كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
وضعت كوب القهوة من يدها ونظرت نحو الجالسة بعيداً تمسك
مجلة ما في يدها وتقلبها وتنظر لمحتواها باهتمام تضع ساق
فوق الآخر وتبتسم وكأن من في تلك الصور ينظرون لها
ويتحدثون معها ! وهو ما جعل نظراتها تتبدل للاستغراب قبل أن
تبعد نظرها عنها وتنظر نحو والدة ضرار التي كانت تجلس
وتحتسي القهوة معها وحركت رأسها لها بمعنى ما بها ؟
وكان الرد من الجالسة أمامها أن رفعت حاجبيها وقوست شفتيها
بمعنى لا أعلم وعادتا للتحديق بها كلتيهما فالجميع يلاحظ مؤخراً
بأن جمانة الماضي تختفي من حياتهم تدريجياً لتتحول لأخرى
مختلفة إن كان حقيقياً أو ظاهرياً أمامهم فقط حتى أنه في كل يوم
تأتي لزيارتها امرأة ما لا يعرفونها ! التي تحمل آلة موسيقية
والتي تحمل كتاباً لتمضي ساعات طويلة معها ثم تغادر بينما لم
تتبادل هي الحديث مع أحد تقريباً حتى أنها لم تراها تسأل عن
وقاص الذي لم يراه أحد منذ أن خرج بزيزفون من القصر
وغادر .
عاد وسرق نظرهما شيء آخر وهو الداخل من ناحية باب المنزل
وما جعل رقية تقفز واقفة وتوجهت نحوه قائلة
" عمي توقف قليلاً "
فهي تحاول أن تتصيده نهاراً منذ يومين ولم تتح لها الفرصة
بسبب قضائه لوقت طويل في لندن وجلست اليوم متعمدة كل هذا
الوقت لتراه إن دخل وقبل أن يغادر ولا تعلم عنه فهي لم تحصل
على أي أجوبة مفيدة من ابنه ، جعلته كلماتها تلك يغير اتجاه
سيره واقترب منها حتى توقفت أمامه وقالت تنظر لعينيه
" أين هو وقاص ؟ "
نظر لعينيها بصمت حتى توترت ضربات قلبها وظنت بأن مكروهاً
أصابه لكنّه رحمها أخيراً وقال ببرود
" موجود في لندن وهو ليس طفل يا رقية "
جعلت كلماته تلك ملامح القلق في وجهها تتبدل للضيق وقالت
" وإن يكن ليس طفلاً من حقي أن أطمئن على إبني فهو منذ
غادر لم يرجع وهاتفه ... "
قاطعها بضيق مماثل
" هو بخير لا تقلقي "
قالت سريعاً من قبل أن يغادر
" وزيزفون ؟ "
وما أن عاد ونظر لعينيها رمقته بنظرة رجاء وهو ما جعله يتنهد
بنفاذ صبر وتمتم ببرود
" بخير أيضاً "
وغادر ناحية مكتبه ولم يضف شيئاً ونظراتها الحانقة تتبعه
تستغرب من بروده في أمور تخص أحفاده وكأنهم ليسوا
عائلته ! عاد وسرقها من أفكرها وسرق نظرها أيضاً الداخل من
باب المنزل حينها وهو سلطان الذي اقترب منها ينقل نظره بينها
وبين الذي فتح باب مكتبه هناك حتى وقف أمامها وقال
" ما بكم ! "
تنهدت الواقفة أمامه بنفاذ صبر وقالت
" هل علمت منه عن شيء ؟ هو لا يقول سوى هو بخير
وهي بخير "
كان دوره هو ليتنهد حينها لكن بقلة حيلة وقال
" وقاص لم أره ولا حتى هو يعرف مكانه فهو من أسبوع
مختفي تماماً "
اتسعت عيناها وقالت مفجوعة
" ماذا !! "
حرك سلطان رأسه بأسى قائلاً
" يرفض أن يتواصل مع أي أحد منا "
ارتفعت يد رقية لصدرها وقالت بقلق
" لكن لماذا ؟! ماذا حدث ! "
تنهد الواقف أمامها بصمت ممّا جعل خوفها يزداد حدة وكانت
ستسأله مجدداً لكنّه رحمها وقال أخيراً
" لقد أدخلوا زيزفون المصح النفسي ، بعد ذلك لا علم لي "
شهقة قوية عمّت في المكان حينها لم يكن مصدرها الواقفة أمامه
بل من جمانة التي وقفت على طولها وقد سقطت المجلة من يديها
دون أن تهتم لأمرها بينما كان اتساع ابتسامتها مع اتساع عيناها
أكبر دليل على الشعور الذي كان يخالجها وقالت باندهاش باسم
وسعادة
" وأخيراً الشخص الصحيح في المكان الصحيح "
كان رد فعل سلطان أن حرك رأسه بيأس وغادر من هناك ناحية
السلالم وصعد في صمت بينما كانت والدة ضرار تنظر لها بفضول
أما التعليق فكان من رقية التي قالت بضيق من تصرفها
" التشمت بمصائب الناس ليس من أخلاق ديننا يا جمانة "
كانت نظراتها بدأت تتحول للغضب وهي تنظر لعينيها لكنّ الواقفة
هناك لم يكن رد فعلها الفرار كالسابق بل قالت بكلمات قوية
تهاجمها
" وسرقة الرجل من زوجته ليست كذلك أيضاً أم لك رأي
آخر عمتي ؟ "
اتسعت عينا رقية لاتهامها المباشر لها وقالت بضيق أشد
من سابقه
" زيزفون لم تسرق أحداً من أحد ولم تهتم لأمر زوجك يوماً وأنا
من شهد على كل شيء بعينيي "
وكان ذاك ما جعل جمانة تشتعل أكثر وفردت ذرعيها قائلة بحدة
" بالطبع ستدافعين عنها فأنتِ تحبينها أكثر مني وتتمنين لو كانت
هي زوجة ابنك "
كان رد فعل رقية أن حركت رأسها بيأس منها متمتمه
" لا حول ولا قوة إلا بالله "
وعلمت حينها لما فعلها زوجها وغادر في صمت دون أن يضع
عقله من عقلها الفارغ ، لكنّها لم تكتفي بذلك فقط بل غادرت نحو
السلالم قائلة بحقد ظهر جلياً في صوتها
" ليتها لا تخرج من هناك أبداً "
وتابعت بينما تصعد أول عتباته وبصوت مرتفع وكأنها تقصد
إسماعها
" ولن يحدث بالتأكيد لأن مصيرها حينها سيكون السجن "
وصعدت باقي العتبات حتى اختفت عنهم ونظراتهما تراقبها وقالت
رقية وقد نقلت نظرها نحو الجالسة مكانها السابق
" هذه فقدت عقلها بالتأكيد ! "
فخرجت ضحكة صغيرة منها وقالت
" لو أن تلك الفتاة الخماصيه هنا فقط وسَمِعَتْها لنرى كيف
سترد عليها "
وما أن ظهر لها رد فعل رقية من ملامحها ومن قبل أن تعلق
سبقتها قائلة
" لا تنظري لي هكذا فهي الحقيقة إنها أشجع امرأة رأيتها تطرح
عدوتها أرضاً دون أن يرف لها جفن "
وأبعدت نظرها عنها بينما ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها
وقالت
" لو أني أكتسب نصف شجاعتها فقط لكنت جلبت إبني من ذاك
السجن المفروض عليه قصراً "
وعند هنا تحرك لسان رقية وقالت بضيق
" لم يفرض أحد على ضرار شيئاً وقد تحدثت مع سلطان وقال
بأنه كان موافقاً ولم ولن يجبره على ما لا يريد "
وقفت الجالسة هناك على طولها وقالت بغضب
" لن يشعر بالنار سوى من قدمه فيها "
كان اتهاماً واضحاً لها بأنها تستهين بما يحدث معها لكنّها لم
تصمت أيضاً كعادتها تتجنب المشاكل مع ضرائرها بل قالت
بضيق
" ورواح أيضاً سافر ودرس بعيداً عني وها هو عاد ويدير شركة
طيران بنفسه فماذا حدث له ؟ ولم أعترض أو أعارض حينها لأن
الأمر في صالحه ليس لأنني بلا قلب يحترق على فلذة كبده
فتعقلي ولا تجعلي ابنك ينتهي نهاية نجيب رحمه الله "
كانت تنصحها أكثر من أنها تهاجمها أو توبخها لكنّها نظرت لها
نظرة غاضبة قبل أن تدير وجهها وتغادر في صمت ووجهتها
السلالم الذي صعدته جمانة قبل قليل بينما جلست رقية مكانها
السابق ورفعت كوب القهوة متمتمه بحنق
" أراه أكثر قرار صائب اتخذه سلطان بخصوص أبنائه "
وما هي إلا لحظات عاشتها مع أفكارها وما علمته للتو ووقفت
وغادرت ناحية السلالم ذاته وصعدت أيضاً وتوجهت نحو غرفتها
، وما أن دخلت وأغلقت الباب وقفت تنظر للذي كان يخرج ثيابه
من الخزانة وقالت ونظرها يتبعه
" أريد أن أزور زيزفون "
نظر نحوها وأمسك وسطه بيديه في حركة ونظرة فهمتها جيداً
وكأنه يقول لها
( عاقلة أنتِ أم مجنونة ؟ )
لكنّها تجاهلتها قائلة من قبل أن يعترض
" وما في الأمر ؟ هي فرد من العائلة ومن الخطأ أن لا نقوم
بزيارتها وهي عاشت معنا هنا وعرفتنا وعرفناها "
وما أن لمست منه اعتراضاً واضحاً لم يخفّ أبداً قالت برجاء
وإلحاح
" أرجوك يا سلطان هي ابنة شقيقك من دمك وهذا لا يجوز "
تنهد باستسلام يشعر بنغزة ألم في قلبه من ذكر شقيقه الذي مات
رجلاً وهو لم يراه يوماً ، أخذ ثيابه وقال متوجهاً ناحية الحمام
" جهزي نفسك أستحم ونغادر "
ابتسمت بسعادة وقالت تفتح باب الخزانة
" سأكون مستعدة من الآن "
*
*
*
أخذت جوزاء الصندوق من الخادمة واستدارت بنصف جسدها
للخلف ومدته للواقفة خلفها وقالت مبتسمة
" خذيه للأعلى ثمة صناديق أمام باب منزل غيهم ضعيه معهم
هناك "
وكان رد فعل يمامة ابتسامة جميلة وقالت وهي تأخذه منها
" حاضر أمي "
وغادرت ناحية السلالم الغربي المؤدي للطابق الثالث مباشرة
ونظراتها المحبة تتبعها بينما سارت هي بخطوات بطيئة حذرة
خشية أن يكون ما يحويه شيء قابل للكسر خاصة بأنها تبدو
