارتك مرتفعة جداً ولم
أستطع إيقاظك ولم تكوني تستجيبي أبداً "


وعادت الابتسامة للزحف لملامحها ببطء وقالت

" حمداً لله لقد قلقت عليك كثيراً "

أبعدت غسق شعرها خلف أذنها كما أبعدت نظرها عنها قائلة

" أنا بخير يا تيما لا تقلقي "


وأمسكت بياقة منشفة الحمام قبل أن ترفع نظرها لها قائلة
بتساؤل

" من الذي ألبسني هذا ؟ "

كانت تعلم بأنها لن تكون هي من فعلها وحملتها حتى حوض
الاستحمام ونزعت ثيابها وألبستها هذا ، ودارت الشكوك في
ذهنها حول الجميع حتى أن تكون هي بالفعل وساعدتها الخادمة
في فعل هذا ، لكن ما لم تتوقعه هو الجواب الذي قرأته في
نظراتها الصامتة وكأنها تحاول قول شيء وعاجزة عن صياغته
أو قوله وهو ما جعلها تخفض رأسها ودفنه في يديها فالجواب
كان واضحاً وهو من لم تضعه في خانة احتمالاتها مطلقاً ومن
تمنت فعلاً أن لا يكون من فعلها ليس فقط بسبب الحرب الكلامية
بينهما بالأمس ولا إهانته لها ولا كل ما حدث قبل ذلك بل لأنها
شعرت في نومها ذاك بالفعل بحضنه ولمساته وكانت تظن بأنه
بسبب تأثير الحمى عليها وليس حقيقي وتتمنى فقط أن الهلاوس
التي عاشتها حينها لم تكن حقيقة ، ولتهرب من التفكير في كل
هذا أبعدت اللحاف عن جسدها وأنزلت قدميها خارج السرير
فوقفت تيما حينها قائلة بقلق

" أمي لا تغادري السرير تبدين متعبة "

قالت التي كانت تنظر لقدميها وهي تدسهما في الحذاء المغطى
بالفراء الناعم

" أنا لم أصلي وقد تأخر الوقت ، كما أني بخير لا تقلقي "

لكنّ ذلك يبدو لم يقنع التي كانت تراقبها بحزن وهي تقف فتبدو
لها ملامحها كما صوتها تناقضان تماماً ما تقول بينما نظرت هي
نحوها قائلة

" وأنتِ هيّا عليك أن تنامي الآن وترتاحي "

قالت تيما معترضة ببرود

" أنا مرتاحة وسأكون معك طوال اليوم "

قالت غسق بضيق حينها

" تيما لا تكوني طفلة "

لوحت بيدها قائلة باعتراض ورفض

" بلى طفلة ولن أتركك تغادري للبرج وأنتِ متعبة "

تنهدت غسق بضيق وقالت

" لن أذهب للبرج "


جعلت كلماتها تلك الواقفة أمامها تتراجع في موقفها الهجومي
خشية أن تغضب منها وقالت برجاء حزين

" وستنامين وترتاحي ما أن تنهي الصلاة ؟ "

وراقبتها نظراتها وقد تحركت نحو باب الحمام قائلة

" أجل "

واختفت عنها خلف الباب الذي أغلقته بعدها وتركتها تنظر
لمكانها بحزن فهي لا ترى بأنها بخير لكنّها ستحترم رغبتها لذلك
قالت بحب ونظرة حزينة وكأنها تقف مكانها هناك وتراها
وتسمعها

" حسنا أمي ... أحبك "

وغادرت من هناك مغلقة الباب خلفها ودخلت غرفتها لكنّها لم تنم
ولم تستطع فعل ذلك وقلبها منشغل بالموجودة قريباً منها بل
جلست وانتباهها كما حواسها موجهة جميعها ناحية الخارج وهي
على استعداد أن لا تنام أبداً لكي تطمئن بأنها بخير ، وكما توقعت
تماماً فما أن مر بعض الوقت حتى سمعت خطوات كعب حذائها
تعبر الممر مغادرة فوقفت خارج السرير وانتظرت قليلاً قبل أن
تفتح الباب وتغادر وما أن وصلت باب المنزل الرئيسي وكما
توقعت أيضاً كانت سيارتها ليست هناك بينما صوت هدير محركها
يسمع بوضوح وهي تبتعد نحو بوابة المنزل فعادت نحو الداخل
توبخ نفسها على إطاعتها في تركها وحيدة ، تعلم بأنها كبيرة ولا
يحق لها التدخل فيما تقرره وتفعله لكنّها قلقة عليها وتخشى أن
يصيبها مكروه خاصة مع حالتها البارحة والتعب الواضح على
ملامحها اليوم لذلك رفعت هاتفها دون تراجع واتصلت بمن وحده
يمكنه مساعدتها واللحاق بها وستتفهم هي أسبابها فيما بعد
بالتأكيد .

*
*
*
فتحت باب الغرفة ودخلت وقالت مبتسمة تنظر للواقفة توليها
ظهرها

" ألم تلبسي فستانك حتى الآن يا كنانة ! "

التفتت نحوها ورفعت كتفيها وقالت بملامح عابسة

" لقد أصابتني الحيرة فيمامة أعجبها البنفسجي وبثينة ترى
الأزرق أجمل وأنا أرى أربعتهم ينافسون بعضهم في الجمال ً "

ضحكت جوزاء وقالت وهي تقترب منها

" إذاً يمكنك ارتداء أي واحد منها فما أن تنتهي مصففة الشعر
من الفتاتان ستكون هنا وتضع خبيرة التجميل المكياج المناسب
له "

تنهدت كنانة بحزن عند ذكر الفتاتان وقالت

" لو أنه لم يكن هناك أي حفل أفضل عمتي فأنا أكره أن أستهين
بحزن يمامة على والدها ووالدة شقيقاها وأخشى أن يحزنها هذا
وإن كانت لا تعبر عنه "


وختمت كلماتها وعلى ملامحها نظرة تأنيب ضمير واضحة فهي
كانت ترى حزناً غريباً وصمت شبه تام من يمامة لهذا كانت
تخشى من أن يكون الحفل السبب ، أو أنها هي هكذا من قبل
الحادث لا تعلم لكنّها تخشى بالفعل من جرح مشاعر الفتاة الرقيقة
التي تخاف عليها حتى من أن يرتفع صوتك دون قصد وتؤذيها
من شدة أدبها ورقتها ، بينما كان لجوزاء رأي آخر وقد قالت
مبتسمة

" أي حفل هذا ! إنهن أقل من أربعين امرأة من المقربات فقط
فأنتِ عروس ولن تدخلي منزلك هكذا وكأنك أرملة تتزوج للمرة
الثانية "


وقالت آخر كلماتها بشيء من الخجل فهي تشعر بذلك وإن كانت
متيقنة من صدق كلمات كنانة لكنّها أيضاً عروس وهي فرحتها
الأولى وليلتها الأولى كيف تدخل منزلها هكذا دون حفل وإن كان
صغيراً ؟ لهذا هي ترى بأنهم مقصرين في حقها وإن كانت أكيدة
بأن ابنها ذاك قد نزع فرحتها بتصرفاته حتى أنه كان في رحلة
طيلة الأسبوع الماضي ولم يرجع إلا اليوم صباحاً ولم يغادر منزله
في الأعلى أيضاً ولم يترك الخادمة تدخل لترتيب المكان ومؤكد
سينام طيلة النهار كعادته في الرحلات الطويلة ، وأتاها دليل
أفكارها ما أن قالت التي هربت بنظراتها منها


" أنتِ تعلمي عن كل شيء فالأمر بات سيان بالنسبة لي "


شعرت جوزاء بالحزن في ذاك الصوت يعتصر قلبها ولازالت تجبر
نفسها على الصمت وعدم إخبارها ، أمسكت بذراعيها ممّا جعلها
تنظر لها وقالت بكلمات جادة تنظر للعينين السوداء الحزينة

" لا ليس سيان ولا تقتلي فرحتك الأولى من أجل أو بسبب أي
أحد ففي يوم ما تندمين فيه على أنك لم تسعدي بهذه اللحظات "

تنهدت كنانة في حزن ولم تعلق وحال قلبها يقول

( من يده في النار ليس كمن يده في الماء )

ولم تكن تعلم بأن يدها معها في كلاهما ومن ستخرجها من النار
للماء ، فراقبتها عيناها وقد استدارت نحو الفساتين المعلقة في
حامل خاص بها وأخرجت إحداها منه قائلة

" أنا أرى هذا أجملهم "


ومدته لها قائلة بابتسامة

" هيّا أرني كيف يبدو اختياري "

وما أن أخذته منها حتى انفتح باب الغرفة ودخلت منه يمامة التي
جعلت ابتسامة كل واحدة منهما تتسع بانبهار ما أن وقع نظرهما
عليها وكانت بتسريحة شعر مموجة بعد أن قامت المصففة بفرده
ومن ثم تمويجه ورفعه نحو الأعلى لتنزل تلك الخصلات تباعاً
ومع الفستان الأحمر الذي ارتسم على خصرها النحيل ثم يتسع
بانتفاخ كبير وطوله بالكاد وصل لركبتيها ومع لون بشرتها الفاتح
وملامحها الجميلة ولون عينيها المميز كانت هكذا وكأنها دمية
باربي جميلة تسير على قدمين ! وكان التعليق الأول لكنانة التي
قالت مبتسمة

" مشاء الله هذه لا تخرجوها للنساء "

وضحكت مع ضحكة جوزاء التي قالت

" يبدو لي ذلك "


وهو ما جعل السعادة ترتسم في الملامح الجميلة ودارت صاحبتها
حول نفسها في حركة طفولية تشبهها وتبادلتا جوزاء وكنانة
نظرة صامتة مبتسمتان وفهمت الرسالة بأنها سعيدة ولم يؤثر هذا
بحزنها على ما حدث لعائلتها بل وجعل السعادة الحقيقية تظهر
على وجهها وعيناها أخيراً ، قالت جوزاء وهي تنظر لوجه يمامة


" ما كان عليها أن تضع لك مكياجاً فلازلتِ صغيرة على هذا يا
يمامة "


قالت التي كانت منشغلة مع فستانها تنظر لنفسها والابتسامة لم
تغادر شفتيها

"بثينة طلبت منها هذا وقالت لكي لا توبخيها علينا أن نتزين معاً"

ضحكت كنانة بينما قالت جوزاء بضيق تمسك خصرها بيديها

" كان عليّا توقع هذا فيمامة لا تفعلها "

وعلى تلك الكلمات دخلت بثينة الغرفة لتجد نظرات والدتها
الغاضبة في انتظارها ، ولأنها سمعت جزء ممّا قيل توقعت بأن
يمامة قد اوشت بها لذلك قالت بتذمر

" هو حفل الزفاف الأول لعائلتنا أمي وليس كبيراً ولا نتزين
أيضاً ! "


لم تجد جوزاء وقتاً للتعليق على ما قالت لأن كنانة اختارت إنقاذ
الفتاة وقد قالت مبتسمة

" كم أنت جميلة بالفستان يا بثينة "

ارتسم السرور على ملامح بثينة وركضت نحوها وحضنتها
ضاحكتان وقالت

" أجل هذا ما يُقال بالفعل ، شكراً لك يا زوجة شقيقي الرائعة "


وختمت كلماتها تنظر لوالدتها بطرف عينيها والتي تحركت نحو
الباب دون اهتمام قائلة

" الحقا بي ستدخل الفتيات لكنانة الآن لا أريد أن تربكوهم
في عملهم "

وغادرت تاركة الباب مفتوحاً ويمامة في إثرها على الفور بينما
ابتعدت بثينة عن كنانة وقالت بعبوس

" هل رأيتِ الحياة المضطهدة التي أعيشها "

وضحكت بعدها على الفور فابتسمت كنانة وقالت

" أنتِ تمتلكين روحاً جميلة جداً ، مشكلتك فقط أن شخصيتك لا
تشبه شخصية والدتك "


تأوهت بثينة من فورها قائلة


" آه يا إلهي ليتني فقط كزوجك فهو كالجليد أمامها وبكلمة واحدة
يجعل غضبها يخمد وهو يقول ( كما تريدين أمي ) "


وقالت آخر كلماتها بصوت خشن تقلده وضحكت بينما حاولت
الواقفة أمامها مشاركتها وإن بابتسامة مغتصبة بينما تابعت بثينة
دون أن تنتبه لتبدل مشاعر الواقفة أمامها

" أمّا أبان فهو مثلي تماماً كيس ملاكمة بالنسبة لها لكنّه ينتصر
عليها دائماً ويغادر المنزل ويتركها مشتعلة أمّا أنا فلا مفر لي
وأشوى على نارٍ حارقة طوال النهار "