هدية ولم تُفتح بعد أي لا أحد يعلم محتواها ، وعلى الرغم من
أنه متوسط الحجم لكنّها وجدت صعوبة في الصعود به حتى
شعرت بقدميها باتت تؤلمانها من شدة تشنجها الحذر إلى أن
وصلت المكان أخيراً وما أن انحت لتضعه مع الصناديق الأخرى
حتى انفتح الباب المقابل وخرج منه أبان الذي وقف ينظر لها
بينما وضعت هي الصندوق بحركة سريعة وكأنها رمته رمياً
وليست من تعامله بكل ذاك الحذر قبل قليل واستدارت بحركة
سريعة لتغادر لكنّ توقفت مكانها بسبب اليد التي أمسكت بذراعها
وأدارتها ناحيته قائلاً
" أين تهربين يمامتي ؟ "
وما أن أصبحت مقابلة له حتى صفّر بشفتيه وقال ضاحكاً يديرها
من يدها حول نفسها
" ما كل هذا دعيني أرى "
وما أن حاولت سحب يدها منه والمغادرة سحبها نحوه قائلاً
بضيق
" هيه ما بك تهربي مني في كل مرة رأيتني فيها ؟! "
وكانت النتيجة ذاتها حاولت الإفلات منه مجدداً لكنّه أحكم قبضته
على رسغها وسحبها نحو باب شقته المفتوح قائلاً
" تعالي هنا أريد أن أفهم "
وبالرغم من محاولاتها المضنية للإفلات منه قائلة باعتراض
" أتركني لا أريد "
إلا أنها لم تنجح ولا في إرباك خطواته وهو يدخل بها وأغلق
الباب بالمفتاح وحينها فقط تركها ووقف مقابلاً لها وظهره للباب
وأمسك خصره بيديه وقال ينظر لعينيها
" ستتحدثين الآن ولا مخرج لك من هنا "
كان يلاحظ خلال الفترة الماضية أنها تتهرب من التواجد معه
ولأن زوجة غيهم كانت هنا في الأسفل كانت لقاءته بها قليلة جداً
وبما أنه وجد الفرصة المواتية الآن قرر أن يفهم منها ، وحين لم
يبدر منها أي تعليق أو رد فعل على ما قال حرك رأسه قائلاً
باقتضاب
" ما معنى هذا الصمت ؟ "
تبدلت نظراتها للدفاع في مواجهة نظراته الحانقة وكلماته تلك
وقالت بتساؤل وكلمات بطيئة وكأنها تخاف من قولها
" ما الذي يفعله المتزوجان إن لم يعودا يريدان ذلك ؟ "
تبدلت ملامحه هو للاستغراب حينها وقال بريبة
" يريدان ماذا ! "
قالت والضيق يزحف لملامحها الطفولية الجميلة
" أن لا يكونا متزوجان "
ارتفع رأسه عالياً وانطلقت ضحكته المرتفعة بسبب ما وصلت له
أفكاره وحجمها أمام أفكارها وهو ما جعلها تقول غاضبة
" ما الذي قلته يضحكك ؟ "
توقف عن الضحك ونظر لعينيها وقال وتأثير ذاك الضحك لم يغادر
ملامحه
" الطلاق بالطبع "
ساد الصمت المكان وعيناها تحدق في عينيه وكأنها تحاول
ترجمة ما سمعت منه للتو حتى حرك رأسه في صمت بمعنى
( ها ماذا )
فقالت بهدوء مريب
" أريد أن أطلقك إذاً "
اتسعت عينا أبان حينها وصاح
" هيييه ما هذا ؟ "
وكان ذاك ما جعل حواسها تتخذ وضعاً دفاعياً برز في نظراتها
لعينيه وكأنها تقف أمام نمر جائع لا تفهم خطوته التالية بينما تابع
هو بضيق يرفع سبابته بينهما
" أولاً الرجل هو الذي يطلق والمرأة تقول طلقني وليس أطلقك "
عادت نظرات التفكير والتحليل للتقافز من عينيها الجميلة ثم قالت
" طلقني إذاً "
صرخ فيها حينها بغضب رافض يرفع أصبعه الوسطى مع السبابة
هذه المرة
" لم أنتهي بعد لازال ثانياً وهو أني لن أطلقك أبداً "
وتابع من فوره وسبابته تشير نحو الأسفل هذه المرة
" وستخبرينِ الآن من أدخل هذه الأفكار لرأسك ؟ بثينة
بالتأكيد ها ؟ "
كان جوابها الصمت وتحركت خطواتها فجأة لتجتازه نحو الباب
لكنّه أمسكها من ذراعها موقفاً إياها فقالت بضيق تحاول
الإفلات منه
" لا أحد أنا أريد هذا .. اتركني "
لكنّه لم يستجب لها بل أوقفها أمامه مجدداً وقال بضيق
" لا ليس لا أحد أنا أعرفك جيداً "
تقوست شفتيها كطفلة توشك على الانفجار باكية وقالت بصعوبة
" أقسم بأنه لا أحد "
ضيّق عينيه ينظر لها بشك وتمتم
" لماذا إذاً ؟ "
قالت ولازالت ملامحها تنذر بالأسوأ
" لأني أريد هذا "
ترك ذراعها حين علم بأن أسلوب التهديد لن يجدي معها
وسينقلب الوضع ويتورط في محاولات إسكات بكائها ، بينما نظر
لعينيها وقال وكأنه يحاول تنويمها مغناطيسياً
" لن تكون والدتي والدتك ولا بثينة شقيقتك إذاً ... "
وتابع يشير بأصبعه للبعيد ثم للأسف
" ولا تلك غرفتك ولا هذا منزلك ولا هذا زوجك "
وقال آخر كلماته يشير لنفسه وابتسامة كرتونية عريضة تزين
شفتيه ، وما أن لمح منها نظرة تفكير تابع يستفز عقلها الباطن
" وستغادري من هنا أيضاً لأنك لم تعودي زوجة لابن العائلة "
وابتسم بانتصار ما أن تبدلت نظرتها للدهشة وكأنها لم تفكر في
ذلك من قبل ، لكنّ انتصاره ذاك لم يدم طويلاً وقد قالت بعد
صمت لحظة
" لا بأس "
كان هو من اتسعت عيناه بصدمة حينها وقال
" لااا .. يبدو لي الأمر خطير جداً وعليك أن تخبريني
بالسبب الآن "
" يمااامة "
كان ذاك صوت جوزاء المنادي من الخارج تبحث عنها وما جعله
يتيبس مكانه عيناه فقط تنظر جانباً حيث الباب خلفه قبل أن ينظر
للتي كانت تنظر له بصمت ورفع سبابته لشفتيه وهمس بأمر
" هشششش "
كان يعلم جيداً ما مصيره إن وجدتها هنا وهو معها ويغلق الباب
أيضاً ، وبما أنها لم تطرقه فهي لا تعلم أين تكون وستنزل
بالتأكيد وبعد ذلك سيتركها تغادر ، لكنّها خانت توقعاته مجدداً
وهي تصرخ تنظر للباب خلفه
" أنا هنا أمي "
كانت مفاجأة غير متوقعة له منها تحديداً لأنها لم تكتسب الجرأة
لفعل أي شيء مماثل سابقاً وهو ما جعله يشتم هامساً
" تباً لك من طفلة "
وما أن تبدلت ملامحها للتعاسة بسبب ما قال كما يبدو ومع صوت
الطرق القوي على الباب خلفه قال يلوح بيديه
" فتاة أعني بل امرأة فلا تنظري لي هكذا "
وارتفع رأسه عالياً ينظر للسقف ما أن صرخ صوت جوزاء من
وراء الباب خلفه
" افتح الباب يا أبان .. افتحه فوراً "
أنزل رأسه متأففاً واستدار نحوه وأدار المفتاح لينفتح الباب بقوة
بسبب التي فتحته من الخارج ودخلت مندفعة ووقفت تنظر لهما
كلاهما وكأنها تربط ما يدور في رأسها بالواقع أمامها ، وما أن
استقر نظرها على عيني ابنها قال بضيق
" لا تنظري لي هكذا وكأنني سفاح يغتصب الأطفال "
غادرت حينها يمامة راكضة ونظر كلاهما يتبعها ونظرت جوزاء
نحو أبان قائلة بضيق
" لما تغلق الباب عليها إذاً ؟ "
ضرب ظهر يده بكف الآخر أمامها وقال بضيق أشد
" كنّا نتحدث ، رجل وزوجته يتحدثان هل هذه جريمة ؟ "
صرخت فيه من فورها
" أجل جريمة وإن كان لديك أمر أخبرني أنا به أخبرها إياه أو
تحدث معها في وجودي "
واستدارت نحو الباب وأغلقته هي بالمفتاح هذه المرة ونظرت
نحوه وتابعت بحدة تلوح بسبابتها بعيداً
" يعلم كلانا جيداً كيف ولما تزوجتها فهي دخلت المنزل هنا ابنة
لي وليست زوجة لك "
اتسعت عيناه بغضب بسبب ما قالته وصرخ فيها بالمثل
" هي إذاً لم تعد تريد كل هذا وقالت لي طلقني "
لحظة صمت سادت المكان كانت فيها عينا جوزاء ستخرج من
مكانها وقالت بعدم تصديق
" يمامة قالت هذا ! "
قال من فوره وبضيق
" أجل قالت لم أعد أريد أن نكون زوجان وحين أخبرتها بأن
هذا يعني أنها ستغادر من هنا ولن تكوني والدتها مجدداً
قالت لابأس "
تبدلت نظرات جوزاء من الدهشة للاتهام فجأة وقالت تهاجمه
" ما الذي فعلته أو قلته جعلها تقول هذا ؟ "
قال مدافعاً عن نفسه
" لو أني فعلت أمراً ما كنت لأسألك عن السبب الذي ترفض هي
البوح عنه "
كان الشك في نظراتها ينبئه بعدم تصديقها لما قال وأتاه دليل ذلك
ما أن قالت
" أقسم لي بالله الآن "
تنفس بحنق وقال بضيق
" قسماً برب الكعبة لم يحدث شي أمي هل تريني منحرف أمامك
ألاحق الفتيات ؟! "
أبعدت نظرها عنه حينها وشردت قليلاً في صمت قبل أن تقول
بتفكير وكأنها تحدث نفسها
" وضعها لا يعجبني الأيام الماضية فهي حزينة وصامتة أغلب
الوقت ! هل تشتاق ليمان وشقيقاها يا ترى ؟ "
انتقلت العدوى للواقف أمامها وقال بنظرة شاردة أيضاً وإن كانت
موجهة إليها
" لكانت قالت هذا حين سألتها وبأنها تريد الذهاب لهم
والعيش معهم ! "
وما أن رفعت نظرها لعينيه قال ببرود
" ابنتك تلك لا أحد غيرها بالتأكيد "
حركت رأسها في رفض وقالت
"مستحيل فبثينة ذاتها قالت لي يمامة لا يعجبني صمتها الكثير!"
واستدارت نحو الباب قائلة وهي تفتحه
" سأعلم أنا عن السبب منها "
وتوقفت أصابعها فجأة بسبب الذي قال من خلفها وبجدية
" اسمعي أمي طلاق لن أطلقها وإن كان السبب أنها تريد العيش
مع عائلتها "
وتبدلت نبرته عند آخر كلماته تلك لما يشبه التهديد فعادت
واستدارت ناحيته وقالت بابتسامة ساخرة
" خبر جديد هذا ! "
قال بضيق من سخريتها
" بل قديم ولم أقل يوماً بأني أريد تطليقها "
أمسكت خصرها بيدها اليمنى بينما حركت يدها الأخرى أمام
وجهه بقوة بطريقة السؤال قائلة
" ولما يا ابن والدتك ؟ "
زم شفتيه بحنق قبل أن يحررهما وقال يشير بسبابته على صدغه
" بلا أسباب هي زوجتي وانتهى ولن أطلقها "
وما أن لمح العدائية في نظراتها قال يسبقها وبتذمر
" أمي لا تأخذي الأمر عناداً فقط لتكسري رأسي "
وكما توقع لن يسلم منها أبداً فقد رفعت سبابتها أمام وجهه قائلة
بعناد بل وتهديد
" إن كانت أسبابها قوية وأرادت هذا وأصرت عليه ستفعلها
رغماً عن أنفك فلن يجبرها أحد على ما لا تريد "
وغادرت من فورها مغلقة الباب خلفها متجاهلة كلماته الحانقة
التي وصلتها بوضوح قائلاً
" جل ما أخشاه أن تصنعي منها نسخة أخرى عنك يا ابنة
الشاهين "
ولأن ما لديها لم ينتهي بعد وقبل أن تخمد نار غضبها توجهت
نحو باب الشقة الآخر وطرقت عليه بقوة وعادت وكررت الأمر
ولم تتوقف عن ضربه القوي بكف يدها حتى انفتح الباب أخيراً
ووجدت أمامها الذي كان بالكاد يفتح عين بينما يغمض الأخرى
وأصابع يده منغرسة في شعره الكث الناعم المبعثر ولازال بثياب
النوم الذي كان يغط فيه بعمق وما أيقظه إلا هجومها الكفيل
بإحياء الأموات ، وما أن أنزل يده من شعره أمسك خصره بيديه
وقال ببرود
" ما بك أمي من مات ؟ "
وبالرغم من اشتعالها الداخلي بسبب بروده وتملقه جارته فيه
قائلة ببرود مماثل
" إن لم يخبرك أحد من قبل بأن مزاحك سخيف فها قد
علمت الآن "
أدار وجهه جانباً وعاد لتمرير أصابعه في شعره يحاول ترتيبه
بينما تأفف نفساً طويلاً وهو طبعه ومنذ كان صغيراً لا يفعلها في
وجهها ومهما كان السبب وإن كانت هي ، لكن ذلك لم ينجح هذه
المرة في تحسين مزاجها وقالت بضيق
" ألا تخبرني ما الذي يجعلك تنام كل هذا الوقت واليوم يعتبر
يوم زفافك ؟ "
وتابعت من فورها دون أن تهتم لنظرته التي وجهها نحوها حينها
وكأنه يقول لها اختصري رجاءً
" حتى الخادمة لم تنزل لتترك لها مهمة تنظيف المكان قبل أن
تدخله عروسك "
وكان تعليقه الصمت أيضاً بينما تثاءب يغطي فمه بظهر كفه وهو
ما أوصلها لأعلى درجات الغضب وصرخت
" غيهم ! "
أبعد يده وحرك فكيه وكأنه يعيش في عالم آخر من الاسترخاء
وتمتم
" أجل أمي "
وهو ما جعلها تضرب كفيها ببعضهما قائلة بنفاذ صبر
" يا صبر أيوب "
وكان هذا ما جعل ابتسامة جانبية ترتسم على طرف شفتيه وأمال
وقفته يتكئ بمرفقه على مقبض الباب وقال متملقاً
" معك حق كم هو صبور "
وكان يعني والده وهو ما جعلها تصرخ به مجدداً
" غيهم ! "
وشعرت بالأبخرة تتصاعد من جسدها المشتعل من بروده ولا
مبالاته فلن يصيبها بالجنون والخرف المبكر غير هذان
المتناقضان وكل واحد منهما طباعه تكاد تقتلها فبالرغم من كل
مميزات غيهم ومعاملته الحسنة لها إلا أنه يشبه جدته والدة والده
حين يتحول لكتلة برود هكذا وتشعر وكأنها أورثتها له فقط
لتنغص عليها حياتها وهو يذكرها بها ، تنفست بضيق مستغفره
الله بهمس خافت غاضب فقال باستنكار
" أمي هل أفهم سبب كل هذا ! أنت تعلمي جيداً بأني أنام لوقت
طويل بعد الرحلات لأني لم أنم جيداً لأيام "
قالت بضيق
" ليس اليوم بالطبع "
حرك يده بمعنى
( ماذا هناك )
وقال بضيق مماثل
" وما لديّا أفعله ؟ هي بذلة سوداء وربطة عنق وانتهى الأمر "
عادت لمهاجمته قائلة بضيق
" أعرف عن أمثالك أنهم يكونون بين أصدقائهم اليوم يستحم في
مكان خاص يحلق شعره ولحيته يلبس ثيابه كرجل يتزوج لأول
مرة ليس ينام اليوم بطوله ثم يفتح خزانته ويخرج أول ما يراه
أمامه ويلبسه "
عاد لوضع البرود فجأة وأمال طرف شفتيه قائلاً بلامبالاة
" كل هذا يمكن فعله في ساعتين فقط أمي "
أشارت بيدها جانباً وقالت وضيقها يزداد حدة
" ووالدك الذي ينتظرك ؟ ومأدبة الرجال في الفندق ؟ وهو من
قال عند مغيب الشمس تكون أنت وشقيقك هناك "
حرك رأسه وكأنه يقول لها حسناً كما تريدين وقال بهدوء وكأنها
لا تحترق أمامه
" لازال أمامنا وقت طويل أمي "
شدت على أسنانها تفرغ غيضها منه فيهم ولأنها لن تشعر
بالراحة حتى تجعله يشعر بما تشعر به ولا يهتم قالت بكلمات
جادة قوية تنظر لعينيه
" غيهم إن كنت مكره على الفتاة ولا تريدها الآن تطلقها
وستركب أول طائرة وترجع لعائلتها "
اتسعت عيناه فجأة وصرخ
" ماذا ؟! "
كادت تفضح نفسها وتضحك في وجهه لكنّها احتفظت بذات
ملامحها الحانقة وقالت بقوتها ذاتها
" ما سمعته الآن أم أصابك الصمم ؟ "
نفض يديه قائلاً بضيق
" ما سببه كنت أعني ؟ "
لو كان بيدها لكانت احتفلت بانتصارها عليه وهي ترى كل ذاك
الجبل الجليدي تحول لحمم بركانية فجأة لكنّها لن تفعلها الآن
بالتأكيد لذلك قالت ولازالت تؤدي ذات الدور وببراعة
" أنا والدتك وأعرفك جيداً ، أنت لم تطلب ولا أن تخرجا معاً
وهي زوجتك وتحل لك ! كما لم تتحدث معها ولم تزرها ولا في
غرفتها !! "
قال بضيق ينظر لعينيها
" ومن هذا الذي قال لا تقترب منها حتى نتم جهازها
أليس أنتِ ؟! "
لم تعلق بينما لم ينتظر هو ذلك وقد تابع من فوره ويده تشير
جاًنباً
" لهذا سافرت وتركت المكان لك بدلاً من النظر والانتظار "
ضيقت عينيها تنظر لعينيه في صمت ، هكذا إذاً يا ابن والدتك ؟ لم
ترى شيئاً بعد من النظر والاحتراق مع الانتظار ، رفعت سبابتها
أمام وجهها بينهما قائلة بوعيد
" هي كلمة واحدة وأعيدها مجدداً كنانة تعيش معك هنا بكرامتها
، شكوى واحدة منها ضدك لن تراها مجدداً "
اتسعت عيناه قبل أن يقول باستنكار
" والدتي أنتِ أم والدتها ؟! "
رفعت سبابتها أمام وجهه وقالت بوعيد
" بل والدة كلاكما لن أرضى لها ما لا أرضاه لك "
تغضن جبينه باستغراب فجأة ونظر لعينيها بنظرة جعلتها ترتاب
للحظات حتى قال أخيراً
" ما سبب هذا الكلام وما الذي قالته كنانة لك ؟! "
كان سيحاصرها بشكوكه بل وقد يكتشف معرفتها بالأمر لذلك
لعبتها معه ببراعة وهي من ربته ولن تكون أقل حنكة منه فقالت
في استجواب ترفع حاجبها
" وهل ثمة شيء يقال لا أعلم عنه ! "
حرك يديه في صمت وكأنه يمنع نفسه عن الانفجار غاضباً أو
قول ما لن يُحمد عقباه وكتم كل ذلك وشد قميصه من صدره
ونفضه قائلا بضيق
" حاضر أمي ها هو النوم انتهى بسببك وسأغادر لأفعل الطقوس
التي ترضيك "
ابتسمت برضا حينها وحركت رأسها موافقة وكأنه هو من لا
يشتعل أمامها الآن ، وما أن أدار ظهره مغادراً نحو الداخل
غادرت هي أيضاً من هناك متمتمه بابتسامة ساخرة
" صبرك عليّا فقط يا غيهم لتأخذ مبتغاك من تعذيبها وسنرى "