وقالت آخر كلماتها بملامح عابسة محبطة وكأن العالم بأكملها
انتهى لديها ، ولأن كنانة تتفهم سنها وأفكارها المناقضة لوالدتها
لم تعارضها بينما قالت مبتسمة بحنان وشوق ظهر جليا في
صوتها

" حينما تتزوجي وتغادري هذا المنزل ستكتشفين كم أنك تحبينها
وتشتاقين لها وتحتاجين للبقاء بقربها طوال العمر "


لكن رد فعل الواقفة أمامها كان غير متوقع وهي تلوي شفتيها
وتمتمت ببرود

" لا تقارني نفسك بي ولا والدتك بوالدتي "

وهو ما جعل كنانة تضحك حتى تعبت وكأنها خرجت لها هكذا من
العدم لتحسن مزاجها المتقلب ، وما أن تلقفت أنفاسها قالت
مبتسمة والضحكة لازالت واضحة في صوتها

" جميعنا بشر ولوالدتي طباع أنا أراها عيوب لكني أحبها كما
هي لأنها ترى نفسها على حق وجميعنا هكذا "


تنهدت بثينة حينها بقلة حيلة وقالت

" وأنا أحبها لكنّها لا تفهم بأن الحياة تغيرت عمّا عاشت هي
وتربت عليه "


وما أن ابتسمت كنانة ولم تعلق وهو ما فهمته بأنه عدم اقتناع
بما تقول قالت

" أنتِ لا تعرفي عائلة الشاهين وسلالتهم العريقة "

ارتفع حاجبا كنانة باستغراب أو اندهاش طفيف وهو ما جعل
الواقفة أمامها تقرب وجهها منها وقالت هامسة بدراما عالية
تمرر يدها على عنقها

" إنهم يربون أبنائهم على أن يكونوا ميتين "

انطلقت ضحكة كنانة فقالت بثينة بضيق

" لو أنك تري تيما ابنة خالي مطر إنها امرأة أمامي وفارق
العمر بيننا قليل جداً "

تبدلت ملامح كنانة للاستغراب فجأة وقالت

" قال في اللقاء التلفزيوني أنها متزوجة ! "

قالت بثينة مباشرة

" أجل من قاسم إنه ابن عمة والدتي "

قالت كنانة بنظرة تفكير

" كان معهم في المقابلة أليس كذلك ؟ "

ابتسمت الواقفة أمامها وقالت بحماس

" أجل وقد جاء سابقاً لزيارة والدتي إنه وسيم ورائع يشبه أبطال
القصص والروايات "

وتشاركتا الضحك معاً وقالت كنانة بضحكة

" لو تسمعك والدتك "


اتسعت عينا التي قالت مفجوعة

" لا بالله عليك فهي متنفسي الوحيد لأن مشاهدة المسلسلات
ممنوع عني "


حركت كنانة رأسها في يأس منها فها هي يبدو تقرأ الروايات
بالخفية عن والدتها بالرغم من أنها تعلم عن مصيرها لو أنها
اكتشفت الأمر ! بل ولا يبدو لها أنها تفكر في هذا فقد تابعت
بحالمية مضحكة تمسك يديها عند صدرها

" لقد صافحني هكذا وقال لأمي مبتسماً ( لديك إبنة ستصبح
عروساً جميلة ) "

عادت كنانة للضحك تراقب التي قالت بإحباط مفاجئ

" يا إلهي كنت سأقع في حبه لكن تبين فيما بعد أنه متزوج
وتحطم قلبي وحلمي "

قالت التي سيطر عليها الضحك مجدداً

" تمزحين بالتأكيد "

فردت بثينة يديها وقالت تمسك ضحكتها

" المشكلة أني لا أمزح "


وعادتا للضحك مجدداً وكم كانت كنانة ممتنة لهذه الفتاة المرحة
فهي جعلتها تنسى كل ما ينغص على قلبها اليوم ببراءتها وجمال
روحها المرحة ، وها هي في كل يوم يتبين لها أكثر بأن قرار
الرحيل سيصبح أكثر صعوبة مع استمرار بقائها هنا ولازالت
تجهل مصيرها بعد هذه الليلة وهو جل ما يخشاه قلبها .

الطرقات على باب الغرفة كانت ما سرقها من أفكارها واستحوذ
على اهتمامها قبل أن تشهق بثينة قائلة

" ها قد جاءوا عليّا المغادرة قبل أن تفصل والداتي رأسي عن
جسدي "

وركضت نحو الباب مغادرة على نظرات كنانة الباسمة التي
وجهتها بعدها نحو اللاتي قالت إحداهن بحماس باسم

" هل العروس جاهزة ؟ "

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 11-08-24, 11:21 PM   المشاركة رقم: 1785
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 


*
وضعت كوب القهوة من يدها ونظرت نحو الجالسة بعيداً تمسك
مجلة ما في يدها وتقلبها وتنظر لمحتواها باهتمام تضع ساق
فوق الآخر وتبتسم وكأن من في تلك الصور ينظرون لها
ويتحدثون معها ! وهو ما جعل نظراتها تتبدل للاستغراب قبل أن
تبعد نظرها عنها وتنظر نحو والدة ضرار التي كانت تجلس
وتحتسي القهوة معها وحركت رأسها لها بمعنى ما بها ؟

وكان الرد من الجالسة أمامها أن رفعت حاجبيها وقوست شفتيها
بمعنى لا أعلم وعادتا للتحديق بها كلتيهما فالجميع يلاحظ مؤخراً
بأن جمانة الماضي تختفي من حياتهم تدريجياً لتتحول لأخرى
مختلفة إن كان حقيقياً أو ظاهرياً أمامهم فقط حتى أنه في كل يوم
تأتي لزيارتها امرأة ما لا يعرفونها ! التي تحمل آلة موسيقية
والتي تحمل كتاباً لتمضي ساعات طويلة معها ثم تغادر بينما لم
تتبادل هي الحديث مع أحد تقريباً حتى أنها لم تراها تسأل عن
وقاص الذي لم يراه أحد منذ أن خرج بزيزفون من القصر
وغادر .
عاد وسرق نظرهما شيء آخر وهو الداخل من ناحية باب المنزل
وما جعل رقية تقفز واقفة وتوجهت نحوه قائلة

" عمي توقف قليلاً "

فهي تحاول أن تتصيده نهاراً منذ يومين ولم تتح لها الفرصة
بسبب قضائه لوقت طويل في لندن وجلست اليوم متعمدة كل هذا
الوقت لتراه إن دخل وقبل أن يغادر ولا تعلم عنه فهي لم تحصل
على أي أجوبة مفيدة من ابنه ، جعلته كلماتها تلك يغير اتجاه
سيره واقترب منها حتى توقفت أمامه وقالت تنظر لعينيه

" أين هو وقاص ؟ "

نظر لعينيها بصمت حتى توترت ضربات قلبها وظنت بأن مكروهاً
أصابه لكنّه رحمها أخيراً وقال ببرود

" موجود في لندن وهو ليس طفل يا رقية "

جعلت كلماته تلك ملامح القلق في وجهها تتبدل للضيق وقالت

" وإن يكن ليس طفلاً من حقي أن أطمئن على إبني فهو منذ
غادر لم يرجع وهاتفه ... "


قاطعها بضيق مماثل

" هو بخير لا تقلقي "


قالت سريعاً من قبل أن يغادر

" وزيزفون ؟ "

وما أن عاد ونظر لعينيها رمقته بنظرة رجاء وهو ما جعله يتنهد

بنفاذ صبر وتمتم ببرود

" بخير أيضاً "


وغادر ناحية مكتبه ولم يضف شيئاً ونظراتها الحانقة تتبعه
تستغرب من بروده في أمور تخص أحفاده وكأنهم ليسوا
عائلته ! عاد وسرقها من أفكرها وسرق نظرها أيضاً الداخل من
باب المنزل حينها وهو سلطان الذي اقترب منها ينقل نظره بينها
وبين الذي فتح باب مكتبه هناك حتى وقف أمامها وقال

" ما بكم ! "

تنهدت الواقفة أمامه بنفاذ صبر وقالت

" هل علمت منه عن شيء ؟ هو لا يقول سوى هو بخير
وهي بخير "


كان دوره هو ليتنهد حينها لكن بقلة حيلة وقال

" وقاص لم أره ولا حتى هو يعرف مكانه فهو من أسبوع
مختفي تماماً "

اتسعت عيناها وقالت مفجوعة

" ماذا !! "


حرك سلطان رأسه بأسى قائلاً

" يرفض أن يتواصل مع أي أحد منا "

ارتفعت يد رقية لصدرها وقالت بقلق

" لكن لماذا ؟! ماذا حدث ! "

تنهد الواقف أمامها بصمت ممّا جعل خوفها يزداد حدة وكانت
ستسأله مجدداً لكنّه رحمها وقال أخيراً

" لقد أدخلوا زيزفون المصح النفسي ، بعد ذلك لا علم لي "

شهقة قوية عمّت في المكان حينها لم يكن مصدرها الواقفة أمامه
بل من جمانة التي وقفت على طولها وقد سقطت المجلة من يديها
دون أن تهتم لأمرها بينما كان اتساع ابتسامتها مع اتساع عيناها
أكبر دليل على الشعور الذي كان يخالجها وقالت باندهاش باسم
وسعادة

" وأخيراً الشخص الصحيح في المكان الصحيح "


كان رد فعل سلطان أن حرك رأسه بيأس وغادر من هناك ناحية
السلالم وصعد في صمت بينما كانت والدة ضرار تنظر لها بفضول
أما التعليق فكان من رقية التي قالت بضيق من تصرفها

" التشمت بمصائب الناس ليس من أخلاق ديننا يا جمانة "

كانت نظراتها بدأت تتحول للغضب وهي تنظر لعينيها لكنّ الواقفة
هناك لم يكن رد فعلها الفرار كالسابق بل قالت بكلمات قوية
تهاجمها

" وسرقة الرجل من زوجته ليست كذلك أيضاً أم لك رأي
آخر عمتي ؟ "


اتسعت عينا رقية لاتهامها المباشر لها وقالت بضيق أشد
من سابقه

" زيزفون لم تسرق أحداً من أحد ولم تهتم لأمر زوجك يوماً وأنا
من شهد على كل شيء بعينيي "


وكان ذاك ما جعل جمانة تشتعل أكثر وفردت ذرعيها قائلة بحدة

" بالطبع ستدافعين عنها فأنتِ تحبينها أكثر مني وتتمنين لو كانت
هي زوجة ابنك "


كان رد فعل رقية أن حركت رأسها بيأس منها متمتمه

" لا حول ولا قوة إلا بالله "


وعلمت حينها لما فعلها زوجها وغادر في صمت دون أن يضع
عقله من عقلها الفارغ ، لكنّها لم تكتفي بذلك فقط بل غادرت نحو
السلالم قائلة بحقد ظهر جلياً في صوتها

" ليتها لا تخرج من هناك أبداً "

وتابعت بينما تصعد أول عتباته وبصوت مرتفع وكأنها تقصد
إسماعها

" ولن يحدث بالتأكيد لأن مصيرها حينها سيكون السجن "


وصعدت باقي العتبات حتى اختفت عنهم ونظراتهما تراقبها وقالت
رقية وقد نقلت نظرها نحو الجالسة مكانها السابق

" هذه فقدت عقلها بالتأكيد ! "


فخرجت ضحكة صغيرة منها وقالت

" لو أن تلك الفتاة الخماصيه هنا فقط وسَمِعَتْها لنرى كيف
سترد عليها "


وما أن ظهر لها رد فعل رقية من ملامحها ومن قبل أن تعلق
سبقتها قائلة

" لا تنظري لي هكذا فهي الحقيقة إنها أشجع امرأة رأيتها تطرح
عدوتها أرضاً دون أن يرف لها جفن "


وأبعدت نظرها عنها بينما ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها
وقالت

" لو أني أكتسب نصف شجاعتها فقط لكنت جلبت إبني من ذاك
السجن المفروض عليه قصراً "


وعند هنا تحرك لسان رقية وقالت بضيق

" لم يفرض أحد على ضرار شيئاً وقد تحدثت مع سلطان وقال
بأنه كان موافقاً ولم ولن يجبره على ما لا يريد "

وقفت الجالسة هناك على طولها وقالت بغضب

" لن يشعر بالنار سوى من قدمه فيها "

كان اتهاماً واضحاً لها بأنها تستهين بما يحدث معها لكنّها لم
تصمت أيضاً كعادتها تتجنب المشاكل مع ضرائرها بل قالت
بضيق