ونزلت السلالم بعدها ووجهتها مكان آخر هي متأكدة بأنها ستجد
هدفها الآخر فيه ، وصدق من قال كلما كبروا أبناءك كبرت
مسؤولياتك ناحيتهم ، وصلت باب الغرفة وطرقت على الباب قبل
أن تفتحه وما أن دخلت وكما توقعت كانت هناك وكانت تجلس
فوق السرير تحضن ساقيها وتدفن وجهها في ركبتيها حتى أنها
غيّرت فستانها ولبست بيجامة ! وشعرت بقلبها ينفطر وتذكرت
ذاك الحلم القديم ووالدتها توصيها بها فتوجهت نحوها وجلست
على طرف السرير وقالت بهدوء
" يمامة هل نتحدث ؟ "
لم تتحرك من مكانها ولم يبدر منها أي رد فعل وكل ما حدث أن
اهتز كتفاها وخرج صوت بكائها المكتوم فأمسكت يد جوزاء
بذراعها وسحبتها منها قائلة بقلق
" ما الذي يبكي ابنتي تعالي هيّا "
واستجابت لها سريعاً ونامت في حضنها ومسحت يد جوزاء على
شعرها قائلة بحنان
" ما بك يمامة ما الذي يبكيك ؟! "
وحين لم يخف بكائها ولم يتوقف أبعدتها عنها وقالت
" هيّا اجلسي وأخبريني من هذا الذي ضايقك ؟ هل هو أبان ؟ "
وراقبتها بفضول وهي تمسح دموعها تخفض رأسها نحو الأسفل
وهمست ببحة
" لا "
تغضن جبين جوزاء باستغراب لأنه كان توقعها الوحيد وقالت
" بثينة ؟ "
تحرك رأس يمامة بالنفي دون أن تتحدث ولا أن ترفعه فقالت
جوزاء
" عمك أيوب أو غيهم ؟ "
عادت وحركت رأسها نافية مجدداً وهو ما جعل الاستغراب يعلو
ملامح جوزاء أكثر بينما رفعت يمامة رأسها ونظرت لها العينان
الرمادية الدامعة وقالت
" لم يضايقني أحد أمي أقسم لك "
تحرك رأس جوزاء في حيرة وقالت
" إذاً لما تريدين المغادرة وتركنا ؟ "
نظرت يمامة حينها ليديها تجمعهما في حجرها وهمست بحزن
" لا أريد أن أتركك "
قالت جوزاء والاستغراب لازال المسيطر على جميع حواسها
" لكن ما قاله أبان مختلف ! "
عادت ورفعت رأسها ونظرها لعينيها وقالت بتساؤل
" هل علينا أن نكون متزوجان لأبقى ؟ "
ارتفع حاجبا جوزاء باستغراب وكأنها تترجم الأمر وأسبابه قبل
أن تقول
" لا بالتأكيد لكنّ شقيقك لن يرضى بتركك هنا وأنتِ لستِ زوجة
ابننا وسيأخذك معه "
كان تعليق يمامة الصمت الحزين وكأن الجواب أصابها بخيبة أمل
كبيرة بينما لم تتحدث فقالت جوزاء
" الأمر يخص أبان إذاً ؟ "
قالت يمامة سريعاً
" لا "
تنهدت جوزاء بعجز عن فهمها بينما تبدلت نظراتها كما كلماتها
للجدية وقالت تنظر لعينيها
" إن لم تخبريني ما بك ولما تريدين الطلاق منه سأغضب منك "
اتسعت عينا يمامة حينها وحركت رأسها بحركة سريعة قائلة
" لا .. لا أريد أن تغضبي مني "
ابتسمت الجالسة أمامها في تبدل مفاجئ لمزاجها وامتدت يدها
نحو يديها وأمسكتها منها بقوة قائلة
" إذاً هيّا أخبريني وأعدك أن يحدث ما يرضيك ومهما كان "
وحين لم يبدر منها أي رد فعل ولم تنطق شفتاها بأي كلمة سوى
النظرة الحزينة الصامتة اشتدت قبضة يدها على أصابعها وقالت
" ألا تثقي في وعودي ؟ "
" كنانة "
همست يمامة بتلك الكلمة فقط والتي جعلت عينا جوزاء تتسع
على أقصاها وقالت
" ما بها كنانة ماذا فعلت لك ! "
ارتخى نظر يمامة نحو الأسفل وقالت
" لم تفعل شيئاً "
وهنا بدأت علامات الاستفهام بالتقافز حول جوزاء وقالت
باستغراب تحاول النظر لعينيها
" ماذا حدث إذاً ! "
عادت ورفعت نظرها بها حينها وقالت بحزن
" لما هي ليست في مثل سني ؟ "
نظرت لها جوزاء مصدومة وانفجرت ضاحكة على الفور ودون
شعور منها ، وما أن زمت الجالسة أمامها شفتيها باستياء قالت
تمسك نفسها عن الضحك
" أعذريني يا يمامة لم أقصد لكن لما تكون كنانة في مثل سنك !"
قالت يمامة باستياء
" وها أنا لست في سنها وزوجة لأبان ؟! "
وكانت جوزاء هنا تصارع نفسها بالقوة كي لا تضحك مجدداً بينما
تابعت الجالسة أمامها بملامح مشدودة وكأنها تناقش قضية
كبيرة جداً
" لما لم يتزوج أبان بواحدة كبيرة مثلها بل بي ؟ ولما هما
يتزوجان ونحن لا "
قالت جوزاء مبتسمة ومتفهمة لأفكارها
" وما الذي يزعجك في كل هذا يا يمامة ؟ "
قالت يمامة بملامح تعيسة
" أنا لست منزعجة أريد أن أفهم "
عادت جوزاء وأمسكت يديها بكلتا يديها هذه المرة وقالت بهدوء
باسم تنظر لعينيها
" يمامة ثمة أمور تحدث بين الزوجين أنتِ لستِ على استعداد لها
الآن وحين تكبري سيكون لكما حفل زفاف أكبر وأجمل حتى من
توقعاتك "
كان دور يمامة في أن تحوم علامات الاستفهام حولها هذه
المرة وقالت
" لم أفهم ! "
خرجت ضحكة صغيرة من جوزاء وربتت يدها على يديها
وقالت مبتسمة
" لا يمكنني توضيح هذا حتى تفهميه "
عاد الحزن للملامح الجميلة حينها وقالت صاحبتها
" يطلقني إذاً "
ارتفع حاجبا جوزاء بسبب الكلمة التي سبق وسمعت من أبان أنها
قالتها وقالت أيضاً لعلها تحاصرها
" ويتزوج من فتاة أخرى وترحلي أنتِ من هنا ؟ "
كان جوابها الصمت وحزن عينيها يشرح ما يجول في داخلها
فقالت جوزاء مجدداً
" حينما تكبري ستتزوجين هل تريدي حينها رجل غير أبان ؟ "
كان جوابها الصمت أيضاً فحركت جوزاء وجهها في صمت بمعنى
( ها قولي )
فهربت بنظراتها منها للأسفل وتمتمت
" لا أعلم "
ابتسمت جوزاء وقالت
" عليك أن تعلمي يا يمامة لنفعل ما يرضيك "
عادت ونظرت لعينيها وقالت بلمحة حزن
" أريد أن أكون معك "
ابتسمت حينها جوزاء برضا وقالت
" وأبان ؟ "
كانت تنتظر جوابها بفضول كبير لتعلم مكانة كل شيء بالنسبة لها
حتى قالت أخيراً
" هل ستخبريني حين أكبر عن السبب "
ضحكت جوزاء بحب وحضنتها قائلة
" يا إلهي ما أجمل هذا القلب واللسان "
وأبعدتها عنها سريعاً وقالت تنظر لعينيها
" الفتيات في مثل سنك في قريتكم يتزوجن أليس كذلك ؟ "
حركت رأسها بنعم دون أن تعلق وتابعت جوزاء
" وتعيش مع زوجها في منزلهما أو منزل عائلته ويصبح لها
عائلة وأبناء "
بدأت الحيرة ترتسم على ملامح المقابلة لها وانتظرتها حتى حللت
كلامها وأومأت برأسها بنعم مجدداً حينها فقط تابعت هي دون
توضيح أكثر وبنبرة جادة
" لكنّ هذا خاطئ ، إنهم يقتلون طفولتها ويحملونها مسؤولية
أكبر من سنها بكثير ويعرضون حتى جسدها للخطر وهي تحمل
وتنجب في هذا السن كما أنها لا تنهي تعليمها ولا تكبر وتبني
شخصيتها بنفسها بل تعيش دائما خاضعة خانعة وخادمة فقط "
أنهت كلماتها ولازالت تبحث في عينيها عن مدى استيعابها
وفهمها لما تقول ، وما أن طال صمتها قالت جوزاء
" هل تعي معنى كل هذا يا يمامة ؟ "
قالت الجالسة أمامها بعد تفكير للحظة
" نعم "
ابتسمت حينها وقالت
" لهذا أنا أردتك زوجة لإبني لكن لا أريد لطفولتك أن تُدمر ولا أن
تكوني بلا شخصية ولا هوية بل امرأة سيدة نفسها لا يمكن لرجل
أن يكسرها أو يجعلها جارية له حتى إن كان ذاك الرجل إبني "
وعادت وأمسكت يديها قائلة
" ولهذا أردت أن تعيشي معي حتى تكوني مستعدة لأن تكوني
زوجة وأم ثم لك القرار حتى إن أردتِ الطلاق منه والزواج بغيره
لن يعارض قرارك أحد "
كانت نظراتها مختلفة كثيراً عن بداية حديثهما وهي تعلم بأنها
فتاة ذكية واستطاعت فهم ما قالته وما تعنيه وإن كانت تجهل