" ورواح أيضاً سافر ودرس بعيداً عني وها هو عاد ويدير شركة
طيران بنفسه فماذا حدث له ؟ ولم أعترض أو أعارض حينها لأن
الأمر في صالحه ليس لأنني بلا قلب يحترق على فلذة كبده
فتعقلي ولا تجعلي ابنك ينتهي نهاية نجيب رحمه الله "


كانت تنصحها أكثر من أنها تهاجمها أو توبخها لكنّها نظرت لها
نظرة غاضبة قبل أن تدير وجهها وتغادر في صمت ووجهتها
السلالم الذي صعدته جمانة قبل قليل بينما جلست رقية مكانها
السابق ورفعت كوب القهوة متمتمه بحنق

" أراه أكثر قرار صائب اتخذه سلطان بخصوص أبنائه "

وما هي إلا لحظات عاشتها مع أفكارها وما علمته للتو ووقفت
وغادرت ناحية السلالم ذاته وصعدت أيضاً وتوجهت نحو غرفتها
، وما أن دخلت وأغلقت الباب وقفت تنظر للذي كان يخرج ثيابه
من الخزانة وقالت ونظرها يتبعه

" أريد أن أزور زيزفون "


نظر نحوها وأمسك وسطه بيديه في حركة ونظرة فهمتها جيداً
وكأنه يقول لها

( عاقلة أنتِ أم مجنونة ؟ )

لكنّها تجاهلتها قائلة من قبل أن يعترض

" وما في الأمر ؟ هي فرد من العائلة ومن الخطأ أن لا نقوم
بزيارتها وهي عاشت معنا هنا وعرفتنا وعرفناها "


وما أن لمست منه اعتراضاً واضحاً لم يخفّ أبداً قالت برجاء
وإلحاح

" أرجوك يا سلطان هي ابنة شقيقك من دمك وهذا لا يجوز "

تنهد باستسلام يشعر بنغزة ألم في قلبه من ذكر شقيقه الذي مات
رجلاً وهو لم يراه يوماً ، أخذ ثيابه وقال متوجهاً ناحية الحمام

" جهزي نفسك أستحم ونغادر "


ابتسمت بسعادة وقالت تفتح باب الخزانة

" سأكون مستعدة من الآن "

*
*
*
أخذت جوزاء الصندوق من الخادمة واستدارت بنصف جسدها
للخلف ومدته للواقفة خلفها وقالت مبتسمة

" خذيه للأعلى ثمة صناديق أمام باب منزل غيهم ضعيه معهم
هناك "

وكان رد فعل يمامة ابتسامة جميلة وقالت وهي تأخذه منها

" حاضر أمي "


وغادرت ناحية السلالم الغربي المؤدي للطابق الثالث مباشرة
ونظراتها المحبة تتبعها بينما سارت هي بخطوات بطيئة حذرة
خشية أن يكون ما يحويه شيء قابل للكسر خاصة بأنها تبدو
هدية ولم تُفتح بعد أي لا أحد يعلم محتواها ، وعلى الرغم من
أنه متوسط الحجم لكنّها وجدت صعوبة في الصعود به حتى
شعرت بقدميها باتت تؤلمانها من شدة تشنجها الحذر إلى أن
وصلت المكان أخيراً وما أن انحت لتضعه مع الصناديق الأخرى
حتى انفتح الباب المقابل وخرج منه أبان الذي وقف ينظر لها
بينما وضعت هي الصندوق بحركة سريعة وكأنها رمته رمياً
وليست من تعامله بكل ذاك الحذر قبل قليل واستدارت بحركة
سريعة لتغادر لكنّ توقفت مكانها بسبب اليد التي أمسكت بذراعها
وأدارتها ناحيته قائلاً

" أين تهربين يمامتي ؟ "

وما أن أصبحت مقابلة له حتى صفّر بشفتيه وقال ضاحكاً يديرها
من يدها حول نفسها

" ما كل هذا دعيني أرى "

وما أن حاولت سحب يدها منه والمغادرة سحبها نحوه قائلاً
بضيق

" هيه ما بك تهربي مني في كل مرة رأيتني فيها ؟! "

وكانت النتيجة ذاتها حاولت الإفلات منه مجدداً لكنّه أحكم قبضته
على رسغها وسحبها نحو باب شقته المفتوح قائلاً

" تعالي هنا أريد أن أفهم "

وبالرغم من محاولاتها المضنية للإفلات منه قائلة باعتراض

" أتركني لا أريد "

إلا أنها لم تنجح ولا في إرباك خطواته وهو يدخل بها وأغلق
الباب بالمفتاح وحينها فقط تركها ووقف مقابلاً لها وظهره للباب
وأمسك خصره بيديه وقال ينظر لعينيها

" ستتحدثين الآن ولا مخرج لك من هنا "

كان يلاحظ خلال الفترة الماضية أنها تتهرب من التواجد معه
ولأن زوجة غيهم كانت هنا في الأسفل كانت لقاءته بها قليلة جداً
وبما أنه وجد الفرصة المواتية الآن قرر أن يفهم منها ، وحين لم
يبدر منها أي تعليق أو رد فعل على ما قال حرك رأسه قائلاً
باقتضاب

" ما معنى هذا الصمت ؟ "

تبدلت نظراتها للدفاع في مواجهة نظراته الحانقة وكلماته تلك
وقالت بتساؤل وكلمات بطيئة وكأنها تخاف من قولها

" ما الذي يفعله المتزوجان إن لم يعودا يريدان ذلك ؟ "

تبدلت ملامحه هو للاستغراب حينها وقال بريبة

" يريدان ماذا ! "


قالت والضيق يزحف لملامحها الطفولية الجميلة

" أن لا يكونا متزوجان "

ارتفع رأسه عالياً وانطلقت ضحكته المرتفعة بسبب ما وصلت له
أفكاره وحجمها أمام أفكارها وهو ما جعلها تقول غاضبة

" ما الذي قلته يضحكك ؟ "

توقف عن الضحك ونظر لعينيها وقال وتأثير ذاك الضحك لم يغادر
ملامحه

" الطلاق بالطبع "

ساد الصمت المكان وعيناها تحدق في عينيه وكأنها تحاول
ترجمة ما سمعت منه للتو حتى حرك رأسه في صمت بمعنى

( ها ماذا )

فقالت بهدوء مريب

" أريد أن أطلقك إذاً "

اتسعت عينا أبان حينها وصاح

" هيييه ما هذا ؟ "

وكان ذاك ما جعل حواسها تتخذ وضعاً دفاعياً برز في نظراتها
لعينيه وكأنها تقف أمام نمر جائع لا تفهم خطوته التالية بينما تابع
هو بضيق يرفع سبابته بينهما

" أولاً الرجل هو الذي يطلق والمرأة تقول طلقني وليس أطلقك "

عادت نظرات التفكير والتحليل للتقافز من عينيها الجميلة ثم قالت

" طلقني إذاً "

صرخ فيها حينها بغضب رافض يرفع أصبعه الوسطى مع السبابة
هذه المرة

" لم أنتهي بعد لازال ثانياً وهو أني لن أطلقك أبداً "

وتابع من فوره وسبابته تشير نحو الأسفل هذه المرة

" وستخبرينِ الآن من أدخل هذه الأفكار لرأسك ؟ بثينة
بالتأكيد ها ؟ "

كان جوابها الصمت وتحركت خطواتها فجأة لتجتازه نحو الباب
لكنّه أمسكها من ذراعها موقفاً إياها فقالت بضيق تحاول
الإفلات منه

" لا أحد أنا أريد هذا .. اتركني "

لكنّه لم يستجب لها بل أوقفها أمامه مجدداً وقال بضيق

" لا ليس لا أحد أنا أعرفك جيداً "

تقوست شفتيها كطفلة توشك على الانفجار باكية وقالت بصعوبة

" أقسم بأنه لا أحد "

ضيّق عينيه ينظر لها بشك وتمتم

" لماذا إذاً ؟ "

قالت ولازالت ملامحها تنذر بالأسوأ

" لأني أريد هذا "

ترك ذراعها حين علم بأن أسلوب التهديد لن يجدي معها
وسينقلب الوضع ويتورط في محاولات إسكات بكائها ، بينما نظر
لعينيها وقال وكأنه يحاول تنويمها مغناطيسياً

" لن تكون والدتي والدتك ولا بثينة شقيقتك إذاً ... "

وتابع يشير بأصبعه للبعيد ثم للأسف

" ولا تلك غرفتك ولا هذا منزلك ولا هذا زوجك "

وقال آخر كلماته يشير لنفسه وابتسامة كرتونية عريضة تزين
شفتيه ، وما أن لمح منها نظرة تفكير تابع يستفز عقلها الباطن

" وستغادري من هنا أيضاً لأنك لم تعودي زوجة لابن العائلة "

وابتسم بانتصار ما أن تبدلت نظرتها للدهشة وكأنها لم تفكر في
ذلك من قبل ، لكنّ انتصاره ذاك لم يدم طويلاً وقد قالت بعد
صمت لحظة

" لا بأس "

كان هو من اتسعت عيناه بصدمة حينها وقال

" لااا .. يبدو لي الأمر خطير جداً وعليك أن تخبريني
بالسبب الآن "

" يمااامة "

كان ذاك صوت جوزاء المنادي من الخارج تبحث عنها وما جعله
يتيبس مكانه عيناه فقط تنظر جانباً حيث الباب خلفه قبل أن ينظر
للتي كانت تنظر له بصمت ورفع سبابته لشفتيه وهمس بأمر

" هشششش "

كان يعلم جيداً ما مصيره إن وجدتها هنا وهو معها ويغلق الباب
أيضاً ، وبما أنها لم تطرقه فهي لا تعلم أين تكون وستنزل
بالتأكيد وبعد ذلك سيتركها تغادر ، لكنّها خانت توقعاته مجدداً
وهي تصرخ تنظر للباب خلفه

" أنا هنا أمي "


كانت مفاجأة غير متوقعة له منها تحديداً لأنها لم تكتسب الجرأة
لفعل أي شيء مماثل سابقاً وهو ما جعله يشتم هامساً

" تباً لك من طفلة "

وما أن تبدلت ملامحها للتعاسة بسبب ما قال كما يبدو ومع صوت
الطرق القوي على الباب خلفه قال يلوح بيديه

" فتاة أعني بل امرأة فلا تنظري لي هكذا "

وارتفع رأسه عالياً ينظر للسقف ما أن صرخ صوت جوزاء من
وراء الباب خلفه

" افتح الباب يا أبان .. افتحه فوراً "

أنزل رأسه متأففاً واستدار نحوه وأدار المفتاح لينفتح الباب بقوة
بسبب التي فتحته من الخارج ودخلت مندفعة ووقفت تنظر لهما
كلاهما وكأنها تربط ما يدور في رأسها بالواقع أمامها ، وما أن
استقر نظرها على عيني ابنها قال بضيق

" لا تنظري لي هكذا وكأنني سفاح يغتصب الأطفال "

غادرت حينها يمامة راكضة ونظر كلاهما يتبعها ونظرت جوزاء
نحو أبان قائلة بضيق

" لما تغلق الباب عليها إذاً ؟ "

ضرب ظهر يده بكف الآخر أمامها وقال بضيق أشد

" كنّا نتحدث ، رجل وزوجته يتحدثان هل هذه جريمة ؟ "

صرخت فيه من فورها

" أجل جريمة وإن كان لديك أمر أخبرني أنا به أخبرها إياه أو
تحدث معها في وجودي "


واستدارت نحو الباب وأغلقته هي بالمفتاح هذه المرة ونظرت
نحوه وتابعت بحدة تلوح بسبابتها بعيداً

" يعلم كلانا جيداً كيف ولما تزوجتها فهي دخلت المنزل هنا ابنة
لي وليست زوجة لك "

اتسعت عيناه بغضب بسبب ما قالته وصرخ فيها بالمثل

" هي إذاً لم تعد تريد كل هذا وقالت لي طلقني "

لحظة صمت سادت المكان كانت فيها عينا جوزاء ستخرج من
مكانها وقالت بعدم تصديق

" يمامة قالت هذا ! "

قال من فوره وبضيق

" أجل قالت لم أعد أريد أن نكون زوجان وحين أخبرتها بأن
هذا يعني أنها ستغادر من هنا ولن تكوني والدتها مجدداً
قالت لابأس "


تبدلت نظرات جوزاء من الدهشة للاتهام فجأة وقالت تهاجمه

" ما الذي فعلته أو قلته جعلها تقول هذا ؟ "

قال مدافعاً عن نفسه

" لو أني فعلت أمراً ما كنت لأسألك عن السبب الذي ترفض هي
البوح عنه "

كان الشك في نظراتها ينبئه بعدم تصديقها لما قال وأتاه دليل ذلك
ما أن قالت

" أقسم لي بالله الآن "

تنفس بحنق وقال بضيق

" قسماً برب الكعبة لم يحدث شي أمي هل تريني منحرف أمامك
ألاحق الفتيات ؟! "

أبعدت نظرها عنه حينها وشردت قليلاً في صمت قبل أن تقول
بتفكير وكأنها تحدث نفسها

" وضعها لا يعجبني الأيام الماضية فهي حزينة وصامتة أغلب
الوقت ! هل تشتاق ليمان وشقيقاها يا ترى ؟ "

انتقلت العدوى للواقف أمامها وقال بنظرة شاردة أيضاً وإن كانت
موجهة إليها

" لكانت قالت هذا حين سألتها وبأنها تريد الذهاب لهم
والعيش معهم ! "

وما أن رفعت نظرها لعينيه قال ببرود

" ابنتك تلك لا أحد غيرها بالتأكيد "

حركت رأسها في رفض وقالت

"مستحيل فبثينة ذاتها قالت لي يمامة لا يعجبني صمتها الكثير!"

واستدارت نحو الباب قائلة وهي تفتحه

" سأعلم أنا عن السبب منها "


وتوقفت أصابعها فجأة بسبب الذي قال من خلفها وبجدية

" اسمعي أمي طلاق لن أطلقها وإن كان السبب أنها تريد العيش
مع عائلتها "

وتبدلت نبرته عند آخر كلماته تلك لما يشبه التهديد فعادت
واستدارت ناحيته وقالت بابتسامة ساخرة

" خبر جديد هذا ! "

قال بضيق من سخريتها

" بل قديم ولم أقل يوماً بأني أريد تطليقها "

أمسكت خصرها بيدها اليمنى بينما حركت يدها الأخرى أمام
وجهه بقوة بطريقة السؤال قائلة

" ولما يا ابن والدتك ؟ "

زم شفتيه بحنق قبل أن يحررهما وقال يشير بسبابته على صدغه

" بلا أسباب هي زوجتي وانتهى ولن أطلقها "

وما أن لمح العدائية في نظراتها قال يسبقها وبتذمر

" أمي لا تأخذي الأمر عناداً فقط لتكسري رأسي "

وكما توقع لن يسلم منها أبداً فقد رفعت سبابتها أمام وجهه قائلة
بعناد بل وتهديد

" إن كانت أسبابها قوية وأرادت هذا وأصرت عليه ستفعلها
رغماً عن أنفك فلن يجبرها أحد على ما لا تريد "

وغادرت من فورها مغلقة الباب خلفها متجاهلة كلماته الحانقة
التي وصلتها بوضوح قائلاً

" جل ما أخشاه أن تصنعي منها نسخة أخرى عنك يا ابنة
الشاهين "

ولأن ما لديها لم ينتهي بعد وقبل أن تخمد نار غضبها توجهت
نحو باب الشقة الآخر وطرقت عليه بقوة وعادت وكررت الأمر
ولم تتوقف عن ضربه القوي بكف يدها حتى انفتح الباب أخيراً
ووجدت أمامها الذي كان بالكاد يفتح عين بينما يغمض الأخرى
وأصابع يده منغرسة في شعره الكث الناعم المبعثر ولازال بثياب
النوم الذي كان يغط فيه بعمق وما أيقظه إلا هجومها الكفيل
بإحياء الأموات ، وما أن أنزل يده من شعره أمسك خصره بيديه
وقال ببرود

" ما بك أمي من مات ؟ "

وبالرغم من اشتعالها الداخلي بسبب بروده وتملقه جارته فيه
قائلة ببرود مماثل

" إن لم يخبرك أحد من قبل بأن مزاحك سخيف فها قد
علمت الآن "

أدار وجهه جانباً وعاد لتمرير أصابعه في شعره يحاول ترتيبه
بينما تأفف نفساً طويلاً وهو طبعه ومنذ كان صغيراً لا يفعلها في
وجهها ومهما كان السبب وإن كانت هي ، لكن ذلك لم ينجح هذه
المرة في تحسين مزاجها وقالت بضيق

" ألا تخبرني ما الذي يجعلك تنام كل هذا الوقت واليوم يعتبر
يوم زفافك ؟ "

وتابعت من فورها دون أن تهتم لنظرته التي وجهها نحوها حينها
وكأنه يقول لها اختصري رجاءً

" حتى الخادمة لم تنزل لتترك لها مهمة تنظيف المكان قبل أن
تدخله عروسك "

وكان تعليقه الصمت أيضاً بينما تثاءب يغطي فمه بظهر كفه وهو
ما أوصلها لأعلى درجات الغضب وصرخت

" غيهم ! "

أبعد يده وحرك فكيه وكأنه يعيش في عالم آخر من الاسترخاء
وتمتم

" أجل أمي "

وهو ما جعلها تضرب كفيها ببعضهما قائلة بنفاذ صبر

" يا صبر أيوب "

وكان هذا ما جعل ابتسامة جانبية ترتسم على طرف شفتيه وأمال
وقفته يتكئ بمرفقه على مقبض الباب وقال متملقاً

" معك حق كم هو صبور "

وكان يعني والده وهو ما جعلها تصرخ به مجدداً

" غيهم ! "


وشعرت بالأبخرة تتصاعد من جسدها المشتعل من بروده ولا
مبالاته فلن يصيبها بالجنون والخرف المبكر غير هذان
المتناقضان وكل واحد منهما طباعه تكاد تقتلها فبالرغم من كل
مميزات غيهم ومعاملته الحسنة لها إلا أنه يشبه جدته والدة والده
حين يتحول لكتلة برود هكذا وتشعر وكأنها أورثتها له فقط
لتنغص عليها حياتها وهو يذكرها بها ، تنفست بضيق مستغفره
الله بهمس خافت غاضب فقال باستنكار

" أمي هل أفهم سبب كل هذا ! أنت تعلمي جيداً بأني أنام لوقت
طويل بعد الرحلات لأني لم أنم جيداً لأيام "

قالت بضيق

" ليس اليوم بالطبع "

حرك يده بمعنى

( ماذا هناك )

وقال بضيق مماثل

" وما لديّا أفعله ؟ هي بذلة سوداء وربطة عنق وانتهى الأمر "

عادت لمهاجمته قائلة بضيق

" أعرف عن أمثالك أنهم يكونون بين أصدقائهم اليوم يستحم في
مكان خاص يحلق شعره ولحيته يلبس ثيابه كرجل يتزوج لأول
مرة ليس ينام اليوم بطوله ثم يفتح خزانته ويخرج أول ما يراه
أمامه ويلبسه "


عاد لوضع البرود فجأة وأمال طرف شفتيه قائلاً بلامبالاة

" كل هذا يمكن فعله في ساعتين فقط أمي "


أشارت بيدها جانباً وقالت وضيقها يزداد حدة

" ووالدك الذي ينتظرك ؟ ومأدبة الرجال في الفندق ؟ وهو من
قال عند مغيب الشمس تكون أنت وشقيقك هناك "

حرك رأسه وكأنه يقول لها حسناً كما تريدين وقال بهدوء وكأنها
لا تحترق أمامه

" لازال أمامنا وقت طويل أمي "

شدت على أسنانها تفرغ غيضها منه فيهم ولأنها لن تشعر
بالراحة حتى تجعله يشعر بما تشعر به ولا يهتم قالت بكلمات
جادة قوية تنظر لعينيه

" غيهم إن كنت مكره على الفتاة ولا تريدها الآن تطلقها
وستركب أول طائرة وترجع لعائلتها "

اتسعت عيناه فجأة وصرخ

" ماذا ؟! "

كادت تفضح نفسها وتضحك في وجهه لكنّها احتفظت بذات
ملامحها الحانقة وقالت بقوتها ذاتها

" ما سمعته الآن أم أصابك الصمم ؟ "

نفض يديه قائلاً بضيق

" ما سببه كنت أعني ؟ "

لو كان بيدها لكانت احتفلت بانتصارها عليه وهي ترى كل ذاك
الجبل الجليدي تحول لحمم بركانية فجأة لكنّها لن تفعلها الآن
بالتأكيد لذلك قالت ولازالت تؤدي ذات الدور وببراعة

" أنا والدتك وأعرفك جيداً ، أنت لم تطلب ولا أن تخرجا معاً
وهي زوجتك وتحل لك ! كما لم تتحدث معها ولم تزرها ولا في
غرفتها !! "


قال بضيق ينظر لعينيها

" ومن هذا الذي قال لا تقترب منها حتى نتم جهازها
أليس أنتِ ؟! "

لم تعلق بينما لم ينتظر هو ذلك وقد تابع من فوره ويده تشير
جاًنباً

" لهذا سافرت وتركت المكان لك بدلاً من النظر والانتظار "

ضيقت عينيها تنظر لعينيه في صمت ، هكذا إذاً يا ابن والدتك ؟ لم
ترى شيئاً بعد من النظر والاحتراق مع الانتظار ، رفعت سبابتها
أمام وجهها بينهما قائلة بوعيد

" هي كلمة واحدة وأعيدها مجدداً كنانة تعيش معك هنا بكرامتها
، شكوى واحدة منها ضدك لن تراها مجدداً "

اتسعت عيناه قبل أن يقول باستنكار

" والدتي أنتِ أم والدتها ؟! "

رفعت سبابتها أمام وجهه وقالت بوعيد

" بل والدة كلاكما لن أرضى لها ما لا أرضاه لك "

تغضن جبينه باستغراب فجأة ونظر لعينيها بنظرة جعلتها ترتاب
للحظات حتى قال أخيراً

" ما سبب هذا الكلام وما الذي قالته كنانة لك ؟! "

كان سيحاصرها بشكوكه بل وقد يكتشف معرفتها بالأمر لذلك
لعبتها معه ببراعة وهي من ربته ولن تكون أقل حنكة منه فقالت
في استجواب ترفع حاجبها

" وهل ثمة شيء يقال لا أعلم عنه ! "

حرك يديه في صمت وكأنه يمنع نفسه عن الانفجار غاضباً أو
قول ما لن يُحمد عقباه وكتم كل ذلك وشد قميصه من صدره
ونفضه قائلا بضيق

" حاضر أمي ها هو النوم انتهى بسببك وسأغادر لأفعل الطقوس
التي ترضيك "

ابتسمت برضا حينها وحركت رأسها موافقة وكأنه هو من لا
يشتعل أمامها الآن ، وما أن أدار ظهره مغادراً نحو الداخل
غادرت هي أيضاً من هناك متمتمه بابتسامة ساخرة

" صبرك عليّا فقط يا غيهم لتأخذ مبتغاك من تعذيبها وسنرى "

ونزلت السلالم بعدها ووجهتها مكان آخر هي متأكدة بأنها ستجد
هدفها الآخر فيه ، وصدق من قال كلما كبروا أبناءك كبرت
مسؤولياتك ناحيتهم ، وصلت باب الغرفة وطرقت على الباب قبل
أن تفتحه وما أن دخلت وكما توقعت كانت هناك وكانت تجلس
فوق السرير تحضن ساقيها وتدفن وجهها في ركبتيها حتى أنها
غيّرت فستانها ولبست بيجامة ! وشعرت بقلبها ينفطر وتذكرت
ذاك الحلم القديم ووالدتها توصيها بها فتوجهت نحوها وجلست
على طرف السرير وقالت بهدوء

" يمامة هل نتحدث ؟ "


لم تتحرك من مكانها ولم يبدر منها أي رد فعل وكل ما حدث أن
اهتز كتفاها وخرج صوت بكائها المكتوم فأمسكت يد جوزاء
بذراعها وسحبتها منها قائلة بقلق

" ما الذي يبكي ابنتي تعالي هيّا "

واستجابت لها سريعاً ونامت في حضنها ومسحت يد جوزاء على
شعرها قائلة بحنان

" ما بك يمامة ما الذي يبكيك ؟! "

وحين لم يخف بكائها ولم يتوقف أبعدتها عنها وقالت

" هيّا اجلسي وأخبريني من هذا الذي ضايقك ؟ هل هو أبان ؟ "

وراقبتها بفضول وهي تمسح دموعها تخفض رأسها نحو الأسفل
وهمست ببحة

" لا "


تغضن جبين جوزاء باستغراب لأنه كان توقعها الوحيد وقالت

" بثينة ؟ "

تحرك رأس يمامة بالنفي دون أن تتحدث ولا أن ترفعه فقالت
جوزاء

" عمك أيوب أو غيهم ؟ "

عادت وحركت رأسها نافية مجدداً وهو ما جعل الاستغراب يعلو
ملامح جوزاء أكثر بينما رفعت يمامة رأسها ونظرت لها العينان
الرمادية الدامعة وقالت