أغلبه وإن لم تعلق على كل ذلك لذلك لم تنتظرها أكثر وقالت
" والآن أخبريني هل أقنعك جوابي وتريدين البقاء معي كابنة لي
أم أن يطلقك وتغادري لمنزل شقيقك ؟ "
وطال الصمت بينهما تنظر لعينيها بهدوء لأنها كانت تريدها أن
تقرر هي عن نفسها ودون أي ضغط منها وتابعت مؤكدة لها
بجدية
" الخيار لك وحدك يا يمامة وحتى إن تسبب الأمر بخلاف بين
يمان وأبان فتلك مشكلتهما المهم أن تكوني راضية ومرتاحة "
تلونت عيناها الجميلة بالحزن فجأة وقالت
" أريد أن أكون معك وأن أدرس وأتعلم ومشتاقة ليمان وجاد
وعنان أيضاً وحتى مايرين "
ابتسمت جوزاء حينها وقالت ويدها تلامس وجنتها الناعمة
" تلك الأمور سهلة وسنطلب منه مجدداً أن يقوموا بزيارتنا
في أقرب وقت "
كان رد فعل يمامة ابتسامة صادقة وسعادة ظهرت بوضوح في
ملامحها قبل عينيها قابلتها جوزاء بابتسامة مشابهة لها فها قد
نالت مبتغاها وبرضا واختيار منها ودون أن تجبرها أو تضغط
عليها ، ولأنه لازال أمامها أمر أهم عليها معرفته قالت تنتظر
الجواب من عينيها قبل كلماتها
" وإن سألتك الآن إن كان بإمكانك البقاء هنا وأن تكوني زوجة
لشاب آخر غير أبان هل تستبدليه بغيره ؟ "
رأت جوزاء الحيرة تزداد في العينان الفضية وكأنها تحاول فهم
السؤال أو ترجمته لكنّها خشت أيضاً من أن تجيب بما يقوله
عقلها فقط لتكون فرد من هذه العائلة لذلك قالت بجدية
" أريد جواباً نابعاً من قلبك ومهما كان "
قالت حينها الجالسة أمامها وبصوت ثابت عكس الأحاديث
السابقة بأكملها
" بل أبان "
ضحكت جوزاء وحضنتها وقالت
" لا تخبريه بهذا إذاً كي لا نصبح في مشكلة "
ابتعدت عنها وقالت المتوقع
" مشكلة ماذا ! "
ضحكت جوزاء وقرصت خدها قائلة بضحكة
" مشكلة ما ليس وقت معرفته الآن "
ووقفت وقالت تنظر لها مبتسمة وهي ترفع نظرها لها فوقها
" لا تفكري في هذا كثيراً وهيّا إلبسي فستانك لننزل ونرى ما
فعلو مع كنانة "
وقفت حينها قائلة بحماس
" حسناً "
وراقبتها نظرات جوزاء الباسمة المحبة وهي تخرجه من الخزانة
وتوجهت به نحو حمام الغرفة الذي ما أن أغلقت بابه همست
الناظرة له بابتسامة حزينة
" ليحفظك الله يا يمامة ويعينني على حفظ الأمانة "
*
*
*
أوقفت سيارتها قرب البوابة الحديدية المفتوحة ولبست النظارة
السوداء الكبيرة وفتحت بابها ونزلت لتجد الهواء القوي في
استقبالها بسبب المكان المكشوف الواسع وأمسكت يدها طرف
سترتها الطويل الذي أبعدته الريح بعيداً تغطي جسدها به أكثر
وهي تسير نحو البوابة التي يحرك بابها الريح ببطء مصدرة
صوتاً واضحاً ، وما أن وصلته أبعدته بيدها وهي تعبر الأرض
الترابية وشعور غريب غمر قلبها وهي تدخل هذا المكان وللمرة
الأولى في حياتها ونظرها يتنقل بين القبور الموزعة بعشوائية
بسبب تعرج الأرض ، شعور لم يكن سببه تشجيع نفسها على
فعلها ومحاربة ترددها وهي التي لم تفعلها منذ مات وتركهم بل
هو شعور رهبة الموت وحياة الأموات والعالم الذي سيكون
مصيراً لكل إنسان في هذه الحياة .
تغيّر خط سيرها ناحية الشرق فالقبور هنا موزعة حسب تاريخ
دفن صاحبها ومقصدها سيكون هناك بالتأكيد ، وكان كذلك بالفعل
وأدمعت عيناها من تحت نظارتها ومن قبل أن تصل للقبر الذي
قرأت بوضوح اسم صاحبه على اللوح الرخامي الكبير الموجود
أعلاه ، ولأنه كان من طلب أن يدفن في مقبرة المدينة التي مات
فيها ومع عامة الناس دفن هنا بينما اختاروا له مكاناً متطرفاً لم
يكن ثمة قبر ملاصق له أو قريب منه وبني له قبر مرتفع عن
البقية وكأنهم يشرُفونه بهذا ليعرف الجميع مكانه ومكانته حتى
بعد موته .
كانت خطواتها بدأت بالتعثر مع تدفق الدموع من عينيها دون
توقف وهي تشعر بأنه مات الآن وودعته الآن تسمع كلماته
الأخيرة لها وكأنه يقولها للتو ، وما أن وصلت عند القبر حتى
انهارت جالسة بجانبه وأنزلت النظارة عن عينيها بينما اتكأت
بساعد يدها على بنائه الرخامي وأخفت وجهها وبكائها فيه
تبكيه بحرقة بكاء صامت لا شيء سوى عبراتها الموجعة تقطعه
كل حين ، البكاء الذي لم تبكيه يوم وفاته حين كانت صامدة
كالجبل أمام المعزين بينما طفل ينوح بوجع وهي نائمة وحيدة في
غرفتها ، لكنّها اليوم لم تعد قادرة على أداء ذاك الدور ولا حتى
أمام الجميع وتركت العنان لأوجاعها ولفقدها ولألمها وصدمتها
أن تخرج دون رادع تبكي كل لحظة عرفته فيها .. طفولتها
وحنانه الأبوي عليها شبابها وتعظيمه لها وكأنه لم يكن لدى رجل
ابنة غيره في الحياة ولم تعرف يوماً شعور فقد الأب في حياتها
معه ولا حتى الأم أيضاً وهو من كان يسهر الليل في مرضها
يرفعها فوق كتفه ويجوب بها المنزل حتى الصباح .
كانت تبكي بعبرة بوجع في مكان لا يسمع فيه سوى صوت الريح
وذاك النشيج الباكي الذي يذيب الحجر ، ورحمتها كلماتها أخيراً
وخرجت من أعماق قلبها قبل حنجرتها قائلة ببكاء
" ليته يمكنك الحديث وسماعي لتبرد النار المشتعلة في قلبي
وتكاد تقتلني "
ولم يزد ذلك حالها إلا سوءاً وبكائها إلا نحيباً وضربت قبضة يدها
على الرخام البارد بينما لازالت تدفن وجهها وبكائها في ساعدها
وتابعت بوجع
" أجب سؤالي أرجوك فلا زال يصعب عليّا تصديق هذا
واستيعابه "
واستمر ذاك البكاء والعبرات وكأنها تفرغ وجع السنين بأكمله
فأن تنكسر صورة من تحب داخلك أمر يصعب وصفه أو تخيله
ووجع يصعب تجاوزه مهما مرت السنين لهذا هي هنا تحتضن
الأمل الميت وتأمل في سماع صوت الأموات لعلها تقنع عقلها
على الأقل لتقبل الحقيقة لأن قلبها لن يفعل ذلك أبداً ، فقالت مجدداً
وبأمل كسير يشبه انكسار صوتها وقلبها
" ليس أنت .. لن تفعلها بي وتبيع سعادتي وعائلتي وتقتل قلبي
فقط لتحكم صنوان البلاد ويخرج مطر شاهين خارجها ويأخذ
قلبي وروحي معه ! "
وازداد بكائها حدة وعادت للضرب بقبضتها قائلة بنحيب موجع
" أبي أجبني أرجوك قل بأنه يكذب فقط لينتقم مني بك ، قل بأنك
لا تفعل هذا بابنتك ، يمكنني تقبل هذا من الجميع عداك أبي أقسم
لك فلا تقتلني بها "
ولأنه لا صوت للأموات سوى في أمنياتنا الحزينة لم تسمع سوى
صوت بكائها وأنين قلبها وتقاطع عبراتها وكأنها تفرغ وجع
السنين بذلك حتى خارت قواها تماماً وارتخى جسدها حينما
أنهكها البكاء الطويل واتكأت بطرف جبينها على القبر المرتفع
عيناها الدامعة الحزينة تهيم في الفراغ بشرود وكأنها منفصلة
عن العالم بأكمله من حولها بينما لازال صدرها ينتفض بعبرات
متلاحقة والدموع تتقاطر من عينيها بين الحين والآخر وكأنها
تنتظر معجزة ما وأن تسمع صوته يحادثها بالفعل حتى شعرت
باليد التي لامست كتفها قبل أن تشتد الأصابع الرجولية عليه
بقوة وارتفع رأسها حينها ووقع نظرها على الرأس الذي كان
يخفي الشمس خلفه وعادت الدموع للتجمع في عينيها ما أن وقع
نظرها على عينيه الحزينة وتبعته نظراتها وهو يجلس على
الأرض بجانبها ونظر لعينيها الدامعة التي تقتله دون رحمة فهو
يعلم أي وجع يقتل قلبها وما جعلها تفعلها وللمرة الأولى وهي