" لم يضايقني أحد أمي أقسم لك "

تحرك رأس جوزاء في حيرة وقالت

" إذاً لما تريدين المغادرة وتركنا ؟ "

نظرت يمامة حينها ليديها تجمعهما في حجرها وهمست بحزن

" لا أريد أن أتركك "

قالت جوزاء والاستغراب لازال المسيطر على جميع حواسها

" لكن ما قاله أبان مختلف ! "

عادت ورفعت رأسها ونظرها لعينيها وقالت بتساؤل

" هل علينا أن نكون متزوجان لأبقى ؟ "

ارتفع حاجبا جوزاء باستغراب وكأنها تترجم الأمر وأسبابه قبل
أن تقول

" لا بالتأكيد لكنّ شقيقك لن يرضى بتركك هنا وأنتِ لستِ زوجة
ابننا وسيأخذك معه "

كان تعليق يمامة الصمت الحزين وكأن الجواب أصابها بخيبة أمل
كبيرة بينما لم تتحدث فقالت جوزاء

" الأمر يخص أبان إذاً ؟ "

قالت يمامة سريعاً

" لا "

تنهدت جوزاء بعجز عن فهمها بينما تبدلت نظراتها كما كلماتها
للجدية وقالت تنظر لعينيها

" إن لم تخبريني ما بك ولما تريدين الطلاق منه سأغضب منك "

اتسعت عينا يمامة حينها وحركت رأسها بحركة سريعة قائلة

" لا .. لا أريد أن تغضبي مني "

ابتسمت الجالسة أمامها في تبدل مفاجئ لمزاجها وامتدت يدها
نحو يديها وأمسكتها منها بقوة قائلة

" إذاً هيّا أخبريني وأعدك أن يحدث ما يرضيك ومهما كان "

وحين لم يبدر منها أي رد فعل ولم تنطق شفتاها بأي كلمة سوى
النظرة الحزينة الصامتة اشتدت قبضة يدها على أصابعها وقالت
" ألا تثقي في وعودي ؟ "

" كنانة "

همست يمامة بتلك الكلمة فقط والتي جعلت عينا جوزاء تتسع
على أقصاها وقالت

" ما بها كنانة ماذا فعلت لك ! "

ارتخى نظر يمامة نحو الأسفل وقالت

" لم تفعل شيئاً "

وهنا بدأت علامات الاستفهام بالتقافز حول جوزاء وقالت
باستغراب تحاول النظر لعينيها

" ماذا حدث إذاً ! "

عادت ورفعت نظرها بها حينها وقالت بحزن

" لما هي ليست في مثل سني ؟ "


نظرت لها جوزاء مصدومة وانفجرت ضاحكة على الفور ودون
شعور منها ، وما أن زمت الجالسة أمامها شفتيها باستياء قالت
تمسك نفسها عن الضحك

" أعذريني يا يمامة لم أقصد لكن لما تكون كنانة في مثل سنك !"

قالت يمامة باستياء

" وها أنا لست في سنها وزوجة لأبان ؟! "

وكانت جوزاء هنا تصارع نفسها بالقوة كي لا تضحك مجدداً بينما
تابعت الجالسة أمامها بملامح مشدودة وكأنها تناقش قضية
كبيرة جداً

" لما لم يتزوج أبان بواحدة كبيرة مثلها بل بي ؟ ولما هما
يتزوجان ونحن لا "

قالت جوزاء مبتسمة ومتفهمة لأفكارها

" وما الذي يزعجك في كل هذا يا يمامة ؟ "

قالت يمامة بملامح تعيسة

" أنا لست منزعجة أريد أن أفهم "

عادت جوزاء وأمسكت يديها بكلتا يديها هذه المرة وقالت بهدوء
باسم تنظر لعينيها

" يمامة ثمة أمور تحدث بين الزوجين أنتِ لستِ على استعداد لها
الآن وحين تكبري سيكون لكما حفل زفاف أكبر وأجمل حتى من
توقعاتك "


كان دور يمامة في أن تحوم علامات الاستفهام حولها هذه
المرة وقالت

" لم أفهم ! "

خرجت ضحكة صغيرة من جوزاء وربتت يدها على يديها
وقالت مبتسمة

" لا يمكنني توضيح هذا حتى تفهميه "

عاد الحزن للملامح الجميلة حينها وقالت صاحبتها

" يطلقني إذاً "

ارتفع حاجبا جوزاء بسبب الكلمة التي سبق وسمعت من أبان أنها
قالتها وقالت أيضاً لعلها تحاصرها

" ويتزوج من فتاة أخرى وترحلي أنتِ من هنا ؟ "

كان جوابها الصمت وحزن عينيها يشرح ما يجول في داخلها
فقالت جوزاء مجدداً

" حينما تكبري ستتزوجين هل تريدي حينها رجل غير أبان ؟ "

كان جوابها الصمت أيضاً فحركت جوزاء وجهها في صمت بمعنى

( ها قولي )

فهربت بنظراتها منها للأسفل وتمتمت

" لا أعلم "

ابتسمت جوزاء وقالت

" عليك أن تعلمي يا يمامة لنفعل ما يرضيك "

عادت ونظرت لعينيها وقالت بلمحة حزن

" أريد أن أكون معك "

ابتسمت حينها جوزاء برضا وقالت

" وأبان ؟ "

كانت تنتظر جوابها بفضول كبير لتعلم مكانة كل شيء بالنسبة لها

حتى قالت أخيراً

" هل ستخبريني حين أكبر عن السبب "


ضحكت جوزاء بحب وحضنتها قائلة

" يا إلهي ما أجمل هذا القلب واللسان "

وأبعدتها عنها سريعاً وقالت تنظر لعينيها

" الفتيات في مثل سنك في قريتكم يتزوجن أليس كذلك ؟ "

حركت رأسها بنعم دون أن تعلق وتابعت جوزاء

" وتعيش مع زوجها في منزلهما أو منزل عائلته ويصبح لها
عائلة وأبناء "

بدأت الحيرة ترتسم على ملامح المقابلة لها وانتظرتها حتى حللت
كلامها وأومأت برأسها بنعم مجدداً حينها فقط تابعت هي دون
توضيح أكثر وبنبرة جادة

" لكنّ هذا خاطئ ، إنهم يقتلون طفولتها ويحملونها مسؤولية
أكبر من سنها بكثير ويعرضون حتى جسدها للخطر وهي تحمل
وتنجب في هذا السن كما أنها لا تنهي تعليمها ولا تكبر وتبني
شخصيتها بنفسها بل تعيش دائما خاضعة خانعة وخادمة فقط "


أنهت كلماتها ولازالت تبحث في عينيها عن مدى استيعابها
وفهمها لما تقول ، وما أن طال صمتها قالت جوزاء

" هل تعي معنى كل هذا يا يمامة ؟ "

قالت الجالسة أمامها بعد تفكير للحظة

" نعم "

ابتسمت حينها وقالت

" لهذا أنا أردتك زوجة لإبني لكن لا أريد لطفولتك أن تُدمر ولا أن
تكوني بلا شخصية ولا هوية بل امرأة سيدة نفسها لا يمكن لرجل
أن يكسرها أو يجعلها جارية له حتى إن كان ذاك الرجل إبني "


وعادت وأمسكت يديها قائلة

" ولهذا أردت أن تعيشي معي حتى تكوني مستعدة لأن تكوني
زوجة وأم ثم لك القرار حتى إن أردتِ الطلاق منه والزواج بغيره
لن يعارض قرارك أحد "


كانت نظراتها مختلفة كثيراً عن بداية حديثهما وهي تعلم بأنها
فتاة ذكية واستطاعت فهم ما قالته وما تعنيه وإن كانت تجهل
أغلبه وإن لم تعلق على كل ذلك لذلك لم تنتظرها أكثر وقالت

" والآن أخبريني هل أقنعك جوابي وتريدين البقاء معي كابنة لي
أم أن يطلقك وتغادري لمنزل شقيقك ؟ "

وطال الصمت بينهما تنظر لعينيها بهدوء لأنها كانت تريدها أن
تقرر هي عن نفسها ودون أي ضغط منها وتابعت مؤكدة لها
بجدية

" الخيار لك وحدك يا يمامة وحتى إن تسبب الأمر بخلاف بين
يمان وأبان فتلك مشكلتهما المهم أن تكوني راضية ومرتاحة "


تلونت عيناها الجميلة بالحزن فجأة وقالت

" أريد أن أكون معك وأن أدرس وأتعلم ومشتاقة ليمان وجاد
وعنان أيضاً وحتى مايرين "

ابتسمت جوزاء حينها وقالت ويدها تلامس وجنتها الناعمة

" تلك الأمور سهلة وسنطلب منه مجدداً أن يقوموا بزيارتنا
في أقرب وقت "

كان رد فعل يمامة ابتسامة صادقة وسعادة ظهرت بوضوح في
ملامحها قبل عينيها قابلتها جوزاء بابتسامة مشابهة لها فها قد
نالت مبتغاها وبرضا واختيار منها ودون أن تجبرها أو تضغط
عليها ، ولأنه لازال أمامها أمر أهم عليها معرفته قالت تنتظر
الجواب من عينيها قبل كلماتها

" وإن سألتك الآن إن كان بإمكانك البقاء هنا وأن تكوني زوجة
لشاب آخر غير أبان هل تستبدليه بغيره ؟ "

رأت جوزاء الحيرة تزداد في العينان الفضية وكأنها تحاول فهم
السؤال أو ترجمته لكنّها خشت أيضاً من أن تجيب بما يقوله
عقلها فقط لتكون فرد من هذه العائلة لذلك قالت بجدية

" أريد جواباً نابعاً من قلبك ومهما كان "

قالت حينها الجالسة أمامها وبصوت ثابت عكس الأحاديث
السابقة بأكملها

" بل أبان "

ضحكت جوزاء وحضنتها وقالت

" لا تخبريه بهذا إذاً كي لا نصبح في مشكلة "

ابتعدت عنها وقالت المتوقع

" مشكلة ماذا ! "

ضحكت جوزاء وقرصت خدها قائلة بضحكة

" مشكلة ما ليس وقت معرفته الآن "


ووقفت وقالت تنظر لها مبتسمة وهي ترفع نظرها لها فوقها

" لا تفكري في هذا كثيراً وهيّا إلبسي فستانك لننزل ونرى ما
فعلو مع كنانة "

وقفت حينها قائلة بحماس

" حسناً "

وراقبتها نظرات جوزاء الباسمة المحبة وهي تخرجه من الخزانة
وتوجهت به نحو حمام الغرفة الذي ما أن أغلقت بابه همست
الناظرة له بابتسامة حزينة

" ليحفظك الله يا يمامة ويعينني على حفظ الأمانة "


*
*
*


أوقفت سيارتها قرب البوابة الحديدية المفتوحة ولبست النظارة
السوداء الكبيرة وفتحت بابها ونزلت لتجد الهواء القوي في
استقبالها بسبب المكان المكشوف الواسع وأمسكت يدها طرف
سترتها الطويل الذي أبعدته الريح بعيداً تغطي جسدها به أكثر
وهي تسير نحو البوابة التي يحرك بابها الريح ببطء مصدرة
صوتاً واضحاً ، وما أن وصلته أبعدته بيدها وهي تعبر الأرض
الترابية وشعور غريب غمر قلبها وهي تدخل هذا المكان وللمرة
الأولى في حياتها ونظرها يتنقل بين القبور الموزعة بعشوائية
بسبب تعرج الأرض ، شعور لم يكن سببه تشجيع نفسها على
فعلها ومحاربة ترددها وهي التي لم تفعلها منذ مات وتركهم بل
هو شعور رهبة الموت وحياة الأموات والعالم الذي سيكون
مصيراً لكل إنسان في هذه الحياة .

تغيّر خط سيرها ناحية الشرق فالقبور هنا موزعة حسب تاريخ
دفن صاحبها ومقصدها سيكون هناك بالتأكيد ، وكان كذلك بالفعل
وأدمعت عيناها من تحت نظارتها ومن قبل أن تصل للقبر الذي
قرأت بوضوح اسم صاحبه على اللوح الرخامي الكبير الموجود
أعلاه ، ولأنه كان من طلب أن يدفن في مقبرة المدينة التي مات
فيها ومع عامة الناس دفن هنا بينما اختاروا له مكاناً متطرفاً لم
يكن ثمة قبر ملاصق له أو قريب منه وبني له قبر مرتفع عن
البقية وكأنهم يشرُفونه بهذا ليعرف الجميع مكانه ومكانته حتى
بعد موته .

كانت خطواتها بدأت بالتعثر مع تدفق الدموع من عينيها دون
توقف وهي تشعر بأنه مات الآن وودعته الآن تسمع كلماته
الأخيرة لها وكأنه يقولها للتو ، وما أن وصلت عند القبر حتى
انهارت جالسة بجانبه وأنزلت النظارة عن عينيها بينما اتكأت
بساعد يدها على بنائه الرخامي وأخفت وجهها وبكائها فيه
تبكيه بحرقة بكاء صامت لا شيء سوى عبراتها الموجعة تقطعه
كل حين ، البكاء الذي لم تبكيه يوم وفاته حين كانت صامدة
كالجبل أمام المعزين بينما طفل ينوح بوجع وهي نائمة وحيدة في
غرفتها ، لكنّها اليوم لم تعد قادرة على أداء ذاك الدور ولا حتى
أمام الجميع وتركت العنان لأوجاعها ولفقدها ولألمها وصدمتها
أن تخرج دون رادع تبكي كل لحظة عرفته فيها .. طفولتها
وحنانه الأبوي عليها شبابها وتعظيمه لها وكأنه لم يكن لدى رجل
ابنة غيره في الحياة ولم تعرف يوماً شعور فقد الأب في حياتها
معه ولا حتى الأم أيضاً وهو من كان يسهر الليل في مرضها
يرفعها فوق كتفه ويجوب بها المنزل حتى الصباح .

كانت تبكي بعبرة بوجع في مكان لا يسمع فيه سوى صوت الريح
وذاك النشيج الباكي الذي يذيب الحجر ، ورحمتها كلماتها أخيراً
وخرجت من أعماق قلبها قبل حنجرتها قائلة ببكاء

" ليته يمكنك الحديث وسماعي لتبرد النار المشتعلة في قلبي
وتكاد تقتلني "

ولم يزد ذلك حالها إلا سوءاً وبكائها إلا نحيباً وضربت قبضة يدها
على الرخام البارد بينما لازالت تدفن وجهها وبكائها في ساعدها
وتابعت بوجع

" أجب سؤالي أرجوك فلا زال يصعب عليّا تصديق هذا
واستيعابه "

واستمر ذاك البكاء والعبرات وكأنها تفرغ وجع السنين بأكمله
فأن تنكسر صورة من تحب داخلك أمر يصعب وصفه أو تخيله
ووجع يصعب تجاوزه مهما مرت السنين لهذا هي هنا تحتضن
الأمل الميت وتأمل في سماع صوت الأموات لعلها تقنع عقلها
على الأقل لتقبل الحقيقة لأن قلبها لن يفعل ذلك أبداً ، فقالت مجدداً
وبأمل كسير يشبه انكسار صوتها وقلبها

" ليس أنت .. لن تفعلها بي وتبيع سعادتي وعائلتي وتقتل قلبي
فقط لتحكم صنوان البلاد ويخرج مطر شاهين خارجها ويأخذ
قلبي وروحي معه ! "


وازداد بكائها حدة وعادت للضرب بقبضتها قائلة بنحيب موجع

" أبي أجبني أرجوك قل بأنه يكذب فقط لينتقم مني بك ، قل بأنك
لا تفعل هذا بابنتك ، يمكنني تقبل هذا من الجميع عداك أبي أقسم
لك فلا تقتلني بها "

ولأنه لا صوت للأموات سوى في أمنياتنا الحزينة لم تسمع سوى
صوت بكائها وأنين قلبها وتقاطع عبراتها وكأنها تفرغ وجع
السنين بذلك حتى خارت قواها تماماً وارتخى جسدها حينما
أنهكها البكاء الطويل واتكأت بطرف جبينها على القبر المرتفع
عيناها الدامعة الحزينة تهيم في الفراغ بشرود وكأنها منفصلة
عن العالم بأكمله من حولها بينما لازال صدرها ينتفض بعبرات
متلاحقة والدموع تتقاطر من عينيها بين الحين والآخر وكأنها
تنتظر معجزة ما وأن تسمع صوته يحادثها بالفعل حتى شعرت
باليد التي لامست كتفها قبل أن تشتد الأصابع الرجولية عليه
بقوة وارتفع رأسها حينها ووقع نظرها على الرأس الذي كان
يخفي الشمس خلفه وعادت الدموع للتجمع في عينيها ما أن وقع
نظرها على عينيه الحزينة وتبعته نظراتها وهو يجلس على
الأرض بجانبها ونظر لعينيها الدامعة التي تقتله دون رحمة فهو
يعلم أي وجع يقتل قلبها وما جعلها تفعلها وللمرة الأولى وهي
تخالف تعاليم الدين الذي لطالما تمسكت به ويمنع دخول النساء
للمقابر ، وموقن من أن الوجع الذي فاق تحملها هو السبب
وجاءت تبحث عن شيء يجعلها وإن تقنع نفسها بحقيقة الأمر
لذلك لم يجادلها في هذا ولم يذكرها بعقوبته بل قال بحزن ينظر
لعينيها الباكية

" غسق لا تحزني قلبك كثيراً يا شقيقتي "

لكنّ ذلك لم يساعدها بل زاد وضعها سوءاً وتقاطرت الدموع من
رموشها وقالت بعبرة مكتومة تشير بيدها لنفسها

" هو لم يرحمني ويتحدث ، قل أنت بأنه يكذب يا رعد أرجوك "

كانت ترمي بثقل همومها عليه ولم تكن تعلم بأنها تزيد من حجم
همومه ورغم ذلك وكعادة الرجال وصمودهم مهما كانت دواخلهم
امتدت يده ليدها التي كانت تريحها على فخذها وشد عليها
بأصبعه بقوة وقال بصمود ينظر لعينيها الدامعة

" لا تحاولي الهرب من الحقيقية يا غسق بل مواجهتها "

تحرك حينها رأسها برفض لما يقول ولا استيعابه أو تصديقه
فتنهد بعمق وقال

" قد يقسو أحدنا على شخص يحبه ليس لأنه لا يعني له شيئاً بل
لمصلحته "

قالت حينها بعبرة تقطع القلب بينما يدها تضرب على صدرها

" فعلها مطر شاهين وقتلني من أجلي وفعلها والدي الحقيقي
وحرمنا منه من أجلي لكن ما فعله والدي شراع لم يكن من أجلي
يا رعد وهو ما يكاد يوصلني للجنون ، إن كان ما فعلوه هم
لحمايتي آذاني كثيراً فكيف بهذا ؟! "


تبدلت ملامحه للجمود فجأة وقال بترقب

" هل يعني هذا بأن مشاعرك نحوه تغيرت ؟ "


حركت رأسها برفض وقالت بحزن عميق

" لو كان الأمر كذلك ما كنت هنا "

وقالت آخر كلماتها تنظر للقبر بجانبها بينما تابعت بأسى حزين
والدموع تتجمع في عينيها مجدداً

" كيف لعقلك تخيل هذا ! كيف يمكن لقلبي أن يكرهه أو يغضب
منه ؟ لا يمكنني ولا إقناعه بهذا "

وعادت ونظرت له وقالت بعبرة تشير لنفسها

" لكني مجروحة ومخذولة وأشعر بشعور لا يمكنني وصفه ، لقد
قتلني بها وأفلح في قتلي وانتصر عليّا كما أراد "

هرب بنظره منها للأسفل بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة
متألمة وقال

" كنتِ ستعلمين عن هذا إن كان عن طريقه أم لا "

وكان ذاك ما جعل نظرتها تتبدل للاستغراب والعينان الدامعة تنظر
له في حيرة وقالت ببحة

" ماذا تعني ؟ عن طريق من ! "

رفع نظره لعينيها وقالها دون تراجع

" عن طريق والدي نفسه "

وهنا كان قد رماها في دوامة أكبر من سابقتها حتى أعجزها عن
النطق وتابعت نظراتها المتوجسة يده وهو يدسها في جيب
سترته وأخرج منه قرص بيانات مستطيل الشكل صغير ومده
لها قائلاً

" لقد ترك لك هذا معي "

رفعت نظراتها منه لعينيه دون أن تأخذه بينما كانت عيناها تحمل
ألف سؤال وهو ما جعله يتنهد بحزن وقال

" كنت أخشى من أن تعلمي ما فيه لكن الآن أرى أن تعرفي كل
شيء منه أفضل من أن تتابع عليك الصدمات وتقتلك أو تقتله
في داخلك "


جعلت كلماته تلك ضربات قلبها ترتفع حتى آلمتها وباتت تخشى
منه بالفعل من قبل أن تراه أو حتى تمسكه ، ولأنه قرأ ذلك فيهما
بالفعل أمسك يدها ووضعه فيها قائلاً

" عليّا أنا طلب السماح منه الآن لأني خالفت وصيته فلن يضمن
أحد ما يخبئه مطر شاهين أيضاً "

ازداد التوجس في ملامحها كما صوتها الذي لازال متأثراً ببكائها
السابق وهمست بصعوبة

" ما معنى هذا ! "

قال دون تراجع ينظر لعينيها

" أعني الأحياء وما ذكره في تلك المقابلة أيضاً "

ضمت يدها لقلبها والقرص فيها وقالت بعينين متسعة

" جبران تقصد ! "


حرك رأسه بنعم بينما أخفضه ونظر نحو الأسفل وقال بكلمات
حزينة جوفاء

" أجل فإن كان السبب واحد فقد زال الآن فالجميع كان يتوقع أنّه
ينتظر مشايخ صنوان للحل السلمي وليس بسببك أنتِ "

*
*
*
أبعدت الخصلة القصيرة التي رمتها الريح أمام وجهها ودستها
خلف أذنها ورفعت كوب القهوة لشفتيها بينما نظرها على
أحواض أزهار القرنفل ورائحة أوراق الحبق المنعشة تشعر بها
تتسرب إلى خلاياها وعلمت الآن معنى ما كانت تسمعه وأن
رائحة هواء القرى الريفية مختلفة تماماً عن المدن وكأنك لا
تعيش في ذات البلاد !

سرق نظرها واهتمامها رنين رسالة في هاتفها الموجود في
حجرها فرفعته ونظرت للاسم قبل أن تفتحها والتوى فمها بحركة
سريعة ما أن قرأت اسم ( أويس ) وهمست شفتاها ببرود
وهي تفتحها

" صباح الخير يا أستاذي "

وما أن قرأت أحرفها القصيرة المختصرة تمنت أن لم يرسلها
وهي ترمي هاتفها جانباً فهو غادر لحوران قبل يومين واليوم
أصبح الثالث ولم يمضي على زواجهما حينها سوى ثلاثة أيام لم
تراه فيها تقريباً سوى ليلاً وكما ليلتهم الأولى عابس صامت
وكأنه تمثال منحوت على ذات الملامح والتعابير بينما يقضي
الوقت الذي يكون فيه في المنزل مع والدته ولا تسمع صوت
ضحكته إلا حينها بينما هي ما أن تجلس حتى يقول

( اجلبي لنا الشاي )

وما أن تضع الصينية وتجلس

( أجلبي طبق الفواكه )

واحضري وافعلي وهاتي الماء وووو ... وهي صامدة كالجبل
ترفض فعل ما يريد ويصبوا إليه وهو سجن نفسها في غرفتها ،
وكلما علّقت والدته على الأمر وجد حجة ما ممازحاً بينما كانت
تضحك شفتاه وعيناه ترميها برصاصٍ قاتل وآمنت حينها بأنه
يصلح لأن يكون ممثل مسرح بجدارة وهو يؤدي وجهان في آن
معاً واحد للتي تسمع وواحد للتي ترى ! حتى كان اليوم الذي
ناداها وهو في الغرفة ودخلت ووجدته يفتح حقيبة متوسطة
الحجم فوق السرير ويطوي قميصاً في يديه ليضعه فيها فوقفت
ونظرت له وقالت مستغربة

" ستسافر ؟! "

قال متوجهاً ناحية الخزانة المفتوحة

" سأذهب لحوران لديّ عمل مهم هناك "

نظرت له وكأنه يتكلم بلغة غير مفهومة بينما عاد هو ناحية
الحقيبة ووضع فيها ما أخرجه من الخزانة قائلاً ببروده المعتاد

" أخرجي لي جوارب بيضاء لم أعرف أين وضعتها "

لم تتحرك من مكانها ولازالت نظرتها له ذاتها فاستقام في وقوفه
ونظر لها وقال بضيق

" لا تقفي هكذا كعمود الخشب "

زمت شفتيها وأمسكت نفسها بالقوة عن الكلام فإن علّمتها الحياة
فنون الرد سابقاً سيعلمها هذا الرجل كتم المشاعر وطمرها حتى
تموت كقطعة خشب كما وصفها فهي تعلم جيداً ما يصبو له وهو
استفزازها ثم الدخول معها في شجار ومن ثم إهانتها كما يريد
وإيصالها لأعلى مراحل الانهيار وكره الذات ويحطمها ويصل
لغايته في الانتقام منها .