تخالف تعاليم الدين الذي لطالما تمسكت به ويمنع دخول النساء
للمقابر ، وموقن من أن الوجع الذي فاق تحملها هو السبب
وجاءت تبحث عن شيء يجعلها وإن تقنع نفسها بحقيقة الأمر
لذلك لم يجادلها في هذا ولم يذكرها بعقوبته بل قال بحزن ينظر
لعينيها الباكية
" غسق لا تحزني قلبك كثيراً يا شقيقتي "
لكنّ ذلك لم يساعدها بل زاد وضعها سوءاً وتقاطرت الدموع من
رموشها وقالت بعبرة مكتومة تشير بيدها لنفسها
" هو لم يرحمني ويتحدث ، قل أنت بأنه يكذب يا رعد أرجوك "
كانت ترمي بثقل همومها عليه ولم تكن تعلم بأنها تزيد من حجم
همومه ورغم ذلك وكعادة الرجال وصمودهم مهما كانت دواخلهم
امتدت يده ليدها التي كانت تريحها على فخذها وشد عليها
بأصبعه بقوة وقال بصمود ينظر لعينيها الدامعة
" لا تحاولي الهرب من الحقيقية يا غسق بل مواجهتها "
تحرك حينها رأسها برفض لما يقول ولا استيعابه أو تصديقه
فتنهد بعمق وقال
" قد يقسو أحدنا على شخص يحبه ليس لأنه لا يعني له شيئاً بل
لمصلحته "
قالت حينها بعبرة تقطع القلب بينما يدها تضرب على صدرها
" فعلها مطر شاهين وقتلني من أجلي وفعلها والدي الحقيقي
وحرمنا منه من أجلي لكن ما فعله والدي شراع لم يكن من أجلي
يا رعد وهو ما يكاد يوصلني للجنون ، إن كان ما فعلوه هم
لحمايتي آذاني كثيراً فكيف بهذا ؟! "
تبدلت ملامحه للجمود فجأة وقال بترقب
" هل يعني هذا بأن مشاعرك نحوه تغيرت ؟ "
حركت رأسها برفض وقالت بحزن عميق
" لو كان الأمر كذلك ما كنت هنا "
وقالت آخر كلماتها تنظر للقبر بجانبها بينما تابعت بأسى حزين
والدموع تتجمع في عينيها مجدداً
" كيف لعقلك تخيل هذا ! كيف يمكن لقلبي أن يكرهه أو يغضب
منه ؟ لا يمكنني ولا إقناعه بهذا "
وعادت ونظرت له وقالت بعبرة تشير لنفسها
" لكني مجروحة ومخذولة وأشعر بشعور لا يمكنني وصفه ، لقد
قتلني بها وأفلح في قتلي وانتصر عليّا كما أراد "
هرب بنظره منها للأسفل بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة
متألمة وقال
" كنتِ ستعلمين عن هذا إن كان عن طريقه أم لا "
وكان ذاك ما جعل نظرتها تتبدل للاستغراب والعينان الدامعة تنظر
له في حيرة وقالت ببحة
" ماذا تعني ؟ عن طريق من ! "
رفع نظره لعينيها وقالها دون تراجع
" عن طريق والدي نفسه "
وهنا كان قد رماها في دوامة أكبر من سابقتها حتى أعجزها عن
النطق وتابعت نظراتها المتوجسة يده وهو يدسها في جيب
سترته وأخرج منه قرص بيانات مستطيل الشكل صغير ومده
لها قائلاً
" لقد ترك لك هذا معي "
رفعت نظراتها منه لعينيه دون أن تأخذه بينما كانت عيناها تحمل
ألف سؤال وهو ما جعله يتنهد بحزن وقال
" كنت أخشى من أن تعلمي ما فيه لكن الآن أرى أن تعرفي كل
شيء منه أفضل من أن تتابع عليك الصدمات وتقتلك أو تقتله
في داخلك "
جعلت كلماته تلك ضربات قلبها ترتفع حتى آلمتها وباتت تخشى
منه بالفعل من قبل أن تراه أو حتى تمسكه ، ولأنه قرأ ذلك فيهما
بالفعل أمسك يدها ووضعه فيها قائلاً
" عليّا أنا طلب السماح منه الآن لأني خالفت وصيته فلن يضمن
أحد ما يخبئه مطر شاهين أيضاً "
ازداد التوجس في ملامحها كما صوتها الذي لازال متأثراً ببكائها
السابق وهمست بصعوبة
" ما معنى هذا ! "
قال دون تراجع ينظر لعينيها
" أعني الأحياء وما ذكره في تلك المقابلة أيضاً "
ضمت يدها لقلبها والقرص فيها وقالت بعينين متسعة
" جبران تقصد ! "
حرك رأسه بنعم بينما أخفضه ونظر نحو الأسفل وقال بكلمات
حزينة جوفاء
" أجل فإن كان السبب واحد فقد زال الآن فالجميع كان يتوقع أنّه
ينتظر مشايخ صنوان للحل السلمي وليس بسببك أنتِ "
*
*
*
أبعدت الخصلة القصيرة التي رمتها الريح أمام وجهها ودستها
خلف أذنها ورفعت كوب القهوة لشفتيها بينما نظرها على
أحواض أزهار القرنفل ورائحة أوراق الحبق المنعشة تشعر بها
تتسرب إلى خلاياها وعلمت الآن معنى ما كانت تسمعه وأن
رائحة هواء القرى الريفية مختلفة تماماً عن المدن وكأنك لا
تعيش في ذات البلاد !
سرق نظرها واهتمامها رنين رسالة في هاتفها الموجود في
حجرها فرفعته ونظرت للاسم قبل أن تفتحها والتوى فمها بحركة
سريعة ما أن قرأت اسم ( أويس ) وهمست شفتاها ببرود
وهي تفتحها
" صباح الخير يا أستاذي "
وما أن قرأت أحرفها القصيرة المختصرة تمنت أن لم يرسلها
وهي ترمي هاتفها جانباً فهو غادر لحوران قبل يومين واليوم
أصبح الثالث ولم يمضي على زواجهما حينها سوى ثلاثة أيام لم
تراه فيها تقريباً سوى ليلاً وكما ليلتهم الأولى عابس صامت
وكأنه تمثال منحوت على ذات الملامح والتعابير بينما يقضي
الوقت الذي يكون فيه في المنزل مع والدته ولا تسمع صوت
ضحكته إلا حينها بينما هي ما أن تجلس حتى يقول
( اجلبي لنا الشاي )
وما أن تضع الصينية وتجلس
( أجلبي طبق الفواكه )
واحضري وافعلي وهاتي الماء وووو ... وهي صامدة كالجبل
ترفض فعل ما يريد ويصبوا إليه وهو سجن نفسها في غرفتها ،
وكلما علّقت والدته على الأمر وجد حجة ما ممازحاً بينما كانت
تضحك شفتاه وعيناه ترميها برصاصٍ قاتل وآمنت حينها بأنه
يصلح لأن يكون ممثل مسرح بجدارة وهو يؤدي وجهان في آن
معاً واحد للتي تسمع وواحد للتي ترى ! حتى كان اليوم الذي
ناداها وهو في الغرفة ودخلت ووجدته يفتح حقيبة متوسطة
الحجم فوق السرير ويطوي قميصاً في يديه ليضعه فيها فوقفت
ونظرت له وقالت مستغربة
" ستسافر ؟! "
قال متوجهاً ناحية الخزانة المفتوحة
" سأذهب لحوران لديّ عمل مهم هناك "
نظرت له وكأنه يتكلم بلغة غير مفهومة بينما عاد هو ناحية
الحقيبة ووضع فيها ما أخرجه من الخزانة قائلاً ببروده المعتاد
" أخرجي لي جوارب بيضاء لم أعرف أين وضعتها "
لم تتحرك من مكانها ولازالت نظرتها له ذاتها فاستقام في وقوفه
ونظر لها وقال بضيق
" لا تقفي هكذا كعمود الخشب "
زمت شفتيها وأمسكت نفسها بالقوة عن الكلام فإن علّمتها الحياة
فنون الرد سابقاً سيعلمها هذا الرجل كتم المشاعر وطمرها حتى
تموت كقطعة خشب كما وصفها فهي تعلم جيداً ما يصبو له وهو
استفزازها ثم الدخول معها في شجار ومن ثم إهانتها كما يريد
وإيصالها لأعلى مراحل الانهيار وكره الذات ويحطمها ويصل
لغايته في الانتقام منها .
لذلك تحركت في صمت وأخرجت مجموعة جوارب وما أن
توجهت بها للحقيبة قال ببرود وهو يعود نحو الخزانة
" يكفي ثلاثة "
كورت شفتيها قبل أن تقلده في صمت بشفتيها فقط وهي تضع
الجوارب في الحقيبة وقالت ببرود مماثل وهي ترجع البقية من
حيث جلبتهم
" لا يجب أن يعلم والداي بأنك هناك "
كانت توليه ظهرها ناحية الأدراج المنفصلة بينما وصلها صوته
البارد المستفز من مكانه هناك
" لا يمكنني الاختباء منه حيثما ذهبت "
رفعت عينيها عالياً متنهدة بضيق تترجي الله المزيد من الصبر
والتحمل لتمضي الأشهر القادمة على خير ، فها هو يؤكد لها
بأنه قد يلتقي بزوج والدتها هناك ولا يهتم للأمر أساساً !