لذلك تحركت في صمت وأخرجت مجموعة جوارب وما أن
توجهت بها للحقيبة قال ببرود وهو يعود نحو الخزانة

" يكفي ثلاثة "

كورت شفتيها قبل أن تقلده في صمت بشفتيها فقط وهي تضع
الجوارب في الحقيبة وقالت ببرود مماثل وهي ترجع البقية من
حيث جلبتهم

" لا يجب أن يعلم والداي بأنك هناك "

كانت توليه ظهرها ناحية الأدراج المنفصلة بينما وصلها صوته
البارد المستفز من مكانه هناك

" لا يمكنني الاختباء منه حيثما ذهبت "

رفعت عينيها عالياً متنهدة بضيق تترجي الله المزيد من الصبر
والتحمل لتمضي الأشهر القادمة على خير ، فها هو يؤكد لها
بأنه قد يلتقي بزوج والدتها هناك ولا يهتم للأمر أساساً !

استدارت نحوه وكان يرتب الحقيبة ليغلقها فكتفت ذراعيها
لصدرها وقالت بجمود

" لا بأس في أن تعلم والدتك بحقيقة حياتنا معاً إذاً "

أدار وجهه ناحيتها ولازال منحني للحقيبة ونظر لعينيها في صمت
قبل أن يتركها ويقف مستوي على طوله وقال بنظرات قاتمة
وغضب مكبوت هذه المرة

" تهديد هو يا زهور ؟ "

علمت حينها بأنها أعطته الفرصة التي كان ينتظرها للشجار لذلك
تمسكت بهدوئها بل وبرودها وهي تقول ناظرة لعينيه

" ليس تهديداً بل تذكيراً كي لا تلقي عليّا باللوم إن حدث
هذا مصادفة مستقبلاً "

كانت تذكره بأنه إن فعلها الآن وعلمت عائلتها بذهابه هناك في
أسبوع زواجهم الأول فصمتها عنه معناه أن يصمت أيضاً في حال
علمت والدته بحقيقة وضعهما ومخططه المستقبلي لعلاقتهما
فمثلما هو لن يهرب من المصادفات لن تفعلها هي ولن يلوم أي
واحد منهم الآخر ، لكن يبدو أن ذلك لم يقنعه وقد قال بضيق
يمسك خصره بيديه

" ثمة فرق بين أن يكون الأمر مصادفة أو متعمداً "

قابلت مزاجه المشتعل بالبرود ذاته والذي تهنئ نفسها عليه
بالفعل وقالت

" وأنا عند اتفاقنا ولن أفعلها ، ولم يربني والداي على خيانة
الوعود "

كانت تتوقع منه هجوم آخر خاصة بعد كلماتها التي يمكن فهمها
بأكثر من معنى لكنّه فاجأها بأن قال بجمود ينظر لعينيها

" لا أعلم أين هي زهور تلك التي كانت طالبة في الكلية ؟! "

لو كان الأمر بيدها ولا يراها حينها لضحكت بل ورقصت بانتصار
فها هو كما توقعت كان يستفزها ويريد إيصالها لأعلى مراحل
الانهيار النفسي ويبدو فاجأته بما لم يتوقع درجة أن قالها لها
هكذا علانية ! ولكي تكمل الدور الذي هي مقتنعة به أكثر من
كونه أداء تمثيلي فقط قالت ولم يغادرها برودها بعد بينما زينت
ابتسامة ساخرة شفتيها

" ماتت مع سمعتها التي تلوثت فيها ، وماتت مرة أخرى
حين صفحت عن الفاعل "

وقالت آخر كلماتها تلك ترفع رأسها قليلاً بينما لم تفارق نظراتها
عينيه وكأنها تؤكد له مقصدها من كل ذلك وتذكره بأنه من بدأ
بالحرب وليس هي ، وكان تعليقه جاهزاً أيضاً وقال بابتسامة
تشبه ابتسامتها تلك

" ليس ثمة من يشوه سمعة فتاة ويتزوجها "

كان رد فعلها الأولي ضحكة قصيرة ساخرة فهي كانت تضحك
على نفسها بهذه الأكذوبة سابقاً حين تزوجها ، وليعلم بأنها باتت
لا تصدق هذا أيضاً قالت وذات السخرية اللاذعة تزين كلماتها

" قد يكون تكفيراً عن الذنب ليس إلا "

قال يجاريها في ذات الحرب الباردة بينما ينظر لعينيها

" وهو ما فعلته أنتِ أيضاً أليس كذلك ؟ "

قالت برفض سريع

" لا ... "

ولم يترك لها أي مجال لتنهي كلامها قائلاً بضيق

" كاذبة ، كنت لأصدقك لو أنك لم تفعلي فعلتك تلك "

وكان اتهامه ذاك كفيلاً بجعلها تشتاط غضباً لكنّها لازالت تقاوم
نفسها وبصعوبة وقالت بجمود لأن البرود سلاح باتت تفقده
تدريجياً

" لا يهم عندي ما تفهمه المهم ما أقول ولن أبرر لشخص يستمع
لنفسه فقط "

كانت إهانتها تلك كافية بالنسبة لها للأخذ بثأر كرامتها منه فقال
يحاول مجدداً تصويب سهام حربه نحوها

" بل لأنه لا وجود لتفسير غيره "

كانت كحرب كلامية باردة بينهما كل واحد منهما يريد الانتصار
فيها لذلك قالت وقد عادت لتوازنها ووضع البرود حينها ولاتهامه
بأفكاره نحوها مجدداً

" وتصرفك تفسيره مماثل أيضاً "

كانت ابتسامته ساخرة حينها وقال

" لن نستبعد هذا "
وهو ما جعلها تفقد السيطرة على انفعالها وللمرة الأولى وقالت
بضيق خرج عن سيطرتها

" لما أنا من عليها دفع الثمن فقط إذاً ؟ "

جعله رد فعلها ذاك يأخذ وضع البرود وكأنه أعاد الكرة لملعبه
أخيراً وقال ينظر لعينها وكأنها متهم في جريمة من أبشع جرائم
البشرية

" لو كانت أذيتك لي فقط لاختلف الأمر بالتأكيد ولتعادلنا "

وهنا ألجمها تماماً عن قول أي شيء فقد حاصرها بالفعل ، ويبدو
لم يهتم لأي رد سيكون منها وقد انحنى نحو حقيبته أغلقها
وحملها متوجهاً نحو الباب فقالت بضيق توقفه

" انتظر فحديثنا لم ينتهي بعد "

وقف حينها بالفعل واستدار نحوها بينما كانت ملامحه باردة
كالجليد كما كلماته وقد قال

" لم يعد هناك ما يقال ولن نكرر ذات الكلمات كالببغاوات "

وغادر الغرفة وتركها تشتعل لوحدها هناك وودع والدته وغادر
بينما فعلت هي حينها ما لم تفعله في وجوده وسجنت نفسها في
الغرفة تعيش الصراع بين ندمها وغضبها ولومها لنفسها حتى
تمنت أن دمرت المكان بما فيه ، وقد نجح في الوصول لما كان
يصبو له وإن كان لم يحتفل بانتصاره ، ومرت الساعات عليها
وهي وحيدة هناك تحارب فكرة واحدة وهي الاتصال بزوج والدتها
ليأتي ويأخذها من هنا لكنّها لم تفعلها لأنها بهذا ستغادر وهي
الملامة وإن أمام نفسها ، وما أن ينتهي العقاب الذي حدده لها
ووافقت هي عليه ستغادر هذا المنزل وهذه البلدة وهي مرتاحة
البال والضمير .

واستمر سجنها لنفسها حتى طرقت عليها والدته باب غرفتها
وخرجت لها حينها مدعية أنها كانت نائمة ، وعادت بعدها زهور
ذاتها قبل حوارهما المتلف للأعصاب ذاك وقضت وقتها واليومين
التاليين برفقة والدته التي لم تشعر بالملل مطلقاً وهي تستمع
لأحاديثها وحكاياتها الممتعة عن حياتها في هذا المكان .

وضعت كوب القهوة من يدها ووقفت وتحركت مسرعة نحو التي
خرجت من باب المنزل تتلمس حافته لتعبر منه وكأنها خرجت من
أفكارها تلك ، أمسكت بيدها وأوصلتها للمكان الذي أعدته
لجلوسهم وقالت مبتسمة وهي تترك يدها

" ليت صلاتنا بطول صلاتكم "

قالت التي جلست مبتسمة

" لأن مفاصلكم وعظامكم لازالت بصحة جيدة "

ضحكت زهور وقالت وهي تجلس مكانها السابق

" الأمر متعلق بالصحة فقط إذاً ! "

قالت الجالسة أمامها بضحكة

" بالتأكيد "

قالت زهور مبتسمة وهي تسكب لها القهوة في فنجانها

" لا ليس كذلك فأنتِ لستِ كبيرة في السن وأويس كان طفلك
الأول وتزوجتِ في سن صغير "


ابتسمت بحزن بينما أخذت الفنجان من يدها ما أن لامس أصابعها
وقالت

" هموم الحياة تفعل الكثير لا علاقة لأعمارنا بصحة أجسادنا "

تنهدت حينها زهور بحزن وقالت

" معك حق "

وهامت ببصرها في الفراغ بشرود وفكرت في أنها قد تصبح
عجوز وهي في العشرين من عمرها بسبب ذاك الغيلواني الحقود
؟ ضحكت فجأة بسبب الفكرة فقالت الجالسة بقربها مبتسمة

" ما الذي يضحك العروس ؟ "

شعرت بالخجل من نفسها وتخيلت أن تكون فهمت بأنها تضحك
على ما قالت لذلك قالت بصدق موضحة بينما اختلطت كلماتها
بضحكة صغيرة

" تخيلت أن أصبح عجوزاً بسبب ابنك "

ضحكت الجالسة أمامها كثيراً وقالت تضع الفنجان من يدها

" ما الذي فعله لك وهو يحبك ؟ "

ماتت حينها الابتسامة من وجه زهور وحال قلبها
يقول : يحبني !! لو أنك تعلمي ما قال قبل سفره لتغيّر كلامك
بالتأكيد ، لكن ولأنه لا يمكنها قول ذلك عادت وقالت بصوت
حاولت أو تجعله باسماً

" الرجال محرقة النساء أحبوهم أم لا "

قالت والدته معترضة ومبتسمة بحنين وشوق خالطه الكثير
من الحزن

" لا ليس صحيحاً فعمك عبد الجليل رحمه الله عشت معه أعواماً
تُجدد الشباب وليست تقتله "

تمتمت حينها زهور بحزن عميق

" رحمة الله عليه "

والتصقت نظراتها بالملامح الجنوبية الجميلة رغم تقدمها في
العمر وباتت تتفهم الآن سبب فقدها لبصرها حزناً عليه وشعرت
بذنبها يتعاظم أكثر ، قالت التي وضعت الكوب من يدها
والابتسامة الدافئة لا تغادر شفتيها

" وأويس مثله تماماً لا يشكك لقب غيلوان الذي يحمله في ذلك
فهو أخذه من والده الذي كان من أنبل الرجال "


عادت ابتسامة زهور للموت البطيء مخلفة خلفها تجهماً كئيباً فلا
يبدو لها هذا صحيحاً فحقده أسوأ من الإبل ، إلا إن كانت هي
السبب فيه بالطبع ، تنهدت بحزن واكتفت بالصمت بينما قالت
التي لازالت تنظر للفراغ مبتسمة بحب

" لقد عوضني الله به ، لا أعلم ما كان سيحدث لقلبي لو لم يترك
لي هذا الابن "

ساد الحزن ملامح زهور حينها ولمعت عيناها بالدموع فجأة
وتخيلت وضعها مستقبلاً فحتى طفلها سيأخذه منها وشعرت
بافتقادها له من قبل أن تراه !
وعادت ومسحت عيناها تضحك على نفسها بصمت وهي تتقمص
الدور من قبل حدوثه فقد يكون أحدهما عقيماً أساساً وتنتهي
المسرحية من بدايتها .