استدارت نحوه وكان يرتب الحقيبة ليغلقها فكتفت ذراعيها
لصدرها وقالت بجمود
" لا بأس في أن تعلم والدتك بحقيقة حياتنا معاً إذاً "
أدار وجهه ناحيتها ولازال منحني للحقيبة ونظر لعينيها في صمت
قبل أن يتركها ويقف مستوي على طوله وقال بنظرات قاتمة
وغضب مكبوت هذه المرة
" تهديد هو يا زهور ؟ "
علمت حينها بأنها أعطته الفرصة التي كان ينتظرها للشجار لذلك
تمسكت بهدوئها بل وبرودها وهي تقول ناظرة لعينيه
" ليس تهديداً بل تذكيراً كي لا تلقي عليّا باللوم إن حدث
هذا مصادفة مستقبلاً "
كانت تذكره بأنه إن فعلها الآن وعلمت عائلتها بذهابه هناك في
أسبوع زواجهم الأول فصمتها عنه معناه أن يصمت أيضاً في حال
علمت والدته بحقيقة وضعهما ومخططه المستقبلي لعلاقتهما
فمثلما هو لن يهرب من المصادفات لن تفعلها هي ولن يلوم أي
واحد منهم الآخر ، لكن يبدو أن ذلك لم يقنعه وقد قال بضيق
يمسك خصره بيديه
" ثمة فرق بين أن يكون الأمر مصادفة أو متعمداً "
قابلت مزاجه المشتعل بالبرود ذاته والذي تهنئ نفسها عليه
بالفعل وقالت
" وأنا عند اتفاقنا ولن أفعلها ، ولم يربني والداي على خيانة
الوعود "
كانت تتوقع منه هجوم آخر خاصة بعد كلماتها التي يمكن فهمها
بأكثر من معنى لكنّه فاجأها بأن قال بجمود ينظر لعينيها
" لا أعلم أين هي زهور تلك التي كانت طالبة في الكلية ؟! "
لو كان الأمر بيدها ولا يراها حينها لضحكت بل ورقصت بانتصار
فها هو كما توقعت كان يستفزها ويريد إيصالها لأعلى مراحل
الانهيار النفسي ويبدو فاجأته بما لم يتوقع درجة أن قالها لها
هكذا علانية ! ولكي تكمل الدور الذي هي مقتنعة به أكثر من
كونه أداء تمثيلي فقط قالت ولم يغادرها برودها بعد بينما زينت
ابتسامة ساخرة شفتيها
" ماتت مع سمعتها التي تلوثت فيها ، وماتت مرة أخرى
حين صفحت عن الفاعل "
وقالت آخر كلماتها تلك ترفع رأسها قليلاً بينما لم تفارق نظراتها
عينيه وكأنها تؤكد له مقصدها من كل ذلك وتذكره بأنه من بدأ
بالحرب وليس هي ، وكان تعليقه جاهزاً أيضاً وقال بابتسامة
تشبه ابتسامتها تلك
" ليس ثمة من يشوه سمعة فتاة ويتزوجها "
كان رد فعلها الأولي ضحكة قصيرة ساخرة فهي كانت تضحك
على نفسها بهذه الأكذوبة سابقاً حين تزوجها ، وليعلم بأنها باتت
لا تصدق هذا أيضاً قالت وذات السخرية اللاذعة تزين كلماتها
" قد يكون تكفيراً عن الذنب ليس إلا "
قال يجاريها في ذات الحرب الباردة بينما ينظر لعينيها
" وهو ما فعلته أنتِ أيضاً أليس كذلك ؟ "
قالت برفض سريع
" لا ... "
ولم يترك لها أي مجال لتنهي كلامها قائلاً بضيق
" كاذبة ، كنت لأصدقك لو أنك لم تفعلي فعلتك تلك "
وكان اتهامه ذاك كفيلاً بجعلها تشتاط غضباً لكنّها لازالت تقاوم
نفسها وبصعوبة وقالت بجمود لأن البرود سلاح باتت تفقده
تدريجياً
" لا يهم عندي ما تفهمه المهم ما أقول ولن أبرر لشخص يستمع
لنفسه فقط "
كانت إهانتها تلك كافية بالنسبة لها للأخذ بثأر كرامتها منه فقال
يحاول مجدداً تصويب سهام حربه نحوها
" بل لأنه لا وجود لتفسير غيره "
كانت كحرب كلامية باردة بينهما كل واحد منهما يريد الانتصار
فيها لذلك قالت وقد عادت لتوازنها ووضع البرود حينها ولاتهامه
بأفكاره نحوها مجدداً
" وتصرفك تفسيره مماثل أيضاً "
كانت ابتسامته ساخرة حينها وقال
" لن نستبعد هذا "
وهو ما جعلها تفقد السيطرة على انفعالها وللمرة الأولى وقالت
بضيق خرج عن سيطرتها
" لما أنا من عليها دفع الثمن فقط إذاً ؟ "
جعله رد فعلها ذاك يأخذ وضع البرود وكأنه أعاد الكرة لملعبه
أخيراً وقال ينظر لعينها وكأنها متهم في جريمة من أبشع جرائم
البشرية
" لو كانت أذيتك لي فقط لاختلف الأمر بالتأكيد ولتعادلنا "
وهنا ألجمها تماماً عن قول أي شيء فقد حاصرها بالفعل ، ويبدو
لم يهتم لأي رد سيكون منها وقد انحنى نحو حقيبته أغلقها
وحملها متوجهاً نحو الباب فقالت بضيق توقفه
" انتظر فحديثنا لم ينتهي بعد "
وقف حينها بالفعل واستدار نحوها بينما كانت ملامحه باردة
كالجليد كما كلماته وقد قال
" لم يعد هناك ما يقال ولن نكرر ذات الكلمات كالببغاوات "
وغادر الغرفة وتركها تشتعل لوحدها هناك وودع والدته وغادر
بينما فعلت هي حينها ما لم تفعله في وجوده وسجنت نفسها في
الغرفة تعيش الصراع بين ندمها وغضبها ولومها لنفسها حتى
تمنت أن دمرت المكان بما فيه ، وقد نجح في الوصول لما كان
يصبو له وإن كان لم يحتفل بانتصاره ، ومرت الساعات عليها
وهي وحيدة هناك تحارب فكرة واحدة وهي الاتصال بزوج والدتها
ليأتي ويأخذها من هنا لكنّها لم تفعلها لأنها بهذا ستغادر وهي
الملامة وإن أمام نفسها ، وما أن ينتهي العقاب الذي حدده لها
ووافقت هي عليه ستغادر هذا المنزل وهذه البلدة وهي مرتاحة
البال والضمير .
واستمر سجنها لنفسها حتى طرقت عليها والدته باب غرفتها
وخرجت لها حينها مدعية أنها كانت نائمة ، وعادت بعدها زهور
ذاتها قبل حوارهما المتلف للأعصاب ذاك وقضت وقتها واليومين
التاليين برفقة والدته التي لم تشعر بالملل مطلقاً وهي تستمع
لأحاديثها وحكاياتها الممتعة عن حياتها في هذا المكان .
وضعت كوب القهوة من يدها ووقفت وتحركت مسرعة نحو التي
خرجت من باب المنزل تتلمس حافته لتعبر منه وكأنها خرجت من
أفكارها تلك ، أمسكت بيدها وأوصلتها للمكان الذي أعدته
لجلوسهم وقالت مبتسمة وهي تترك يدها
" ليت صلاتنا بطول صلاتكم "
قالت التي جلست مبتسمة
" لأن مفاصلكم وعظامكم لازالت بصحة جيدة "
ضحكت زهور وقالت وهي تجلس مكانها السابق
" الأمر متعلق بالصحة فقط إذاً ! "
قالت الجالسة أمامها بضحكة
" بالتأكيد "
قالت زهور مبتسمة وهي تسكب لها القهوة في فنجانها
" لا ليس كذلك فأنتِ لستِ كبيرة في السن وأويس كان طفلك
الأول وتزوجتِ في سن صغير "
ابتسمت بحزن بينما أخذت الفنجان من يدها ما أن لامس أصابعها
وقالت
" هموم الحياة تفعل الكثير لا علاقة لأعمارنا بصحة أجسادنا "
تنهدت حينها زهور بحزن وقالت
" معك حق "
وهامت ببصرها في الفراغ بشرود وفكرت في أنها قد تصبح
عجوز وهي في العشرين من عمرها بسبب ذاك الغيلواني الحقود
؟ ضحكت فجأة بسبب الفكرة فقالت الجالسة بقربها مبتسمة
" ما الذي يضحك العروس ؟ "
شعرت بالخجل من نفسها وتخيلت أن تكون فهمت بأنها تضحك
على ما قالت لذلك قالت بصدق موضحة بينما اختلطت كلماتها
بضحكة صغيرة
" تخيلت أن أصبح عجوزاً بسبب ابنك "
ضحكت الجالسة أمامها كثيراً وقالت تضع الفنجان من يدها
" ما الذي فعله لك وهو يحبك ؟ "
ماتت حينها الابتسامة من وجه زهور وحال قلبها
يقول : يحبني !! لو أنك تعلمي ما قال قبل سفره لتغيّر كلامك
بالتأكيد ، لكن ولأنه لا يمكنها قول ذلك عادت وقالت بصوت
حاولت أو تجعله باسماً
" الرجال محرقة النساء أحبوهم أم لا "
قالت والدته معترضة ومبتسمة بحنين وشوق خالطه الكثير
من الحزن
" لا ليس صحيحاً فعمك عبد الجليل رحمه الله عشت معه أعواماً
تُجدد الشباب وليست تقتله "
تمتمت حينها زهور بحزن عميق
" رحمة الله عليه "
والتصقت نظراتها بالملامح الجنوبية الجميلة رغم تقدمها في
العمر وباتت تتفهم الآن سبب فقدها لبصرها حزناً عليه وشعرت
بذنبها يتعاظم أكثر ، قالت التي وضعت الكوب من يدها
والابتسامة الدافئة لا تغادر شفتيها
" وأويس مثله تماماً لا يشكك لقب غيلوان الذي يحمله في ذلك
فهو أخذه من والده الذي كان من أنبل الرجال "
عادت ابتسامة زهور للموت البطيء مخلفة خلفها تجهماً كئيباً فلا
يبدو لها هذا صحيحاً فحقده أسوأ من الإبل ، إلا إن كانت هي
السبب فيه بالطبع ، تنهدت بحزن واكتفت بالصمت بينما قالت
التي لازالت تنظر للفراغ مبتسمة بحب
" لقد عوضني الله به ، لا أعلم ما كان سيحدث لقلبي لو لم يترك
لي هذا الابن "
ساد الحزن ملامح زهور حينها ولمعت عيناها بالدموع فجأة
وتخيلت وضعها مستقبلاً فحتى طفلها سيأخذه منها وشعرت
بافتقادها له من قبل أن تراه !
وعادت ومسحت عيناها تضحك على نفسها بصمت وهي تتقمص
الدور من قبل حدوثه فقد يكون أحدهما عقيماً أساساً وتنتهي
المسرحية من بدايتها .
رفعت حبة دراق وكانت ستمدها لها لولا توقفت يدها في الهواء
بسبب الباب الحديدي الموجود جانباً والذي انفتح قفله فجأة
واتسعت عيناها مصدومة فهي كانت تتوقع بأنه باب يفصل فناء
المنزل عن المزارع ولا يمكن لاحد فتحه من الخارج وأويس ليس
هنا ! وتبدل كل ذلك للاندهاش ما أن انفتح الباب ودخل منه
الطفل ذو الأربعة أعوام ونظر ناحيتهما مبتسماً قبل أن يدفعه
أحدهم نحو الأمام لتزداد دهشتها وهي ترى النسخة الأخرى عنه
في كل شيء حتى في الثياب التي يلبسانها وقالت أخيراً
" يا إلهي ما أجملهما إنهما توأمان ! "
التفتت حينها الجالسة بقربها نحو الخلف ومدت يدها مبتسمة نحو
المكان الذي لا تراه وقالت
" تعاليا هيّا أين أنتما لم تزوراني من مدة ؟ "
وانطلق التوأمان راكضان نحوها وحضناها معاً ونظرات زهور
المندهشة لازالت تراقب جمالهما وشعرهما الحريري الذي كان
يحف حاجبيهما وانتبهت حينها للاختلاف الوحيد بينهما وهو لون
عينيهما ، وكانت ستسأل إن كان ثمة جيران لهم هنا أم أنهما
جاءا من الخارج لكنّها توقفت بسبب الباب المفتوح الذي تحرك
مجدداً مع الصوت الأنثوي المنادي من خلفه
" جاد عَنان أين أنتما ؟ "
وما أن كشف لها الباب عن صاحبة الصوت والتي وقعت نظراتها
عليها أيضاً وكانت مايرين بفستانها المنزلي الذي غطى جسدها
الطويل الممشوق تجمع شعرها الغجري الفاتح على جانب كتفها
وتربطه بمنديل أحمر اللون مزركش بنقوش بيضاء بينما برز
بياض بشرتها الحليبي في ضوء الشمس فقالت زهور بضحكة
مندهشة
" ما باب المفاجآت هذا ! ومن أين للجنوب بهذه الشقراء !! "
*
*
*
غادرت المبنى تنظر للبطاقة في يدها بعبوس فالمبلغ الموجود
فيها بات يتنافص وعلى هذا الحال ستعلن إفلاسها قريباً وتصبح
في الشارع وستجد نفسها مجبرة على الاتصال بمطر وطلب
النجدة وهذا ما لن تفعله أبداً فهي الآن ستثبت لهم جميعاً بأنها
قادرة على الاعتماد على نفسها ومساعدتها وحتى معالجة
مشاكلها وحيدة وليست بحاجة لرعاية من أحد ولا أن تطلب شيئاً
من أحد أيضاً وهذه الفرصة التي انتظرتها طوال حياتها ها هي
نالتها أخيراً .
أوقفت سيارة الأجرة وأعطته العنوان وجلست في المقعد الخلفي
تنظر من خلال النافذة لشوارع لندن المزدحمة بهدوء يعاكسها
فها هي هنا منذ أيام وما أن انتهت تلك المحاكمة بمعنى أدق
وحسب اتفاقهما بأن يترك لها حرية العيش كما تريد ورفضت أن
يوفر لها سكناً ولا وظيفة فهي ستثبت له أنها قادرة على هذا
وحيدة لذلك أصر فقط على أن يقدم لها مبلغاً يكفيها حتى تتدبر
أمورها ، وجيداً فعلت بأن لم تعارض هذا أيضاً لأصابها الجوع
من أول يوم وصلت فيه فهي صرفت أغلب المبلغ على إيجار
غرفة في فندق رخيص وطعامها وإن كان وجبة واحدة تقريباً في
اليوم بينما أمضت تلك الأيام تحاول البحث عن وظيفة من مكاتب
التوظيف والصحف ولم تترك طريقة لم تتبعها وجميعها باءت
بالفشل فجميعهم يطلبون إمّا مؤهلات أو خبرة وهي لا خبرة
لديها سوى في إثارة المشاكل ولا مؤهلات سوى شهادة من
الجميع بأنها امرأة فاشلة ، وحتى المطاعم والحانات التي تنازلت
للعمل فيها كنادلة رفضوها بحجة أنّ سنها ليس مناسباً ويريدون
شابات بين الثامنة عشر والثالثة والعشرون ، سخفاء هل يرونها
عجوزاً أمامهم ! هي في الثالثة والثلاثون فقط .
كورت شفتيها وهي تفكر في الفارق بين عمرها ومطلبهم إنه
عشر سنوات كحد أدنى وتذكرت فجأة عبارة ذاك السمين الفظ
( نحن لا نريد واحدة تشتكي لنا منتصف النهار بأن ظهرها
يؤلمها ولم تعد قادرة على الوقوف )
تململت في جلستها متأففة وكأنه أمامها الآن ثم فتحت حقيبتها
وأخرجت منها مرآة صغيرة ونظرت لنفسها تعدل شعرها وكأنها
تؤكد لذاتها بأنها ليست كما يقولون .
ولأجل كل تلك المذلة والمهانة واللقاءات التي انتهت برفضها
وكأنها راعي بقر جاء من الريف يريد أن يعمل مذيعاً لديهم قررت
أن تتنازل لأقل من ذلك وتعود للجريدة التي أخذتها من كرسي في
الحديقة حينما نهض أحدهم وتركها هناك فرفعتها وبدأت تقلبها
لتمضية الوقت ليس إلا ووجدت فيها عدة إعلانات دونتها لديها
جميعها عدا واحد فقط لأن الاسم كان فيه عربياً ، ليس لأنها لا
تريد الاقتراب من العرب مجدداً فقط بل ولأنها تخشى أن تتكرر
تجربتها مع شاهر كنعان سابقاً وتكتشف بأنها مجرد فخ لجرها
لوكرهم من جديد لتكون محاصرة بهم وسجينة لديهم خاصة بأنه
قال بأنها ستكون مراقبة لأجل سلامتها كي لا يقتلها ذاك الوالد
مجهول الهوية ، والغريب في الأمر أنها لم ترى أو تشعر باقتراب
أي شخص منها !
لكنّها عادت واستبعدت كل ذلك فهي وجدتها مصادفة والرجل الذي
تركها كان انجليزي بشكل واضح وهي حين جلست كان جالساً
قبلها ويتصفحها ، ولأنها الآن فقدت الأمل في جميع الخيارات
لديها وباتت تفقد مالها شيئاً فشيئاً قررت الذهاب ومقابلة صاحب
الوظيفة ثم تقرر ما عليها فعله خاصة بأنه سيوفر لها المسكن
والمأكل وكل ما عليها أن تعمل كمدبرة لمنزله ، وعلى الرغم من
أنها لم تطهو يوماً ولم تنظف أبداً لكنّها ستحاول فعليها الاعتماد
على نفسها والوقوف وحيدة ، وفيما ستتأمل مثلاً وهي لا تملك
ولا شهادة جامعية بسبب هربها سابقاً وفشلها ورسوبها حتى تم
رفدها وبشكل نهائي وفقد مطر الأمل فيها وتركها لجهلها كما كان
يقول .
عادت للتململ مجدداً في جلستها وتمتمت
" سترى كيف ستعيش هذه الجاهلة من دونك "
ثم نظرت نحو السائق وقالت بنفاذ صبر
" ألا زال أمامنا الكثير ! "
أدار نصف وجهه ناحيتها وقال بضيق
" أنتِ تغادرين لأحد أرياف لندن سيدتي فهي تبعد عنها ستون
كيلو متراً "
تنهدت باستسلام وقالت
" كم تبقى من الوقت ؟ "
عاد بنظره للأمام وقال
" ليس الكثير كدنا نصل "
ولأن وجهتهم كانت إلى كوتسوولدز وهي أحد أرياف لندن
استغرقت منهما الطريق قرابة النصف ساعة حتى بدأت السيارة
تسير في طرقات البلدة الريفية الجميلة وارتفع حينها نظرها مع
التلال الخضراء المحيطة بها وأبنيتها التي كانت عبارة عن منازل
ريفية جميلة ويعبر البلدة نهر ماء صغير قد أحيط بجسر حجري
قديم وعريق وكانت من الجمال أن تخطف الأنظار ، صحيح أنها
تحب لندن حيث المدينة والازدحام والمعالم المعمارية الحديثة
والكبيرة لكنّها ترى أيضاً بأن هذا المكان لا بأس به للعيش بشكل
مؤقت حتى تتحسن أحوالها المادية قليلاً وتعود للندن مجدداً .
توقفت السيارة أمام منزل متطرف قليلاً حيث يفصله شارع
عريض عن باقي المنازل وعلمت حينها بأنها وصلت لمقصدها
ففتحت باب السيارة ونزلت ووقفت تنظر له أمامها ، كان أكبر
حجماً بقليل من باقي المنازل كما لاحظت ، كما أنه بطابقين ممّا
يدل على أن جناح النوم والغرف كبير وهو مؤشر جيد خاصة إن
كانت عائلة صغيرة فسيكون سكناً ممتازاً بالنسبة لها ، عبست
ملامحها فجأة وتمتمت محبطة
" ومن سيقوم بتنظيف كل هذا غيرك يا غبية ؟ .
سرق انتباهها صوت الحقيبة التي وضعها السائق بجانبها فهي
من الثقة أن جلبت أمتعتها معها وكأنهم من أرسلوا في طلبها
وليست هنا لمقابلة صاحب الإعلان أولاً ، بلى لأنه عليه أن يوافق
فهي فرصتها المواتية قبل أن تصبح في الشارع بلا مال ولا مأوى
لهذا ستتمسك بهذه الفرصة بكل الطرق .
نظرت ناحية نافذة السيارة المفتوحة ورأس السائق الذي أطل
منها قائلاً
" هل الأمور جيدة ويمكنني المغادرة ؟ "
تقوست شفتاها ولم تستطع غير تحريك رأسها بنعم فهي لا تعلم
في الحقيقة إن كانت جيدة أم لا وإن كانت ستصبح جيدة أم ستنام
في طرقات هذه البلدة الليلة فهي في جميع الأحوال لا تملك المال
الذي ستدفعه له لرحلة العودة لأنها لو دفعت المتبقي لديها فلن
تجد ما تأكله الأيام القادمة وعليها أن تجعله ينصرف كي لا
تتراجع وتغادر لأي سبب تافه يعترضها قد تراه هي عظيماً .
وما أن تحركت السيارة مبتعدة وعيناها تراقبها تنهدت بعمق
واقتربت من الباب ورنت الجرس مرتان متتابعتان ووقفت تنتظر
، وما هي إلا لحظات وانفتح ببطء وظهر لها الفتى الذي كان
يقف في الداخل وكأنه يخشى الظهور لنور الشمس !
كان يبدو في العاشرة من عمره أو أقل من ذلك بقليل يمسك بطفلة
يحملها على كتفه فتمتمت عابسة
" جميل ولديه أطفال أيضاً ! أتمنى أن تكون والدتهم هنا وليس
أنا من عليها رعايتهم "
تقدم الفتى نحو الخارج أخيراً ووقف عند الباب تماماً وقال
" ماذا تريدين ؟ "
ارتفع حاجباها باندهاش وهي تنظر مستغربة للون عينيه المتباين
والذي ظهر بوضوح ما أن بات النور موجهاً نحوه فكانت واحدة
بحدقة زرقاء والأخرى تبدو بنية غامقة ! وما زاد ذهولها هو
الطفلة الصغيرة التي أدارت رأسها ناحية الشارع حينها لتكتشف
بأنها تمتلك لون العينين ذاته !! واستفاقت من ذهولها أخيراً
بسبب الذي قال ببرود
" عذراً سيدتي سأغلق الباب "
فقالت مندفعة تمد يدها نحوه
" لا انتظر أليس هذا منزل السيد زين وأنتم تضعون إعلاناً في
الجريدة تطلبون مدبرة منزل ؟ "
وحدقت باستغراب في ملامحه الجادة التي لم تتغير أبداً محدثة
نفسها
( إن كان هذا الصغير فكيف سيكون الكبير ! )
ولم يتأخر عنها الجواب كثيراً وهي تسمع الصوت الرجولي
المنادي من الداخل
" من هنا يا أزير ! "
استدار رأس الفتى وقال بصوت عالي
" إنها سيدة أخرى قادمة بشأن الإعلان "
جميل يبدو بأنه ثمة الكثيرات سبقوها ومن الأرجح أنه تم قبول
واحدة منهن وهنا ستكون الكارثة الفعلية بالنسبة لها ، وانقطع
سيل أفكارها تلك بسبب الذي قال من الداخل وكأن صوته يقترب
قليلاً
" لما لم تخبرها بأنه تم إلغاء الإعلان "
اتسعت حينها عيناها ودفعت الباب قائلة تحاول الدخول
" لا .. هيييه أي إلغاء هذا بعدما قطعت كل هذه المسافة "
*
*
*
|