رفعت حبة دراق وكانت ستمدها لها لولا توقفت يدها في الهواء
بسبب الباب الحديدي الموجود جانباً والذي انفتح قفله فجأة
واتسعت عيناها مصدومة فهي كانت تتوقع بأنه باب يفصل فناء
المنزل عن المزارع ولا يمكن لاحد فتحه من الخارج وأويس ليس
هنا ! وتبدل كل ذلك للاندهاش ما أن انفتح الباب ودخل منه
الطفل ذو الأربعة أعوام ونظر ناحيتهما مبتسماً قبل أن يدفعه
أحدهم نحو الأمام لتزداد دهشتها وهي ترى النسخة الأخرى عنه
في كل شيء حتى في الثياب التي يلبسانها وقالت أخيراً

" يا إلهي ما أجملهما إنهما توأمان ! "

التفتت حينها الجالسة بقربها نحو الخلف ومدت يدها مبتسمة نحو
المكان الذي لا تراه وقالت

" تعاليا هيّا أين أنتما لم تزوراني من مدة ؟ "


وانطلق التوأمان راكضان نحوها وحضناها معاً ونظرات زهور
المندهشة لازالت تراقب جمالهما وشعرهما الحريري الذي كان
يحف حاجبيهما وانتبهت حينها للاختلاف الوحيد بينهما وهو لون

عينيهما ، وكانت ستسأل إن كان ثمة جيران لهم هنا أم أنهما
جاءا من الخارج لكنّها توقفت بسبب الباب المفتوح الذي تحرك
مجدداً مع الصوت الأنثوي المنادي من خلفه

" جاد عَنان أين أنتما ؟ "

وما أن كشف لها الباب عن صاحبة الصوت والتي وقعت نظراتها
عليها أيضاً وكانت مايرين بفستانها المنزلي الذي غطى جسدها
الطويل الممشوق تجمع شعرها الغجري الفاتح على جانب كتفها
وتربطه بمنديل أحمر اللون مزركش بنقوش بيضاء بينما برز
بياض بشرتها الحليبي في ضوء الشمس فقالت زهور بضحكة
مندهشة

" ما باب المفاجآت هذا ! ومن أين للجنوب بهذه الشقراء !! "

*
*
*
غادرت المبنى تنظر للبطاقة في يدها بعبوس فالمبلغ الموجود
فيها بات يتنافص وعلى هذا الحال ستعلن إفلاسها قريباً وتصبح
في الشارع وستجد نفسها مجبرة على الاتصال بمطر وطلب
النجدة وهذا ما لن تفعله أبداً فهي الآن ستثبت لهم جميعاً بأنها
قادرة على الاعتماد على نفسها ومساعدتها وحتى معالجة
مشاكلها وحيدة وليست بحاجة لرعاية من أحد ولا أن تطلب شيئاً
من أحد أيضاً وهذه الفرصة التي انتظرتها طوال حياتها ها هي
نالتها أخيراً .

أوقفت سيارة الأجرة وأعطته العنوان وجلست في المقعد الخلفي
تنظر من خلال النافذة لشوارع لندن المزدحمة بهدوء يعاكسها
فها هي هنا منذ أيام وما أن انتهت تلك المحاكمة بمعنى أدق
وحسب اتفاقهما بأن يترك لها حرية العيش كما تريد ورفضت أن
يوفر لها سكناً ولا وظيفة فهي ستثبت له أنها قادرة على هذا
وحيدة لذلك أصر فقط على أن يقدم لها مبلغاً يكفيها حتى تتدبر
أمورها ، وجيداً فعلت بأن لم تعارض هذا أيضاً لأصابها الجوع
من أول يوم وصلت فيه فهي صرفت أغلب المبلغ على إيجار
غرفة في فندق رخيص وطعامها وإن كان وجبة واحدة تقريباً في
اليوم بينما أمضت تلك الأيام تحاول البحث عن وظيفة من مكاتب
التوظيف والصحف ولم تترك طريقة لم تتبعها وجميعها باءت
بالفشل فجميعهم يطلبون إمّا مؤهلات أو خبرة وهي لا خبرة
لديها سوى في إثارة المشاكل ولا مؤهلات سوى شهادة من
الجميع بأنها امرأة فاشلة ، وحتى المطاعم والحانات التي تنازلت
للعمل فيها كنادلة رفضوها بحجة أنّ سنها ليس مناسباً ويريدون
شابات بين الثامنة عشر والثالثة والعشرون ، سخفاء هل يرونها
عجوزاً أمامهم ! هي في الثالثة والثلاثون فقط .

كورت شفتيها وهي تفكر في الفارق بين عمرها ومطلبهم إنه
عشر سنوات كحد أدنى وتذكرت فجأة عبارة ذاك السمين الفظ

( نحن لا نريد واحدة تشتكي لنا منتصف النهار بأن ظهرها
يؤلمها ولم تعد قادرة على الوقوف )

تململت في جلستها متأففة وكأنه أمامها الآن ثم فتحت حقيبتها
وأخرجت منها مرآة صغيرة ونظرت لنفسها تعدل شعرها وكأنها
تؤكد لذاتها بأنها ليست كما يقولون .
ولأجل كل تلك المذلة والمهانة واللقاءات التي انتهت برفضها
وكأنها راعي بقر جاء من الريف يريد أن يعمل مذيعاً لديهم قررت
أن تتنازل لأقل من ذلك وتعود للجريدة التي أخذتها من كرسي في
الحديقة حينما نهض أحدهم وتركها هناك فرفعتها وبدأت تقلبها
لتمضية الوقت ليس إلا ووجدت فيها عدة إعلانات دونتها لديها
جميعها عدا واحد فقط لأن الاسم كان فيه عربياً ، ليس لأنها لا
تريد الاقتراب من العرب مجدداً فقط بل ولأنها تخشى أن تتكرر
تجربتها مع شاهر كنعان سابقاً وتكتشف بأنها مجرد فخ لجرها
لوكرهم من جديد لتكون محاصرة بهم وسجينة لديهم خاصة بأنه
قال بأنها ستكون مراقبة لأجل سلامتها كي لا يقتلها ذاك الوالد
مجهول الهوية ، والغريب في الأمر أنها لم ترى أو تشعر باقتراب
أي شخص منها !

لكنّها عادت واستبعدت كل ذلك فهي وجدتها مصادفة والرجل الذي
تركها كان انجليزي بشكل واضح وهي حين جلست كان جالساً
قبلها ويتصفحها ، ولأنها الآن فقدت الأمل في جميع الخيارات
لديها وباتت تفقد مالها شيئاً فشيئاً قررت الذهاب ومقابلة صاحب
الوظيفة ثم تقرر ما عليها فعله خاصة بأنه سيوفر لها المسكن
والمأكل وكل ما عليها أن تعمل كمدبرة لمنزله ، وعلى الرغم من
أنها لم تطهو يوماً ولم تنظف أبداً لكنّها ستحاول فعليها الاعتماد
على نفسها والوقوف وحيدة ، وفيما ستتأمل مثلاً وهي لا تملك
ولا شهادة جامعية بسبب هربها سابقاً وفشلها ورسوبها حتى تم
رفدها وبشكل نهائي وفقد مطر الأمل فيها وتركها لجهلها كما كان
يقول .

عادت للتململ مجدداً في جلستها وتمتمت

" سترى كيف ستعيش هذه الجاهلة من دونك "

ثم نظرت نحو السائق وقالت بنفاذ صبر

" ألا زال أمامنا الكثير ! "

أدار نصف وجهه ناحيتها وقال بضيق

" أنتِ تغادرين لأحد أرياف لندن سيدتي فهي تبعد عنها ستون
كيلو متراً "

تنهدت باستسلام وقالت

" كم تبقى من الوقت ؟ "

عاد بنظره للأمام وقال

" ليس الكثير كدنا نصل "

ولأن وجهتهم كانت إلى كوتسوولدز وهي أحد أرياف لندن
استغرقت منهما الطريق قرابة النصف ساعة حتى بدأت السيارة
تسير في طرقات البلدة الريفية الجميلة وارتفع حينها نظرها مع
التلال الخضراء المحيطة بها وأبنيتها التي كانت عبارة عن منازل
ريفية جميلة ويعبر البلدة نهر ماء صغير قد أحيط بجسر حجري
قديم وعريق وكانت من الجمال أن تخطف الأنظار ، صحيح أنها
تحب لندن حيث المدينة والازدحام والمعالم المعمارية الحديثة
والكبيرة لكنّها ترى أيضاً بأن هذا المكان لا بأس به للعيش بشكل
مؤقت حتى تتحسن أحوالها المادية قليلاً وتعود للندن مجدداً .
توقفت السيارة أمام منزل متطرف قليلاً حيث يفصله شارع
عريض عن باقي المنازل وعلمت حينها بأنها وصلت لمقصدها
ففتحت باب السيارة ونزلت ووقفت تنظر له أمامها ، كان أكبر
حجماً بقليل من باقي المنازل كما لاحظت ، كما أنه بطابقين ممّا
يدل على أن جناح النوم والغرف كبير وهو مؤشر جيد خاصة إن
كانت عائلة صغيرة فسيكون سكناً ممتازاً بالنسبة لها ، عبست
ملامحها فجأة وتمتمت محبطة

" ومن سيقوم بتنظيف كل هذا غيرك يا غبية ؟ .

سرق انتباهها صوت الحقيبة التي وضعها السائق بجانبها فهي
من الثقة أن جلبت أمتعتها معها وكأنهم من أرسلوا في طلبها
وليست هنا لمقابلة صاحب الإعلان أولاً ، بلى لأنه عليه أن يوافق
فهي فرصتها المواتية قبل أن تصبح في الشارع بلا مال ولا مأوى
لهذا ستتمسك بهذه الفرصة بكل الطرق .

نظرت ناحية نافذة السيارة المفتوحة ورأس السائق الذي أطل
منها قائلاً

" هل الأمور جيدة ويمكنني المغادرة ؟ "

تقوست شفتاها ولم تستطع غير تحريك رأسها بنعم فهي لا تعلم
في الحقيقة إن كانت جيدة أم لا وإن كانت ستصبح جيدة أم ستنام
في طرقات هذه البلدة الليلة فهي في جميع الأحوال لا تملك المال
الذي ستدفعه له لرحلة العودة لأنها لو دفعت المتبقي لديها فلن
تجد ما تأكله الأيام القادمة وعليها أن تجعله ينصرف كي لا
تتراجع وتغادر لأي سبب تافه يعترضها قد تراه هي عظيماً .

وما أن تحركت السيارة مبتعدة وعيناها تراقبها تنهدت بعمق
واقتربت من الباب ورنت الجرس مرتان متتابعتان ووقفت تنتظر
، وما هي إلا لحظات وانفتح ببطء وظهر لها الفتى الذي كان
يقف في الداخل وكأنه يخشى الظهور لنور الشمس !

كان يبدو في العاشرة من عمره أو أقل من ذلك بقليل يمسك بطفلة
يحملها على كتفه فتمتمت عابسة

" جميل ولديه أطفال أيضاً ! أتمنى أن تكون والدتهم هنا وليس
أنا من عليها رعايتهم "

تقدم الفتى نحو الخارج أخيراً ووقف عند الباب تماماً وقال

" ماذا تريدين ؟ "

ارتفع حاجباها باندهاش وهي تنظر مستغربة للون عينيه المتباين
والذي ظهر بوضوح ما أن بات النور موجهاً نحوه فكانت واحدة
بحدقة زرقاء والأخرى تبدو بنية غامقة ! وما زاد ذهولها هو
الطفلة الصغيرة التي أدارت رأسها ناحية الشارع حينها لتكتشف
بأنها تمتلك لون العينين ذاته !! واستفاقت من ذهولها أخيراً
بسبب الذي قال ببرود

" عذراً سيدتي سأغلق الباب "

فقالت مندفعة تمد يدها نحوه

" لا انتظر أليس هذا منزل السيد زين وأنتم تضعون إعلاناً في
الجريدة تطلبون مدبرة منزل ؟ "

وحدقت باستغراب في ملامحه الجادة التي لم تتغير أبداً محدثة
نفسها

( إن كان هذا الصغير فكيف سيكون الكبير ! )

ولم يتأخر عنها الجواب كثيراً وهي تسمع الصوت الرجولي
المنادي من الداخل

" من هنا يا أزير ! "

استدار رأس الفتى وقال بصوت عالي

" إنها سيدة أخرى قادمة بشأن الإعلان "

جميل يبدو بأنه ثمة الكثيرات سبقوها ومن الأرجح أنه تم قبول
واحدة منهن وهنا ستكون الكارثة الفعلية بالنسبة لها ، وانقطع
سيل أفكارها تلك بسبب الذي قال من الداخل وكأن صوته يقترب
قليلاً

" لما لم تخبرها بأنه تم إلغاء الإعلان "

اتسعت حينها عيناها ودفعت الباب قائلة تحاول الدخول

" لا .. هيييه أي إلغاء هذا بعدما قطعت كل هذه المسافة "



*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
(الجزء, المشاعر, المطر, الثاني)،للكاتبة, الرااااائعة/, جنون
facebook




جديد مواضيع قسم قصص من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t204626.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 27-06-17 09:03 PM


الساعة الآن 08:46 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية