لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

قصص من وحي قلم الاعضاء قصص من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-08-24, 09:03 PM   المشاركة رقم: 1776
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*
كانت ضربات قلبها تتعالى بشكل جنوني ونظرها يتبع حركة الباب
وهو ينفتح ببطء يجهز عقلها سيناريوهات متداخلة عمّا ستبرر
به كسبب لتواجدها هنا مع والدته بالرغم من يقينها من أنه لن
يصدقها بل ولن يهتم بتلك الأسباب أكثر من غضبه لوجودها هنا
وهو من حذر مراراً من هذا ، وجل ما تخشاه وسيحدث بالتأكيد
أن يخبر يمان عن هذا أمّا ما سيقوله وطرده المؤكد لها من هنا
لن يؤثر بها وقد اعتادته .

لكن كل ذلك تغير وشعرت ببرودة سرت في قدميها صعوداً نحو
رأسها ما أن انفتح الباب على اتساعه كاشفاً عن المرأة
المبتسمة والتي اختفت ابتسامتها ما أن وقع نظرها عليها وكانت
حوراء غيلوان ، المرأة ذات الشعر الأسود كالليل والضفائر
الطويلة المثنية يكشفه وشاحها الأسود الذي كانت تضعه على
رأسها بإهمال ، عينان سوداء شديدة السواد وبشرة بيضاء
تحاكي جذورها الأصيلة ميز وجهها الدائري النقرة التي تكاد
تقسم ذقنها لنصفين ، وعلى الرغم من أنها رأتها سابقاً وشقيقتها
التوأم حين جهزتاها ليلة زواجها من يمان لكنّها لم تراها كما الآن
لأنها في تلك الليلة لا يعلم بحالها إلا الله ، وتحار فعليّا هل هذا
الوجه البشوش الجميل يليق بأن تكون صاحبته شقيقة لشعيب
وإخوته !
يبدو أن الشر الذي يستعمرهم والرهبة منهم هو سبب رؤيتها لهم
كأبشع مخلوقين على وجه هذه الأرض ! .
قالت التي اقتربت منهم مبتسمة

" مايرين أيضاً هنا ! "

ابتسمت حينها والدة أويس وقالت تنظر ناحيتها

" هذه أنتِ يا حوراء ؟ تعالي هيّا ما هذا اليوم السعيد الذي
جمعكما عندي هنا ؟ "

سلمتْ حوراء على مايرين تقبل خداها وقالت مبتسمة ما أن
نظرت نحو والدة أويس

" أخبرتك بأني من سيهتم بترتيب المنزل قبل مجيء العروس
لكني أشم رائحة خيانة ما هنا "

وقالت ختام كلماتها تلك تنظر بطرف عينيها مبتسمة لمايرين التي
اتسعت عيناها مصدومة بينما قالت والدة أويس بعد ضحكة
صغيرة

" تأخرتِ عني وحين جاءت مايرين وجدْتُها الفرصة المواتية "

ابتسمت حوراء دون أن تعلق بينما انتقل نظرها نحو مايرين
وقالت بسعادة

" ما أخبار عروس عائلة غيلوان ؟ هل ثمة حفيد ما في
الطريق أخيراً ؟ "

لم تستطع مايرين إمساك ضحكتها المحرجة وإن كان قلبها يتألم
للفكرة ذاتها لكنّها احتفظت بابتسامتها وهي تقول

" لا ليس بهذه السرعة كما أني لم أعد عروساً بعد مرور كل
هذه الأشهر "

قالت حينها والدة أويس تنظر نحوها وإن كانت لا تراها

" بل أنتِ وشقيقتك العروستان قريباً "

خبت حينها ابتسامة حوراء وانحنى كتفاها وقالت بأسى

" لا تذكريني بهذا أرجوك أمي .. "

وتابعت من فورها ومزاجها يتبدل للضيق

" ولن أصدق أن يحدث هذا ولست موافقة عليه أساساً "

تنهدت حينها الواقفة أمامها وقالت بحزن

"هو قدرك ولن يجدي الاعتراض عليه مع رجل كشقيقك شعيب"

وهو ما جعل مزاج حوراء يشتعل وقالت حانقة

" هذا جنون ..!! ألا رأي لنا في كل هذا ؟ "

نطقت حينها مايرين التي كانت تنقل نظرها بينهما فقط
باستغراب وقالت

" ما الذي يحدث وممّن ستتزوجان ! "

نظرت حوراء نحوها وقالت بضيق تضرب يديها عند وسطها ممّا
جعل رنين أساورها الذهبية يعلو في المكان

" من مطر شاهين وعمه صقر شاهين "

وكان ذاك ما جعل شهقة مايرين المصدومة تخرج رغماً عنها
وقالت سريعاً

"ماذا !! لكنّ الرجل متزوج كما أنّه ثمة ثأر قديم بين العائلتين !"

قالت حوراء بضيق

" وبسبب ذاك الكابوس المسمى ثأر يحدث هذا "

حركت مايرين رأسها بعدم استيعاب متمتمه

" أنا لا أفهم شيئاً ممّا تتحدثين عنه ! "

تنهدت تلك بحنق وقالت

" هذا لأنه لا تلفاز ولا انترنت لديك كما يبدو ولم تتحدثي مع أحد
من سكان البلدة لعلمتِ عمّا تعج به البلاد ولا تتوقف الناس عن
التحدث عنه "

حركت مايرين رأسها بعدم استيعاب متمتمه

" لا لست أعلم فما الذي يحدث ؟! "

بدأت حينها حوراء بسرد كل ما حدث وخاصة مؤخراً وقضية
الثأر وما انتهت له محاولات الصلح بين العائلتين وشرط شقيقها
شعيب ليتنازل عن سلالة عمه بينما كانت ملامح مايرين تتغير مع
كل ما تسمعه من الصدمة لعدم التصديق للغضب حتى انتهت تلك
ممّا تقوله فارتفعت يدها لوجهها ولامست أصابعها شفتيها
وهمست مفجوعة

" يا إلهي "

قالت حينها حوراء بضيق

" هذا وضعك أنتِ فما الذي سأقوله أنا ؟! "

تحرك رأس مايرين مجدداً تعجز عن استيعاب كل ما علمته منها
وقالت نهاية الأمر وباستغراب خالطه الكثير من الفضول

" وماذا عن شقيقتك جيداء ؟! ألم تحاولا إقناع والدتك لتتحدث
معه ؟ "

ظهرت السخرية واضحة على شفتي حوراء وقالت

" والدتي !! إنها موافقة أكثر منهم جميعهم "

وكانت تلك الصدمة الأعنف على مايرين ، صحيح أنها لم تلتقي
تلك المرأة من قبل لكنّها لا تتخيل أن تفعلها أم وترمي بابنتيها
للمجهول ! أين عاطفة الأمومة التي تجعل الأم تدخل النار بدلاً
عن أبنائها !!

كانت حوراء من تحدثت أيضاً لأن واحدة منهما لازالت تعيش
الصدمة التي أعجزتها عن قول أي شي والأخرى اكتفت بالتحديق
في الفراغ بحزن ، بينما كانت كلماتها حانقة مستاءة تشير بيدها
لنفسها

" كيف بالله عليكما أنا أكون مكان تلك الفاتنة المرأة التي بنت
مملكة كاملة في البلاد التي اسمها غسق شراع صنوان أو دجى
الحالك أو من كان يكون والدها ! "

وتبدلت ملامحها للتعاسة من حقيقة إدراك ذلك وهي تتابع

" لن ينظر لي ذاك الرجل ولا بطرف عينيه وهو من كانت تلك
الحورية زوجته "

ولم تنتهي عند ذلك وهي تضرب كفاها ببعضهما قائلة بضيق
خالطه رنة أساورها الذهبية

" بل ولا يمكنني تخيل أن يكون رجل مثله زوج لواحدة مثلي ! لا
يمكنني ولا قول كلمتين متتاليتين في وجوده ولا النظر لعينيه "

ونقلت نظرها بينهما متابعة بحزم

" إن كان لابد من ذلك ولا خيار غيره فلن أكون زوجة له ،
ليزوجوني من عمه ذاك "

غادرت مايرين صمتها حينها وقالت تنظر لعينيها شديدة السواد
باستغراب

" لكنك أكبر بسنوات قليلة من زوجة الزعيم مطر وعمه ذاك
قارب الستون عاماً ! هذا إن لم يتجاوزها "

قالت حوراء من فورها وبتعاسة

" هو الخيار الأقل ضرراً من ابن شقيقه "

همست مايرين حينها بضياع وحزن وحيرة
" وكأنني أستمع لقصة من الخيال ! "

كانت والدة أويس من غادرت صمتها المعتاد لقلة حديثها وقالت
تحاول النظر لمكان وقوف حوراء

" وما غرض شقيقك يفعل كل هذا ! أيتنازل عن دم أشقائه وعن
أخذ سلالة ذاك الرجل فقط ليزوجكما ؟! "

ابتسمت حوراء بسخرية أقرب للمرارة وقالت

" لا أصدق هذا ولن يفعلها شعيب من أجلنا أبداً "

قالت مايرين ولازالت ملامحها تعيش الصدمة وعدم الاستيعاب

" وماذا عن رأي جيداء ؟ "

نظرت حوراء نحوها وقالت بضيق مفاجئ

" لا يصيبني بالجنون سوى ما تقوله جيداء فهي موافقة بل
ومقتنعة تماماً "

اتسعت عينا مايرين وقالت دون شعور منها

" لم تمانع !! "

زمّت الواقفة أمامها شفتيها بقوة وكأنها تفرغ انفعالها بهما قبل
أن تحررهما قائلة بضيق أشد من سابقه

" بلى وقالت بأنه من حقنا أن نتزوج ويكون لدينا عائلة
وأبناء وما لم نحلم بتحققه يوماً بسبب الحداد الغبي الذي
يفرضونه علينا "

قالت مايرين سريعاً وبملامح مصدومة فعليّاً

" وتكون السبب في طلاق زوجين !! وتعيش مع رجل لا يحبها
ولا يريدها ! "

تأففت حوراء وقالت تنظر للفراغ بشرود حانق
" لا أعلم كيف يفكر الرأس الذي تحمله فوق جسدها "

وعادت ونظرت لعينيها مجدداً متابعة

" تتحمل نتائج اختياراتها أنا لن أكون زوجة لمطر شاهين وإن
قتلت نفسي "

تمتمت حينها والدة أويس بأسى حزين

" استغفر الله العظيم ، ليرحمنا الله برحمته "

نظرت لها حوراء وتبدلت ملامحها للمرارة قائلة

" ليرحمني الله بموتي أمي لا أريد غير ذلك "

قالت مايرين تنقل نظرها بينهما باستغراب

" الأمر منتهي لامحالة إذاً بما أن الزعيم مطر وافق ! "

بدت التعاسة واضحة على ملامح حوراء وقالت بأسى حزين

" أقسم بأنني لا أنام الليل بسبب التفكير في هذا ومن قبل أن
يعلن موافقته "

كانت الدموع تلمع بوضوح في عينيها الشاردة وإن لم تفارق
رمشوها وهو ما جعل تعاطف مايرين ناحيتها يزداد وقالت بحزن

" هذه أغرب طريقة حل نزاع بخصوص ثأر سمعت عنها ! "

رفعت حوراء نظرها لها وقالت بابتسامة ساخرة متأسية

" بل يبدو أنك لم تسمعي عن قصص بلدان الجنوب سوى
القليل ! فكم من معارك وقتل وخطف وحرائق كان سببها الثأر ،
وكم من نساء قدموهن وكأنهن سبايا فقط لتلد لهم الواحدة منهن
عوضاً عن قتلاهم "

عادت عينا مايرين للاتساع حتى برزت حدقتاها الخضراء
بوضوح وقالت مصدومة

" تهبهم طفلاً مكانه ! "

تنهدت حوراء بضيق وقالت

" أجل وتتحول لخادمة لهم ولأبنائها أولئك وكأنها جارية في
قصر الملك "

غادرت حينها والدة أويس صمتها مجدداً قائلة باستغراب

" الغريب في الأمر أن شقيقك ذاك لم يطلب هذا وأن تهبكم ابنة
دجى أبناء بدلاً عن أشقائك ! "

أمالت حوراء طرف شفتيها بأسى وقالت

" لأصدقك القول أنا أيضاً توقعت ذلك وأن يكون مطمعه هو تلك
الحسناء لا أن يطلقها من زوجها ويتركها هكذا لا يمكن لذاك
الرجل ولا الزواج منها مجدداً ! "

تنهدت المقابلة لها بحزن ولم تعلق بينما قالت مايرين نيابة عنها
وبملامح متألمة بسبب ذكرى ما حدث

" ليجيرنا الله من أفكاره فلازال جسدي يرتجف كلما تذكرت حين
طلب من أويس أن يتزوج بي حين أنكر بأني شقيقته وهدده بأن
يفعلها أو قتله ، ولولا دخول يمان حينها لا أعلم ما مصيري الآن
وأنا أمام الناس زوجة لابن من جعلوه يعترف بأنني ابنته ! "

توجه نظر والدة أويس نحوها وقالت بملامه مشدودة وكأنها
تخفي غضبها بالقوة

" لأنه يعلم يقيناً بأنك لستِ ابنة لعبد الجليل رحمه الله "

لمعت الدموع في عيني مايرين حينها وقالت بأسى تنظر للعينين
التي تحدق بها ولا تراها

" أقسم بأني على استعداد لأن أموت في سبيل تبرئته أمام الناس
وأماكم أنتم عائلته وإن كنتم متيقنين من براءته "

تنهدت حينها الواقفة أمامها متمتمه بحزن

" الله قادر على فعل ذلك ولن يصعب عليه "

غمزت لها حينها حوراء في صمت لتنهي الحديث في أمر زوجها
المتوفى ذاك كي لا تحزناها في يوم زفاف ابنها واليوم الذي
انتظرته لأعوام وقالت تشير برأسها يميناً

" هيّا تعالي معي ننظر ما فعله العريس بالمطبخ وما ينقصه
من ترتيب "

ابتسمت لها مايرين وتبعتها ما أن تحركت قائلة

" سأكون سعيدة بفعل هذا بالتأكيد "

وما أن دخلت المطبخ وقفت تنظر له مشدوهة ، صحيح أنها رأت
التغيير الجذري في المنزل الطيني القديم هذا منذ دخلته لكنّها لم
تكن تتخيل أن يكون المطبخ عصرياً هكذا ! الخزانات المعلمة
خشبها اللامع بدا وكأنه مرآة زاد جماله قطع البورسلان التي
كانت تغطي الجدران فشعرت وكأنها واقفة في مطبخ أحد
القصور ! وعلمت حينها شدة تعلقه بوالدته تلك درجة أن يغير
منزلهم القديم بهذا شكل فقط كي لا يغادره هو وأرض والده نزولاً
عند رغبتها ! نظرت ناحية حوراء التي أخذت منديلاً وبدأت
بمسح الغبار الغير مرئي أساساً عن قطعة الرخام الممتدة بجانب
المغسلة الجديدة اللامعة وقالت باستغراب

" سمعتك قبل قليل تنادين والدة أويس بأمي ! "

قالت حوراء مبتسمة تتابع عملها مولية ظهرها لها

" أجل فهي مرضعتي وأويس شقيقي من الرضاع "

أشرق حينها وجه مايرين بابتسامة صادقة لكنّها سرعان ما
اختفت ما أن استدارت نحوها وقالت تقتل كلماتها قبل أن تفكر في
قولها بينما كانت نبرتها حزينة متأسية

" لا تسعدي بهذا فهو لا يعترف بي ويكرهني مثلما يكرهك ويكره
أشقائي ووالدتي "

تنهدت مايرين بحزن متمتمه

" لا حول ولا قوة إلا بالله "

ولاذتا بالصمت تراقبها وهي تنهي عملها ولأنها فرصتها التي قد
لن تتكرر مجدداً ليس فقط لأنها قد لا تلتقيها هنا بل لأنها يبدو
ستتزوج وتبتعد عن هذا المكان نهائياً قالت تنظر لقفاها

" هل أراضيكم هنا فقط أم في مدن أخرى من الجنوب ؟ "

وتحركت كالملسوعة ناحية الثلاجة الضخمة وفتحت بابها لتبدو
وكأنها أحاديث عادية وليست تحقيقاً معها حتى تصل للسؤال الذي
تريد طرحه عليها فهي ابنتهم ومؤكد تعلم الكثير عن ذاك البئر ،
كانت حواسها جميعها معها خلفها وعيناها تتنقل في الثلاجة
المليئة بما لذ وطاب وقد وصلها صوتها مختلطاً بضحكتها

" هل تصدقيني إن قلت بأنني لا أعلم حتى عن عددها هنا "

ضحكت أيضاً وقالت تدّعي ترتيبها لعلب المشروب الغازي

" وضعكما يشبه وضعي إذاً ، كنت مجرد خادمة عند زوجة
شقيقي وظيفتي هي الطهو والتنظيف وحين تغير وضعهما
المادي ولم يعد لهما بي حاجة تركاني خلفهما مرمية في
الشارع وذهبا "

قالت آخر كلماتها تلك ونبرتها تتبدل للأسى الحزين بينما قالت
حوراء وهي تفتح أحد أبواب الخزانة في الأعلى تتفقدها

" كتب الله لنا أن نكون في عائلات تعتبر المرأة مجرد جارية "

تنهدت مايرين بحزن وأغلقت باب الثلاجة وكانت تريد أن تقول

( وكيف يحدث هذا معكما ووالدتكما على قيد الحياة ! )

لكن ثمة ما هو أهم بالنسبة لها من تفسير تصرفات تلك العائلة
المختلة عقلياً ولا تريد أن تبتعد أحاديثهما عن أراضيهم كي لا
تشك في أسباب أسئلتها تلك فقالت تنظر لها تفتح الأبواب وتغلقها
الواحد بعد الآخر

" أذكر في يوم ما تأخر يمان وبسبب انشغالي عليه خرجت أبحث
عنه وضعت في أرض أويس وركض أحدهم خلفي ودخلت
أراضيكم بالخطأ ، كانت شاسعة ولا تنتهي حتى وصلت لبئر
مهجورة صوت صفير الريح فيها يبعث الرعب وهو ما جعل
مطاردي يمسك بي وكان أويس "

ضحكت حوراء وهي تستدير نحوها بينما لم تستطع مايرين فعل
ذلك وهي تراقب رد فعلها التي كانت معاكسة تماماً لذاك الفتى
الزهري حين ذكرت أصوات البئر أمامه وتبدل ملامحه الذي يدل
على أنه يعلم شيئاً قوياً عنه ، لكن هذه لا يبدو ذلك عليها مطلقاً
ومن الواضح أنها وشقيقتها مغيبتان تماماً عن كل ما يحدث
ويفعله أشقائهما !
اكتتف مايرين بابتسامة عابسة طفولية كي لا تشك بأمرها وهي
تواجه ضحكات التي قالت

" ما هذا الحظ الذي تمتلكينه ! "

حركت كتفيها متنهدة بأسى وتمتمت

" ماذا سأفعل مع حظي التعيس ؟ كنت مختبئة لكن الخوف
أخذني لهلاكي "

استدارت حوراء حينها نحو الخزانة مجدداً قائلة بابتسامة

" ويبدو أن الخوف السبب أيضاً فالريح لا تصدر أصواتاً في
بئر مهجورة "

تبدلت ملامح مايرين للترقب ورمت بطعمها الجديد قائلة

" لا بل متأكدة من ذلك "

استدارت نحوها مجدداً ما أن أغلقت الباب الصغير المرتفع وقالت
تواجهها وجهاً لوجه هذه المرة

" أرض منزلنا فيها بئران واحد منهما فارغ وقديم ولم يسبق
أن سمعت أصوات الريح فيه لا ليلاً ونهاراً "

شعرت مايرين بتوترها يزداد بسبب خوفها من أن تشك بها فقالت

" هو الخوف إذاً "

حركت حوراء كتفيها قائلة

" يبدو ذلك "

وبينما عادت لما كانت تفعله لم تستطع فعلها مايرين وأن تتخطى
الأمر والأفكار تطاردها وتحاربها حتى شعرت بالألم في فكيها من
كثرة ما كانت تمنع نفسها من التحدث ، وتغلب عليها تهورها
المعتاد نهاية الأمر وقالت بترقب مريب

"كم بئر لديكم في كل أرض ؟ وهل جميعها فيها واحد مهجور ؟"

وكم حمدت الله أن حوراء لم تنظر ناحيتها حينها بينما انشغلت
بإعداد صينية تبدو للعروسين وقالت وهي تضع الكؤوس فيها

" القديم منها فقط "

كانت ستتحرك من مكانها وتخرج قنينة العصير لتساعدها وتبعد
الشبهة عن محاولاتها الملحة لتعلم عن الأمر لكنّها توقفت
متسمرة مكانها بسبب التي قالت وأصابعها تصنع عقدة من
شريطة حمراء حول ساق كأس الكريستال

" قد تكون قدماك أخذتك ناحية البئر الملعونة "

قالتها هكذا وبكل بساطة ولا تعلم عن حال التي اتسعت عيناها
على أقصاها وشعرت وكأنها تعيش تلك الليلة من جديد بينما
همست بصعوبة

" ملعونة ! "

قالت التي لازالت مشغولة بما تفعل

" نعم ولا أحد يقترب منها وتسببت في حوادث عدة حتى قرر
شعيب ردمها "

حاولت مايرين تنظيم أنفاسها المذعورة ولم تعد تهتم فعليّا
لتداركها أمامها وقالت بترقب وتوجس

" وما سبب لعنتها ؟ "

نظرت لها حوراء حينها وقالت ولم يبدو عليها الاستغراب
لملامحها المتقلبة وكأنها داخل ذاك البئر الآن

" يقال بأن أحد العمال قديماً سقط ومات فيها من الجوع
والعطش حتى كانت آثار أضافره محفورة في جداره ومنذ ذلك
الوقت أصبحت تسكنها الأشباح وتقتل كل من ينزل له "

لامست يد مايرين صدرها وقالت ونظرات الخوف لم تفارقها

" ولما ردمها الآن وليس من قبل ! "

توجهت حوراء حينها ناحية الثلاجة قائلة

" لا أعلم ... "

وتابعت وهي تفتح بابها وتنظر داخلها

" هي ومنزل جدي القديم لا أسأل عنهما ولا مجرد السؤال فأنا
أخشى التحدث عن الأشباح فكيف برؤيتها "

وكان ذاك ما جعل ضربات قلبها تتوقف تماماً وتبعتها نظراتها
المتسعة وقد عادت نحو الطاولة تحمل قنينة العصير فيها
وهمست بعدم استيعاب

" منزل جدك ! "

كانت حوراء ستتحدث بينما تسكب العصير في الكأس لكنّها
توقفت بسبب والدة أويس التي دخلت المطبخ قائلة

" ماذا حدث معكما ؟ "

وكان الدخول الأسوأ بالنسبة لمايرين التي شعرت بإحباط مريع
وقد انشغلت حوراء مع التي قالت لها مبتسمة

" أوشكنا على الانتهاء "

تحركت حينها والدة أويس ناحية آلة إعداد القهوة وكأنها ترى
مكان خطواتها وليست ضريرة بينما ابتسمت قائلة

" هيّا إذاً سأعد لكما كوب قهوة وتتناولان حلويات زواج إبني "

قالت حينها حوراء مبتسمة

" هذا ما جئت لتذوقه أساساً "

وضحكتا معاً وانتهت فرصة مايرين للحصول على أي معلومات
منها تستفاد بها أكثر في حل لغز ذاك البئر المجهول ، وها هو
لغز آخر غيره ظهر أيضاً وهو منزل قديم لجد لهم لم تسمع عنه
سابقاً وقصته يبدو مرتبطة بذاك البئر والصوت الذي يخرج منه !
هذا إن لم يكن شبح ذاك الرجل الميت فيه قديماً هو السبب
بالفعل ! وهو ما جعلها تجفل بسبب تلك الفكرة وقالت تنظر ناحية
باب المطبخ

" أنا أعتذر عليّا المغادرة فقد يصل يمان في أي وقت ولا يجدني
في المنزل ، كما أني تركت الصغيران نائمان "

قالت حينها والدة أويس بحزن

" تمنيت أن تكونا هنا في استقبالها معي كي لا تدخل المنزل
وكأنها ليست عروس "

ظهر الحزن على ملامحها أيضاً وقالت

" لنتمنى من الله أن تتغير نظرته ناحيتنا ما أن يتزوج "

تمتمت حينها حوراء بحزن " آمين يا رب "



*
*
*
غادرت سيارته خلفهم وعيناه لا تفارق السيارة البيضاء أمامه
لأنه لن يثق أبداً في أفعال وقرارات جده حيالها ، والدليل ها هو
أمامه فقد ألبس رجال وهميين ملابس الشرطة القضائية فقط
ليجعله يخضع لأوامره ، ولولا أنها من وافق هذا وطلبه ما كان
ليتركهم يأخذوها وإن خالف القانون الذي يطبقه على الجميع .
أدار المقود بحركة سريعة مع استدارة سيارتهم لتدخل شارع
فرعي وهو ما جعله يغضن جبينه مستغربا ما أن سلك ذات
الطريق الذي سلكه سابقاً حين قرر زيارة المصح الذي كانت
نزيلة فيه ! فهل سيعيدها جدها لذات المكان ؟!

ما أن توقفت سيارتهم أمام المبنى ذاته بالفعل أوقف سيارته في
الموقف المقابل ونزل منها وتبعتهم خطواته حتى أصبح يسير
خلفها هي تحديداً وكأنه يخشى أن تختفي فجأة من أمام عينيه !
وكانوا هم ذاتهم خمسة أشخاص جده ورجال الأمن المزيفين
الثلاثة وزيزفون .

أو هكذا خيل له فما أن دخلوا غرفة مكتب مدير المصح حتى نظر
أحدهم لضرار ومد له بورقة وقال

" نحن نحتاج لتوقيعك هنا لنسلمها للمحكمة "

وكان ذاك ما جعل نظرات وقاص تتسع وهو يراقب ما يحدث
أمامه وجده يأخذ الورقة منه ويتوجه بها ناحية الطاولة ويضعها
عند طرفها ويوقع أسفلها فسرق نظره ناحية زيزفون والتي كانت
وكالمعتاد في وجود ذاك الجد لا تخص أحداً غيره بنظراتها التي
إن كان لها أن تقتل لقتلته بها .

وما أن سلم ضرار الورقة لذاك الرجل حتى غادروا ثلاثتهم وفي
صمت بينما لم يكلف نفسه عناء النظر ناحية حفيدته وعيناها
الناطقة كراهية وحقد ، ولا حتى حفيده ونظراته المستهجنة
الغاضبة بل نظر ناحية الواقف خلف مكتبه وقال بجمود

" أعيدوها لجناحها السابق وليتكفل .... "

وتوقفت كلماته بسبب خطوات وقاص الذي اقترب منهما ، بل
بسبب كلماته ما أن قال بأمر حازم يقاطعه

" لن يتكفل أي طبيب بحالتها مجدداً "

وما أن استدار ضرار ناحيته وبنظرات غاضبة واجهه بأخرى فهم
منها سريعاً تهديده الصريح والواضح بأنه أمام خيارين لا ثالث
لهما إمّا أن يفعل كل ما سيطلبه أو سيخرجها من هنا وبالقانون
ذاته الذي حاربه به ، لكنّه رغم ذلك لم يصمت ولم يستسلم وهو
يقول بضيق

" قلت وأكرر أبعد جنونك وتعلقك المرضي جانباً "

شد حينها وقاص قبضتاه بجانب جسده بقوة وخرجت كلماته
حانقة حين قال

" يمكنك اعتباره ما تريد وقولها أمام الجميع في كل مرة فلن
يثني أحد على ما أريد وأفعل ولن يقرر أحد مصيرها وما سيكون
عليه وضعها هنا غيري "

وبينما كانت نظرات التحدي تشع من عيني جده تابع دون اهتمام
له بينما أخفض صوته كي لا يصل للواقف هناك خلف مكتبه
يراقب في صمت

" أو قسماً وتعرفني لا أقسم عبثاً أن أخرج بها من البلاد ولن
يجدنا أحد بعدها وإن شققتم الأرض لإخراجنا منها "

وهو ما جعل ضرار يصمت تماماً لأنه يعرف معنى أن يقسم بالله
وهو من رباه على هذا ، ولأنه تعمد خفض صوته وهو رجل
قانون يعلم بأن أي شيء قد يكون ضده في المحكمة يوماً ما أي
أن ما يقوله يقصده تماماً ، نقل وقاص نظره منه للواقف هناك
وقال بينما أشار برأسه ناحية النافذة الزجاجية المطلة على حديقة
صغيرة وساحة شاسعة فارغة تليها

" تلك المساحة هناك كم تضع لها سعراً لبيعها لي "

كانت نظرة مصدومة وجهها نحوه قبل أن ينظر لضرار المتمسك
بصمته وكأنه ينتظر تعليقاً منه ! وما أن نظر نحو وقاص مجدداً
قال بجمود

" لا شيء هنا للبيع ! "

قال وقاص حينها بضيق

" قلت ضع الرقم الذي تريد أم أنك لست المالك الفعلي
لهذا المصح "

ونظر ناحية جده نظر فهمها ذاك من فوره وهو ما توقعه وبأن
عقل المحامي داخله لن يفوته تفسير ذلك خاصة وهو يعيدها
للمكان ذاته الذي قدم للمحكمة شهادة تؤكد عدم اتزانها نفسياً
وعقلياً في السابق ، ولأن نظرات ضرار لم تتغير كما لم ينطق
بأي كلمة عاد وقاص بنظره نحو الواقف هناك وكأنه يتحداه أن
ينكر كل هذا ، وكل ما فعله ذاك أن سرق نظره نحو ضرار والذي
أشار له برأسه مغمض عينيه ليوافق على كل ذلك فعاد بنظره
ناحية وقاص وقال

" هل أفهم الغرض من هذا أولاً ؟ "

قال من فوره وببرود قاتل

" أنا من سيحدد المكان الذي ستقيم فيه في الوقت الحالي
وكيف يكون "

ولأن الواقف أمامه لم يبدي أي تعليق تابع من فوره

" ستتكفل شركة متخصصة ببناء قسم خاص بها وسأتفق مع
المهندس على رسم خارطته وسأدفع ثمن كل هذا وسيبقى مملوكاً
للمصح بعد خروجها "

وشدد على آخر كلمات قالها ينظر بطرف عينيه لجده الذي كان
ينظر له بصمت ليعلم بأنها لن تبقى هنا طويلاً وأن لا يفكر في
تركها كالسابق لأعوام حتى يتم غلق القضايا مجدداً ، ولأن جده
ذاك تمسك بصمته السابق بل ، ولم ينتظر منه أي تعليق فالمهم
لديه أن يعلم بهذا عاد ونظر لمدير المصح وتابع بنبرة جادة
حازمة تشبه ملامحه

" أما الآن وقبل حدوث ذلك ستكون في مكان مستقل ولن تحتك
بباقي المرضى لأنها ليست في وضعهم ولن تعيش شعور أنها
واحدة منهم وتدمروا نفسيتها "

توقف لبرهة وإن كانت نظراته لم تترك العينان المحدقة فيه
بصمت وكأنه يختبر تأثير ما قال عليه ، وتابع حين لم يبدي أي
رد فعل وبكلمات آمرة هذه المرة

" المهدئات ممنوعة منعاً باتاً عنها وإن تم حقنها بها سأقاضيكم
بهذا ، وفي حال احتاج الأمر لذلك كل ما ستفعلونه هو الاتصال
بي وأنا من سيحدد حاجتها له "

كانت ملامح الواقف خلف الطاولة السوداء اللامعة بدأت تتغير
يزم شفتيه بقوة ليتبين له التأثير السلبي لكلماته عليه ، وتحركت
شفتاه نهاية الأمر متمتماً ببرود

" هل ثمة أوامر أخرى ؟ "

كانت كلماته تلك تعبر عن عدم رضاه واقتناعه أكثر من كونه
نزولاً عند رغباته لكنّه لن يهتم لكل ذلك لذلك تمتم أيضاً
وببرود أشد

" أجل .. "

وتابع من فوره وحاجباه ينعقدان بقوة وبكلمات حازمة

" أدويتها في حال رفضت أخذها لا أحد يجبرها على ذلك ، هي
من تقرر إن كانت بحاجة لها أم لا "

ولاذ بالصمت حين قال كل ما لديه وما لن يتنازل عنه أبداً أو لن
يتركها لديهم ليعيدوها لنقطة البداية بسبب سلوكهم السيء
ناحيتها وكأنها مجنونة بالفعل ، لكن ذلك يبدو بأنه لم ينل إعجاب
من قال خارجاً من صمته مجدداً وبنبرة متضايقة

" أنا كطبيب نفسي لا يمكنني استيعاب ما تقوله الآن ! "

وهو ما جعل وقاص يشتعل أيضاً وقال بضيق أشد

" زيزفون ليست مريضة نفسياً هي متعبة فقط وشتان بينهما ،
كما أني أعرف نوع النوبات التي تنتابها وكيف استطاعت تخطيها
وحيدة وما ستفعله تلك الحقن بها وما لا ترونه أنتم وإن كنتم
تدركونه "

كانت كلماته تلك بمثابة إتهام واضح لهم وهو ما جعل ذاك الطبيب
يقول باستياء

" من يراها حين دخلت إلى هنا مكتفة اليدين وحين غادرته شابة
شبه معافاة تماماً لن يستوعب ما تقوله الآن "

لكنّ سيل الحقائق ذاك لم يؤثر شيئاً في مزاج ولا أفكار الذي قال
بأمر حازم

" ذاك كان في الماضي أمّا الآن فهي ليست بحاجة لكل ذلك فلا
تعاملوها كالجميع هنا لأنها ليست واحدة منهم "

وتابع من فوره دون أن يترك له المجال ليعلق على ما قال

" سأزور المكان باستمرار كما أن الشركة المعمارية ستبدأ عملها
هنا في الغد "

وكانت تلك بمثابة نقطة وضعها نهاية أسطر أوامره تلك كي لا
يفكر في مناقشتها أو رفضها ، ورغم كل ذلك قال ذاك الطبيب
معترضاً وإن كان صمت ضرار يوضح موافقته على
ما يقول حفيده

" أنا أتفهم كل ما تقوله الآن لكنّها أيضاً كانت نزيلة عندنا
لسنوات عدة وأعلم جيداً عن حالتها وإن لم أكن الطبيب المشرف
عليها ، كما أنّ عملنا هذا قمنا بدراسته لأعوام طويلة فكما لا
تقبل أنت أن أملي عليك أوامر في مبنى النيابة وفيما تفهمه أكثر
مني أنت أيضاً ملز... "

وتوقفت كلماته فجأة ينظر مصدوماً للذي تركه وما يقول وكأنه لا
يهتم بأي حرف منه وتوجه نحو الواقفة قريباً من الباب لازالت
تتمسك بالصمت الذي لم تغادره أبداً وكأنها ليست من يتناقشون
في أمرها ووضعها في المكان الذي لم تكره يوماً مكاناً مثله
وأمسكها من يدها وقال وهو يديرها نحو الباب مغادراً بها

" لا مكان لها هنا إذاً "

" وقاص توقف "

كان ذاك صوت جده الصارخ بأمر وهو ما توقعه ولم يستغربه أبداً
بل وتوقف واستدار نحوه بينما كان الحديث للطرف الثالث وهو
مدير المصح الذي قال مستسلماً وإن بعدم اقتناع ولا رضا

" حسناً سنفعل ما تريد لكنّنا لسنا مسؤولين عن أي ضرر قد
تتعرض له وتسببه لنفسها "

نظر له وقاص حينها وقال بضيق ويده تترك يدها

" قلت بأنها ليست مجنونة ولن تتسبب بهذا لا لنفسها ولا لأحد"

عاد الطبيب للتكرار مجدداً وببرود قاتل

" أنا كنت أريد بما قلت إخلاء مسؤوليتي فقط كما أني أهتم لما
فيه صالحها أيضاً "

كانت نظراته القوية موجهة لعيني وقاص وكأنه يذكره مجدداً بأنه
يتدخل فيما ليس من اختصاصه بينما كان الحديث من الطرف
الصامت طوال تلك الزوبعة وإن كانت تدور حولها وهي زيزفون
التي قالت بضيق تنقل نظرها بينهما

" إن انتهيتم من ممارسة أبوتكم على الطفلة الواقفة دون أخذ
رأيها فأنا متعبة وأريد أن أرتاح "

أشاح وقاص بوجهه للجانب الآخر متنهداً بضيق بينما لم يعلق
الرجلان الآخران وكل ما قام به ذاك الطبيب أن ضغط بإصبعه
على أحد أزرار هاتف مكتبه وما هي إلا لحظات وانفتح الباب
كاشفاً عن فتاة في منتصف العشرين من عمرها ترتدي ملابس
مخصصة بذاك المصح دمجت لون الغرفة باللون الزهري وقال
الطبيب موجها حديثه لهم

" القسم الخاص بها لازال مغلقاً ... "

" لا تعيدوها له "

توقف فجأة بسبب كلمات وقاص الآمرة وهو ما جعل ذاك
الانجليزي يتأفف بضيق يحاول تهدئة نفسه ولأن السيد الفعلي
للمكان لم يتحدث قال موجها حديثه للممرضة الواقفة عند
الباب المفتوح

" حسنا أوصليها للقسم الرابع في الممر الشرقي ، الغرفة رقم
ثمانية "

ووجه نظره نحو وقاص وقال من قبل أن يعترض

" لا أماكن شاغرة غير جناحها السابق سوى الغرف "

ولأن وقاص لازال على رفضه لأن تعود للمكان الذي سيذكرها
بالفعل بما مرت به والسنوات التي قضتها هنا لم يعترض ، ولأنه
ثانياً ثمة مكان آخر سيكون لها هنا قريباً تحرك بها من هناك
يرافقهما ، وما أن أغلقت الممرضة الباب خلفهم حتى نظر
الطبيب ناحية ضرار وقال بضيق

" حفيدك ذاك يزيد الأمور تعقيداً بما يفعل ويقول "

قال ضرار بجدية

" لا يهم ألمهم أن تكون هنا "

تبدلت نظرات الطبيب للاستغراب وقال

" أنت موافق فعلياً على ما قال ! "

قال ضرار مباشرة

" ليفعل ما يريد ولا يعارضه أحد ألمهم أن لا يخرجها من
هذا المكان "

وتابع موضحاً وجهة نظر حفيده ذاك

" وقاص هو من لازمها حين تعرضت لنوبات نفسية سابقاً ويعلم
كيف استطاعت تخطيها لذلك لا يمكننا معارضته ولا مناقشته في
هذا كما أنني لا أريد أن يفسد الأمر ويخرجها من هنا "

أومأ الوقف هناك برأسه موافقاً وإن لم يظهر عليه أي اقتناع لكنّه
صاحب المكان وإن كان يسجل كل شيء باسمه تجنباً لرفض
القانون شهادة مستشفى تابع لهم ، لذلك لا يمكنه معارضة كل
هذا وكان خياره الوحيد الصمت بينما قال ضرار بهدوء هو
أقرب للبرود

" ولا تقلق لن أحملك مسؤولية أي أمر يكون سببه قرار منه
سوى خروجها من هنا ، هذا ما لن أغفره وأتساهل فيه أبداً "

وكان التهديد واضحاً نهاية كلماته تلك وهو ما جعله يقول وبتأكيد

" كن مطمئناً بهذا الشأن "

*
*
*
ركضا لمسافة طويلة حتى نال التعب منهما ولم يعد يصلهما
صوت ركض ذاك المخلوق الضخم وهو ما جعلهما يتوقفان وكل
واحد منهما يلتقط أنفاسه ويداه تمسكان بركبتيه منحني الظهر
وقال رواح من بين أنفاسه اللاهثة

" يا إلهي كدنا نموت وينتهي أمرنا "

استوت حينها ساندرين واقفة وصرخت فيه بغضب

" بلى وهو ما سيحدث الآن يا أحمق فقد فقدنا مكان المجموعة
وحقيبتا الظهر أيضاً ولا طعام ولا ماء لدينا و... "

وتوقفت كلماتها تنظر بعينين متوجسة للدب الذي تسلل جسده
من بين الحشائش الطويلة وهو ما جعل رواح يركض نحوها
قائلا بغضب

" تباً لحماقات النساء ها هو صوت صراخك أرشده على مكاننا "

وشدها من يدها يركض بها في الاتجاه الآخر متجاهلاً صرختها
حين قالت

" انتظر يا غبي ثمة جرف هنا "

وكان قد فات الأوان على ذلك وجسديهما ينزلقان على التربة
المنحرفة صارخان حتى تحول الأمر لتدحرج جسديهما عليه ،
وبالرغم من أنه لم يكن مرتفع كثيراً لكنّه كان منحدرا ولا يمكن
التوقف في منتصفه ولا الصعود منه حتى أصبح جسديهما
مرميان أسفله دون حراك وكأنهما ميتان كل ما يتحرك فيهما
صدريهما بسبب الأنفاس القوية المتألمة ، وكان رواح أول من
تحرك وحبى على ركبتيه ناحية التي كانت مرتمية على ظهرها
تنظر للسماء فوقها وكأنها محنطة حتى تحولت تلك الصورة
لملامح رجولية تنظر لها عيناه باستغراب وهو ما جعلها تصرخ
في وجهه بغضب

" كان أسوأ يوم في حياتي هو اليوم الذي التقيتك فيه "

بينما قابل هو كل ذلك بابتسامة وقال مبتسماً أيضاً رغم الخدوش
التي باتت تزين وجهه

" لا بأس المهم أنك لازلت موجودة في حياتي "

دفعته وهي تجلس تشتمه بهمس وما أن فكرت في الوقوف
صرخت وهي تجلس مجدداً تمسك ساقها وملامحها تعتصر ألماً
فوقف واقترب منها قائلاً بقلق

" ما بك ! هل كُسرت ساقك ؟ "

وجلس قربها مستنداً على قدميه بينما لامست أصابعه ساقها
المغطى ببنطلون جينز أزرق اللون قد تمزق قماشه بالعرض
ناحية ركبة ساقها تلك وقالت تبعدها بحركة بطيئة بسبب الألم
فيها بينما نظرها عليها

" يبدو أنه التواء في كاحلي فقط "


وهو ما جعله يضيّق عينيه وقال ينظر لعينيها التي كانت
تنظر لكاحلها

" وما يدريك بأنه مجرد التواء ؟ قد يكون كسراً فلا تتحركي "

نظرت له حينها وقالت بضيق

" أنا أعلم منك بهذا لأنني سأصبح طبيبة قريباً ولست طائرة تحدد
أنت ما أصابها "

لوى شفتيه في صمت يستقبل إهانتها تلك يمسك نفسه فقط عن
الضحك على وضع شعرها الذي لا تراه وهو مليء بالعيدان
والحشائش بينما تابعت هي مهاجمته قائلة بضيق

" ثم أهذا ما تتمناه لي ؟ أن تنكسر ساقي وأبقى هنا حتى أموت "
اتسعت عناه مصدوماً وصرخ فجأة ينكر اتهاماتها

" بقائك معناه بقائي وموتنا معاً إن كان عقلك غفل عن هذا "

كانت ستتحدث لكن توقفت فجأة بسبب الحجر الصغير الذي
تدحرج قربهما ومصدره أعلى الجرف الذي سقطا منه فارتفع
نظرهما في حركة واحدة ناحية الأعلى ليقع على الدب البني ذاته
والذي كان ينظر لهما في صمت مريب فنقلت نظرها نحو رواح
وقالت غاضبة

" ها هو صراخك أيضاً جلبه إلى هنا "

نقل نظره منه لها مستغرباً وكأنها لم تكن تصرخ مثله ! قال وقد
تبدل مزاجه فجأة للسخرية

" لا تقلقي لن يغامر بفعلها لنفسه "

قالت بغضب أشد من سابقه

" أجل فهو الذي لا يملك عقلاً لن يفعلها بينما فعلناها نحن "


تغير مزاجه للغضب أيضاً وقال

" هل كان ثمة من خيارات أخرى لديك ؟ "

هاجمته مباشرة أيضاً صارخة

" بلى وكان عليك فعل ذلك بدلاً من الصراخ والهرب "

وتمتمت بحنق وهي تنظر لكاحلها تتفحصه بأصابعها

" يا لك من رجل شجاع ! "

وقف حينها على طوله وقال بضيق يمسك خصره بيديه

" أجل فالشجاعة هي الوقوف في وجه دب قادم نحوك لتصبح
وجبة عشاء له "

نظرت له فوقها وصرخت

" ومن قال بأنه كان ينوي مهاجمتنا أو قتلنا ؟ ما الذي تعلمه
أنت عن سلوك الدببة ؟ "

قال يسخر منها وإن بضيق

" لم أعرف سابقاً أنه ثمة أنثى دب قامت بتربيتك مع صغارها "

وهو ما جعلها تهاجمه مجدداً وبغضب أشد

" توقف عن السخرية مني للتهرب من اتهامك بما صرنا له
فأنا أعمل ضمن حقول منظمة إغاثة ودرسنا عن كل شي يخص
المكان قبل مجيئنا لنتصرف في المواقف المشابهة لكنك لم تترك
لي مجالاً ولا لتخليصنا منه دون أن نفقد طريقنا ومجموعتنا
لننتهي هنا وحيدان "

كان ينظر لها بصمت ولا شيء ليقوله بالتأكيد فتابعت مهاجمته
ترمي يدها جانباً

" كل ما كان علينا فعله هو رفع يدينا والصراخ في وجهه وقت
ظهوره ليضن بأننا عدو أقوى وأكبر منه كما أن الحقيبة كانت
تحوي الجرس الخاص بالدببة ولأننا اثنان وهما جرسان كنّا
سنفعلها بسهولة فالدببة لا تهاجم البشر إلا نادراً "

كور شفتيه بامتعاض فها هو تحول للمتسبب في كل هذا ، وهو
المتوقع منها بالتأكيد فلن تثني عليه أو تشكره فلن تكون ساندرين
التي يعرفها إن فعلتها ، لذلك ابتعد عن الحديث في الأمر لأن
أوانه قد فات ومد يده نحوها قائلاً

" لا نفع الآن من كل هذا هيّا سأحملك على ظهري لنبحث عن
مأوى قريب أو نعثر عليهم فبالتأكيد هم يبحثون عنّا الآن "

كانت سترفض مساعدته لأنه السبب في كل ما صار لها ولأنها
والأهم من كل ذلك ترفض المساعدة منه لكنّها تراجعت فهو سبب
حدوث كل هذا وعليه تحمل نتائجه لذلك مدت يدها وأمسكت بيده
ووقفت على قدم واحدة وهي السليمة فاستدار ليصبح ظهره
ناحيتها ونزل على قدميه قائلاً

" هيّا تمسكي بعنقي "

ولأنها نحيلة ومتوسطة الطول تقريباً ولأنه ممن يمارسون
الرياضة وبانتظام لم يصعب عليه حملها لتصبح فوق ظهره
ذراعاها تحيطان بعنقه ويداه تمسك بساقيها وتحرك يميناً
بمحاذاة الجرف .

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 10-08-24, 09:06 PM   المشاركة رقم: 1777
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 



*
*
*
رافقهما حتى أوصلتها الممرضة للغرفة التي أرشدها لها الطبيب
وما أن فتحت الباب لها دخل يتبعها ونظره يتجول في المكان ،
كانت غرفة واسعة جدرانها مطلية باللون الأبيض وكالمعتاد
النافذة محمية تماماً ولا شيء هنا سوى سرير فردي بملاءة
بيضاء نظيفة وباب حمام يفتح على الغرفة وستار أبيض يغطي
جزء من النافذة الكبيرة والجزء الآخر منه مفتوح .
قال وعيناه تبحث فيها وكأنه لم يحفظها عن ظهر قلب

" ألا خزانة ثياب هنا ! "

قالت الممرضة تنظر له

" لا فالثياب يوفرها المصح ويتم تغييرها يومياً "

نظر لها وقال عاقداً حاجبيه بقوة

" ليست بحاجة لثيابكم التي تصيب المرء بالمرض سأحضر
لها كل ما يلزمها "

تغيّر ملامحها نبأه بتعليقها التالي والذي لم يتأخر عنه طويلاً وقد
قالت بضيق

" لكن سيدي ثمة نظام هنا و... "


قاطعها بحزم آمر

" النظام يسري على مرضاكم فقط "

وما أن كانت ستتحدث وتبدو لا تقل عناداً عن مديرها ذاك قال
بحزم يسكتها

" لا أريد سماع المزيد يمكنك المغادرة .. شكراً لك "

فما كان منها إلا أن تنهدت بضيق وتوجهت نحو الباب وغادرت
مغلقة إياه بقوة دون أدنى احترام لهما وعيناه الغاضبة تنظر
ناحيته وعقله بات يتخيل الحياة الذي عاشتها هنا ولسنوات
فإن كانت الممرضة بهذا السلوك الفض فكيف بالمشرفات
والمسؤولات عن المرضى !
يبدو أن ما يراه في التلفاز حقيقي وأن الأمر يصل بهم للشتم
والضرب ، وليجنب نفسه ألم تصور ذلك لم يسمح لنفسه بسؤالها
عن هذا كي لا يغلق لهم المصح بأكمله ليبرد عن نار قلبه حينها ،
وكل ما فعله ما أن نظر نحوها وكانت عيناها معلقة بالنافذة
المطلة على الجزء الواسع من الفناء الخلفي أن قال بهدوء

" يمكنك النوم وأن ترتاحي الآن ولن يستمر بقائك في هذه
الغرفة أكثر من أيام قليلة "

توجه نظرها له حينها ولم تتحدث أو تعلق بشيء تنظر لعينيه فقط
نظرة هادئة ساكنة لا بل غامضة لم يستطع فهمها ! وبالرغم من
أن قلبه يحترق شوقاً لمعرفة ما حدث وما منحته فرصة الوصول
إليه أخيراً لكنّها متعبة بالتأكيد كما قالت وهي من أخبرته ومنذ
البداية بأنه سيعلم عن خبايا الجرائم في الغد لذلك قال وهو يتوجه
نحو باب الغرفة

" سأكون هنا في الغد .. عمّتِ مساءً "

" خالي بشير هو من قتل شقيقك "

تسمر مكانه ويده تمسك مقبض الباب وشعر للحظات وكأنه يتخيل
أو هيء له أنه سمع ذاك الصوت الهادئ المتوجس ! وهو ما
جعله يستدير نحوها بكامل جسده وقابلتها عيناه المفتوحة على
اتساعها وقال بعدم تصديق

" خالك بشير !! "

توتر أنفاسها ظهر واضحاً من حركة صدرها من تحت قماش
فستانها المصنوع من الشيفون الثقيل يعلو معه وينزل يعاكس
الجمود الذي كان يرتسم في عينيها وزاده اشتداد أصابع يديها
في قبضة واحدة وتحركت شفتاها أخيراً وبنبرة جوفاء متوترة

" أجل هو من فعلها وهددني بفضح أمر القضية السابقة والزج
بإسحاق في السجن إن أنا تحدثت وقلت بأنه من فعلها "

وكانت تلك الحقيقة الأشد عليه من سابقتها وما جعل رأسه يتحرك
في حيرة وضياع وقال أخيراً

" لكن كيف وصل له ! من أين يعرفه و ... "

وقاطع نفسه فجأة ينظر لعمق عينيها وعقله يستجلب صورة ما
وهو ما قرأته جيداً في نظراته تلك وما بادرت لتأكيده قائلة
" أجل هو الرجل الذي كان موجوداً معنا في الحفل ومنعتك من
الذهاب خلفه ومعرفة من يكون "

عاد لتحريك رأسه في ضياع لم يعرفه سابقاً بل وعدم تصديق
بالرغم من يقينه من أنها لن تكذب في هذا ! وترجم لسانه كل تلك
الأفكار ما أن قال

" لكن .. ! هو من ساعدكما سابقاً ! وهو من شهد معك في
المحكمة لإنقاذك !! "

لاذت بالصمت وكأنها لا تملك أيضاً جواب ذلك وهو ما جعله يعود
ويحلل الأمر في صمت وقال فجأة متسائلاً

" هل قتله لأنه أراد أذيتك ! "

رمته بالقذيفة الأقسى من سابقاتها ما أن قالت والألم يرتسم في
شفتاها الساخرة

" بل العكس تماماً ، لقد قتله لأنه دافع عني "

كانت الصدمة الأشد عليه بالفعل وما جعل حدقتاه المفجوعة تبحث
بضياع في عينيها فكيف يكون نجيب الذي لم يتوانى عن أذيتها
يوماً هو من دافع عنها ومات بسبب ذلك بينما من دافع عنها
دائماً هو من آذاها وقتل نجيب لأجل هذا !!
تحركت قدماه نحوها وأمسكها من ذراعيها وقادها نحو السرير
وأجلسها عليه وجلب الكرسي الوحيد في الغرفة وكان بدون حتى
أرجل مجرد قماش مربع الشكل وضعه أمامها وجلس عليه ونظر
لعينيها وقال بهدوء وإن كان رأسه يعج بالأفكار المتضاربة

" زيزفون لن تستطيع قدماي أن تخطو خارج باب الغرفة ولن
أصبر للغد فأخبريني الآن ومفصلاً ما حدث منذ تلك الليلة التي
قُتلت فيها والدتك وزوجها "

كان صمت آخر طويل من ناحيتها وإن لم تترك عيناها عيناه
وكأنها تتعمد تعذيبه بذلك حتى رحمته أخيراً وهمست شفتاها
بتأني

" وسيكون إسحاق بخير ؟ "

على الرغم من السكين القاسي الذي شعر به انغرس في قلبه قال
وبكلمات جادة

" أقسم لك "

ولم تكتفي بتعذيبه بعد كما يبدو والحزن يلون زرقة عيناها ما أن
قالت بكلمات بدا فيها الرجاء واضحاً

" وسيصبح ضمن جيش البلاد وطياراً حربياً كما أراد ؟ "

أنزل رأسه وأغمض عينيه بقوة ولا يعلم كم سيتحمل قلبه
من ألم ؟ ولا يطلب من الله سوى أن يمده بقوة أكبر تمنعه
وإن عن احتضانها وإطفاء نار شوقه ومواساة ما تشعر به
وهي تقول كل هذا ، رفع رأسه نهاية الأمر يواجه واقعه
المرير بينما كانت نظراته تحمل كل معاني الجدية كما كلماته
حين قال ينظر لزرقة المحيط في عينيها

" أقسم أن يحدث هذا وأنا حي أتنفس ، بل وكلاكما معاً "

انحرفت مقلتاه بعيداً عنه حينها وإن لم تبعد وجهها ولم يتحرك
شيء فيها وعادت لتمزيق روحه المعلقة بها وشفتاها تهمس بما
يشبه الحزن

" أنا لا أحلام لدي هو أمر واحد أريده أن يصل شقيقي للمستقبل
الذي أراده وحلم به "

لو أنها تعلم فقط ما تفعله به بهذا لرحمته من سماعه ومن تعذيبه
في كل مرة تقولها أمامه ، ورغم ذلك تمسك بقوته وعاد وقال
بكلمات جادة ملئها عزيمة وإصرار

" ليس ثمة إنسان في الحياة لا أحلام لديه ، وعليك المضي من
أجل تحقيقها "

حركت رأسها في رفض صامت ودون أن تتحدث أو تنظر له وهو
ما جعله يتنهد بعمق وكأنه يحاول تثبيتها وتقويتها لكنّها لم
تساعده في ذلك أيضاً وهي ترفع نظرها لعينيه وتحركت الشفاه
الجميلة مجدداً بينما خرجت الكلمات منها باردة كالجليد

" أخبرتك أنها ماتت هناك في تلك الليلة وذاك المنزل "

ولم تترك له المجال ولا للتعبير عن مشاعره حينها وهي تهرب
بمقلتيها منه مجدداً بينما قالت تسبق أي عبارات تشجيع قد يفكر
في قولها لها تتحدث وكأنها تخاطب ذاك الماضي البعيد وحيدة

" بعد موت عمي كرمة وحين سلمني الزعيم مطر لوالدتي عرفت
حينها معنى حضن الأم ولأول مرة في هذه الحياة ، جدتي كانت
تحبني وعاملتني بحب وحتى زوجة السيد عكرمة أحبتني وكأني
طفلتها لكنّ الأمر كان مختلفاً .. دفئها رائحتها كانت شيئاً لم
أعرفه يوماً ، ولم أتصور أن ذاك الحضن الذي لا يضاهيه شيء
في الوجود سيكون بداية مأساتي التي فاقت كل السوء الذي
عرفته قبل ذلك "

وتبدلت الرقة الغريبة في ملامحها أول كلماتها تلك للغضب الدفين
عند نهايتها ولا تعلم عمّا تفعله بالجالس أمامها ومن كان يجبر
نفسه بالقوة على سماعها في صمت وقد تابعت وعيناها لازلت
تخاطب الفراغ بينما غامتا بغضب خفي

" كان زوجها ذاك يطمح للحصول على أرض جدتي في خماصة ،
أو ذاك ما خيّل لنا فما فعله بنا أسوأ من أن يكون مقابلاً له المال
أو الأرض فهو كان يعاملها بقسوة طوال الوقت ، يضربها
ويهينها ويسبها وهي كانت على عنادها ذاته

( لن تأخذ أرض ابنتي مهما فعلت )

" كنت أكرهه بشدة وكلما سمعت صراخ والدتي وهو يضربها أو
بكائها وحيدة ليلاً يزداد كرهي له ، كنت طفلة لكني رغم ذلك
ترجيتها أن تعطيه ما يريد ليتوقف عن أذيتها وهي كانت ترفض
في كل مرة حتى كان اليوم الذي علمنا فيه بأن الطفل الذي ولد
معي لم يمت كما قيل في مستشفى القرية قبل أعوام بل كان على
قيد الحياة ، وبطريقة ما لا أحد يعلمها وجده أحد أبناء عائلة
غيلوان مرمياً في طريق بلدة أجاويد رضيعاً وتربى وكبر عندهم
كخادم لهم رغم صغر سنه فلم يدرس ولم يتعلم بل لم يعش كأي
طفل في سنه فقد كان ينام في غرفة ضيقة في منزل الأعلاف
القديم مع رائحة التعفن والغبار والحشرات ، لا أعلم أيضاً كيف
وصل له خالي بشير فهو من جلبه لنا لكنّها كانت لحظات غيّرت
كل البؤس الذي عشناه وبكت والدتي كثيراً وهي تحضنه وبكى
هو معها وبكيت أنا لبكائهما "

توقفت كلماتها فجأة ورفعت حدقتاها للذي كانت مشاعره كما
ملامحه تتبدل مع كل مرحلة تحكي له عنها ، ولم يدم ذاك الصمت
طويلاً وقد تابعت تنظر لعمق عينيه هذه المرة

" لكنّ تلك اللحظات السعيدة سُرقت منّا أيضاً فكابوس زوج
والدتي ازداد سوءًا والعائق أمام امتلاكه لكل ما نملكه وحتى منزل
والدتي ومزرعتها بات يبتعد عنه أكثر فبدلاً من الوريث الواحد
أصبح ثمة اثنان بل وذكر أيضاً أي ضاع من بين يديه كل شيء ،
لأنه لا شيء يفسر ما فعل بعد ذلك غير هذا "

كان صمتاً آخر أعقب كلماتها تلك جعل ضربات قلبه تتعالى
وبشكل جنوني عن سابقه ولم يستطع منع لسانه من التحرك
حينها وإن كانت كلمات هامسة بخفوت رافقها الكثير من
التوجس والترقب

" ماذا فعل ؟ "

قالت بهمس خافت

" كان .. "

وعادت وتوقفت مجدداً وتشتت نظراتها عنه وكأنها تحاول ترتيب
الكلمات أو إجبارها على الخروج بينما أنفاس الجالس أمامها
تتعالى في ترقب مريع فهي ليست المرأة التي يحدث معها هذا ولم
يراها تتوتر وتتردد هكذا إلا فيما ندر ! حتى قالت أخيراً ونظراتها
ترتفع لعينيه مجدداً

" أصبح يعذبها بي لتخضع لما يريد "

لا يمكنه وصف ما شعر به حينها سوى التجمد في كل شيء فيه
وحتى عقله ليصل لأقصى مراحل التبلد ونطق سريعاً وكأنه
يحارب تلك الأفكار متعمداً

" يعذبها بك كيف !! "

اعتقد بأن جوابها سيتأخر مجدداً وبأنها ستهرب من عينيه أيضاً
لكن شيء من ذلك لم يحدث وتلك الأحداق الزرقاء الباهتة تنظر
لعينيه وعلى الرغم من توتر أنفاسها الواضح حينها قالت
وبجمود تام

" كان يغتصبني أمامها "

" لااااا "

صرخ بتلك الكلمة بأعلى صوته وهو ينتفض واقفاً والصدمة
والفاجعة أقل تعبير يصف وضعه ، وقد عبّرت عنها الكراهية
والحقد التي ملأت عيناه بالرغم من امتلائهما بالدموع حينها ..
دموع الصدمة ودموع القهر والفاجعة وما أقساها من صورة
لعيني رجل .. رجل يعيش كل تلك الصدمات من أكثر امرأة تعنيه
في الوجود ومن لم ترحمه بذلك فقط حتى أن رأسها ارتفع له
ترفض تحريره من تلك العينان وهي تجرعه الفاجعة تلو الفاجعة
والرصاصة بعد الأخرى بينما فقدت القدرة على تنظيم أنفاسها
مجدداً وارتخى صوتها والمرارة ترتسم في كلماتها وهي تتابع

" حتى أصبحت حاملاً بجنين منه .. من زوج والدتي وأنا في
العاشرة فقط من عمري "

كان يشعر بكلماتها كسوط يجلد جسده دون رحمة وارتفعت يداه
لرأسه يشد شعره بين أصابعه وصرخ بألم

" توقفييي .. أرجوك أصمتي يا زيزفون "

بينما تراجعت خطواته نحو الخلف وكأنه يهرب من ذاك الصوت
الذي لم ترحمه صاحبته وهي تتابع ودون رحمة

" ضربني حتى نزفت ولم يأخذني للمستشفى كي لا يُفتضح أمره
بل جلب امرأة فعلت ذلك بأقسى ما يمكن وصفه وتخيله ... "

وتوقفت فجأة ليس فقط لأن الكلمات اختنقت في حلقها بل وبسبب
الذي أصبح يوليها ظهره يداه مقبوضتان على الجدار أمامه
يضرب جبينه به دون توقف وكأنه يحاول استيعاب كل تلك
الفواجع أو يعاقب نفسه عليها ، ولم يجعلها ذلك تتأخر طويلاً وإن
كانت الدموع ملأت عينيها عند تلك النقطة وتغلب الحزن والمرارة
على صوتها وهي تتابع

" ولم يجعله ذلك يتوقف بل أصبح يفعلها أمام شقيقي "

فتح حينها الباب بجانبه وغادر ليس الغرفة فقط بل المكان بأكمله
حتى أصبح في الشارع ووقف منتصف الرصيف ورفع رأسه
عالياً نحو السماء وصرخ ، صرخ بكل ما تحمله صرخة رجل
مهزوم من معنى وكأنه يحرر الحريق الذي يشعر به ينفجر داخل
قلبه ، صرخ بألم بغضب بكراهية حتى خارت قواه وسقط على
ركبتيه عيناه تنظر للفراغ أمامه وكأنه جثة ميتة دموعه قد
رسمت خطان على وجنتيه وتمنى أن مات قبل هذا اليوم أو أن
أخفت عنه الحقيقة التي ركض خلفها بنفسه ليحصل عليها ، بل
أن مات من قبل أن تولد هي ولم يكن ابنا لتلك العائلة التي شعر
اتجاهها الآن بكره لم يعرفه يوماً وهو من حاول مراراً أن يقنعها
بتقبلهم بل وأن تعترف بهم كعائلة لها وتحبهم ! وهم ليسوا سوى
حفنة مجرمين وكريهين يفترض بهم أن يخجلوا من أنفسهم
ويخفوا وجوههم عن الناس .

كانت عيناه تدمع دون توقف وتنزل دموعه على أرضية الرصيف
ويداها تشتدان بقوة على فخذيه لم يهتم لمن حوله ولا نظراتهم له
وأن ينكسر كرجل أمام نظر الجميع لأن ما يشعر به حينها فاق كل
كبريائه وكرامته بكثير .

وحال التي تركها خلفه هناك لم يختلف كثيراً وهي تحضن ركبتيها
جالسة فوق سرير الغرفة وتدفن دموعها الصامتة فيهم ولأول
مرة منذ أعوام تنهزم أمام نفسها وتبكي وهي في حالة وعي تام ،
بل والمرة الأولى التي تتحدث فيها عن تلك الأمور ، لكنّها ليست
نادمة على هذا وكان عليه أن يعلم هو دوناً عن الجميع لأنه
الرجل الذي يفترض بأنها زوجة له وبأنه الرجل الذي كان يجب
أن تكون يداه أول يدان تلمس جسدها وأول رجل تحمل طفله
وتنام معه ، حتى زواجها من شقيقه ذاك لن تجعل منه ستاراً
لحقيقة ما حدث ولن تخفي الأمر عنه وعليه أن يفقد الأمل فيها
وأن يراها امرأة ناقصة ويبتعد عنها لأنه لا يمكنها عيش ذلك معه
كزوجة ولا مع أي رجل آخر ولم تكذب حين قالت بأنها ماتت في
تلك الغرفة ، عليه أن يواجه الحقيقة القاسية ويفقد الأمل وبشكل
نهائي فحتى تبرئتها وشقيقها من كل تلك التهم أمام القضاء لن
يجعلها تنسى أو تتجاوز ما جعلها يوماً تفقد حتى عقلها وليس
براءتها فقط .

*
*
*
غرس مفتاحه في الباب لحظة أن استدار برأسه نحو الواقفة خلفه
والتي كانت تنظر للفراغ أمامها نظرة لم يستطع قراءة شيء فيها
كما ملامحها وكأنها صورة بلا حياة ! عاد بنظره للباب الذي أدار
مقبضه يوبخ نفسه على مراقبته المستمرة لها وإن كان من باب
الاهتمام والخوف عليها لكنّها ستكره هذا بكل تأكيد وهو من عاش
وتربى معها .
وما أن انفتح الباب ابتسم ودون شعور منه وهو يجد أمامه
آستريا التي كانت متوجهة نحو باب صالة الجلوس يمين الباب
والتي ابتسمت له بل وسارعت لاحتضانه بقوة والتفت ذراعاه
حول جسدها يحضنها بقوة أكبر مغمض عينيه يستنشق رائحتها
التي يعشق ولا يجدها في أي واحدة من النساء ومهما وضعنّ
من عطور .

همست شفتاها بحب وهي تتعلق بحضنه أكثر

" اشتقت لك "

أبعدها عنه حينها وأمسك رأسها وقبّل جبينها قبل أن ينظر لعينيها
وقال مبتسماً

" من يسمعك يظنه عاماً كاملاً قضيته مسافراً خارج البلاد وليس
أسبوع واحد هنا في بينبان ! "

وضحك على رد فعلها وعبوس ملامحها ، ودفعته من كتفه وهي
تجتازه متمتمه ببرود

" ألحق علي أستقبلك كزوجة تحب زوجها "

وما أن ظهرت لها التي كان يخفيها جسده خلفه حتى حضنتها
سريعاً وقبلت خدها وقالت وهي تبتعد عنها

" مرحباً بك يا غسق ، الآن فقط أنار المنزل الكئيب "

وقالت آخر كلماتها تلك تنظر بطرف عينيها لرعد الذي ضحك
بصمت بينما أهدتها غسق ابتسامة صادقة عبّرت عن امتنانها لها
دون حديث وتولى رعد ذلك قائلاً وهو يستدير نحوها

" هي لم تأكل شيئاً منذ الصباح فأثبتي صدق كلامك بعشاء
يجعلها تأكله بأكمله "

نظرت ناحية غسق وقالت مبتسمة

" بكل تأكيد فكم غسق لدينا ؟ هي واحدة فقط "

تحدثت حينها غسق وطيف ابتسامة ذابلة يزين شفتيها

" شكراً لك آستي أنا لست جائعة فلا تتعبي نفسك "


اختفت الابتسامة من وجه آستريا وقالت

" كيف يكون هذا ! هل تتركي طفلك يوم كامل بلا طعام ؟!
هو يحتاجه إن كنت أنتِ لا تحتاجينه "

قطع كل حديثهم ذاك بل وسرق نظر ثلاثتهم النازل من السلالم
بخطوات راكضة وهو الكاسر والذي ما أن وصل للأسفل حتى
ركض نحوهم بل نحو هدف واحد تحديداً وهو غسق التي
استقبله حضنها وقد أحاطتها ذراعاه وارتفعت يدها تحضن رأسه
تغمض عيناها بحزن وحنان تشعر بجزء من الحياة دبت في
عروقها وجاهدت دموعها بالقوة فلا زالت مشاعرها ذاتها ومنذ
طفولته كلما ابتعدت عنه وركض لحضنها تشعر بأنها تحضن
شقيقها الذي أفقدتها الحياة إياه في أوج احتياجها له .

قال بحزن ورأسه ينام على صدرها يحضنها بقوة

" اشتقت لك أمي ، لا تفعليها بي وتبتعدي مجدداً "


مسحت يدها على شعره بينما قالت بجمود يعاكس مشاعرها
حينها

" أنت رجل الآن يا كاسر لا تتصرف كالأطفال "

وهو ما جعل رعد واستريا يضحكان فرمقهما بطرف عينيه ولازال
ينام في حضنها وقال يشد ذراعيه حول خصرها أكثر متعمداً

" في وجودك واحتياجي لك سأبقى طفلاً وإن بلغت الستون عاماً"

كان يريد الانتصار عليهما بما قال لكنّ الأمر لم يزد إلا سوءاً وقد
ضحكا معاً بينما قال رعد بضحكة ينظر لآستريا

" يمكنني تخيل ذلك عجوز يركض لحضن والدته ويبكي ليلاً
لأنه لم يراها قبل أن ينام "

وعادا للضحك مجدداً فابتعد عنها وقال ينظر لهما بضيق بينما
يمسك خصره بيديه

" جميعنا يتمنى هذا وإن كان لا يتحدث عنه "

وكان يضيق عينيه وهو يتنقل نظره بين عينيها ويعلم بأنه أصاب
الحقيقة وصمتهما الدليل الواضح وإن لم تغادر الابتسامة
وجهيهما ، وعاد ونظر ناحية غسق ما أن قالت

" كيف هي دراستك ؟ "

تنهد بأسى وقال

" متوقفة في الوقت الحالي ومنعونا أنا وتيما من الذهاب
للمدرسة حتى تهدأ أوضاع البلاد "

تحركت حدقتاها الواسعة في المكان وسألت عمّا كانت تمنع نفسها
عنه منذ دخلت

" لم تأتي معك ؟! "

قال يحرك رأسه

" لا فوالدها .... "

وتوقفت كلماته ما أن لمح بطرف عينيه أصبع آستريا التي كانت
تشير له كي لا يخبرها بالأمر فقال سريعاً

" قالت بأنه عليها إخباره أولاً "

أبعدت غسق حينها نظرها عنه تسدل جفناها الواسعان على
عينيها ولم تعلق فتقوست شفتاه بحزن وعاد ونظر ناحية آستريا
التي تنهدت تحرك رأسها وكأنها توبخه بتلك حركة لأن كذبته تلك
من الواضح أنها فشلت فشلاً ذريعاً فرفع كتفيه بقلة حيلة وقال
ينظر حوله وكأنه يهرب بذلك من فعلته

" هل علمت عمتي ورماح بوصولكم ؟ "

قالت آستريا

" لا لم يخبرهما أحد ، رماح في غرفته أما عمتي جويرية ما أن
صلّت العِشاء قالت بأنها تشعر بالنعاس وستنام "

قال رعد ينظر نحو غسق التي كان نظرها معلّق ناحية ممر غرفة
رمّاح وكأنّ قلبها يذهب إليه وهي واقفة مكانها

" ستراهما غداً هي متعبة من طول الطريق وعليها أن ترتاح "

أبعدت نظرها عن ذاك المكان وقالت تنظر للواقفة قربها وبنبرة
هادئة منخفضة

" آستريا هل تخبري الخادمة تحضر لي كوباً من الحليب "

ابتسمت تلك بحب وقالت

" بالتأكيد "

وتعلق نظرهم بها ما أن غادرت ناحية السلالم وصعدت حتى
اختفت عنهم وقالت آستريا تنظر لمكانها الخالي منها هناك بحزن

" تبدو لي بخير وليست بخير أيضاً ! "

قال رعد ونظره معلق بذات المكان بينما بدت نبرة صوته أكثر ثقة

" غسق قوية ستقف مجدداً إن ساعدناها جميعنا على هذا ، لن
يكون الأمر سهلاً فما حدث لا يمكن تخطيه بسهولة لكنّها تستطيع
فعلها "

نظرت آستريا ناحية الكاسر وقالت بعتاب حزين

" ما كان عليك إخبارها بأنه منعها من المجيء لها "

عبست ملامحه وكان سيتحدث فسبقه رعد قائلاً بجمود

" هي ستعلم في جميع الأحوال "

قالت آستريا تنظر لعينيه باستغراب

" هل سيحرم الأم من ابنتها ! "

اقترب حاجباه وقال بجدية

" تيما أصبحت امرأة الآن ومتزوجة أيضاً ونهاية الأمر ستكون
في منزل زوجها ويمكنها حتى العيش معها حينها لكن ... "

وتوقفت كلماته مع تغير ملامحه للحزن وتنهد بعمق متابعاً

" المشكلة الأكبر هو طفلهما الجديد في حال تزوج وطلقها "

خيّم الحزن على ملامح الكاسر بينما كانت آستريا من تحدث أيضاً
وقالت باستغراب

" هل سيأخذه منها !! "

حرك رعد رأسه بقلة حيلة وقال

" لا أظنه من الآباء الذين يتركون أبنائهم يتربون بعيداً عنهم ،
زد عليه أن القانون بات في صفه في مسألة حضانته وهو ما
تدركه غسق جيداً وتخشاه "


ارتفعت يدها لصدرها في شهقة صامتة وهي تتخيل ذلك فما أن
باتت تشعر بطفلها في أحشائها تعلقت به بجنون ومن قبل أن تراه
ولها أن تتخيل أن تفقده ولأي سبب كان لذلك قالت والحزن
يسيطر على ملامحها

" يا إلهي كيف تعقدت أمورها بهذا الشكل ! "

خيم الحزن العميق على ملامح الكاسر بينما تنهد رعد بحزن
ودون أن يعلق أي واحد منهما حتى تحرك رعد من هناك قائلاً

" أشعر بصداع قوي في رأسي وأريد أن أنام ، سأغلق هاتفي
فلا يوقظني أحد "

وتركهما وتوجه نحو ممر غرفته ونظرهما يتبعه حتى قال الكاسر
يمسك خصره بيديه

" مع من سأقضي الليل الآن وتلك المزعجة تيما ليست معي ؟ "

نظرت له آستريا وقالت مبتسمة

" سآخذ علاجاً للصداع لرعد وكوب الحليب لوالدتك ثم نسهر معاً
في غرفة التلفاز "

قال بحماس باسم

" أنا من سيختار الفيلم "

ضحكت آستريا وقالت

" ليس واحداً مرعباً كآخر مرة فلم أنم تلك الليلة وسخر مني رعد
طوال الليل حين علم بأني خائفة من الظلام "


ضحك كثيراً وقال

" موافق يا أجبن ثنانية عرفتها "

نظرت له بغضب تمثيلي فضحك مجدداً وقال

" شعبكم يشاع عنهم الشجاعة ! وكأن الله اختارك من البداية
للزواج بعربي "

ضحكت ضحكة صغيرة وقالت

" لو كنت كذلك ما فكرت في الهرب منهم "

ضحك أيضاً وتحرك من هناك قائلاً

" سأنتظرك فلا تتأخري "

*
*
*
ما أن دخلت غرفتها نزعت حجابها ورمته على الكرسي قربها
وتوجهت نحو الحمام نزعت ثيابها بحركة بطيئة متعبة ووقفت
تحت الماء البارد المتدفق وأغمضت عينيها وجبينها يلامس
برودة الجدار أمامها ما أن اتكأت به عليه وتعالت أنفاسها
المختلطة مع المياه المنزلقة من شعرها لوجهها وجملة واحدة
تراها أمامها وكأنها تقرأها الآن

( مطر شاهين يوافق شرط عائلة غيلوان بتطليق زوجته
والزواج من شقيقة المغدورين لينقد سلالة عمه من اتفاقية الثأر
الموقعة قديما بين العائلتين )

( ابن شاهين يوقف أي محاولات للتفاوض مع شعيب غيلوان
وأشقائه بموافقته على شروطهم السابقة لإنقاذ زوجته وابنته من
بنود وثيقة الثأر الموقعة قبل أكثر من ثلاثون عاماً )


كانت أنفاسها تختنق وتختنق وتختفي والمياه تزداد شدة ما أن
ارتفعت يدها للصنبور وأدارته بحركة واحدة ليعمل بكامل طاقته
وكأنها تعاقب نفسها بذلك رغم يقينها بأنه لا شيء يمكنه غسل
أخطائنا وذنوبنا وإجرامنا في حق أنفسنا قبل الغير ، لا شيء
يفعلها إنه القدر وكل ما علينا هو تقبله بخيره وشره الجيد
والسيء وإن صنعته أيدينا واخترناه بأنفسنا ولهذا ينهانا ديننا
عن لوم أنفسنا وعن التمني وتكرار
( لو أنني فعلت هكذا ما كان ليحدث ذلك )
لأنها مدخل الشيطان ليجعلنا نحزن ننتهي ونبتعد عن إيماننا بأهم
ركائز ديننا وهو الإيمان بالقدر خيره وشره .

فتحت باب الحمام وغادرته تربط حزام المنشفة الرمادية اللون
حول خصرها والذي بدأ يفقد نحوله المعتاد ويمتلئ رويداً رويداً
ينبض بالروح التي باتت تعلن عن نفسها وعن وجودها هناك .

لامست يدها الكرة الخشبية التي كانت تزين طرف السرير
واستندت عليها وهي تجلس على طرفه لحظة أن انفتح الباب
ودخلت من آستريا التي حاولت أن تتمسك بالابتسامة على وجهها
ولا تظهر صدمتها وهي ترى خصلات الشعر المبلل التي تناثرت
حول الملامح الفاتنة وقد زادها انتعاش الاستحمام جمالاً وأخرى
تناثرت فوق صدرها وكتفيها وفقد ذاك الشعر طوله وجماله
المميز الذي لازالت تذكره منذ المرة التي زارت فيها مدنهم قبل
خمسة عشر عاماً تقريباً ، وكان كما هو بل وأجمل حين التقت بها
هنا قبل أشهر قليلة .

تعلم بأن هذه المرأة فقدت الكثير ولازال المزيد في انتظارها لذلك
تجنبت التحدث عن الأمر لمساعدتها كما قال رعد لتتجاوز كل هذا
، وتراه يفهمها أكثر من أي شخص آخر لأنهما كبرا معاً و لذلك
توجهت نحو الطاولة القريبة منها بجانب السرير ووضعت الكوب
عليها قائلة بابتسامة

"قمت بتدفئته قليلاً لتكون وجبة ساخنة للصغير المسكين الجائع"

وما أن استقامت واقفة نظرت للتي أبعدت خصلات شعرها الرطب
متمتمه ببرود

" لا تقلقي بشأنه سيأخذ ما يحتاجه سواءً وفرته له أم لم أفعل "

وامتدت يدها للكوب الزجاجي الكبير المملوء بالسائل الأبيض
النقي بينما عبست ملامح التي كانت تراقبها قائلة

" سيكون ذلك حينها على حساب صحتك يا غسق "

وراقبتها وهي ترفع الكوب لشفتيها وهمست تسمي الله قبل أن
تشرب أغلبه في دفعة واحدة وعلمت حينها بأنها ليست ممن
يفضلون شربه ، وما أن نزلت بيدها والكوب فيها لتستقر في
حجرها قالت تنظر له

" كل ما أحتاجه الآن النوم وسأفعل كل ما تريدين غداً
آستي أعدك "

ابتسمت حينها المعنية بالأمر ابتسامة انتصار وقالت

" سأتكفل بوجبات يومك كاملة إذاً "

وتابعت سريعاً وهي تراها ترفع الكوب ناحية الصينية التي كان
موضوعاً فيها

" لا تتركي أي شيء منه "

وما أن رفعت نظراتها الضجرة نحوها قالت بضحكة صغيرة

" لن تتخلصي مني إن لم تفعلي هذا "

وهو ما جعلها تتنهد باستسلام وشربت باقي الكوب ووضعته
مكانه فتوجهت آستريا نحو الطاولة ورفعت الصينية قائلة
بابتسامة متسعة

" هذا جيد يمكنكما النوم الآن "

رفعت غسق نظرها لها وقالت بابتسامة شاحبة

" شكراً لك آستريا "

عبست ملامح آستريا وقالت موبخه

" هل تشكر المرأة شقيقتها ؟ "

وراقبت نظراتها الباسمة التي انشغلت بجمع خصلات شعرها
الرطب نحو الخلف قائلة بابتسامة وإن باهتة

" ظننتهم يفعلون هذا "

ضحكت آستريا وقالت

" عليك أن تغيري معتقداتك إذاً فلم تفعلها شقيقتي يوماً لأنها
تراه واجبي نحوها "

وعادت للضحك بل وشعرت بالسعادة تغمر قلبها وهي ترى
الابتسامة تزين شفتي الجالسة تحتها وبأكثر عمق هذه المرة وإن
لم تعلق على ما قالت ، ولم تنتظر هي ذلك بل وقررت أن تتركها
تنام وترتاح لذلك توجهت نحو الباب قائلة

" طابت ليلتك "


وخرجت مغلقة الباب خلفها ونظرت له أمامها وكأنها تراها من
خلفه بينما تنهدت بحزن متمتمه

" يا رب امنح قلبها السكينة والراحة واجعلها قوية بك "

*
*
*

فتحت الباب ودخلت وأغلقته خلفها بحركة سريعة ونظرت نحو
الواقفة أمام المرآة وقالت بضيق

" ما أعند رأسك يا زهور "

قالت التي رمت المنديل من يدها وأخذت غيره

" هل أنا العنيدة ! "

وأشارت بيدها جانباً بحركة غاضبة وقالت بضيق تنظر لها
في المرآة

" بالله عليك أمي هل سأذهب كل هذه المسافة بفستان الزفاف فقط
ليراه رجل لم يهتم أساساً لرؤيتي به ؟! "

قالت والدتها وهي تقترب منها

" لستِ أول من تتزوج في مكان بعيد وتذهب بفستانها بل
ومسافة أكبر من هذه "

عادت زهور لمسح المكياج عن وجهها بحركة بدت أكثر رقة من
كلماتها الحانقة حينها قائلة

" تلك تذهب لحفل زفاف مقام من أجلها هناك ، أنا لا حفل زفاف
لي في منزله ووالدته لن ترى ما الذي أرتديه أساساً أما هو فلو
كان مهتماً لكان دخل للقاعة وخرج بي منها كما يفعل أي رجل
في مكانه "

ورمت المنديل من يدها واستدارت نحوها وقالت بضيق متابعة

" لكنّه لا يريد ولهذا لن أتحمل عناء السفر به من أجل رجل
لا يهتم "

" وأنتِ ؟ "

واجهتها بتلك الكلمة في وجهها تنظر لعينيها تبحث عن جواب
تعرفه جيداً فستكون كاذبة إن قالت بأنها لا تهتم لهذا هي أيضاً ،
كان جوابها الصمت بادئ الأمر حتى انحنت نحو الحقيبة تغلقها
بينما تمتمت شفتاها ببرود

" أنا كتمتها في قلبي وانطفأت الجمرة وانتهى الأمر "

تنهدت الواقفة قربها بحزن وهي ترى فرحة ابنتها تنكسر وقالت

" ولما تتعبي نفسك بكل هذا إذاً ! "

وقفت حينها على طولها وقالت تفرد يديها جانباً

" من أجل نفسي ، من أجل زهور التي تتزوج للمرة الأولى ،
ومن أجل كل من دعوته ولبى الدعوة ورقصت وابتهجت مع
صديقاتي وتصورت وإن لوحدي فلن أفسد فرحتي من أجل
أي أحد "

تنهدت والدتها بقلة حيلة فهي بالفعل رقصت وفرحت مع
صديقاتها ولم تتحدث عن الأمر أو يتغير مزاجها خلال الحفل
لكنّها تبقى امرأة وتعلم بأن الأمر جرحها وأحزنها لهذا قالت
تحاول التخفيف من شدة الموقف عليها

" سيشرح لك الأمر وأسبابه بالتأكيد فلن تصدق عيناي أن يفعلها
أويس متعمداً ! "

قالت التي أنزلت الحقيبة الصغيرة ووضعتها على الأرض

" لم أعد أهتم "

ولم تزد حرفاً على كلماتها الباردة تلك ولم تفعل والدتها ذلك أيضاً
وهي تراها وقد توجهت نحوها وحضنتها بقوة وقالت بكلمات
حزينة

" وداعاً أمي سأشتاق لك كثيراً ، اعتني بنفسك وبوالدي "

وكان هذا ما جعل صمودها ينهار وإن كانت تمسح دموعها خفية
طيلة ساعات الحفل وحضنتها بقوة قائلة بعبرة مكتومة

" حفظك الله وأسعدك يا قلب والدتك ونور عينيها "

وهو ما جعلها تبتعد عنها وقالت تمسك بذراعيها

" أمي لما البكاء الآن أنا لن أهاجر ! "

كانت كلماتها مناقضة تماما للدموع التي لمعت في عينيها تعبر
عن حزن فراقها الأكثر سوءاً منها وتكتمه في داخلها زاده التي
قالت ودمعة تسقط من رموشها لوجنتها

" وإن يكن فلم تعتد عيناي على عدم رؤيتك كل يوم ولم يعتد قلبي
على أن تنامي بعيداً عني "

وهو ما جعل الدموع تترقرق في عيني زهور مناقضة للابتسامة
التي ارتسمت على شفتيها حينها وقد قالت

" ومن هذه التي كانت تنتظر أن اتزوج ! لما تناقضن أنفسكن
أنتن الأمهات ؟ "


ارتسمت ابتسامة صادقة على شفتيها وقالت

" حين تصبح لك ابنة ستعلمين كيف ولما "

عادت وحضنتها مجدداً دون أن تعلق على الأمر وقالت

" لا حرمني الله منك "

وابتعدت عنها قائلة بضحكة صغيرة

" ولا تقلقي سأعطيك أول خمسة أبناء لتربيهم ويملؤوا
المنزل لك "

لم تستطع والدتها إمساك ضحكتها بالرغم من حزن وتجهم
ملامحها وقالت
" كم العدد الذي تخططين له إن كنت ستعطيني كل هذا !ا "

ضحكت زهور ولم تعلق أيضاً فقالت التي مسحت على شعرها
القصير الناعم

" أطال الله في عمري لأراهم حولي "

أمسكت زهور بيدها وقبلتها وقالت

" آمين يا رب "
وغادرت بعدها وهي تتبعها تستمع لسيل توصياتها الطويل دون
أن تعلق وهي توصيها عليه وعلى والدته قبل أن توصيها على
نفسها .

وما أن أصبحت في الخارج نظرت فوراً نحو الرجل الذي رباها
وعرفته كوالد لها منذ كانت طفلة ، وتركت حقيبتها على الأرض
وتوجهت نحوه متجاهلة النظر للواقف قربه وحضنته بقوة ولم
تستطع إمساك الدموع التي تحكمت فيها أمام والدتها وهو الشعور
الغريب الذي لا يستطيع أحد فهمه ولا وصفه ! فوالداك اللذان
أنجباك أنت مسؤولية بالنسبة لهما وابنهما نهاية الأمر لكن حين
يعطيك كل تلك المشاعر شخص لا يكون واحداً منهما فشعورك
بالامتنان ناحيته يفوق كل ذلك وشعرت وكأنها تفارق والدها الآن
وليس من أعوام طويلة .

ما أن ابتعدت عنه قالت تمسح عيناها

" اعتني بوالدتي ولا تنزعج منها الليلة فبالتأكيد ستبكي حتى
الصباح "


قال وقد ابتسم ومسح بطرف إبهامه عينه يمنع تسرب
الدمعة منها

" على كل واحد منّا تحمل الآخر الليلة "

خرجت منها ضحكة صغيرة تغلبت على حزنها ودموعها وعادت
وودعته مجدداً وركبت السيارة وتركت الحقيبة مكانها هناك له
وهو يودع زوج والدتها فيكفيها أن فتحت الباب لنفسها بنفسها
وهي عروس .

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 10-08-24, 09:09 PM   المشاركة رقم: 1778
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 



*
*
*

سار لمسافة طويلة يحملها فوق ظهره ولا شيء حولهما تغير
أشجار عالية وأصوات حيوانات بعيدة وغريبة وأحياناً مخيفة
حتى أصبح احمرار الشفق يزحف نحو السماء وأخذ منه التعب ما
أخذه فتوقف وأنزلها قرب جذع شجرة ضخمة وقال

" سنتوقف هنا فسيحل الليل قريباً "

حدقت فيه باستغراب ونظرت حولها تسند يدها على الجذع قربها
بسبب ألم ساقها وقالت

" هل سننام هنا ! ألن يجدونا ؟ "


نظر عالياً حيث قمم الأشجار العالية تطير فوقها بعض الطيور
الذي بدأت تعود لأعشاشها وقال

" لا يبدو أننا قريبان منهم ولم أسمع صوت أي طوافة هنا "

تبدلت ملامحها للضيق ونفضت يدها قائلة بحدة

" ولما سيهتمون بالبحث عنّا ؟ يالهم من متحجرين ، كيف لا
يرسلون أفرقة للبحث عنّي وأنا عضو معهم ؟ "

وما أن نظر لها قالت تسبقه قبل أن يعلق بما تعلمه جيداً

" لن يحاسبهم أحد بشأنك فحتى الرحلة المجانية أنت من وهبها
لهم ولن تكون حجة لك أمام القضاء "

تبدل مزاجه للضيق أيضاً وقال

" لنصل للقضاء أولاً وأنا متنازل عن كل ذلك "

اختفت التعابير عن ملامحها بسبب ما قال وهمست متوجسة

" هل تقصد بهذا أننا سنموت هنا ؟ "

أمال طرف شفتيه وقال متملقاً

" وما الذي سيحدث مثلاً فنحن بلا ماء ولا طعام ، هما يومان فقط
وسيسقط أضعفنا جسداً بسبب العطش "

شحب وجهها وغمغمت مندهشة

" هذا يعني أنها أنا ! "

لم يعلق على ما قالت وانحنى نحو الأرض يجمع بعض الأغصان
اليابسة وما أن استوى واقفاً وكان مولياً ظهره لها أغمض عينيه
متنهداً بضيق وقد علا صوتها الغاضب من خلفه

" لا أريد أن أموت ، أنا لديّا أحلام لم أحققها بعد ، كما أني لا أريد
أن تكون الشخص الذي يراني وأنا أموت ولا أن تكون آخر
شخص أراه قبل موتي "

لم يستطع حينها إمساك ضحكته التي ارتفع لها رأسه عالياً رغم
صعوبة الموقف اللذان فيه الآن ، وما أن استدار نحوها قال
وصوته مختلط بضحكة مكتومة

" ما نوع هذا الكره الأسود الذي تحملينه لي ؟ "

ضربت قدمها السليمة بالأرض وقالت حانقة

" وما الذي يضحكك في الأمر ؟ أعلم بأنه ما أن أموت سأكون
وجبة لحم مشوي لك "

كان المتوقع أن يضحك مجدداً أو على الأقل أن يهاجمها بسبب
أفكارها الوحشية نحوه لكنّه سكن تماماً وأسكن التوجس قلبها
وهو يصمت فجأة ومقلتاه تدور في المكان وكأنه يحاول تركيز
سمعه في مكان ما وهو ما جعلها تهمس بريبة

" ماذا هناك ؟! "
بادلها الهمس ولكن بضيق

" لا شيء حتى الآن لو يتوقف صراخك قبل أن يشعر بوجودنا
ثعلب ما أو نمر بري "

اتسعت عيناها وهي تتخيل حدوث ذلك وقدمها مصابة بينما تابع
هو وبذات ضيقه

" ولتحتفظي على الأقل بالماء الموجود في جسدك أطول وقت
ممكن بدلاً ما إهدار طاقتك في قول ما لا طائل منه "

كانت عيناها هذه المرة متسعة بسبب سخريته ممّا تقول لكنّه لم
يهتم لكل ذلك وعاد لجمع الأغصان قائلاً

" وعلينا أن نفكر في الطريقة التي تنجينا من كل ذلك وأوله أن
نشعل ناراً الآن وأن نتناوب على الحراسة "

أمسكت خصرها بيديها وقالت

" هذه مهمتك أنت لأنك الرجل "

رمى الأغصان من يديه في مكان واحد وقال بضيق

" نحن الآن في مأزق وعلينا أن نتعاون للخروج منه "

لوحت بيدها قائلة بضيق مماثل

" ما خططك للخروج منه إذاً وليس التناوب والسهر "

ارتفع حاجبه الطويل وقال يرمقها بتشكيك

" يفترض بأن كاحلك يؤلمك وأنتِ التي لن تنام الليلة من الألم "

أشارت بسبابتها نحو الأسفل قائلة بضيق

" بل هذا ما سيعفيني من المهمة لو كنت شهماً لكنك كذلك مع
الانجليزيات فقط "

انعقد حاجباه بقوة وصرخ فيها بغضب

" اصمتِ الآن ونامي "

وهو ما جعلها تتأفف في صمت واستدارت نحو الجذع من الجانب
الآخر وجلست هناك وكأنها تقول

( لا أريد حراستك ولا نارك أيضاً )

بينما استمر هو في جمع الأغصان بأقصى ما لديه من سرعة
حتى أظلم المكان ، أخرج حينها قداحة من جيبه وأشعل بعض
الحشائش أولاً وبعد عناء نجح الأمر وجلس متنهداً بتعب مقابلاً
لها بينما يتكئ ظهره على جذع الشجرة والجالسة في الخلف لم
يصدر عنها أي صوت لا يعلم نامت أم لا لكنّ ما يميزها أنها
ليست مدللة كثيرة الشكوى لكان في مشكلة الآن بسبب أظافرها
التي تكسرت وأسنانها التي ستنام دون أن تغسلها وشعرها الذي
أصبح جافاً وسيتقصف وغيره الكثير حتى تقتله من القهر قبل
العطش .
لم يطعه قلبه أكثر من ذلك ووجد نفسه يقف ويتحرك ببطء ثم يمد
رأسه فقط ليراها فقد تكون فعلتها وغادرت وحيدة ولن يستغرب
هذا منها ، ابتسمت شفتاه وهو يرى الجسد المنكمش على نفسه
في الظلام تحضن نفسها بينما تتكئ بجانبها على الجذع وعاد
مكانه السابق وسيحاول أن لا ينام على الرغم من تعبه وشعوره
المميت بالنعاس لكنّه ما أن جلس مكانه واتكأ برأسه عالياً حتى
أصبح التغلب على ارتخاء جفنيه أمر أبعد من المستحيل وشعر
بالنوم يسحبه تدريجياً وهو يقاوم وكلما فتح عينيه عادت جفناه
لمعاندته مجدداً .

ما أن شعر بحركة ما في الخلف أغمض عينيه وسمعه يتبع التي
غادرت مكانها حتى أصبحت خطواتها قريبة منه وأمسك
ابتسامته بصعوبة ما أن وصله همسها الغاضب

" أهذا من قال بأنه علينا حراسة المكان ؟ "

توقع أن تعود لمكانها السابق أو أي فكرة جنونية لن يتوقعها
كعادتها لكن ما لم يتوقعه أبداً هو شعوره بجسدها وهي تجلس
بجانبه ! حاول أن يفتح طرف عينه ناحيتها ونظر لها ما أن
وجدها جالسة تحضن ساقيها تتكئ بذقنها على ركبتيها وتنظر
للنار أمامها بشرود حزين ، فكر في أن يتحدث لكنّه تراجع لأنه
يعلم ما ستكون النتيجة وستبتعد مجدداً لذلك اكتفى بمراقبتها في
صمت وكأنه يطبع صورة لها في عقله وضوء النار ينعكس على
ملامحها الطفولية الجميلة التي يعشق في مشهد لن يراه أبداً فهي
لا تسمح لأحد برؤية هذا الحزن في عينيها ولا أقرب المقربين
لها وله أن يتخيل ما يحدث الآن والسبب في هذا فهي ستفكر في
والديها وشقيقها بالتأكيد وبأنها قد لا تراهم مجدداً .
كاد أن يفضح نفسه وينفجر ضاحكاً ما أن غمغمت بضيق

" سأموت قبل أن أنتقم من ذاك الكنعاني المغرور "

وعاد وأغمض عينيه مدعياً النوم ما أن اتكأت على الجذع بجانبه
فها هو خوفها كأنثى تغلب عليها نهاية الأمر ، كتم انفاسه
وأغمض عينيه بشدة ما أن ارتخى جسدها واتكأت برأسها على
ذراعه في بادرة لم يتوقعها منها مطلقاً فأن تكون خائفة أمر وأن
تبحث عن الأمان لديه أمر آخر تماماً ويعلم بأنها لولا يقينها من
نومه ما فعلتها .

*
*
*

لا تعلم كم استغرق الطريق من وقت لكنّها شعرت بأنه بطول
عمرها بأكمله على الرغم من أن حوران من مدن الجنوب ويبدو
لأن الجالس بجانبها على صمته المميت ذاته كما لم تحاول هي
كسره ولا تعلم لما ! لا بل تعلم لأنه ثمة حقيقة بدأت تطاردها
حالها حال أي مجرم يختبئ خلف جريمته فأي رجل شرطة يراه
متجه ناحيته سيظنه قادم للإمساك به ، وهذا ما حدث معها فأول
فكرة طاردتها هي أن يكون اكتشف ما فعلته سابقاً وجريمتها تلك
، وعادت الأفكار تتصارع في عقلها فإن كان اكتشف الأمر فعلاً
ما كان ليُتم هذا الزواج بتاتاً ولن يقبل أن تعتب قدماها باب منزله
زوجة له !
حاولت سرقة نظرها نحوه وللمرة الأولى ووقع نظرها على يديه
الممسكتان بالمقود وانتقلت صعوداً لساعديه اللذان يغطيهما
قماش سترته الفاخرة يحف أكمامها القميص شديد البياض تزين
ساعده الأيسر ساعة رجالية كبيرة ، وما أن وصلت لصدره
ولحيته السوداء المشذبة حتى استدار وجهه ناحيتها فهربت
بنظرها سريعاً نحو نافذتها كالبلهاء ، وما ستفعله مثلاً تنظر له
مبتسمة بهيام وهو يجلس بجانبها كالصنم الحجري منذ غادرا
وكأنها ليست زوجته التي اختارها بنفسه ! بل وكأنه ليس يتزوج
للمرة الأولى !! هذا ليس أويس الذي عرفته سابقاً وثمة شيء ما
ولا يمكنها التفكير في غير تلك المصيبة التي حلت بها بنفسها
على رأسها .

أطلقت نفساً طويلاً دون شعور منها وكأنها تحرر كل ذاك التوتر
المسجون داخلها حين دخلت سيارته أخيراً إحدى البلدات
وستكون هذه هي أباجير بالتأكيد لأنهما لم يدخلا أي واحدة في
طريقهما وفركت يداها بحركة بطيئة وكأن كل ذاك التوتر عاد من
جديد فهي لم تعد تعلم هذه الليلة كيف ستمضي وأين ستذهب بها
وما نوع يومها التالي هنا !

تنفست بعمق تستغفر الله هامسة بخفوت وشغلت نظراتها
بالأراضي الزراعية الكبيرة والمنازل المتباعدة وكأنها في شجار
مع بعضها البعض بالكاد ترى أنوارها من بعيد بينما غرقت
المزارع في الظلام سوى ما تمر به سيارتهما على جانبي الطريق
الترابي الجاف حتى توقفت أمام أحد المنازل الشبيهة ببعض
سابقاتها ونظرت له من نافذتها باستغراب فهو منزل طيني قديم
رغم اتساعه الواضح ! علمت سابقاً من والدها بأنه اختار العيش
هنا نزولاً عند رغبة والدته وعدم ترك أرض والده ولا بيعها
لكنّها كانت تعتقد بأنه قام ببناء منزل هنا ! فهل هي من أرادت
العيش في منزلها القديم أيضاً ؟! .
أخرجها من أفكارها تلك صوت بابه وهو يفتحه وفي صمته
المتلف للأعصاب ذاته ففتحت بابها أيضاً ونزلت فبالتأكيد لن
يفعلها من أجلها ، وبينما توجه هو لحقيبة السيارة الخلفية ينزل
حقائبها وقفت هي ولازال نظرها يتفحص البناء أمامها وعلى
الرغم من أنه بطابق واحد لكنّ جدرانه مرتفعة كثيراً !

نظرت جانباً نحو الذي تحركت خطواته ناحية باب المنزل تتبعه
نظراتها في صمت وهو يفتحه واستدار وعاد ناحية حقائبها
وتركه لها مفتوحاً فتحركت خطواتها نحوه ودخلت وكأنها تهرب
منه لتجد نفسها في عالم آخر غير الذي رأته خارجاً وخطواتها
تتقدم ببطء نحو الداخل فكل ذاك الشكل الخارجي كان وكأنه غلاف
لما يوجد بالداخل ! وكأنك تأخذ كتاباً غلافه وعنوانه من أسوأ ما
رأيت وما أن تتصفح أوراقه تكشف روعة محتواه وتحار لما
خارجه لا يشبه داخله !!

سرق نظرها المرأة التي خرجت من أحد الأبواب ولمعت الدموع
في عينيها وهي ترى الوجه البشوش الباسم حتى أنها لم تشعر
بالذي وقف بجانبها وحواسها جميعها قد تحركت نحو العينان
الجميلة رغم تقدم عمر صاحبتها والحزن العميق فيهما رغم
ابتسامتها الصادقة وشعرت بذاك السكين ينغرس في قلبها مجدداً
والندم يتآكلها كما تأكل النار الحطب ، وترقرقت الدموع في
عينيها ما أن مدت يديها نحوهما قائلة بسعادة

" أين هي زوجة إبني ..؟ تعالي يا زهور "

فتحركت نحوها والدموع قد تحررت من عينيها تتقاطر منها تباعاً
وحضنتها بقوة وخانها بكائها الذي حاولت كل جهدها أن يكون
صامتاً ولم تنجح في ذلك وهو ما جعلها تمسح على شعرها قائلة
بابتسامة حزينة

" هل تبكي العروس في ليلة زفافها ! من هذا الذي أحزن ابنتي
الوحيدة ؟ "

أشاح حينها الواقف بعيداً عنهما وجهه جانباً بينما اشتدت قبضتاه
بجانب جسده بقوة وخرج صوتها من بين عبراتها

" سامحيني عمتي أرجوك "

طبطبت يدها على ظهرها برفق وقالت

" على ماذا أسامحك ؟! ليسعدكما الله ويريني أبنائكما "

وأبعدتها عنها تمسك يدها ومدت يدها الأخرى ناحية الواقف هناك
وقالت مبتسمة

" أويس تعالى بني "

تقدمت خطواته نحوهما حتى وقف أمامها ووضع يده في يدها
الممدودة له فوضعتها فوق اليد التي أرجفها ذاك الملمس حتى
شعرت بالقشعريرة تصل لقلبها وتجنبت النظر له تنظر ليدهما فقط
بينما قالت التي وضعت يدها الأخرى فوق يد ابنها

" لا أوصي أحدكما على الآخر أريد أن تكوني العوض له يا زهور
وأن تسعديه فلم يعرف إبني السعادة منذ مات والده وفقدناه "

شعرت بكلماتها تذبح روحها والحزن في نبرتها يقتلها وتمنت أن
ماتت وما فعلت فعلتها تلك لتتخلص من شعور الذنب الذي
يمزقها ورفعت يدها الحرة تمسح عيناها التي عادت الدموع تسبح
فيها بينما قالت التي لازالت تشد على يديهما بين يديها بقوة
وبنبرة أعمق وأكثر حزناً هذه المرة

" لم ينسى بالرغم من كل ما فعلته ولم يشفى جرحه ولم تبرد نار
قلبه فلعلك من يفعلها أنت وأبنائكما فلم يحب فتاة فوق جرحه
غيرك "

" أمي وكأنك تقدمينني في برنامج أطفال ! "

كانت تلك كلمات أويس الحانقة رغم انخفاضها وجمودها وهي ما
جعلتها تضحك بينما ابتسمت زهور بحزن تمسح الدموع من
عينيها ولازالت تتجنب النظر ناحيته بينما قالت والدته مبتسمة
تنظر للفراغ بينهما

" أتركني أفرح بك يكفي أنك منعتني من إقامة حفل زفاف وإن
صغير من أجلكما "

قال أويس حينها وببرود هذه المرة

" لأن الوقوف لساعات سيتعبك وأنا لست على استعداد لأن أراك
مريضة فقط من أجل حفل سخيف "

وكان ذاك السكين الأول الذي يوجهه بكلماته ناحية التي لازالت
تتجنب النظر لعينيه بل وناحيته لكنّها ابتلعت إهانته مع غصتها
وقالت والدته التي شعرت بمفعول كلمات ابنها من اشتداد يد
الممسكة بها

" لابد وأنكما متعبان وأنا سأنام أيضاً "

وتركت يداهما قائلة بابتسامة

" هيا تصبحان على خير "

وتركتهما وتوجهت ناحية غرفتها ونظرات زهور تتابعها وكأنها
تقول

( إلى أين ذاهبة وتتركيني وحيدة )

في مشاعر هي نفسها تحار في معناها ! وأخرجها من كل ذلك
صوت الخطوات قريباً منها وتبعته نظراتها وهو يتحرك ناحية
غرفة ما فتح بابها ودخلها وما هي إلا لحظات وخرج وبدأ في
إدخال حقائبها لها دون أن ينظر ناحيتها وهي واقفة مكانها
تراقبه في صمت حتى أدخل آخر حقيبة وغاب عنها في الداخل
فسحبت نفساً عميقاً لصدرها وقررت أن تواجه مصيرها كزهور
التي هي تعرفها لم تهرب يوماً ولا من الاعتراف بما فعلته
فتحركت ناحية باب الغرفة المفتوح ودخلت وأغلقته خلفها ووقفت
مستندة به تخفي يديها خلف ظهرها ولم يسرق نظرها في الغرفة
الواسعة وأثاثها الفاخر شيء غير الواقف موليّاً ظهره لها وقد
نزع سترته بينما انشغل نظره مع حركة يده وهو ينزع ساعته
فسحبت نفساً عميقاً وكأنها تشجع نفسها به لتتغلب على ترددها
وحررته قائلة بتوجس

" ما بك يا أويس ! "

كان جوابه الصمت التام وإن توقف عمّا كان يفعله وأنزل يداه
بجانب جسده وكأنه لازال يمارس عليها ألعابه النفسية أو أن
سؤالها فاجأه ! ولما سيفاجئ من الطبيعي أن تسأل أي واحدة في
مكانها الآن هذا السؤال خاصة وهما يعرفان بعضهما من قبل !
لا بل يبدو أن الأمر ليس كما تظن وأكدته كلماته التي خرجت
بجمود الصخر ولازال مولياً ظهره لها

" يفترض بأنك تعلمين جواب سؤالك هذا "

وهو ما جعل ضربات قلبها تتعالى حتى شعرت بها في حلقها ،
ولأنها تخشى من أن تقع في فخ نفسها وتعترف بجرم هو لا يعلم
عنه قالت وإن لم تنجح في إخفاء الارتجاف الطفيف في صوتها

" لو كنت أعلم ما سألت "

استدار نحوها بكامل جسده ممّا جعلها تلتصق في الباب أكثر ليس
بسبب حركته تلك بل بسبب كلماته التي خرجت باردة كالصقيع

" حيلة جيدة للتهرب من كشف أنفسنا "

ابتلعت ريقها في صمت ولم تستطع الهرب من حصار عينيه
الغاضبة وكأن شيطان ما يسكن داخلها !
ولم تستطع الرد بأي كلمة فكيف غفل عقلها عن أنه محامٍ ولن
يفوته تهربها الغبي هذا ؟! ولأنه لا مفر لها من الاعتراف الآن
قالت بنظرة حزينة لم تستطع إخفائها في عينيها

" علمت إذاً ؟ "

كانت تشعر بخزي لم تعرفه حياتها زاده كلماته التي خرجت
ساخرة متهكمة

" أجل وليتني لم أعلم "

كانت تلك الطعنة الأخرى فمن طبيعة المرء أن يقول

(والحمد لله أني علمت )

لكن أن يتمنى أن بقي على جهله فهذا يعني أنه كان يفضل جهله
على ألم الحقيقة ، ولم يرحمها بتلك فقط بل زاد تعذيبها ونبرته
تتبدل لألم ما كانت تتخيل أن تسمعه في صوته مع تلك النظرة
العدائية في عينيه

" ليتها كانت من أي شخص في الوجود عداك يا زهور "

لو أعطوها ورقة وقلم حينها لتكتب ما شعرت به لكتبت فقط

( أريد أن أموت )

فكلماته تلك جاءت لتؤكد مشاعره السابقة وبأن جرحه منها
أعظم من الفعل ذاته وهو ما أشعرها بألم عظيم في قلبها وندمها
يزداد شدة وتمنت الموت فعلاً ، ورغم كل ذلك بررت ودافعت عن
نفسها قائلة وإن بكلمات ضعيفة

" كنت غاضبة من تصرفاتك معي وحديث الجميع عني وتهورت
وأخطأت بالفعل "

" أخطأتِ ! "

كان ذاك فقط ما نطق به وبسخرية قاتلة ، أجل هي أخطأت وهو
أخطأ في حقها أيضاً ولم يهتم لما يُقال عنها وهي فتاة ولم يهتم
بما يُشاع عنهما في جامعتها والمكان الذي تزوره كل يوم حتى
كرهت المكان والتخصص الذي أحبته ، لكنّها أخطأت في أن
انتقامها تعداه ليصل لوالديه .. حقيقة لا يمكنها نكرانها ، لمعت
عيناها بقهر وقالت ولم تفارق نظراتها عينيه

" ألأجل هذا تزوجت بي ؟! لتنتقم ؟ "

تحركت خطواته فجأة وتعالت ضربات قلبها وهو يقترب منها
ورغم ذلك لم تبعد عينيها عن عينيه حتى وقف أمامها مباشرة
وباتت ترى نفسها في الأحداق السوداء الكبيرة وحاولت بكل ما
استطاعت من قوة أن تجعل أنفاسها منتظمة وتحركت شفتاه قائلاً
بما يشبه الهمس

" لو علمت بهذا قبل أن أتزوجك ما كنت لأجعلك زوجة لي حتى
إن كنت أتنفسك مع الهواء الذي يدخل صدري "

عند هنا أغمضت عينيها ودون شعور منها مع ارتفاع صدرها
وهبوطه بسبب توتر أنفاسها وعلمت الآن لما فعلها فهو لم يكن
يريد أن تحزن والدته إن طلقها وهي من كانت تنتظر زواجه
بفارغ الصبر ، فتحت عيناها على اتساعها ما أن شعرت بأصابعه
تشتد على ذراعيها بقوة بينما خرجت كلماته من بين أسنانه
وكأنه يتمنى أن حطمها بينهم

" لكنك تعلمين عن هذا ووافقتِ على إتمام الزواج فهل أفهم ما
هو باقي مخططك ؟ "

تحرك رأسها بحركة نافية وسريعة بينما قالت مندفعة

" لا مخططات لدي وأقسم أني ندمت بشدة منذ... "


وتوقفت كلماتها بسبب أصابعه التي شعرت بأنها ستخترق قماش
بلوزتها الناعم وتنغرس في لحمها وملامحها تعتصر ألماً بسببه
بينما قاطعها بكلمات غاضبة منخفضة وكأنه يخشى أن يصل
صوته للموجودة في مكان ما من هذا المنزل

" ندم ماذا وعلى ماذا يا زهور ؟ "

لم تستطع التعليق على ما قال ولا تخليص نفسها منه لأنه لم
يترك لها مجال لفعل هذا وقد هزها بحركة غاضبة جعلت ظهرها
يصطدم بالباب خلفها وقد عاد للصراخ المنخفض مجدداً وكأنه
يقاوم بركان ما داخله بينما تتقاذف حممه من عينيه

" لن نتحدث عن طردي من الجامعة وعدم قبولي في غيرها ولا
خسارتي لأي فرص أخرى كمحامي في العاصمة فما فعلته بي
يخصني أنا لكن ما فعلته باسم والدي لن أنساه ما حييت "

وعند ذكر والده ألجمها تماماً عن قول أي شيء ، بل ولم ينتظر
هو ذلك وقد تابع من فوره وعيناه تكاد تحرق كل شيء ولازال
يتجنب رفع صوته كي لا يصل لوالدته

" والدي الذي مات مقتولاً ومتهماً في شرفه ووالدتي التي فقدت
بصرها حزناً وبكاءً عليه لن أسامحك على ما فعلته بهما
وإسميهما يتكرران على كل لسان لذلك عليك أن تتلقي عقابك "

" موافقة "

قالتها هكذا كلمة واحدة وبهدوء تام وإن كان هدوء حذراً وكأنها
تترقب رد فعل الواقف أمامها لا تنظر سوى لعينيه .. عيني أبناء
الجنوب بسوادها الغريب المميز وكأنها تنتظر مصيرها بين
مخالب وحش في غابة لا يعرف قانونها الإنسانية ولا الرحمة ،
لكنّه خان جميع توقعاتها حين تحولت ملامحه كما نبرته للجمود
فجأة وتركت أصابعه ذراعيها قائلاً

"موافقتك من عدمها لن تغير شيئاً فالعقاب قائم في كلا الحالتين"

وكان ذاك ما أشعلها هي حينها وقالت بضيق وصوت منخفض
أيضاً وكأن العدوى انتقلت منه لها

" لا بالطبع فأنا لست بلا أهل ولا سند تفعل بي ما تريد لكن لأني
أقر بذنبي وبأني أستحق العقاب عليه أصمت "

ابتعد عنها خطوة للوراء في حركة لم تفهمها بينما تمتمت
شفتاه ببرود

" لا يهم عندي "

لا تنكر بأن كلماته أشعلتها أكثر من سابقتها لكنّها كتمتها في
نفسها أيضاً وتبادلا نظرة صامتة طويلة لازالت لا تفهم معناها !
وحين شعرت بأنه سينهي الحديث في الأمر قالت توقفه قبل أن
يتحرك من مكانه

" ألا يحق لي معرفة نوع عقابي على الأقل ؟ "

كانت تتوقع من نفسها هذا السؤال كما توقعه هو منها ومن
شخصيتها التي يعرفها جيداً لذلك لم يماطل أيضاً ولم يمسك
الجواب عنها وقال مباشرة ونبرته كما كلماته تتسم بالجمود التام

" ستنجبين لوالدتي الحفيد الذي تنتظره ثم تغادري من هنا ولن
تريه بعدها أبداً ومهما طال الزمن "

اتساع حدقتيها كان دليلاً واضحاً على تفاجئها بالأمر وإن كانت
عيناها تحتفظ بجمودها التام ، ولم يتوقف الأمر عند ذلك وكأنه
لازال يبحث عن انتصاره عليها وقد تابع وبذات جموده

" ولن تتزوجي ولن تنجبي غيره "

وكان ذاك ما جعلها تغادر صمتها فعلياً وقالت بضيق

" ما هذا الجنون ! "

وكان رد فعله الأولى أن أغلق فمها بكفه الكبير وكأنه يذكرها بأن
خروج كلماتهما من هنا أمر لن يسامحها عليه أبداً وقد أكدته
نظراته المهددة لها بصمت بينما قال من بين أسنانه وبغضب
مكبوت

" جنون أجل يشبه ما فعلته وتدّعين الندم عليه الآن ، ألم تقولي
بأنك موافقة على عقابي "

رفعت يدها لرسغه وأمسكتها وأبعدت يده بحركة واحدة وأخفضت
صوتها أيضاً من أجل والدته وليس من أجل تهديده وهي تقول
بكلمات حادة

" لن تمنع زواجي وأنت طلقتني ، في أي قانون يكون هذا ! "

انحنى نحوها واقترب وجهه منها حتى كانت تشعر بأنها أصبحت
داخل العينان المشتعلة غضباً بينما ارتفعت يده بجانب رأسها
وضرب بطرف سبابته على خشب الباب بجانب أذنها قائلاً بكلمات
قوية آمرة

" لأنني لن أطلقك ولن تنجح ألف قضية خلع سترفعينها ضدي "

اتسعت عيناها في صمت ولازالت تحدق في عينيه وكانت تريد
أن تقول

( أنت مريض .. مريض بماضيك وعليك أن تتعالج عند مختص نفسي )

لكنّها ستكون قضت على نفسها بقول هذا لذلك عليها أن تصمت
فقط الآن وتتلقى عقابه الذي قال عنه ليس لأنها ضعيفة بل
يمكنها جلب زوج والدتها والمغادرة من هنا الليلة ورغماً عنه بل
والمغادرة حتى لوحدها دون مساعدة أحد لكن لأنها تعترف بذنبها
فعلاً ومن أجل تلك المرأة التي كلما رأتها شعرت بعظم جرمها في
حقها لذلك قالت ببرود وكأنه لا يشتعل في صمت أمامها

" موافقة "

لا تنكر بأنها استغربت النظرة التي رأتها في عينيه للحظات وكأنه
تفاجئ بموافقتها السريعة والمطلقة ..! نظرة أخفاها عنها سريعاً
وهو يشيح بوجهه بعيداً عنها وجل ما تخشاه أن تقوده للتفكير
في عقاب آخر لأنه يشعر بعدم الرضا وبأنه كان عليها أن تثور
وتغضب وتبكي وتدفع ثمن فعلتها بشعورها بالمأزق الذي باتت
فيه .

لكن ما كان يدور في عقله حينها ولا تعلمه مختلف تماماً فهو يعلم
بأنها فتاة قوية لكنّه لم يتوقع رضوخها ليس لأن ما قرره كعقاب
لها أمر يمكنها تجاهله وكأنه لم يكن لذلك لم يزد على ما قالا شيئاً
بل توجه ناحية الخزانة فتح بابها بحركة قوية وأخرج منها
منشفة كبيرة وما أن توجه نحوها مجدداً ابتعدت عن الباب الذي
كانت تعلم بأنه يقصده وفتحه وغادر وتركها وحيدة هناك
فتنفست بقوة مغمضة العينين وكأنها تستجمع قواها بعد تلك
المعركة التي لا يمكن وصفها سوى بأنها أحادية الجانب فهي
كانت الطرف المستسلم تماماً فيها .

ولأنه ليس من طباعها التحسر والبكاء على ما فات أوانه توجهت
نحو باب الغرفة وأغلقته وكانت وجهتها التالية هي حقيبتها قبل
أن تدخل حمام الغرفة ونزعت ثيابها ووقفت تحت المياه الباردة
تحاول فقط أن لا تنهار باكية وأن تكون زهور التي عرفتها دائماً
لن يكسرها ولا الطعنة التي تلقتها ليلة زفافها ، الليلة التي تتمنى
كل امرأة أن تكون الأسعد في حياتها فهي أخطأت وعليها تلقي
عقابها ، بل كان عليها كما قال بأن تنهي هذا الزواج ما أن
اكتشفت هويته وفعلتها في حقه وحق عائلته لكنّها حمقاء
كالعادة .

لفت جسدها في منشفة الحمام الخاصة بها وخرجت للغرفة التي
ما تزال خالية ووقفت تنظر ناحية الباب المغلق فهل قرر هجر
المكان وتركه لها ؟ بالتأكيد لن يفعل ذلك فعقابها ليس بتهميشها
كما يفعل الغير في ذات وضعهما لأنه عليها أن تهبهم عبد الجليل
غيلوان الصغير قبل أن تغادر .

نظرت ناحية حقيبتها المفتوحة واقفة مكانها وكأنها تحارب
أفكارها التي هزمتها سريعاً وهي تتوجه نحوها وأخرجت قميص
النوم الذي اختارته لهذه الليلة تحديداً وإن لم تشبه ما كان في
مخيلتها مطلقاً لكنّها لم تقف يوماً تنظر خلفها فما حدث حدث
وعليها تلقي ما اختاره عقاباً لها ليس من أجله بل من أجل نفسها
في المقام الأول ثم الرجل الذي جعلت الناس تتحدث عن شرفه
وهو ميت والمرأة التي لم تخطئ يوماً في حقها ، ولأنها تعلم بأنه
لن يفعلها ويتزوج مجدداً فستهبهم الحفيد الذي يريدونه وتغادر
حياتهم وللأبد كما قرر واختار .

عادت ناحية الحمام ما أن أخرجته من حقيبتها وكأنها لن تخرج
به أمامه وبالكاد يغطي قماشه جسدها ! لكنّها فطرة المرأة الله
خلقها عليها فكيف بواحدة لم يكن لها ولا علاقات عابرة مع شبّان
سابقاً .

ما أن غادرت الحمام وقفت أمام المرآة وتجنبت النظر لجسدها كي
لا تتراجع وجعلت كامل تركيزها مع أصابعها التي كانت ترتب
خصلات شعرها القصير الرطب خلف أذنيها وأغمضت عينيها
وتنفست بتوتر ما أن انفتح باب الغرفة وأغلق بعد برهة وكأنه
وقف أمامه هناك لبعض الوقت ولم تحاول فهم إن كان وقوفه
استغراباً لسلوكها واستسلامها أم لسبب آخر ! ولن تفكر في كل
هذا فكل ما جاهدت نفسها على فعله أن فتحت عيناها ونظرت
لمكانه خلفها في المرآة وشعرت بضربات قلبها تخونها حين
وجدته خلف كتفها تماماً ينظر لتقاسيم وجهها في المرآة أمامه
ولا تعابير تُقرأ في ملامحه ثم نزولاً لجسدها حتى تمنت أن هربت
من هناك وأغمضت عينيها ما أن شعرت بملمس يديه على
خصرها وتعالت أنفاسها وهي تشعر بقبلاته على عنقها وذراعاه
تحاوط جسدها ... واستسلمت له ، ليس فقط لأنها طقوس عقابها
الذي وافقت عليه بل ولأنه تعامل معها برقة لم تتوقعها من رجل
غاضب منها حد الجنون ! .

*
*
*
غادر الحمام ونظر نحو التي لاتزال نائمة وكأنها جثة هامدة بل
وكأنها لم تنم إلا بعد أن صلّت الفجر ! لبس ملابسه وتوجه نحوها
وهو يلبس سترته السوداء وما أن وصل عندها انحنى نحوها
وخطف قبلة من شفتيها وابتعد عنها مبتسماً حين فتحت عينيها
وقال بخبث وهو يستوي واقفاً

" كل الضجيج الذي أحدثته لم يوقظك وفعلتها هذه ؟ "

انقلبت للجانب الآخر متمتمه ببرود

" لست مشتاقة لها بالتأكيد "

ضحك وقال

" سنرى دليل هذا ما أن أعود "

غطت رأسها باللحاف وقالت من تحته ببرود أشد من سابقه

" أطفئ النور وأغلق الباب أريد أن أنام "

ابتسم ولم يعلق ، يعلم بأنها مستاءة لأنه نام البارحة لكنها لا تعلم
بأنه لم ينم تقريباً وهو هناك يتخيل طوال الوقت بأنه نام وغادرت
شقيقته من هناك في غفلة عنه ولم يجدها ورسم له عقله جميع
أنواع السيناريوهات المخيفة ولم يشعر بطعم الراحة إلا الآن .

عاد وانحنى نحوها وقبّل رأسها من فوق اللحاف وأطفأ نور
الغرفة وغادر مغلقاً الباب خلفه وتوجهت خطواته نحو غرفة
الجلوس ما أن سمع صوت كرسي رماح يتحرك هناك ، وما أن
دخل كان وعمته جويرية هناك فألقى عليهما التحية وقال

" هل استفاقت غسق ؟ "

قال رماح وهو يرتب قطع الشطرنج

" وغادرت المنزل أيضاً "

اتسعت عيناه بذهول وقال ينظر له

" غادرت أين !! ولما سمحتم لها ؟ "

كانت أصابع رماح ما تزال ترتب قطع الجنود الكثيرة بينما
قال ببرود

" هي ليست طفلة يا رعد كما أنها ذهبت للبرج "

وكان هذا ما زاد من غضبه ونظر نحو عمته وفي صمت نظرة
فهمتها سريعاً وهو ما جعلها تحرك كتفيها بقلة حيلة وتنهدت
قائلة

" حاولت إقناعها لكنك تعرف عنادها ، كان التعب واضحاً على
ملامحها ولم يساعدني رماح على هذا "

قالت آخر كلماتها تلك ونظرها قد توجه ناحية ابن شقيقها الجالس
أمامها والذي قال بدوره ولازال منشغل بما يفعل

" قالت بأنها وجدت رسائل كثيرة مرسلة منهم على بريدها وبأنه
عليهم الاجتماع لأمر طارئ وهي رئيسة مجلس الإدارة فهل
سأمنعها عن واجبها نحو برج بأكمله وقد يتوقف الأمر على
كلمة منها "

قال رعد بضيق من بروده ولا مبالاته

" كنت أخبرتني وكنت سأتحدث معهم "

رفع حينها رماح نظره له وقال بضيق مماثل

" شقيقتك ليست طفلة ووالدك قال اهتموا لأمر غسق ولم يقل
أعيدوها طفلة كما كانت "

زاده ذاك اشتعالاً وقال بحدة يشير بيده جانباً

" وماذا حدث حين تركناها تتصرف كامرأة راشدة ؟ "

جعلت كلماته تلك الجالس أمامه يستدير نحوه بكرسيه هذه المرة
وصرخ فيه بالمثل

" رعد لا تفكر في إلقاء اللوم عليها فيما حدث كي لا تغادر
منزلك .. غسق وأعرفها جيداً ستفعلها ، ومهما كانت النتائج فما
حدث قد حدث والقرار كان قرارها وحياتها ولها حرية التصرف
فيها ، كل ما عليك فعله هو نصحها وتوجيهها "

وكان رد الفعل المعاكس من رعد حينها وإن كان مدافعاً عن نفسه
حين قال بحدة

" لما كل هذا الهجوم فأنا قصدت بأنها متعبة كما أني أخشى أن
تتهور باتخاذ أي قرار وهي في هذه الحال "


نفض رمّاح يده قائلاً ببرود

" وما به حالها ؟ إنها بخير تماماً وكانت معنا قبل أن تخرج "

وما أن أنهى كلماته تلك استدار بكرسيه مجدداً ناحية عمة والدهم
والتي كانت تتابع في صمت عاجز وقال

" هيّا عمتي سأعلمها لك بطريقة أبسط "

ولم تتدخل أيضاً كما قررت منذ بداية ذاك النقاش وقالت
تهف بيدها

" عليك أن تيأس مني فهذه اللعبة صعبة وأنا دماغي بحجم
دماغ النملة "

كان كل ذلك يحدث على مرأى نظرات رعد الحانقة من تجاهله له
بينما قطع كل ذلك الكاسر الذي دخل الغرفة راكضاً وقال بأنفاس
لاهثة بسبب ركضه

" ألم تفتحوا التلفاز ! "

انتقلت نظراتهم نحوه باستغراب بينما قال رعد والأقرب له
وبكلمات متوجسة

" ماذا هناك ؟! "

سحب نفساً قوياً لصدره وقال يزفره

" القنوات الوطنية والإخبارية جميعها تبث لقاءً مع مطر شاهين
ورجاله "

رفع حينها رماح جهاز التحكم بحركة سريعة ووجهه ناحية
الشاشة المعلقة على الجدار وقام بتشغيله ونظر رعد للكاسر
بطرف عينيه متوعداً ما أن ظهرت القناة التي تم إغلاقه عليها
وهي إحدى القنوات المخصصة بالأفلام وعلم الآن سبب نوم
آستريا حتى هذا الوقت ، فإن كان ثمة من سيفسد طباع حياة
الثنانيين فيها فهو هذا المراهق الأحمق ، لكن سرعان ما سرقت
تلك الشاشة نظره مجدداً ما أن قام رمّاح بتغييرها بواحدة إخبارية
ولأنه كان الأقرب لها حتى كانت وكأنها صورة حية أمامه شعر
بضربات قلبه تتعالى وهو يرى ذاك المشهد عن قرب ، لا بل يبدو
بسبب توجسه من ردود فعل هذا الرجل ناحية ما حدث مؤخراً
لأنه وحسبما علم أنه لم يُصدر أي أوامر رئاسية الأسبوع الماضي
عدا قرار تعيين قاسم كرئيس لجهاز المخابرات ، بل ولم يدخل
القصر الرئاسي إلا من يوم واحد فقط ! كما لازال يجهل سبب هذا
وهو من لم يفعلها سابقاً وكان يرفض هذا النوع من المقابلات !
وبما أنه ليس وحده في هذه المقابلة التلفزيونية فسيكون السبب
هو وضع البلاد بالتأكيد لتكون هذه الساعة هي نقطة النهاية
للبلبلة التي أحدثتها حقائق تلك الوثائق السرية المسربة
والموقعة قبل أربعة عشر عاماً مضت .

كانت نظراته كالموجودين حوله معلقة به من بين جميع الجالسين
والذي كان عددهم ستة أشخاص لكنّه وكالعادة له هيبة من شأنها
أن تجعل الأنظار جميعها تتجه نحوه رغم هيبة وقوة حضور
رجاله لكنّ الزعيم يبقى زعيماً تسقط جميع الرتب والمقامات
والسلطة والجاه في وجوده بالرغم من أنه كان يجلس باسترخاء
لا يشبه به نفسه أبداً ولا الوضع الموجود فيه وهو سيجيب
بالتأكيد عن أسئلة وأمور ما كان يريد ولا يفضل الحديث عنها ،
كما كان يثني أكمام قميصه الأبيض الفاخر لما يقارب مرفقيه
بينما تخلى عن السترة يجلس وهو يضع قدم على الأرض بينما
الأخرى يمدها نحو الأمام وكأنه يجلس في منزله بالفعل !
وكان الموجودين معه هم قاسم وبِشر وتميم وعكرمة ، فكانوا
هكذا رجلان ممن كانوا معه خارج البلاد واثنان ممّن تركهم هنا
لقيادتها مع شراع صنوان بينما كان الشخص السادس هو عمه
صقر وفي أول ظهور تلفزيوني له أيضاً .

كانت عينا الكاسر وعمتهم تنظر للشاشة بتركيز يشبه ملامحهما
بينما تبدلت عند رمّاح ورعد لابتسامة جانبية وكأنها طُبعت على
وجهيهما ما أن تحدث المذيع مرحباً بضيوفه والسبب هو المذيع
نفسه بالتأكيد فكل واحد منهما توقع أن يكون هذا دون الجميع ،
ومن غيره يمكنه إدارة لقاء العمالقة ؟ فهو من أكثر المذيعين
خبرة وحنكة وقوة حضور يشبه الحوار الذي لن يكون لغيره
شرف الحظي به بالتأكيد .

*
*
*
ما أن انفتح باب المصعد حتى غادرت منه تتبعها سكرتيرتها
ومساعدتها بينما كانت تحاول التركيز مع ما تقولانه فهي تشعر
بالتعب فعلياً لكنّها لم تظهر ذلك ولازالت تقاوم وفي صمت
فوجودها هنا كان ضرورياً لتقف على آخر المشكلات بل وأهمها
وما صدر بالأمس تحديداً وهو إلغاء قرار تكفل رئاسة البلاد
بعائدات المشروع وهو أكثر ما كان يشجعها على المضي فيه
وتعلم من قرر هذا ولما ولن تناقش أو تعترض ، كانت الوحيدة
تقريباً من أرادت هذا أما باقي الشركاء في المشروع الضخم على
العكس منها تماماً بل وأسعدهم أن رفعت الدولة يدها عنه وبهذا
العائدات توزيعها سيكون بقرار منهم والتصويت في حال الخلاف
بينما تجاهل الجميع المخاطر المحدقة بمشروعهم هذا ما أن
رفعت اليد العليا في البلاد يدها عنه لأن الخسارة ستهوي بهم
للقاع حينها ولن تنقذ أموال الدولة سقوطه على رؤوسهم وبات
خطر الفشل كبيراً ، ولأنها من تقدم بطلب خطي سابقاً لوزارة
الاقتصاد وتم رفعه للقصر الرئاسي وتمت الموافقة عليه حينها
بتوقيع من مطر شاهين نفسه أمّا الآن فأوراقها هناك باتت
محروقة وعليهم تحمّل مسؤولية هذا المشروع وحدهم وهي في
المقدمة لأنها رئيسة مجلس إدارته .

كانت خطواتها الواسعة الثابتة تتنقل في الطابق الأول بينما ارتدت
بدلة سوداء لها سترة طويلة وصل طولها لركبتيها تغلق من
الأمام بسلاسل ذهبية اللون تحتها قميص أسود مغلق وبنطلون
أسود وهو ما زاد من شدة تعبها فيبدو أنها باتت بحاجة لتغيير
برنامج ثيابها بأكمله مع تقدم أشهر حملها وتغيرات جسدها .

كانت نظراتها تراقب كل مكان تمر به مع مرافقتيها والحركة
لازالت ممتازة في الطابق والناس تتوافد للاستفادة من شراء
الأدوية بأسعار أقل من الموجود في السوق والنصف الآخر قادم
لبيع الأدوية الموجودة لديه ولم يعد بحاجة لها .

توقفت خطواتها فجأة أمام أحد الأبواب الزجاجية المفتوحة والذي
حمل اسم الشركة أعلاه والمسؤولة عن هذا القسم وهو الأدوية
الخاصة بالأمراض المزمنة ، وما أن دخلته وقفن جميع
الموجودات هناك تباعاً وإن تأخرت بعضهن بسبب الشاشة
المعلقة على الجدار الذي تركته خلفها ولم تنتبه لما يحدث هناك
حتى تغير الصوت لآخر تعرفه جيداً وتميزه من بين جميع
الأصوات وهو ما جعلها تتسمر مكانها وقد ملأ الصمت المكان
الذي أصبح وكأن لا أحد فيه ميّزته البحة الرجولية العميقة

" الأمر بالنسبة لأبناء شراع لن يحتاج لأي تبرير لأن كل واحد
منهم سواءً كان رماح أو رعد أو وحتى حفيده جميعهم يعلمون
من يكون مطر شاهين "

كانت عيناها تحدق بالموجودات أمامها وإن كانت لا تراهم تقريباً
بينما اشتدت قبضتاها وقد اخترق صوت المذيع الصمت حينها
قائلاً

" جبران شراع هو ابن له أيضاً ؟! "

كان ذاك المتوقع منه وأن يوجه له هذا السؤال وهو ما جعل

ضربات قلبها تتعالى وأغمضت عينيها ما أن وصلها صوته
بوضوح وكأنه موجود معهم هنا قائلاً بضيق

" ذاك الصعلوك لا يليق به أن يكون ابنا لشراع ولا أن يحمل
اسمه رجل مثله "

وعند هناك استدار جسدها لتصبح مقابلة لتلك الشاشة الضخمة
المعلقة عالياً وارتفعت نظراتها الضائعة الحزينة لها ليقع نظرها
عليه بل وعلى ملامحه تحديداً والكاميرا مسلطة نحوه بالرغم أن
المذيع كان من تحدث حينها قائلاً

" لكنّ الأمر سيدي متعلق به أيضا وبما يقول فموت الزعيم
الراحل شراع هو خط العودة بالنسبة لسيادتكم وهو ما حدث بعد
موته بالفعل وما كشفته الوثائق المسربة مؤخراً "

توترت أنفاسها عند تلك النقطة وانفصلت عمّن حولها وإن كان
ذلك ما حدث منذ سمعت صوته وقت دخولها ، بل وكانت وكأنها
أعطت الفرصة للفتيات الواقفات خلف الطاولة التي غطت المكان
بأكمله للعودة لمتابعة ما يجري هناك والجميع ينتظر الجواب
على هذا السؤال تحديداً والذي أثار البلبلة الأكبر خلال الأيام
الماضية ، لكنّ من تحدث حينها لم يكن مطر بل بِشر والذي
قال بجدية

" لو أراد الزعيم مطر فعلها لفعلها قبل عشرة أعوام وحين تم
التلاعب بالقانون الدولي فقط ليجبروه على البقاء خارج البلاد ،
أو بمعنى أصح خارج مربع اللعبة كما يظنون ، وإن كان الله أطال
في عمر الزعيم شراع رحمة الله عليه لكانت البلاد كما كانت عليه
وما رأيتموه جالس هنا "

على الرغم من أن بِشر من تحدث حينها لكنّ سؤال المذيع توجه
لمطر مجدداً وهو يقول

" ما هو السبب وراء صمتكم عمّا يحدث إذاً ؟ "

تحدث المعني بالأمر حينها قائلاً بجمود

" هو السبب ذاته الذي جعل مطر شاهين يتراجع وهو عند حدود
صنوان قبل أربعة عشر عاماً لأنه سيكون سؤالك التالي "


ارتفع حاجبا المذيع وقال باستغراب

" أليس الخوف على رجالك كان السبب حينها ؟ "

قال من فوره ودون تردد ولا تفكير

" لا .. فرجالي دخلوا الحرب يحملون أكفانهم في أيديهم وما
كانوا ليتراجعوا وهم عند خط النصر "

ولأن الجواب كان أقسى من أن يجعل محاوره يتحدث تابع
موضحاً

" صنوان لم تحذو حذو الهازان حينها وهي تتركنا ندخل أراضيها
طواعية وكانت ستقاوم وستسفك دماء كثيرة أولها موت أبناء
شراع على خط الحدود بسبب تلك الحرب "

جعلت كلماته تلك يدها ترتفع لصدرها بينما كانت حدقتاها السوداء
الواسعة معلقة به عالياً وارتسم الحزن كما المرارة على ملامحها
وهي تتخيل أن يكون حدث ذلك حينها بالفعل وستسمع بموتهم
الواحد بعد الآخر بينما هي زوجة له وفي منزله وبعيدة عنهم
ترى وتسمع الحالك تحتفل بموتهم وانتصارهم عليهم أمامها ، قال
المذيع باستغراب

" وما الرابط بينها وبين صمتكم عن جبران شراع الآن ! "

قال مطر ببرود حينها

" ما سؤالك التالي ؟ "

أغمضت عينيها وكأنها تحاول جعل عقلها يستوعب الأمر فهي
تعلم السبب وراء صمته عن جبران حتى الآن وسبق وقالها لها
بنفسه بأنه لم يقتله من أجلها فقط أو من أجل مشاعرها الأخوية
نحوه وكي لا يصبح في نظرها قاتل شقيقها ، لكن ما لم تتوقعه
بأنها السبب أيضاً وراء عدم اقتحامه لصنوان بالقوة حينها ،
أخفضت رأسها وأمسكت عيناها بأصابعها تشعر بألم لا يمكن
وصفه مصدره قلبها بينما وصلها صوت المذيع معترضاً

" لن نترك هذا السؤال معلقاً فهو مهم و... "

وتوقفت كلماته لأنه قاطعه وبكلمات قوية مهدداً

" ليس مهماً لأحد لأفصح عنه والمدعو جبران ذاك إن لم يتوقف
عن أفعاله الصبيانية هذه وإن فكر فقط في جر البلاد للحرب كما
كاد أن يفعل في السابق قسماً أني قاتله هذه المرة ولن يمسكني
عنه شيء "

ارتفعت نظراتها الذاهلة عالياً حينها وإن كانت لم تستبعد ذلك
ولأنها هي السبب الذي يمسكه عنه سابقاً فها قد زال السبب
وبشكل نهائي ولم يعد يعنيه بالتأكيد نظرتها له ولا أن يكون
قاتله ، قال المذيع باستغراب هو أقرب للصدمة

" هذا تهديد وعلى الهواء ! "

قال مطر بحزم يشبه ملامحه ونظراته

" بل وعيد من رئيس حالي للبلاد وهو حق مشروع وسأسحق
كل من سيهدد أمنها "

استدارت حينها مولية لكل ذلك ظهرها مجدداً وقد عادت ملامحها
للتمسك بالصمود وإن كانت تنهار من الداخل فعلياً وقالت تنظر
للمشرفة على ذاك القسم

" وصلتكم الأوامر من قسم المحاسبة بالتأكيد ؟ "

قالت تلك باحترام بالغ

" أجل سيدتي وسنعمل بالنظام الجديد من اليوم فصاعداً "

قالت غسق حينها ونظرها ينتقل بين جميع الواقفات هناك

" ستُجري لجنة من وزارة الصحة زيارات متكررة وغير معلنة
للطابق لا أريد هفوات خاصة الآن ونحن نبيع الأدوية فالخطأ
سيكون ثمنه كبير جداً فهذه ليست ثياب ولا أثاث منزلي بل صحة
مواطنين بين أيدينا "


قالت المشرفة مجدداً وبابتسامة واثقة

" الأمور جميعها تسير على أكمل وجه وقسم الرقابة مهتم بالأمر
جيداً وقد راجعنا كل شيء بعدهم حسب طلبك سيدتي ولا أخطاء
مطلقاً "

همست حينها تحاول أن تبتسم لها

" هذا جيد شكراً لكم "

وغادرت المكان من فورها تاركة كل ما يحدث في تلك الشاشة
هناك تتبعانها الفتاتان اللتان دخلتا معها وقالت السائرة على
يمينها ويدها تحضن ملفاً لصدرها بينما كانت تبتسم شفتاها
بتفاؤل

" إن سارت الأمور على هذا الشكل حتى نهاية الشهر سنضمن
النجاح لباقي العام بأكمله "


وقالت الأخرى والسائرة معهم أيضاً

" جميع الشركات تنظم حملات دعائية قوية ومهتمون بالأمر
كثيراً لأنه سيعود عليهم بمنافع كثيرة أيضاً "

ودخلن المصعد معاً عند نهاية كلماتها تلك وبينما كانتا الشابتان
المتفائلتان تتحدثان دون توقف مع بعضهما وقفت غسق جانباً
وقد وجدت في الذراع الخشبي المعلق منتصف المصعد بالعرض
مسنداً لها بينما أمسكته أصابع يمناها وأتكأ ظهرها عليه وتنهدت
بتعب وهو ما جعلهما تصمتان تماماً تنظران ناحيتها وقالت
مساعدتها بقلق

" هل أنتِ بخير سيدتي ؟ تبدين متعبة ! "

وراقبتا بتوجس التي سحبت نفساً عميقاً لصدرها وهمست

" ليس كثيراً "

انفتح حينها باب المصعد وخرجت منه وهما تتبعانها ناحية باب
مكتبها وقالت إحداهما

" هل ستغادرين الآن ؟ "

أسرعت السكرتيرة للباب وفتحته أمامها بينما دخلت هي قائلة

" ليس قبل اجتماع الثالثة ولا يمكنني تأجيله "

قالت مساعدتها وهي تضع الأوراق على الطاولة

" ليس هناك أمر لا يمكن تأجيله فصحتك هي الأهم سيدتي "

وتابعت وهي تعود وتنظر لها ومن قبل أن تعترض

" سأتكفل بالحديث مع الجميع وإعلامهم بأنه تم تأجيل الاجتماع
الثاني للغد وسنبلغ رؤساء الأقسام بالأمر أيضاً "


استسلمت نهاية الأمر واستدارت نحو الطاولة وقالت وهي تجلس
على الكرسي الجلدي

" حسناً وأحضري لي كوب ماء يا فاطمة رجاءً "

غادرت حينها المعنية بالأمر بخطوات سريعة بينما تسلمت
مساعدتها الحديث متحمسة وكانت غسق تنظر لعينيها وإن كان
تركيزها مشتت وتتمنى فقط أن تصمت دون أن تحرجها أو
تجرحها هي بطلب ذلك .

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 10-08-24, 09:12 PM   المشاركة رقم: 1779
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 



*
*
*
فتحت عينيها وجلست بحركة واحدة ونظرت حولها غاضنه
الجبين وكأنها تتأكد للحظات أين هي الآن حتى استجلب عقلها
الباطن كل ما حدث وتأكدت بأنها ليست في غرفتها في منزلهم
هناك ، وما أن أوصل لها عقلها الحقيقة كاملة وقفت وأمسكت
يديها باللحاف الأبيض الناعم وأدارته حول جسدها وهي تغادر
السرير متوجهة ناحية الحمام وكأنها ليست وحيدة في الغرفة !
وبعد حمام سريع وتجفيف شعرها القصير بالمنشفة فقط لبست
فستان منزلي قصير بالكاد وصل طوله لأعلى ركبتيها أبيض اللون
وكانت أكمامه القصيرة مزينة بدانتيل باللون الأصفر كما ياقته
المقسومة لنصفين يزينها شريط باللون الأصفر الغامق ، نظرت
لنفسها في المرآة تدور حول نفسها نصف دورة مبتسمة فقد كانت
كطفلة صغيرة خرجت من حمامها للتو ، وبعد أن أمسكت غرتها
الرطبة بمشبك أصفر اللون جانباً غادرت الغرفة وسمعت حينها
أصوات الحديث المنخفض واستغربت هل هما معتادان على هذا أم
فقط لأنها نائمة ! وكادت تضحك على غبائها فهل الرجل الذي
أبدى كرهه وانتقامه منها البارحة يفعلها ويخشى إفساد نومها !
إلاّ إنْ كانت والدته من أجبره على ذلك ، حتى أنها كانت متأكدة
بأنها لن تجده هنا ولن تراه قبل منتصف الليل .

ورغم كل ذلك لم تجعل تلك الأفكار ولا كل ما حدث يفسد مزاجها
المعتاد ولن يحظى بفرصة رؤية بؤسها وتعاستها ونتائج انتقامه
عليها فهي ندمت واعتذرت ووافقت على عقوبته .. إذاً هي باتت
بريئة في نظر نفسها وانتهى .

ما أن استدارت حول زاوية الجدار وظهر لها الجالسان على
الأرض أمامهما صينية كبيرة ممتلئة بالأطباق ويبدو يتناولان
فطورهما للتو اقتربت منهما على الفور بينما قالت مبتسمة

" لما لم يوقظني أحد حتى هذا الوقت ؟ "

وتابعت سيرها متجاهلة النظر ناحية الذي لم تسمح لفضولها أن
يجعلها تلتقط ردة فعله ووصلت عند والدته التي قالت مبتسمة
تنظر لمكان صوتها

" أنا من رفضت أن يوقظك لأن رحلتكم البارحة كانت طويلة كما
أنك نمتِ في وقت متأخر بالتأكيد "

كانت زهور قد وصلت عندهما حينها وانحنت نحوها وقبلت
رأسها قائلة بابتسامة

" صباحك بجمال الجنوب بأكمله عمتي أنتِ فقط وأويس لا "

وتشاركتا الضحك معاً وهي تجلس ونظرت هذه المرة ناحية الذي
كان يرمقها بطرف عينيه ببرود بينما كان مسدوح على الأرض
يسند مرفقه عليها يمد أحد ساقيه ويثني ركبة الساق الآخر عالياً
، ورغم كل ذاك البرود الذي وجهه نحوها لم تتغير ابتسامتها وقد
نقلت نظرها نحو التي مدت يدها نحوها قائلة

" ما أسعد صباحي وصباحه بوجودك فيه "

أمسكت زهور بيدها بكلتا يديها بينما كانت تنظر لها مبتسمة
وقد تابعت

" كيف كانت ليلتك ؟ هل نمتِ جيداً ؟ "

قالت تنظر لها مبتسمة

" أجل حتى استفقت وأنا أظن بأنني في غرفتي "


وضحكتا معاً مجدداً وتركت يديها وجلست متربعة وأصبح الفستان
بالكاد يغطي كامل فخذيها ومدت يدها نحو رغيف الخبز وقالت
بضحكة وهي تقسمه لنصفين بين يديها

" ما قيل حقيقي إذاً بأن وجبة الفطور في الجنوب تضاهي وجبات
اليوم بأكمله في باقي البلاد ! "

قالت الجالسة قربها بضحكة

" ليس كل ما يقال حقيقي فكل هذا ما أجلك بالتأكيد "

ضحكت وقالت تنظر للأطباق أمامها

" من أجلي وأنا نائمة ! "

ورفعت بقطعة الخبز في يدها قطعة من كبد الخروف المقلية
وقربتها نحو فم التي قالت لها مبتسمة

" خدي هذه اللقمة من يدي إذاً "

فتحت فمها وأكلتها قائلة بابتسامة وهي تمضغها

" هذه فقط رجاءً لأن زوجك جعلني آكل من جميع الأطباق
مرغمة "

وقف أويس حينها بينما تجنبت زهور النظر له مجدداً وتعلم بأنه
لم يتوقع تصرفها هذا وبأنها ستسجن نفسها في غرفتها تبكي
حظها التعيس ، ولم تكن تعلم بأنها أصابت نصف الحقيقة فقط أمّا
النصف الآخر سببه هربه من رؤيتها هكذا وأخذها لغرفته
وللسرير مجدداً ، بينما رفعت والدته نظرها نحوه ما أن سمعت
صوت رنين مفاتيحه وقالت

" إلى أين يا أويس ؟ "

قال يشغل نظره بالتأكد من وجود هاتفه في جيبه

" لديّا بعض المشاوير المهمة "

قالت التي لازالت ترفع رأسها له وإن كانت لا تراه

" ليس ثمة ما هو أهم من زوجتك وأنتما تزوجتما
البارحة فقط ! "

تنهد بنفاذ صبر وقال وقد نظر نحو التي عادت لقطع الخبز الطري
بين أصابعها ونظرها على ما تفعل

" هل سأسجن نفسي هنا فقط لأني تزوجت للتو ؟ "

نظرت حينها زهور نحو والدته وقالت بضحكة

" معه حق فليتركنا معاً قليلاً فقد نتحدث عنه "

وضحكتا معاً فقال الذي لازال يرمقها ببرود وإن كانت تتجاهله
والنظر ناحيته متعمدة

" إن فعلتها والدتي فلن أستغرب هذا من أحد "

وقفت حينها زهور وانحنت نحو الصينية ورفعتها وقالت
توليه ظهرها

" أنا سأجعلها تفعل هذا وأكثر منه "

وضحكت وهي تتجه نحو باب المطبخ ونظراته الحانقة تتبعها
فهي فوق تعاملها معه وكأن شيء لم يكن لا تترك أي فرصة
لإهانته بينما هو كالبليد منذ رآها فقد حتى لسانه ! سرق نظره
والدته التي قالت مبتسمة بسعادة لم يراها في وجهها من قبل

" ليسعدكما الله كم تبدو لي فتاة رائعة وتجلب السعادة للقلب "

التوت شفتاه بابتسامة ساخرة وحال قلبه يقول

( لا تحكمي على الناس بظاهرهم )

لكنّه لن يستطيع فعلها بالتأكيد ولا يريدها أن تشك في الأمر وبما
أنها اختارت أيضاً إبعادها عن كل ما يحدث بينهما فهي اختصرت
عليه الكثير من المشاكل التي لم يكن يعلم كيف سيجتازها مع
والدته .

وما أن غادر مغلقاً الباب خلفه حتى وقفت والدته أيضاً وتلمست
بيديها حتى وجدت الطبق المخصص للخبز وحملته معها ناحية
المطبخ وحيث صوت ضجيج الأطباق والأكواب ودخلت قائلة
بابتسامة

" لم تأكلي شيئاً يا زهور "

قالت التي فتحت باب الثلاجة تضع بعض العلب الحافظة فيها

" أنا معتادة على شراب القهوة أولاً في الصباح "

وأخرجت رأسها منحنية وقالت تنظر مبتسمة للتي جلست على
الفراش الموجود على الأرض

" هل تشاركيني إياها ؟ "

قالت مبتسمة

" وأنا معتادة على شرب الشاي في الفطور لكن لابأس بكوب
قهوة أيضاً "

اغلقت زهور باب الثلاجة مبتسمة وقالت تتوجه نحو الخزانة
المعلقة

" جميل فأنا لا أحب شربها وحيدة فوالدي كان يشربها معي
كل يوم "

قالت التي نظرت للفراغ أمامها مبتسمة

" يبدو أنك اشتقت لهم من اليوم الأول لك هنا "

غشت سحابة حزن ملامح زهور التي أمسكت إبريق القهوة
الفارغ بكلتي يديها وقالت

" بلى ولم أكن أتخيل أن الأمر صعب هكذا ! "

قالت الجالسة هناك مبتسمة

" الصعوبة بأكملها تكمن في الأيام الأولى ثم ستعتادين على
حياتك الجديدة بل وستشتاقين لمنزلك هنا كلما ابتعدتِ عنه "

من حسن حظها أنها كانت لا تراها ولم ترى الألم الذي ارتسم في
عينيها والسخرية التي زينت شفتيها وأرادت أن تقول بأن هذا لن
يحدث أبداً لأنها عائدة إلى هناك قريباً فهي مسألة أشهر قليلة فقط
وفترة عقوبة عليها تلقيها ثم العودة من حيث جاءت ، لكنّها لن
تتسبب في حزن قلب هذه المرأة من الآن وستتركها حتى تلمس
يداها حفيدها وتفرح به فسيلهيها ذلك عن فراقها لهم بينما
ستترك هي قلبها هنا وتغادر .

استغفرت الله بهمس كئيب وتوجهت ناحية صنبور المياه وفتحته
في الإبريق قائلة بصوت باسم كي لا تشك بأفكارها تلك

" ما الذي تريدين تناوله على الغداء ؟ "


قالت تلك مبتسمة

" أي شيء يمكنك طبخه سيعجبني بالتأكيد "

اغلقت الصنبور وتوجهت به نحو الموقد قائلة بابتسامة

" وأنا يمكنني إعداد كل شيء "

" حقيقة هذه ! "

قالتها والدة أويس متفاجئة فضحكت والتفتت برأسها فقط
نحوها قائلة

" أجل حقيقي .. صحيح بأنني لم أنهي الدراسة بعد لكن والدتي
علمتني كل شيء ومنذ كنت في المرحلة الثانوية ، كما أنها لا
تسمح للخادمة بإعداد الطعام لنا بل أنا وهي من نفعل هذا "


ابتسمت حينها بحب وقالت تنظر للفراغ أمامها

" سبحان الذي جمّلك وكمّلك ورحم من رباك "

ابتسمت زهور بحب حقيقي نابع نحوها وقالت

" ويحفظك لنا "

وما أن وضعت الإبريق على النار تحركت نحو الثلاجة مجدداً
وفتحتها وقالت والدة أويس حينها

" أعطني كل الخضار التي تحتاجين لتقشيرها وتقطيعها إذاً "

التفتت زهور نحوها بكامل جسدها وقالت تمسك وسطها بيديها

" لا بل لن تلمس يداك شيئاً من اليوم وصاعداً ، وأنا من ستقوم
بأعمال المنزل جميعها "


قالت التي تغلبت عليها ضحكة صغيرة

" وما الذي أفعله أنا إذاً ! "

قالت زهو بضحكة تخرج كيس اللحم من براد الثلاجة

" الأكل والنوم فقط بالطبع "

وضحكتا معاً وكل واحدة حب الأخرى في قلبها يتعاظم بالرغم من
كل التعاسة التي يحملها قلب كليهما وكأن كل واحدة منهما وجدت
مواسيها في رحلتها الصعبة في الحياة تلك .

*
*
*
مالت بجسدها جانباً ما أن انحنت الخادمة أمامها تضع صينية
القهوة وقالت بتذمر حين حجبت عنها شاشة التلفاز

" ابتعدي قليلاً سعاد أرجوك "

ضحكت الخادمة وهي تبتعد بينما شكرها دجى مبتسماً وهو يرفع
كوب القهوة ونظره معلق بالشاشة يتابعان كل كلمة قيلت في تلك
المقابلة والمذيع يتنقل ببراعة بين ضيوفه ممّا جعل ذاك اللقاء
ينحدر نحو الدعابة أحياناً وإن كانت الضحكات قد توزعت بين
رجاله فقط بينما اكتفى زعيمهم بابتسامات قصيرة .

كانت نظرات دجى تعبّر عن تفاعله مع كل ما يقال ويسمع بينما
عينا تيما كانت تنظر لشخص واحد بحب وفخر ومن كانت آلات
التصوير أساساً قد جعلت كامل تركيزها عليه تقريباً خلال اللقاء
الذي تجاوز الساعة ونصف حتى الآن .

توجه نظر المذيع نحو قاسم ونظر لورقته قبل أن يعود وينظر
له وقال

" لقد أثبتت للعالم بأكمله وليس البلاد فقط بأنك قادر على إدارة
جهاز حساس كالمخابرات فهل سنرى السيد قاسم في مناصب
أخرى مستقبلاً "

ابتسمت تيما وهي تتوقع جوابه والذي أصابت فيه وقد قال

" أنا لا أريد كل هذا ولم يجبرني عليه سوى الأوامر "

وهو ما جعل ابتسامتها تتسع أكثر وتمتمت بضحكة صغيرة

" لأنك تريد أن تكون امرأة يا أحمق "

نظر دجى نحوها حينها وقال مستغرباً

" من هذا الذي يكون امرأة ! "

ابتسمت محرجة ولم تعلق وعادت بنظرها نحو التلفاز وجذب
المذيع تركيزهما مجدداً ما أن قال

" الجواب عند الزعيم مطر إذاً فهل استحق أن يكون رجل
المخابرات للبلاد مستقبلاً ؟ "

قال مطر حينها وبجدية

" المكان مكان عمير وما أن يستعيد عافيته سيعود لمنصبه "

ابتسم المذيع وقال

" يمكن له أن يكون في مكان حساس آخر بما أننا نرى الشخص
المناسب في المكان المناسب الآن ، كما أن الجميع يستغرب أن
سيادتكم لم تسلموه أي مناصب سيادية سابقاً ! "

قال مجدداً وبحاجبين معقودان بقوة

" بل عمير هو الأجدر بهذا ولن ننسى ما فعله عند الحدود
الغربية للبلاد ولولاه بعد الله لكان المتطرفين يتجولون في شوارع
صنوان الآن ويقطعون رؤوس رجال الجيش والشرطة ، ولن
أتحدث عمّا فعله ونحن في الخارج لأنه سيطول الحديث عنه "


قال المذيع مستغرباً

" أيعني هذا أنك لا تثق في قدرات ابن عمتك ! "

قال مطر سريعاً

" لو كنت كذلك ما سلمته أغلى ما أملك وهي ابنتي واستأمنته
عليها ليكون السند لها من بعدي "

جعلت كلماته تلك الجالسة مقابلة للشاشة تبتسم بحب وعيناها
تلمع بالدموع الحبيسة وهمست

" ليحفظك الله لي "

تحدث صقر حينها وقال موجهاً حديثه للمذيع

" كان يجذر بك التفكير في السؤال قبل طرحه لأن ابن شقيقي لم
يسلم أي مناصب لأقاربه مطلقاً وما فعل هذا إلا بسبب وضع عمير
ولأنه يثق في قاسم الذي كان خياره الأول متنازلاً عن مبادئه "


نقل المذيع نظره منه لمطر وقال

" هذا يعني بأننا لن نرى مستقبلاً أي رجل من عائلة الشاهين
في الحكم "

قال مطر مباشرة

" نعم وسيختار الشعب بين المرشحين حينها من يجدر لرئاستهم
وتولي كل المناصب تحتها "

ارتفع حاجبا محدثه وقال مستفهماً

" الأغلب توقع أن يكون الاختيار عن طريق مجلس شورى بما
أننا نرى تطبيقك للشريعة الإسلامية منذ دخلت البلاد ! "


مال طرف شفتاه بابتسامة ساخرة في أول تعبير له غير الجدية
والحزم وقال

" هذا لا يجدي مع بلاد تحاول إعادة نفسها للتقسيم مجدداً "

كان اتهاماً واضحاً منه بأن الشعب من يدفع بعض الأمور نحو
الأسوأ وهو ما أكده سؤال المذيع التالي حين قال

" هل هذا يعني أننا قد نرى أحد أبناء شراع صنوان الثلاثة
رئيساً لها ؟ "

قال مطر من فوره وببرود

" إن اختاره الشعب فهو من حقه "

" حتى جبران شراع ! "

كان سؤاله سريعاً ومنطقياً أيضاً ومن الطبيعي أن يفكر في هذا
كما كان الجالس أمامه يتوقعه لذلك قال وبجدية

" كلامي واضح وليتحمل الجميع نتائج اختياراته ، هذا هو مبدئي
من اليوم وصاعداً "

جعلت كلماته تلك الحزن يسيطر على الملامح الجميلة والعينان
الزرقاء المحدقة في التلفاز وكلام قاسم سابقاً يتكرر أمامها وبأن
الشعوب لا تهتم لهوية من يحكمها ولا طريقة الحكم التي سيطبق
عليها مادامت حاجاتهم الأساسية متوفرة ، لكنَّ ما قاله الآن
مخيف ولم يكن كلام والدها سابقاً ومن أفنى عمره ودفع سعادته
ثمناً لتوحيده !

كان ذاك آخر سؤال وختم بعدها المذيع المقابلة يشكر كل واحد
منهم على حدا فتحررت عيناها حينها من سيطرة تلك الشاشة
المضيئة عليهما ونظرت نحو الجالس بجانبها وقالت بعبوس
حزين وكأنه لم يكن موجوداً معها ورأى وسمع كل ما قيل

" رفض الإجابة عن جميع الأسئلة التي تخص المحكمة وقضية
الطلاق ولا حتى أن ينفي الكاذب منها ! "


قال دجى بتفهم

" لأن غرضه من هذه المقابلة ليس الخوض في خصوصياته ولا
يعنيه ما نظرة الناس وأحكامهم عليه ، كل ما كان يهدف له هو
توضيح النقاط السياسية المبهمة عن عامة الشعب كي لا يتلاعب
المندسين بأفكارهم ، حتى أنه لم يكن وحيداً في هذا اللقاء
كالمعتاد من أمثاله لأنه يرى بأنهم صنعوا النصر معاً وليس
وحده ، أي أن المقابلة بالنسبة له لا تخصه هو وليست للتحدث
عنه ، كما أنك تعلمين جيداً مدى كره والدك للتدخل فيما يخصه
وحده "


تنهدت بأسى حزين ونظرت نحو التلفاز وقالت بحزن

" لا أنكر بأنني كنت أنتظر أن يجيب على الأقل عن الأسئلة التي
تخص قضية الثأر وذاك الشرط المجنون الذي وافقهم عليه "


وساد الصمت المكان مع توقف كلماتها تلك وهو ما جعلها تنظر
نحوه ووبخت نفسها على ما قالته وهي ترى نظرة الشرود
الحزين في عينيه اللتان كان يحدق بهما في الفراغ وهو ما جعلها
تستدير بجسدها نحوه وأمسكت يدها بيده التي كان يريحها على
فخذه وقالت

" جدي لا أحد يلقي باللوم عليك لقد كنت بطلاً ولازلت كذلك في
نظرنا لأنك لم تسمح بما كانوا يفعلونه ويخالف مبادئك "


حرك رأسه ولازالت نظراته شاردة في الفراغ وتمتم بهدوء

" هي أقدار الله لا أحد يمكنه الهرب منها "

ونظر نحوها وابتسامة حزينة ترتسم على شفتيه بينما لامست
أصابعه خصلات غرتها الناعمة يدسها خلف أذنها وقال ينظر
بحب لعينيها الحزينة

" ثم لكل شر ظاهر خير ما في باطنه فكل ما حدث جعلني أُرزق
بحفيدة رائعة مثلك "

شقت ابتسامة صادقة ملامحها وعيناها قبل شفتيها كم شعر بها
انعشت روحه وقالت

" بل الابنة قبل ذلك "

قرص خدها وقال بضحكة صغيرة

" بالتأكيد وليحفظكما الله لي "

تبدلت ملامحها للأسى الحزين فجأة وتنهدت قائلة بشرود حزين

" كم أنا مشتاقة لها "

قال دجى ينظر لعينيها يشعر بالحزن فيهما يعتصر قلبه

" سأتحدث مع والدك ليتركك تزوريها فأنتِ لا علاقة لك بكل ما
يحدث بينهما "


وكان هذا ما جعلها تقول مندفعة

" لا جدي أرجوك لا أريد أي شجارات بينكما "

وحين لم تلمح أي استجابة لطلبها أمسكت بيده وقالت برجاء

" أرجوك جدي "

تنهد مستسلماً وهو ما جعلها تشعر بالراحة فلن تتخيل نوع
الصدام الذي سيكون بينهما إن تحدث معه في الأمر وهي تريد
أن تتحدث معه بنفسها ما أن يهدأ قليلاً .

انتقل نظرها نحو باب الغرفة الذي انفتح فجأة ونظرت باستغراب
للداخلين منه وهم قاسم وصقر ووالدها أيضاً ! وهو ما جعلها
تنقل نظرها منهم للتلفاز وقالت وهي تعود وتنظر لهم

" ألستم في مبنى الإذاعة ! "

ضحك صقر بينما قال قاسم مبتسماً

" البث ليس مباشراً وتم تسجيله قبل ذلك بثلاث ساعات تقريباً "

قالت بضحكة محرجة

" ظننتكم هناك ونحن نراكم هنا "

كان الضحك من نصيب قاسم وصقر معاً هذه المرة بينما ابتسم
الوجه الذي كان يتسم بالجمود قبل قليل وهو ما جعلها تقف
وتركض نحوه وحضنت خصره ورأسها يتكئ على كتفه وقالت

" أحبك أبي "

لامست يده شعرها بينما ضحك صقر وقال يرمق قاسم
بطرف عينيه

" لقد فات القطار أحدهم "

واجهه قاسم بالبرود ذاته قائلاً ينظر لعينيه

" وأنا لا أريد امرأة لا تحب والدها وتفخر به ، بل وأريدها أن
تنجب وتربي أبناءً يشبهون ما تربت هي عليه "

نصب دجى ساق على الأخرى وقال ينظر لصقر

" انتصر عليك بهذه "

قاطعت تيما كل ذلك وهي تبتعد عن والدها وقالت مبتسمة تنقل
نظرها بينهم

" هيّا اجلسوا جميعكم سأعد الشاي والكعك بنفسي "

لكنّ تلك الابتسامة ماتت في مهدها ما أن قال مطر

" تيما ورائي سفر لشرق الهازان الآن لنتركها لوقت آخر "


وهو ما جعلها تتنهد بخيبة أمل بينما همست شفتاها بحزن

" حسناً "

تدخل حينها صقر وقال ونظره موجه نحو ابن شقيقه وبنظرة
يفهمها جيداً

" لا شيء لا يمكن تأجيله "

ونظر بعدها نحو تيما وقال من قبل أن يعترض

" هيّا أرنا إبداعك "

ضحك دجى وقال

" هل سنأكل شيئاً يا ترى ؟ "

نظرت له تيما بعبوس طفولي جعله يضحك بينما قال
صقر بضحكة

" ينتابني الشك حيال ذلك "

نظرت نحوه حينها وقالت بضيق تمسك خصرها بيديها

" لا تسخر من قدراتي وسترى جمال الكعكة التي ستتناولها "

جلس حينها صقر مرتمياً بجسده على الأريكة وقال بابتسامة
يشاكسها

" الأمر سيحتاج لثلاث ساعات كأقل تقدير إذاً لذلك لنجلس
ونناقش وضع البلاد ونجد الحلول أيضاً ونطبقها "

وضحك عند نهاية كلماته تلك وهو ما جعلها تضرب الأرض
بقدمها وقالت حانقة

" عمي صقر ! "

ضحك وقال يفرد ذراعيه على ظهر الأريكة خلفه

" أنا خالك ولست عمك "

قالت بضيق

" بلى كلاهما ولذلك كان عليك تشجيعي ومدحي ليس
أن تسخر مني أمامهم هكذا "

نظر حينها ناحية مطر والذي كان لايزال واقفاً مكانه عكس البقية
بينما كان يضع يديه في جيبيه فارداً ساقيه قليلاً في وقفة مميزة
زادتها ثيابه ذاتها التي كانت في التصوير وأشار له برأسه قائلاً

" والدك يشهد لك أنا لم أراك إلا هذا العام "

تقوست شفتاها بحزن ونظرت ناحية الذي نظر لصقر وقال ببرود

" كل ما تفعله ابنتي صائب لذلك ستأكل وأنت صامت تماماً "

وكان ذاك ما جعل وجهها يشرق بابتسامة جميلة وحضنته مجدداً
قائلة بينما ترمق قاسم بطرف عينيها

" كم أحبك أنت فقط "

وهو ما جعله يقول مندفعاً

" هيه أنا لا دخل لي بكل هذا ووالدك لم يتحدث إلا بسبب
ما قاله عمه "

قال دجى حينها ونظره موجه لقاسم بينما كان يمسك ضحكته

" أنت تحديداً من سيأكل كل ما سيتبقى منها ولن تقول غير أنها
رائعة ورغماً عنك "

تنهد المعني بالأمر ورفع يديه قائلاً بابتسامة

" سأفعل بالتأكيد وبصدر رحب "

قالت التي ابتعدت عن والدها ضاحكة

" الآن سامحتك "

وتوجهت ناحية باب الغرفة قائلة

" ستكون جاهزة في أقرب وقت لا أحد يغادر أو غضبت منه "

وغادرت مغلقة الباب خلفها وجميع الأعين تتبعها والابتسامات
المتباينة تختفي وكأنها فُرضت على وجوههم من أجلها فقط
وليرى كل واحد منهم ابتسامتها التي يعشق ، كان صقر من كسر
كل ذاك الصمت الذي ساد المكان بعد خروجها وقد قال ينظر
للواقف مكانه

" ما هي الخطوة القادمة الآن ؟ "

تنهد مطر وقال ببرود

" كانت ستكون في رحلة اليوم لكن ها هي ألغيت "

قال دجى من فوره

" لابأس في الأمر فابنتك أولى من كل شيء لعلّها تنسى قليلاً
الحزن الذي يأكلها "

لم يعلق على ما قال بينما توجه نحو الكرسي المقابل لهم وجلس
عليه وقال ينظر له تحديداً

" طلبت أن نكون هنا جميعنا لأنه ثمة ما علينا مناقشته يخص
وضعك مستقبلاً "

تبدلت ملامح دجى للضيق وقال

" أما زلت مصراً على قرارك الجنوني ؟ "

قال مطر بضيق مماثل

" قراري هو ما سيعالج الأمر بأكمله جنونياً كان أم لا النتيجة
واحدة "

كانت نظرة دجى تشرح ما سيكون تعليقه على ذلك لكن ما أن
كان سيتحدث توقف فجأة وأشاح بوجهه جانباً ومتمتماً
بغضب مكبوت

" الله المستعان "

وهو ما جعل الجالس أمامه يقول والضيق في صوته كما ملامحه
يزداد حدة

" عمي رجاءً لا تنظر للأمر من جانب واحد وكن عادلاً "

وما أن كان المعني بالأمر سيتحدث سبقه صقر قائلاً بحزم

" اتركه يتحدث يا دجى فالمأزق شديد والخروج منه لن يكون
بالصراخ والشجارات بل بالتروي "


كان يريد أن يقول أي تروي وتفكير وهو يقرر ما فيه هلاكه
وهلاكهما معه فهو ليس ينقذهما بهذا بل يقتل قلوب الجميع ،
لكنّه اختار الصمت مكرهاً ومتى كان يملك شيئاً غيره فقد حكم
على نفسه به من أكثر من ثلاثين عاماً ولن يستمع لرأيه ولا
قراراته أحد الآن ولا يستطيع تنفيذها رغماً عن الجميع وهو هنا
سجين وتحت حراسة مشددة أيضاً .

*
*
*
كانت منتبهة مع مساعدتها وهي تشرح لها عن جدول أعمال الغد
حين انفتح باب مكتبها وأطل رأس سكرتيرتها وقالت مبتسمة

" ثمة ضيف لا يمكن صرفه لأنه قادم من دون موعد "

نظرتا لها باستغراب بينما اندفع الباب ودخل رعد لحظة مغادرة
الفتاة الشابة وهو ما جعل مساعدتها أيضاً تعتذر مبتسمة
وغادرت مغلقة الباب خلفها ، ولأن الواقفة قرب طاولة مكتبها
كانت تتوقع ما سيقوله وقد ظهر العتاب واضحاً في نظراته سبقته
قائلة

" لقد رفعت الدولة يدها من المشروع وكان عليّا أن أكون هنا
في أقرب وقت "

وتركته ونظراته المستغربة أو الذاهلة بمعنى أدق واستدارت نحو
الطاولة تجمع الأوراق في مغلف بني كبير ، ولأنها ترفض
الخوض في الحديث عن الأمر وثمة ما هو أهم منه وضعت الملف
واستدارت نحوه مجدداً قائلة

" كل هذا وغيره لا يهم أمام ما قد يحدث لجبران الآن "

رمقها بنظرة تفكير قبل أن يقول

" هل شاهدتِ المقابلة ! "

زمت شفتيها بقوة قبل أن تحررهما قائلة

" ألمهم منها وصل لي "

حرك رأسه في حيرة متمتماً

" لا أفهمك يا غسق ! "

تكابدت على جرح كرامتها وهي تقول

" ما كان يمسك مطر عن جبران هو أنا يا رعد وقد قالها لي
سابقاً بنفسه لم يقتله لأني أعتبره شقيقاً لي "

كانت الصدمة واضحة على ملامح الواقف هناك فهو توقع كما
الجميع بالتأكيد بأن السبب هو الخوف من ردة فعل صنوان على
هذا بينما جَهِل الجميع أن ذاك الرجل لا يخشى شيئاً ولا أحداً
وهو رجل الحروب ، كانت نظراته وكأنها تبحث عن جواب ما في
عينيها بينما لم تنتظر هي تعليقه على الأمر وتابعت بابتسامة
ساخرة

" أما الآن غسق ودماء جبران أصبحت سواء بالنسبة له ولن
يتراجع عن فعل ما هدد به "

حرك رأسه في حيرة وقال

" لا يمكنني استيعاب ما أسمعه الآن ! "

وراقبت نظراته بالكثير من الترقب التي تنهدت بعمق قبل أن تقول
بنبرة لم يفهمها وكأنها تخاطب نفسها ولا تراه أمامها

" بلى وحتى الحرب على صنوان أوقفها في الماضي لذات السبب
وهو أنا "

ولم تكن تلك المفاجأة بأقل من سابقتها بالنسبة له وهو من
تساءل كما الجميع عن جواب السؤال الذي رفض الإجابة عليه
في تلك المقابلة بينما عجزت شفتاه سوى عن الهمس مستغرباً

" كيف هذا ! "

ابتسمت بمرارة قائلة

" تلك هي الحقيقة وهو قال بنفسه أن السبب واحد "

اتسعت عيناه وقال بعدم تصديق

" هذا يعني أن والدي ...! "

وضاعت الكلمات منه أمام صعوبة النطق بها ولا حتى تصديقها
وهو ما جعلها تتولى المهمة بدلاً عنه وإن كانت وكأنها تنتزع كل
حرف كأشواك من حلقها بينما ملأ القهر عينيها قائلة

" أجل والدي شراع هو من رفض السِلم واختار الحرب حينها
ومن ثم كانت تلك الاتفاقية التي حاصروا بها مطر أكثر "

تحرك رأس رعد بعدم تصديق هامساً

" لا يمكن هذا ! "

وراقبت نظراته الذاهلة التي لم ترحمه بنفي ذلك أو التشكيك فيه
وهي تقول بأسى حزين

" هو الواقع الذي كان يخفيه مطر عنّا جميعاً "

أخفض رأسه عند ذلك يشد عينيه بأصابعه بقوة يشعر بما لا يمكن
وصفه وكأن غمامة داكنة تجثم على صدره وقلبه يقول

( يا ألهي لن تفجعها في الرجل الذي رباها أيضاً )

ولم ترحمه كما لم ترحم نفسها وقالت بحزن عميق

" منذ سمعت هذا منه وألم لا يمكن وصفه أشعر به في قلبي "

ارتفعت نظراته لها مجدداً وكانت عيناه مليئة بالألم ذاته الذي يراه
في عينيها الدامعة وإن لم تفارقها تلك الدموع بينما تابعت بمرارة

" كان يحمل كل هذا في قلبه والآن رماني به ودون رحمة "

تنقلت نظراته في عينيها بضياع وقال

" والمعنى ؟! "

قالت التي لم يكن إخراج تلك الكلمات أيضاً سهلاً بالنسبة لها

" المعنى واضح ولأنه لا يفعل شيئاً خارج القانون فسيكون ثمة
محاكمة عسكرية قريباً بخصوصه بالتأكيد والحكم فيها لن يتخطى
الإعدام لأن جبران رجل جيش "


اقترب حاجباه وقال باقتضاب

" أعلم جيداً بكل هذه القوانين ما أعنيه لما رد فعله هكذا يا
غسق ! لن يفعل كل هذا فقط لأنك رفعتِ ضده قضية طلاق ؟! "


وكان ذاك ما جعلها تبعد نظرها عنه بل وأشاحت بوجهها جانباً
وكأنها تهرب من سؤال لم تتوقعه أبداً وهو ما جعله يقول

" غسق ! "

نظرت له وإن في صمت بينما كانت قبضتاها تشتد بقوة جانب
جسدها وكأنها في حرب ضروس مع نفسها للإجابة عن سؤاله
ذاك ، ولأنه لا مفر من قول الحقيقة إن الآن أو في وقت آخر
قالت معترفة

" لقد سلمني مفتاح مكتبه الخاص وأنا استغللت ذلك لأخذ أوراق
تخص القضية "

كان وقع الصدمة عليه كالمتوقع تماماً ورفع رأسه عالياً يمسكه
بيديه وأصابعه تلتقي عند مؤخرة عنقه ينظر للسقف وكأنه يفرغ
هول الفاجعة بذلك بينما همست شفتاه

" يا إلهي "


وما أن أنزل رأسه ونظر لها قال بعدم تصديق ينظر لعينيها التي
كانت تسدل جفنيها عليهما

" هل تعي معنى أن يثق رجل مثل مطر شاهين بشخص هكذا !
هل تعلمي بأنه لن يفعلها ولا مع أقرب رجاله المقربين ؟ "

ولأنه لم يكتفي من ذلك ، بل وكأن الكلمات تريد أن تقفز من حلقه
كصفعات حقيقية تابع بصوت حاد غاضب

" وهل تعي أكثر معنى أن يفقد رجل مثله ثقته في أحد ؟ بل أن
يطعنه أحدهم لأنه وثق به "

نظرت له وواجهته بالصراخ ذاته وإن كان مدججاً بالألم الذي
نطقت به عيناها قبل كلماتها

" أعلم وأعلم بأني خسرت الحرب مع الجميع وأولهم نفسي لهذا
أخبرتك بأن كل شيء انتهى ولن تجدي الاعتذارات "


وما أن انتهى سيل كلماتها تلك توجه نظرها كما وجهها جانباً
ناحية الإطلالة الزجاجية لمكتبها والمطلة على العاصمة من آخر
طابق في البرج وكأنها ترسم صورة لها في عينيها الحزينة بينما
تحركت شفتاها بما هو أعمق وأشد حزناً

" قبل أربعة عشر عاماً ظننت بأني خسرت كل شيء لكن الآن
اكتشفت العكس وأنها لم تكن خسارة تلك "

أغمض رعد عينيه متنهداً بأسى حزين وشعر بالندم وهو يتذكر
كلمات رمّاح بل وكل ما مرت به اليوم ويظهر جلياً على ملامحها
المتعبة فخساراتها تتوالى دون توقف ، خسرت زوجها والرجل
الذي تحب طفلاها والدها الحقيقي وحتى والدها الذي رباها اهتزت
صورته بفاجعة لا يعلم ما مقدار تقبلها لها !

ورغم كل ذلك ها هي واقفة وفي مكتبها وتحاول الصمود وإن
عجز كل شيء فيها عن فعل ذلك ، وكان هذا ما جعله يقول بكل
ما استطاع من هدوء

" توقفي عن لوم نفسك يا غسق فما حدث لا يمكن العودة
به للوراء "

استدارت نحو مكتبها وقالت ترتب باقي الأوراق أمامها

" أنا ضحية كالجميع لكن لا أحد سينظر لي هكذا "

تنهد بحزن وقال

" ثمة أخطاء لا تغتفر أبداً يا شقيقتي لأن الناس تراها هكذا فقط
أمّا من أراد أن يجد لك أعذاراً فسيجدها "

انتظر أن تعلق على ذلك لكنّها لم تفعل كما كان يتوقع لذلك قال
وهو ينظر لها تدس بعض الأوراق في حقيبتها بعدما طوتها

" أرى أنك متعبة هيّا سآخذك أنا للمنزل "

قالت بهدوء وهي تغلقها

" لن أذهب إلى هناك "

غضن جبينه باستغراب وقال

" أثمة مشوار ما لديك ؟ أم تعنين بشكل نهائي ! "

نظرت له وقالت

" سأذهب لمنزل عائلتي "

كانت نظرة الاستغراب أو عدم التصديق واضحة في عينيه وهو
ما جعلها تتابع

" لن أستطعم طعم الراحة ما لم أرى والدي وأتحدث معه "

أومأ برأسه موافقاً ولم يعترض فهم عائلتها بالفعل وقد يشعرها
هذا بالتحسن وإن قليلاً خاصة بعدما علمته اليوم وإن كان يخشى
تبعات اللقاء الأول بينها وبين ذاك الرجل الغاضب درجة أن بدأ
معاقبتها من الآن وبأبشع الطرق ، وكل ما تمناه قلبه أن لا تلتقي
به ويستبعد ذلك فبالتأكيد مشاغله الكثيرة لن تترك له وقتاً ليكون
هناك ، قال ونظره يتبعها وهي تتحرك بآلية وخطوات واثقة

" سأوصلك إذاً وسأخبر أحد سائقي البرج يوصل سيارتك
إلى هناك "

وما أن توقفت ورفعت نظرها له قال بأمر حازم

" والاعتراض ممنوع يا غسق "

*
*
*
تغضن جبينها وارتفع جفناها لتظهر أمامها الأوراق اليابسة ونملة
كبيرة الحجم تحاول السير مجتازة إياهم وبدأ عقلها يربط الصور
أمامه مع ما حدث البارحة ليختفي كل ذلك بسبب الحذاء الأسود
الذي دعسها بينما ارتفع الصوت الرجولي الذي يبدو أنه السبب
في إيقاظها قبل قليل منادياً

" ها هي هنا سيدي "

لتتكاثر الأصوات والأقدام سريعاً قبل أن يخترقها صوت تعرفه
جيداً وهو فاليريو والذي شعرت بأصابعه تلتف حول ذراعها
قائلاً بقلق

" ماري هل أنتِ بخير ! "

وحاول رفع جسدها يشدها من تلك الذراع لكنّها لم تستجب له ولم
تساعده على فعل ذلك فانحنى نحوها ورمى ثقل جسدها على
صدره ومرر يده الأخرى تحت ركبتيها وحملها بين ذراعيه ووقف
بها وتحرك من هناك قائلاً

" اجلب السيارة لأقرب مكان سنتجه نحو الطريق المعبد "


كان القلق واضحاً على ملامح الشاب الذي ترك عمله وعاد
للمنزل ما أن تلقى اتصالاً من الحرس هناك وكان طوال الطريق
يلتفت وينظر لها خلفه حيث كانت مرمية على المقعد الخلفي
وكأنها جثة لا حياة فيها ! وحينما وصل بها للمنزل وضعها على
سريرها أجلسها على طرفه فسقط جسدها على ظهر السرير تتكئ
عليه بكتفها ورأسها منخفض نحو الأسفل فنظر نحو الواقفتان
قربه تراقبانها بقلق وقال

" أوليفيا هل تساعديها لتستحم وسأتصل بالطبيب ليأتي سريعاً
ويراها "

خرجت حينها كلماتها الهامسة من خلف الشعر البني الذي يغطي
أغلب وجهها

" لا داعي لهذا أنا بخير "

نظر نحوها وقال عاقداً حاجبيه بقوة

" لا أرى أنك كذلك ماري "

استقامت في جلوسها يداها تمسكان بخشب السرير تحتها بينما
لازالت تنزل رأسها نحو الأسفل وقالت بصوت مرتخي متعب

" قدماي تؤلمانني فقط وسأكون بخير "

توجهت أوليفيا نحوها قائلة

" هيّا آنستي سأساعدك لتقفي "

ووقفت بمساعدتها وتوجهت بها نحو باب الحمام تسير بصعوبة
تكتم تألمها كي لا يخرج أنينها حتى أصبحتا في الداخل وأغلقت
الخادمة باب الحمام ، نظر حينها فاليريو للتي لازالت تقف قريباً
منه وقال

" ما الذي حدث يا ربيكا ؟! "


نظرت له الخادمة وقالت بكلمات سريعة

" لا أعلم سيدي كنت أتحدث معها وأصابها شيء ما فجأة ! "

وانطلق لسانها كالمعتاد تتحدث دون توقف وعن أدق التفاصيل
وما يخص الأمر وما لا يخصه حتى انفتح باب الحمام وسرق
نظرهما اللتان خرجتا منه وتحديداً التي لازالت تخطو بصعوبة لا
يغطي جسدها سوى منشفة الحمام يدها تمسك بها ناحية صدرها
بقوة وكأنها تخشى وقوعها من على جسدها بالرغم من استحالة
ذلك ! بينما تبعتها نظراتهما وهي تدخل بها ناحية غرفة
الملابس .

وما هي إلا لحظات وخرجت الخادمة وحدها من هناك ووقفت
ونظرت لهما قائلة بعبوس

" لم تسمح لي بمساعدتها "

قال فاليريو باستغراب

" كنتما معاً في الحمّام ! "

حركت تلك كتفيها وقالت بقلة حيلة

" كنت أوليها ظهري ، وافقت فقط على بقائي فيه قريباً منها "

وتابعت من فورها وبنبرة قلقة

" قدماها متورمتان ومليئتان بالخدوش والجروح ، لا أعلم أي
ألم هذا الذي تتحمله وهي تسير عليهما ! "

واستدارت عند نهاية كلماتها تلك للتي خرجت تمسك يدها بطرف
إطار الباب وأمسكت بذراعها سريعاً قائلة

" سأساعدك سيري ببطء "

وما أن أوصلتها للسرير ساعدتها لتجلس عليه وقالت وهي
تتوجه نحو باب الغرفة

" سأجلب مرهماً للجروح سيفيدها كثيراً "

نظر حينها فاليريو للواقفة مكانها تتابع ما يجري وقال

" ربيكا أعدي لها حساءً ساخناً رجاءً "

تحركت من فورها قائلة

" في الحال سيدي "

وغادرتا كليهما بينما توجه هو نحو كرسي طاولة التزيين سحبه
نحو السرير وجلس عليه ومقابلاً لها وقال

" ماري ما بك ؟! "

وراقب ملامحها وعيناها التي كانت تبعدها عنه وتابع
بترقب وريبة

" أو ماريه .. هل هذا هو اسمك ؟ "

نظرت له بحركة سريعة وقالت مندفعة

" بل ماري .. ماري مديتشي "

تغضن جبينه باستغراب ينظر لعينيها المجهدة وقد حفها جفنان
محمران بوضوح والغضب الذي كان يتفجر منهما وهي تقول ذلك
وكأنها تتبرأ من الآخر ! قال أخيراً ونظره لم يترك عيناها

" سألت ربيكا عمّا حدث لكن لا يبدو ما قالته مفهوما ً ! "

وحين لم يبدر منها أي تعليق وفهم جيداً أنها ترفض الشرح قال
مجدداً وإن بطريقة أخرى

" هل قام أحدهم بمضايقتك هنا ؟ الخادمات الحرس السائق أو
حتى والدي ؟ "

" لا "

همست بها سريعاً دون أن تضيف أي شيء آخر وهو ما جعله
يتنهد بعمق وقال بالكثير من الصبر والتفهم

" ما الذي حدث إذاً ! "

والحال ذاته لم تنبس شفتاها بكلمة وإن كانت لازالت تنظر لعينيه
ولم تتهرب كالسابق ، ولأنه لا حل أمامه غيره قال يحاصرها بما
يملك من معلومات

" مارية أليس هو الاسم الذي يناديك به ذاك الشاب اليوناني ؟! "

وعند هنا عادت للهرب من عينيه بحركة بطيئة من جفنيها فعلم
بأنه أصاب الحقيقة فقال باستغراب

" هل تحدث معك ؟ "

رفعت نظرها له بحركة سريعة وقالت

" لا ولن يحدث ذلك ولا أريد التحدث معه "

وكان هذا ما جله يحرك رأسه في حيرة وقال

" لا أفهم حقاً نوع العلاقة التي تجمعك به لكني علمت القليل من
لوسي عمّا حدث في إيطاليا قبل موتك المزعوم "

قال آخر كلماته تلك ينظر لعمق عينيها وكأنه يبحث عن الكثير
فيها فيما يخص ذاك الماضي وهو ما جعلها تبعد ليس فقط عيناها
بل وجهها عنه وقالت بكلمات مقتضبة

" لا أريد التحدث عن الأمر فاليريو أرجوك "

ولأنها تعلم بأن الأمر لن ينتهي عند ذلك نظرت له مجدداً وقالت
تسبقه

" ثم ذاك الشاب لديه خطيبة وسيتزوج بها وهذا دليل كافٍ "

لا تنكر بأن تلك الكلمات خرجت كالأشواك تذبح روحها وهي تقول
الحقيقة التي لازال يرفضها قلبها وإن أقرّ بها عقلها ، وظنت بأن
الأمر انتهى أخيراً لكنّها كانت مخطئة تماماً فالجالس أمام سريرها
لم يكتفي بذلك كما يبدو وقد عاد للتحقيق معها قائلاً

" أجل هذا من جانبه هو فماذا عنك أنتِ ماري ؟ "

حاولت جاهدة أن لا تخونها أنفاسها ولا دموعها ولا أي تغيّرات
في ملامحها فماضي تلك الفتاة سيطاردها ويوجه أصابع الاتهام
نحوها دائماً لأنها كانت غبية مثلها تماماً تعلق قلبها بشاب لا
يعترف قلب رجل الحرب داخله بالعواطف لذلك سمحت لها هي
بأن تتحدث نيابة عنها حينها وقالت بجمود تنظر لعينيه المترقبة
في انتظار تعليقها

" لا شيء فماري ماتت عند تلك الصخرة ، هذه واحدة أخرى
مختلفة تماماً "

ارتخت ملامحه فجأة وظهر طيف ابتسامة على شفتيه وقال

" أتمنى هذا ماري على الرغم من صعوبته لكنّ البعض أقوياء
وقادرين على فعلها وأنتِ تبدين كذلك بالفعل رقيقة وهشة من
الخارج وصلبة قوية من الداخل "


وتابع من فوره وهو يقف وكأن جلسة التحقيق انتهت أخيراً

" سأتركك ترتاحي وإن تحدث معك والدي أخبريه بأنك غادرتي
معي البارحة لأن هذا ما أخبرته به وأخبرته بأني من أجبرك على
المغادرة معي وترك الحفل كي لا يغضب منك "

تبدلت نظراتها للاستغراب بينما تجاهل هو كل ذلك وأن يشرح
المزيد وقد قال

" سأعود لنورثود الآن افتحي هاتفك لأطمئن عليك "

وما أن استدار ناحية الباب ليغادر قالت تنظر له بامتنان

" شكراً لك فاليريو وآسفة لما تسببت به لك "


فهي لم تتخيل أبداً أن لا يكون والده قد علم بهذا وأن يكون حمّل
نفسه مسؤولية ما سيراه ذاك الرجل عدم لباقة وسوء تصرف
بالتأكيد فقط كي لا يغضب منها هي !! بل ويبدو أنه قطع كل هذه
المسافة فقط ليبحث عنها دون أن يعلم ، استدار وجهه فقط نحوها
وابتسامته الرقيقة الودود تعود لملامح وجهه الإيطالي الوسيم
وقال

" لا عليك ماري نحن عائلة واحدة "

واستدار نظره نحو مذكراتها وأوراقها على الطاولة وقال

" سأتراسل مع جامعتك لمنحك أسبوع إجازة آخر "

وما أن عاد ونظر لها وكانت تنوي شكره مجدداً فهو قام بإنقاذها
بالفعل لأنها لم تعد على استعداد للذهاب لها لكنّ كلماتها توقفت
بسبب الخادمة التي دخلت تحمل صينية تحوي طبقاً تخرج منه
الأبخرة وقد قالت مبتسمة

" الحساء جاهز "

وتابعت وهي تتوجه نحوها

" هيّا سأساعدك على تناوله وستشعرين بتحسن كبير "

فغادر حينها فاليريو مغلقاً الباب خلفه بهدوء ونزل السلام وتوجه
ناحية المطبخ قاصداً التي وجدها خارجة منه حينها فتوقف قائلاً

" اتصلوا بي إن حدث أي شيء وأخبروا والدي بما أخبرتكما به
فقط اتفقنا ؟ "

قالت الواقفة أمامه من فورها

" كن مطمئناً سيدي "

أمال طرف شفتيه وقال ببرود

" أنا لا أخشى منك بل من لسان ربيكا إنها كمذياع قديم الطراز "


ضحكت أوليفيا كثيراً وقالت

" لا تقلق بشأنها سأتصرف أنا في الأمر "

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 10-08-24, 09:16 PM   المشاركة رقم: 1780
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 



*
*
*
عبرت خطواته الممر الساكن وكأنه يسير على أشواك حادة تؤلمه
كل خطوة يخطوها نحو الأمام بينما كانت نظراته مركزة على
الباب المزدوج المغلق هناك ، نظرة من يضيق تنفسه كلما اقترب
منه وكأن طاقة جسده بأكملها تُسحب وببطء ! مكان صارع قلبه
كثيراً لزيارته وما سمحت له نفسه بفعلها بسهولة لأن عقله يعلم
بأنه الطريق السليم ليتخلص وإن قليلاً من النار التي يشعر بها
تشتعل داخله وتتآكله فلا ليله ليل ونومه نوم ولا يومه كأي يوم
منذ ترك المصح النفسي نصف رجل ونصف إنسان .. ميت وإن
كان يسير بين الأحياء ، جاب الطرقات لساعات كالمشرد الوحيد
ونام ليلة البارحة في الشارع وعلى الرصيف تراقب عيناه
النجوم حتى غلبه النعاس ليكتشف بأنها دوامة سوداء سحيقة تلك
ولم تكن نوماً ، ليعود ويهيم في الشوارع يسير دون هدى من
يراه يظن بأنه رجل فاقد للعقل بسبب أقرب الناس إليه فلا هو
تحدث ليعبر عن ذاك الجنون ولا هو الذي تصرف كأي إنسان
طبيعي .
حتى أخذته قدماه لهذا المكان فذاك الجحيم الذي يشعر به في
جوفه قبل قلبه جعله يبحث عن أي متنفس لعلّه يبرد تلك النيران
قبل أن تقتله .

لا يعلم كيف ولا لما سمحو له بالدخول دون إجراءات مشددة
كالمرة السابقة ! أو أن يرفضوا دخوله بالكلية ولم يكن في مزاج
ولا للبحث عن الجواب فما كان سيغادر دون رؤيته ومهما منعوه
من فعلها .

ما أن وصل باب الغرفة وقف أمامه لبرهة ينظر له وكأن التردد
عاد لمهاجمته ، لا بل هو الشعور بالخزي والعار فأي وجه
سيقابله به وإن كان لن يراه ؟ هذا فقط ما جعله يتردد في كل
خطوة وقاوم ذاك الشعور في كل مرة كما الآن وهو يدفع الباب
بيده ببطء حتى وصل لمسمعه صوت طنين الأجهزة وظهر أمامه
الجسد النائم على السرير في سكون تام ، وسيطر الألم على
عينيه وهو ينظر للملامح الشاحبة وتقدمت خطواته نحوه وكأنه
يسحب قدميه على الأرض سحباً حتى وصل الكرسي الموجود
قرب سريره وجلس عليه ونظره لا يفارق تلك الملامح بينما
هوت مشاعره للقاع وشعر وكأنه يراه ويرى نظرة العتاب وخيبة
الأمل والخذلان في عينيه ، وكأنه يواجهه بكل ما حدث ورآه
يحدث أمامه في ذاك الماضي القاسي الأليم ويلومه عليه .
ورغم ذلك تمنى أن كان يراه بالفعل أن فتح عينيه وتحدث معه
وسمعه بل وحتى أن سبه وشتمه وحتى ضربه أو قتله فلن يمنعه
ولن يحرك ساكناً لعلّ شعوره بالخزي يخفّ وإن قليلاً .
تحركت نظراته من ملامحه نزولاً لجسده المغطى بلحاف أزرق
فاتح وصولاً ليده المثبت في ظهر كفها حقنة المغذي وارتفعت
يده لها ببطء وشعر برجفة في كامل جسده ما أن لامستها أصابعه
، ولم يسمح لنفسه بالتراجع وأصابعه تتسلل من تحتها حتى
أصبحت تلك الكف النحيلة في كف يده وشد أصابعه عليها برفق
بينما نظراته لم تفارقها وقال بحزن وانكسار

" سامحني يا إسحاق أرجوك "

وارتفعت عيناه السابحة في الدموع لوجهه بينما تابع بكلمات
مختنقة

" سامحنا جميعنا فما يستحق أي واحد منّا الحياة "

وعاد وأخفض رأسه وكأنه شعر بالخجل منه بالرغم من أنه لا
يراه ولا يسمعه ونظر لكفه مجدداً وهو يرفعها بيده برفق وانحنى
نحوها وقبلّها مغمض عينيه لازال يشعر بحرقة الدموع السجينة
خلف جفنيه ، وما أن فتحتهما ونظر لها مجدداً تيبس مكانه كما
تغضن جبينه باستغراب وهو ينظر لساعده الذي انكشف بسبب
رفعه ليده وهو يرى آثار الحروق الواضحة فيها في أماكن متفرقة
وبقع محددة وشعر بكيانه بأكمله يهتز وتقاطعت أنفاسه وهو
يتذكر صراخها سابقاً وهي تترجى المجهول

( توقف أرجوك يكفي )

ليدرك عقله الحقيقية الأبشع على الإطلاق وبأنه كان يعذب نفسه
ولأعوام بإحراقها وإيلامها بسبب وقوفه عاجزاً أمام ما كان يراه
أمام عينيه لعلّه بهذا يرتاح بينما كان يحرقهما كلاهما معاً .
أشاح بوجهه جانباً ودفن عينيه في كفه وبكى ... بكائه كان في
صمت لكنّ تلك الدموع كانت تحرقه بلا رحمة فما أقساه من
شعور وما أصعبها من حقيقة وفاجعة لا يمكنه هو الرجل
تحملها فكيف بطفلين في العاشرة !

وقف نهاية الأمر وترك اليد التي سقطت مكانها السابق دون
حراك وغادر المكان الذي لجأ له ليخفف عنه وإن قليلاً لكنّه لم
يزد وضعه إلا سوءاً وعذابه عذاباً وندمه شدة وتمنى للحظات أن
لم يفعلها ويأتي ويراه .

*
*
*
قالت الخادمة التي كانت تسكب الشاي الساخن في الأكواب
المصنوعة من الكريستال

" لو أنّنا أعددنا القهوة معها كان سيكون أفضل "

وما أن انتهت ممّا تفعل نظرت ناحية تيما التي كانت تنهي تزيين
الكعكة بحبات من الكرز أظهر جمال لونها لون الكريما البيضاء
التي تغطيها وقد قالت

" أجل هي أفضل لكن والدي يفضل الشاي وجدي شرب القهوة
قبل قليل "

وحملت الصينية ما أن أنهت كلماتها تلك وتبعتها الخادمتان
بالشاي والأطباق ، وما أن وصلت الغرفة وفتحت لها الباب دخلت
وقالت مبتسمة للأعين التي حدقت بها جميعها

" ها هي جاهزة خلال ساعة ونصف فقط "

قال صقر ضاحكاً وهو يتقدم بجسده لبداية الأريكة

" بل ساعتان إلا ربع ولولا مساعدة الخادمات لأصبحنا في أربع
ساعات بالتأكيد "

وقفت التي وضعت الكعكة على الطاولة تمسك خصرها بيديها
وتنظر له بضيق فضحك وقال ينظر لها على الطاولة أمامه

" أمزح هيّا يبدو أنها شهية "

ابتسمت تيما حينها وقالت ترفع السكين نحوه

" ستشفع لك الكلمة الأخيرة "

ضحك من فوره وبدأت هي في تقطيع الكعكة لتكفي خمسة
أشخاص وغمز صقر لهم حين وقفت تنظر للأجزاء الغير متساوية
وكأنه يقول لهم انظروا ما ستفعل ومن ستعطي الحصة الأكبر ،
وتابع الجميع ما تفعل وقد قررت بعد النظر لها مطولاً أن تقص
من أصغر جزء فيها وبدأت تأخذ منه وتضيف للأجزاء الأقل من
أكبر واحدة فيهم لتصبح متساوية معه وهو ما جعل دجى يشير
لصقر برأسه عليها يقول له في صمت ها هي تغلبت على ظنونك
نحوها وهو ما جعله يضحك في صمت وأشار بسبابته للجزء
الكبير الذي لم تزد عليه قطع إضافية ولم تقطع منه هو لتزيد على
الحصص الأقل بل فعلت عكس المنطق ليضعها في اختبار جديد
أمامهم ومن ستختار أن تكون تلك القطعة الكاملة من نصيبه .
وبالفعل كان ذاك الطبق أول ما قامت برفعه عن الطاولة ووضعت
الشوكة فيه وتوجهت خطواتها نحو الشخص المتوقع وهو مطر
وتفاوتت الضحكات وهي تعطيها له ممّا جعلها تدير رأسها نحوهم
تنظر لهم باستغراب حيث كان مصدر الضحك هو دجى وصقر
بينما راقبت عينا قاسم المبتسم ما يجري ، ورغم كل ذلك لم
يجعلها ما يحدث وفهمته جيداً تتراجع وهي تعطي الطبق لمن
أخذه منها يشكرها بهمس باسم وقال صقر حينها بضحكة رافعاً
يديه

" أنا والحمد لله لست سوى عم والديها أما الزوج والجد
فأعانكما الله على ما تشعران به الآن "

ورمقهما بنظرة شامتة لكنّ انتصاره على أحدهم لم يدم طويلاً
وهو دجى الذي التفت أصابعه على ركبته لازال يضع ساق على
الآخر وقال يغمز صقر على قاسم

" بالنسبة لي معتاد على هذا منذ صغرها "

ضحك صقر على نظرة الصدمة في عينيها وقال يشير برأسه
نحو الطاولة

" دعونا نرى باقي الخيارات في التوزيع إذاً "

لكنّها كانت أذكي منه ولم تسمح له بمحاصرتها وهي تتوجه نحو
الطاولة قائلة

" لن أعطي أحداً شيئاً كل واحد يأخذ لنفسه أمّا هذه فلي أنا "

وأخذت الحصة الأصغر والتي وزعت منها على باقي الأطباق
وجلست على طرف سرير الغرفة فوقف صقر وأخد طبق له كما
فعل دجى ذلك أيضاً قائلاً بضيق مصطنع

" ها قد أفسدت علينا الأمر بلسانك الطويل "

ضحك صقر ولم يعلق ووقف قاسم وأخذ الطبق الأخير وتوجه
نحوها وجلس بجانبها وأخذ طبقها وأعطاها طبقه قائلاً

" هذه تكفيني "

فابتسمت له بحب دون أن تتحدث بينما رفع دجى حاجبيه لصقر
مبتسماً بشماتة بمعنى انتصر ابن الشاهين وابنته نهاية الأمر
ونالا الأفضل ، ولم يتسنى لصقر الوقت ليتحدث أو يعلق على
الأمر بينما كان هجومه سيتوجه لقاسم حينها بسبب الطرقات على
باب الغرفة والتي جعلت الجميع ينظر نحوه لحظة أن انفتح الباب
كاشفاً عن التي لم تتوقع أبداً أن تجد الجميع هناك بل وأحدهم
تحديداً كما لم يتوقع أحد منهم أن تكون الطارق حينها .

وقفت بادئ الأمر متسمرة مكانها وكأنها لوحة وهي هكذا بكامل
أناقتها بينما لم تجعلها كل تلك المشاعر تتراجع وإن كان صمتاً
مريباً هو ما أطبق على المكان استطاعت دراسته دون أن تنظر
لكل واحد منهم على حدا فبينما كانت نظرات الصدمة من نصيب
تيما ودجى وكأنهما لم يتوقعا هذا كان الترقب والتوجس هو ما
سيطر على عينا صقر وقاسم ، أما الفرد الخامس والأهم وعلى
الرغم من أنه في الجانب الأيسر كان في مجال رؤيتها
واستطاعت التقاط رد فعله وهو يشيح بوجهه بعيداً نحو
الجانب الآخر .

أغمضت عينيها بقوة تمنع نفسها من الانهيار باكية ما أن وقع
عليها جسد التي حضنتها بقوة قائلة بكلمات باكية

" أمي كم اشتقت لك .. حمداً لله أنك بخير "

وارتفعت يداها تحضنها بقوة تدفن ملامحها الحزينة في نعومة
شعرها وشعرت بأنه اليوم الأول للقائهما يتكرر وكأن الحياة
تمنحها ذات الفرصة مجدداً لتنظر لابنتها بغير تلك النظرة التي
رأتها بها تلك المرة لأنها الآن باتت تعلم كيف تكون هذه الابنة
وما الاختلاف بينهما وبأنه لا يمكن أن تجعلها كما كانت تريد هي
أن تكون ، ليس لأنها تربت بعيداً عنها بل لأنها مختلفة وما كانت
لتستطيع رسم خطوط شخصيتها كما تريد لأنها لن تستجيب لها
وستكون هي هذه ذاتها هكذا ، ولن تستغرب كما المرة السابقة
كيف استطاعت أن تجد أعذاراً لمن لم يشرح أسبابه لها لأنها
تفعلها مع الجميع ، مع كل من تحبهم وفعلتها معها أيضاً إن في
قاعة المحكمة يومها أو الآن .

أبعدتها عنها وأمسكت يداها برأسها تنظر لعينيها الدامعة المحدقة
فيها بحب وشوق ولم تستطع الحديث وقد عجز لسانها عن قول
أي شيء وإن سؤالها عن حالها لذلك اكتفت بأن قبلت وجنتها
الزهرية الناعمة وتركتها وتقدمت خطوتان نحو الداخل بل نحو
الجالس قرب سريره تحديداً ولمعت الدموع في عينيها تنظر
لعينيه التي لم تستطع قراءة أي تعبير فيها وخرجت الكلمات منها
أخيراً قائلة بحزن

" هل أجد في قلبك العذر لي ؟ "

وتكسر صوتها مع العبرة المسجونة وسط اضلعها متابعة

" لو رفضت فسأخرج من هنا ولن أغضب منك أبداً "

لون الحزن عينا دجى المعلقة بعينيها وقال بابتسامة حزينة
ومحبة ذات الوقت

"أنا لا أغضب من ابنتي ، الفرحة التي حُرمت منها كل عمري "


وكان ذاك ما جعلها تفقد السيطرة على نفسها وركضت نحوه
وأرمت في حجره تدفن دموعها فيه جالسة أمام قدمية على
الأرض وقالت بعبرة
" ليتني متُّ ولم أقل لك ما قلت ، سامحني أبي أرجوك "

وارتجف جسدها وأصابع يدها تشتد على قماش قميصه ما أن
دوى صوت باب الغرفة المرتفع وهو يُصفق بقوة ولها أن تتخيل
من يكون صاحب ذاك التصرف وهو من سيكره وحده وجودها
هنا بالتأكيد ، ولم يكن الأمر كذلك فقط حيث باتت الأجواء جميعها
مشحونة في المكان وأول خطوات فكرت في التحرك حينها هي
تيما التي منعها تحرك قاسم خلفها وقد أمسك بيدها موقفاً لها
أمام الباب المغلق ، وما أن نظرت له همس لها بخفوت كي لا
يسمعه المتحدثان هناك

" لن يقبل باقترابك ولن تصلحي شيئاً الآن "

لم تعلق ولم تتحدث بينما فعلت عيناها ذلك وبحر الدموع يملأ
المقلتان المشابهتان للون البحر في اليوم المشرق الصافي بينما
كل حزن وضياع العالم فيهما وهو ما جعله يعلن انهزامه متنهداً
وفتح الباب لكن ليس لها بل لنفسه وقال بصوت خفيض وهو
يخرج

" ابقي مكانك أنا سأذهب له "

وغادر الممر القصير الذي يفتح على بهو المنزل وتوجه نحو
السلالم من فوره وصعد بخطوات واسعة ونظره نحو الأعلى حتى
وصل هناك ووقف مكانه ينظر باستغراب لباب الغرفة المفتوح
والثياب التي كانت تتطاير مرمية خارجه وجميعها ثياب نسائية بل
فساتين من الواضح أنها تعود لوقت سابق واستطاع أن يدرك
ثياب من تكون ولأي وقت تعود لازال محتفظاً بها في خزانته
هناك ! .

تحركت خطواته أخيراً وما أن اقترب من هناك كاد يصطدم بالذي
خرج تدوس قدماه الثياب التي تغطي الأرض أمام الباب واجتازه
وكأنه لا يراه أمامه بينما صرخ متوجها نحو السلالم

" سعااااد "

وتكرر صراخه منادياً الخادمة التي كانت خلال لحظات في الأعلى
تنظر له بذعر وكأنها تتوقع مصيبة ما هي متهمة بها ! وتحركت
نظراتها المصدومة مع سبابته التي أشارت خلفه صارخاً

" خدي هذا كله وارموه خارجاً "
وعاد نحو غرفته بعدها وهي تتبعه نظراتها المستغربة على
الثياب المبعثرة من الباب حتى الخارج وتوقفت بسبب كلمات
قاسم الذي قال بأمر ما أن مالت نحوها لتجمعها

" توقفي "

فاستقامت واقفة تمسك فستان الشيفون المطبوع بأزهار كبيرة في
يدها وقالت متلعثمة

" أنا .. لا ... "

ولأنه يفهم خوفها من عدم تنفيذ أوامر من هو أعلى مكانة منه
لديها قال ورأسه تشير للجانب الآخر

" لا تنزليها للأسفل خذيها للغرفة هناك "


كان يريد فقط أن لا تنزل هذه الثياب ولا تراها صاحبتها ولا ابنتها
أيضاً لأن الأمر سيؤذي كليهما مهما كانت أسباب موجة غضبه
هذه ، لكنّها لم تساعده على ذلك وهي تقول

" لكن تلك الغرفة مغلقة سيدي "

وهو ما جعله يتنهد بضيق وهو ينظر نحو الباب الموصد هناك
قبل أن ينظر لها وقال

" اتركيها مكانها إذاً وغادري من هنا "

انصاعت نهاية الأمر وإن كان واضحاً على نظراتها الخوف من
مخالفة الأوامر ومن العواقب لكن ولأنه لا حل أمامها غادرت من
حيث جاءت بينما انتقلت خطوات قاسم نحو الغرفة يبعد بقدمه
الثياب التي تأبى نفسه دعسها بحذائه حتى كان داخلها ونظر للذي
لازالت يده تخرج الثياب وترميها خارج الخزانة بحركة غاضبة
وهو ما جعله يصرخ باستنكار

" مطر ما هذا الذي تفعله ! "

ولأنه لم يهتم له وكأنه ليس موجوداً وهو يخرج علب المجوهرات
ويرميها أيضاً صرخ مجدداً

" هل كنت ستقبل اعتذارها مثلاً إن هي اعتذرت منك ؟! "

توقف حينها ونظر نحوه وصرخ بغضب يرمي يده جانباً

" لا أريد منها اعتذارا ولا أي شيء غيره "

قال قاسم بحدة حينها وكأنه يضع مرآة لنفسه أمامه

" لما كل هذا الغضب إذاً ؟ "

" غادر من هنا يا قاسم "

كان ذاك فقط ما صرخ به وسبابته تشير للباب خلفه وكأن مشهد
مكتبه يتكرر الآن وهو ما جعله يصرخ بعناد

" لن أفعل ولن تطردني فقط لأني أواجهك بالحقيقة "

توقع منه كل شيء حينها إلا ما فعله وهو يتوجه نحوه
وتخطاه قائلاً

" أنا من سيفعلها إذاً "

وغادر وتركه فاستدار ولحق به لكنه توقف ما أن وصل السلالم
بسبب التي وجدها واقفة أعلاه وكانت تنظر لمطر الذي نزل
بخطوات واسعة دون أن يهتم لوجودها أيضاً ، وما أن نظرت له
العينان الحزينة التعيسة تنهد بقلة حيلة وقال

" توقفي عن كل هذا يا تيما وأوله تعذيب نفسك "

لكنّها تجاهلت كل ما قال قائلة بحزن

" كانت أصواتكم مرتفعة "

لم يستغرب ذلك فبتأكيد ستصلهم لأن غرفة دجى الأقرب لبهو
المنزل والباب كان مفتوحاً وهي كانت تقصد والدتها بكل تأكيد
لكنّه أيضاً رجل كبريائه لا يشبه أي رجل غيره وطعن فيه وبقوة
، ولم يعد يفهم فعليّاً مع من يقف وضد من ! يعاتب من ويلقي
باللوم على من منهما !

أمسك بيدها وفي نيته النزول بها لكنّه توقف مكانه وتبعت نظراته
المستغربة بل نظراتهما معاً التي صعدت السلالم حينها
واجتازتهما دون أن تتحدث ولا حتى أن تنظر لهما وهي غسق
التي تابعت سيرها حتى وصلت ملابسها المبعثرة على الأرض
ووقفت أمامهم لبرهة وكأنها تخزن تلك الصورة في مكان ما
داخلها وتحتفظ بها ثم جلست على ركبتيها تجمعها وكأنها تجمع
سنوات عمرها منذ فارقتهم .

خمسة آلاف ليلة بكت فيها وحيدة وسط جدران غرفتها تفتقد
الحضن الذي أحبته وتعلقت به تسمع بكاء ابنتها وضحكاتها التي
لم تعرفها يوماً ، كانت تطوي كل واحدة منهم وتضعها فوق
الأخرى وكأنها تجمعهم سوياً بالفعل بل وكأنها طوت كل تلك
السنين وعادت بها للوراء تنظر للفستان الذي رآها به لأول مرة
والآخر الذي انتظرته به ليلة كانت بعدها مطلقة في منزل والدها ،
وحتى ثوب العروس الذي لبسته ليلة زفافهما كان معهم ، في
الليلة التي تركها فيها وغادر لتصبح بأنوثة مجروحة أمام الجميع
وأولهم شقيقته .

وما أن تقدمت خطوات التي كانت تراقبها من بعيد بعينين دامعة
منعتها يد قاسم ونظرت لعينيه الحازمة وقد قال هامساً

" تيما عليك أن تضعي مسافة بينك وبين كل ما يحدث بينهما
لأن الحل ليس لديك "

لم تزد كلماته تلك الحزن الذي يراه في عينيها إلا عمقاً فقال بذات
نبرته الحازمة كي لا يضعف أمامهما

" أعلم بأن ما تريدينه هو أن تكوني قريبة من كل واحد منهما في
حزنه لكن هذا سيشعرهما بالحزن أكثر صدقيني "

وما أن كانت ستتحدث ويتوقع جيداً ما ستقول سبقها قائلاً يرفع
سبابته أمامها قبل أن يشير بها نحو الأسفل

" ولا كلمة وهيّا غيري ثيابك لنغادر "

تبدلت ملامحها للاستغراب وهمست ببحة وكأنها تسجن نوبة بكاء
شديدة في حلقها

" نغادر إلى أين ! "

سحبها من يدها نحو الأسفل قائلاً

" لما كنّا سنغادر من أجله بالأمس ولم يحدث "

*
*
*

رفع رأسه عالياً ينفض آخر قطرات فيها في فمه ورمى القنينة
الفارغة سوداء اللون متمتماً بعبوس

" لقد نفذ الماء "

وكان هذا آخر ما لديهما لأنها كانت معلقة في حزام بنطلونه حينما
سقط من أعلى الجرف وها هي لم تكفيهما يومين لصغر حجمها .
نظر للواقفة قربه والتي كانت تنظر لها مرمية على الأرض نظرة
لم تحمل أي تعبير لكنّه تمكن من فهمها ، إنه توديع لآخر أمل
للاستمرار على قيد الحياة والقادم سيكون الصراع الحقيقي من
أجل البقاء ، ولأن شخصيتها مختلفة عن باقي الفتيات تترك كل
ذلك داخلها بدلاً من الصراخ والتذمر والاعتراض الذي لا
طائل منه .
تحركت خطواته حول المكان وكما توقع وجد رماد النار ووقف
فوق الحفرة الصغيرة ينظر لها بوجوم ، وما أن شعر بخطواتها
ورأى حذائها يقف أمامه رفع رأسه ونظر جانباً يمسك خصره
بيديه وقال

" نحن ندور في ذات المكان "

قالت التي همست بجمود تنظر لعينيه

" والمعنى ! "

نظر لها وقال يفرد ذراعيه ويديه جانباً

" المعنى أن المكان هنا مغلق من جميع الاتجاهات "

طغى الوجوم على ملامحها أيضاً وقالت

" هل تقصد بأنه علينا أن تكون أعلى الجرف لننجو ؟! "

حرك كتفيه وقال

" هذا ما يبدو لي فنحن واقعان بين جرفين إمّا أن نصعد واحداً
أو ننزل من الآخر "

تنهدت حينها بأسى ونظرت جانباً مغمغمه

" كلا الأمرين مستحيل "

تنهد بأسى مماثل وقال مستسلماً للفكرة أيضاً

" إن نزلنا من ذاك الجرف نهايتنا الموت في النهر أسفله ، ولا
يمكننا الصعود من الجانب الآخر أيضاً "

قالت حينها ساندرين بتذمر وملامح تعيسة

" ما هذه الميتة ؟! تسمع صوت الماء ولا تشرب منه ! "

لم يعلق الواقف أمامها بينما رفعت رأسها عالياً حيث السماء
الصافية تزينها غيوم بيضاء متفرقة وتنهدت بأسى متمتمه

" آه يا إلهي "

بينما استمر الواقف أمامها في مراقبتها في صمت من عجز عن
فعل أي شيء غيره ، وما أن عادت ونظرت حولها قالت مكتئبة

" لو أن وحشاً ما يأكلني سيكون الأمر أقل ألماً "

خرجت منه ضحكة صغيرة لا تشبه الموقف الذي هما فيه بتاتاً
وقال بابتسامة ساخرة

" لا يبدو لي أن الوحوش تزور هذا المكان "

رفعت يديها وحركت رأسها قائلة بضيق

" بالتأكيد لأنها ستموت من الجوع والعطش ولهذا استسلم ذاك
الدب وتركنا "

وانحنت نحو الأرض والحفرة الموجودة بينهما ورفعت قطعة
خشب نصفها قد تحول لفحم أسود واستوت واقفة وقالت وقد
تحركت من مكانها

" لن نستسلم فالأعمار بيد الله وحده ، علينا أن نضع علامات
لنعرف طريقنا فيبقى كلامك مجرد فرضيات "

وانتقلت لجذوع الأشجار القريبة تضع علامات على واحدة وتترك
اثنتان وترسم علامة إكس على الثالثة تراقبها عيناه فعلى الرغم
من أنه يعلم سابقاً عن القوة التي تنبع من داخلها وليس بالظاهر
فقط لكنّها لازالت تدهشه !
انحنى نحو الحفرة وأخذ عوداً محترق أيضاً وسار خلفها بينما
صرخ وهو يراها تبتعد

" لا تسيري بسرعة سيستنزف هذا الماء من جسدك "

*
*
*
رفعت يدها لعينيها ومسحتهما سريعاً ما أن سمعت الطرقات على
باب الغرفة وانفتح الباب وشغلت نظرها بما تفعل وهي تطوي
الثياب وتضعها على السرير بجانبها ولم يلتقط نظرها سوى حذاء
الذي دخل مقترباً منها فقالت من قبل أن يعلق على الأمر

" لم أستغرب هذا بالتأكيد بل وتوقعته "

وكان ذاك ما جعله يتنهد بحزن ينظر لرموشها الكثيفة التي تخفي
عينيها عنه وله أن يتوقع أي وجع تكتمه وجرح لكرامتها تخفيه
خلف تلك الكلمات ، جلس على الكرسي قريباً منها يراقبها
منشغلة بما تفعل ووصلها صوته الهادئ الرزين

" ولن يكون هذا سبب مغادرتك من هنا بالتأكيد ؟ "

كان ثمة نبرة رجاء في صوته وكأنه يأمل ذلك ويخشى أن يطلبه
منها وهو ما جعلها ترفع رأسها ونظرها لعينيه وقالت بملامح
جامدة تماماً

" لا لن أغادر فهي الفترة الوحيدة التي يحق لي فيها أن أكون
قريبة منك ومن ابنتي فبالتأكيد سيزوجها ويأخذك بعيداً مجدداً "

وقالت آخر كلماتها تلك بحسرة وألم ظهر في عينيها وهو ما جعل
ملامحه تتسم بالتعاسة والحزن خاصة مع الغصة التي ذبحت
صوتها ، بل وزادته أن قالت والعينان الواسعة تمتلئ بالدموع

" أحاول في كل مرة أن أتعوذ من الشيطان وأنا أتمنى أن لم
أحمل مجدداً لكني أفشل "

وهربت بنظرها للقميص الذي كان بين يديها واشتدت أصابعها
على قماشه البارد وكأنها تعتصر قلبها بينهم بينما قالت وبالكاد
تراه من خلف حاجز الدموع التي ترفض مفارقة رموشها

" لا يمكنني تخيل أن أعيش الوجع ذاته مجدداً "

كانت كلماتها كما نبرة المرارة والألم في صوتها يذبحانه ورغم
ذلك حاول الثبات وهو يقول

" لما نستبق الأحداث ونحكم بأنه سيفعلها ؟ "

رفعت نظرها له حينها وقالت بابتسامة ساخرة هي أقرب للألم

" لن يتربى ابنه بعيداً عنه أنت تعرفه مثلي تماماً "

كان هو من هرب بنظره منها حينها يخفي عنها ما فيهما وابتسم
بحزن فها هو حفيده الذكر الأول لكن من يمكنه الاحتفال بقدومه
أو السعادة به ؟ رفع رأسه ونظر لها وإن كانت تنظر للقماش
الناعم بين يديها وقال بحزن

" منذ سافر من هذه البلاد وفي كل مرة وموقف وحديث يكون
اسمك موجوداً فيه كنت أهاجمه فقط وأوجه نار غضبي من كل
ما يحدث وحدث لي نحوه ولأي سبب كان "

وسكت ما أن رفعت نظرها له وتابع ما أن سرق انتباه تلك العينان
الجميلة الغارقة في الحزن

" وحتى بعد عودتنا هنا وعيشنا معاً لم يتغير الأمر كان هو
متنفس غضبي إن كان مخطئاً أم لا وألقي باللوم عليه بخصوص
كل ما يحدث معك أو حتى مع ابنته "

وتنهد بأسى حزين وتابع وكأنه يتحدث مع نفسه منفصل عن كل
شيء حوله

" مطر لم يرى والدته ولم يعرف حنانها ولا اهتمامها بينما تربى
على يدي أب جلد قاسي أراده أن يحكم فقط وأن يأمر وتتبع الناس
أوامره ، كان يحرمه من اللعب مع الأطفال ولا حتى اللعب وحيداً
بل وحتى من البكاء لأنه لا يراه سوى ضعفاً فكان يضربه إن رآه
يبكي ويأمره بالصمت أو ضربه أكثر حتى كنّا نراه يتعرض
للضرب حين يخطئ ولا تنزل أي دمعة من عينيه بالرغم من
أنه طفل "

كانت عيناها تتسع مع كل كلمة يقولها يتخيل قلبها قبل عقلها
صورة ذاك الطفل حتى لمعت الدموع في عينيها مجدداً هامسة
بصعوبة وأسى

" ولما تسمحون له بهذا ! "

كانت تعلم بأنهم عاشوا هنا كعائلة واحدة ومن حديثه تأكد لها ذلك
أكثر فهو يعلم تفاصيل كل هذا وهم أعمامه وقد يكون والدهم شهد
هذا أيضاً ، انتظرت لوقت أن يتحدث وكأنه يحاول صياغة ذلك
حتى قال أخيراً

" لم يسمح لأحد بالتدخل في تربيته له وكنّا نلتزم الصمت كي لا
يدفع مطر الثمن وهو يظنه في كل مرة من يطلب منّا هذا بالرغم
من أنه لم يفعلها أبداً "

كانت كلماته كما ملامحه تؤكد عدم رضاه عن كل ذلك وإن كانت
لا تراها أسباباً منطقية تشفع لهم لكنّها تتخيل أيضاً قسوة ذاك
الوالد وما رد فعله بالفعل حال تدخلهم فيمن يراه ابنه لوحده ، لم
ينتظر تعليقها وإن قالته عيناها وهو عدم الرضا أيضاً لكن
ناحيتهم وليس ناحية ذاك الوالد فتابع وكأنه لم يكتفي من تلك
النظرات السلبية لأنّ هدفه ليس هنا

" حين أصبح في الثامنة من عمره كان يأخذه لكهف في جبل
أرياح ويتركه ينام هناك وحيداً حتى النهار "

وكان ذاك ما جعلها تشيح بوجهها جانباً وتخفي عيناها في راحة
يدها وكأنها تتحرك لا إرادياً بسبب صدمتها بما سمعت أو تهرب
وتخفي مشاعر ما لا يمكن إخفائها أيضاً ، فكان يكفيه كطفل أن
يعيش بلا أم ليكبر في هذه القسوة والمعاملة وكأنه يريد أن
يصنع منه وحشاً وآلة حرب ، عادت ونظرت له عيناها المليئة
بالألم ما أن قال ونظره هذه المرة غاب للفراغ

" أنا لا أعلم كيف أصبح رجلاً هكذا ولم يتحول لمجرم أو معقد
نفسياً ! "


ورفع نظره لعينيها وقال بحاجبين معقودين وكأنه يعيش في ذاك
الماضي ولا يراها أمامه

" كان يخبره ودون توقف بأنه ولِد ليحكم ويأمر وبأنه من سيحكم
البلاد ويقود الجيوش حتى تشبع عقله الباطن بهذا وبات هدفه
الوحيد في هذه الحياة "

كانت كلماته تلك الأقسى عليها فأن يتشبع تفكير الإنسان بشيء ما
حتى يصل لدواخل عقله الباطن سيصبح هدفه الأول والأساسي
بالتأكيد ، وتذكرت كلماته قبل خمسة عشر عاماً حين قال بأن
والده صنع منه ما أراد بينما مات قبل أن يرى تحقق إنجازه
ذاك ، ارتفعت يدها لعنقها ومسحت عليه بتوتر وكأنها تحاول
التنفس بشكل طبيعي ولم يرحمها الجالس أمامها وهو يقول
وبنبرة وابتسامة ساخرة بينما عيناه تنظر لعمق عينيها

" لم أكن أتخيل أن يفعلها قلبه ويسمح بأن تدخله امرأة ! "

جعلتها كلماته تلك تغمض عينيها برفق تسحب نفساً عميقاً
لصدرها وحررته ورأسها ينحني نحو الأسفل قليلاً ونظرت عيناها
المغرورقه بالدموع ليديها المستقرتان في حجرها بينما وصلتها
كلماته الحزينة

" مطر مختلف عنّا جميعنا في أفكاره وفي قرارته وفي حديثه
وحتى في صمته ولن يتغلب على ما أرسخه والده في داخله
بسهولة ، إنها حرب لا يفكر في الخوض فيها بالتأكيد وسيحارب
كل من سيحاول جعله يخوضها "

تدحرجت أول دمعة من طرف رموشها الطويلة ليتشربها القماش
الأبيض بين يديها وفكرة واحدة أصابت عقلها حينها بسبب كلماته
تلك وكأنه يقول لها كنتِ غبية حين فكر عقلك في جعل كل ما
حدث في طفولته وما تشبع به عقله الباطن ينهزم أمامك وأن
تنتصري على كل ذلك وحيدة فقط لأنه يحبك كامرأة ولن تصلي لا
أنتِ ولا ألف طفل تنجبيه له لعمق تلك النقطة في عقله وكان
يكفيك الاقتناع بالمساحة التي منحها لك فيه دون الغير ، كانت
حقيقة قاسية أكدتها كلماته التالية حين قال وبنبرة عميقة

" أجمل هدية منحها الله له هي تيما "

وهو ما جعل نظراتها الدامعة ترتفع له ونظرت لعينيه وقد تابع
وابتسامة حزينة حنون ترتسم على شفتيه

" إنها هي فقط من تعامله كالأم التي لم يعرفها يوماً ومن دون
أن تشعره بهذا "

تعالت أنفاسها وتلك ملامح الطفولية الجميلة ترتسم أمامها وجملة
واحدة تدور في عقلها دون توقف

( ومن دون أن تشعره بهذا ، ومن دون أن تشعره بهذا )

وشعرت بغصة مؤلمة في قلبها فهي بالفعل ورغم صغر سنها
تحمل في داخلها قلباً وعقلاً يمكنه تسيير بلاد بأكملها وبحكمة
وتعقل ! كان لسانها عاجزاً عن قول أي شيء بينما تجاوز
الجالس أمامها كل ذلك وتأثير كلماته الواضح عليها وهو يتابع
ينظر لعمق عينيها

" كان هذا السبب الوحيد الذي جعلني أصمت عن أخذه إياها ولم
ألقي باللوم عليه يوماً في هذا ليس لأني لا أشعر بألمك وحزنك
عليها بل لأني أعرف الفراغ الموجود داخله فكيف وهو يتخلى
عن حلمه ويغادر البلاد التي حارب الجميع لأجلها مخذولا
ومهزوماً "


أبعدت نظراتها الحزينة عنه للفراغ أمامها ولم تعلق أيضاً ولن
تفعلها وتلقي باللوم عليه في هذا فمعنى كل ما قال أوصله لها
ومنذ بدأ بالتحدث عن طفولة والدها وفهمت الآن لما قالت تيما
حين طلبت منها المغادرة معها في لقائهما الأول بأنها تمتلك
عائلة بينما هو وحيد ولا يمكنها المغادرة وتركه ، بل وفهمت
الآن لما كان يردد دائماً بأنها لن تختار بينهما ولن تحب أحدهما
أكثر من الآخر ، وكم تتمنى أن يكون الرجل الذي اختاره من بين
الجميع ليكون زوجاً لها وهو يحبها هكذا وكأنها والدته وليست
ابنته فقط أن يستحقها وأن لا يؤلمها يوماً ويؤذيها وأن لا تنتهي
لنهاية والدتها وهي تقع في حب رجل الوطن الذي وبالرغم من
كل ما حدث لم يترك حلمه بتوحيدها لأن الأمر مرتبط بعقله
الباطن .

اخذتها تلك الفكرة لحديثه السابق وعاد قلبها لإلقاء اللوم على
المتسبب فيه وما جعلها تنظر لعينيه مجدداً قائلة بأسى حزين

" هو لم يصنع منه بطلاً كما يرى الجميع بل دمره تماماً "

كان رد فعل دجى المبدئي أن حرك رأسه بالنفي وكأنه يعارض ما
قالت وهو ما جعل ملامحها تتبدل للاستغراب حتى نطقت شفتاه
بالقسوة التي كان يخفيها خلف قسوة رد فعله ذاك

" لو أنه وجد العائلة المتفهمة وكنتم جميعكم سوياً كانت أمور
كثيرة ستتغير "


لم تستطع ملامحها إخفاء الألم الذي تسببت به كلماته تلك لها وإن
كانت حركت رأسها بالنفي أيضاً وقالت بابتسامة متألمة

" لا اجزم بذلك فلن يفعل هذا سوى بشيء نابع من نفسه
ومن داخله "

عاد لمخالفتها مجدداً وقال ما يصعب عليه الاعتراف به لنفسه
قبلها بينما كانت نبرته العميقة تعبر عن كل ذلك

" مطر يحب ويمنح السعادة والأمان لكن على طريقته ، الطريقة
التي نراها نحن خاطئة بينما يغضب هو ويتألم لنظرتنا تلك له
ومن هنا كانت أخطائنا جميعنا "

واعترف نهاية الأمر ومهما كرهت نفسه هذا وهي أيضاً وهو ما
كان موقناً منه ، وما أن لمح الاعتراض في ملامحها سبقها
قائلاً بجدية

" أجل جميعنا نتعامل معه بطريقة خاطئة عدا تيما على الرغم
من معرفتنا بهذا ، ولم أخبرك عن كل هذا سابقاً لأني أعلم بأن
عقلك ما كان ليتقبله كما الآن "


وما توقعه حدث تماماً وقد قالت بأسى تشير بأطراف أصابعها
لنفسها

" كيف يهجرني ويأخذ ابنتي مني دون أن يشرح أسبابه وأتفهمه
وأعذره على جهل ! "


واشتد الألم في عينيها اللامعة بحزن كما صوتها وهي تتابع
ويدها ترتمي جانباً

" يقف أمام الملأ ويعترف بأنه تركني من أجل امرأة أخرى
ويكسر قلبي قبل كبريائي فبأي قلب وعقل سأفسر غير
ما سمعت ورأيت ! "


وتبدلت نبرتها للضيق وإن لم تخلو من الأسى متابعة

" أي حب وأي أمان وسعادة هذه أبي بالله عليك "

" فعلتها تيما يا غسق "

قالها لها مباشرة وإن لم تحمل نبرته أي قسوة أو اتهام بينما
واجهت هي ذلك بالاستنكار والرفض قائلة


" تيما ابنته وأنا أعرف معنى شعور الأبوة فلم أستطع لومك
يوما ولا والدي شراع لكن أنا زوجته "


قالت آخر كلماتها تشير لنفسها واشتدت ملامحها حزناً وهي تشير
لنفسها مجدداً قائلة

" ثمة شيء مختلف هنا عنكم جميعكم وحين كسره حطم به
داخلي بأكمله "


كان الألم في عينيها يعبر عن كل ما جرح ذاك القلب وآذاه لأعوام
حتى عادت وامتلأت بالدموع مجدداً وهي تعدد كل تلك المآسي
بصوت مختنق بعبرة خفية

" فقدت شقيقي الوحيد ، فقدت والدي الذي رباني وحُرمت من
ابنتي قبل أن أراها لكن كل ذاك الألم بعظم حجمه مجتمعاً لم يكن
بقسوة ما فعله بي هجرانه وتركي وحيدة بعدما ... "

وتوقفت كلماتها فجأة وهربت بنظراتها الدامعة ليديها في حجرها
وعادت وقالت بألم

" لا جدوى من قول كل هذا فما كان انكسر ولم يعد
إصلاحه ممكناً "

وارتفع رأسها له وقالت برجاء حزين تقاطعه من قبل أن
تتحرك شفتاه

" أبي أرجوك لا يمكنني التحدث عن الأمر أكثر من هذا "

وكانت بالفعل قد وصلت أقصاها ولم يعد قلبها يتحمل المزيد ممّا
لا يزيدها إلا وجعاً وهو ما جعله يقف وجلس بجانبها وشدها
لحضنه الذي نامت فيه طواعية وكأنها تنتظر حدوث ذلك فقط وأن
تشعر بأنه ثمة ما لم تخسره بعد وبأنه ثمة حضن يحتويها يفهمها
ويعذرها ، مسحت يده على نعومة شعرها المجموع بمشبك في
الخلف وقال مبتسماً يحاول أن يقوي نفسه قبلها

" ابنتي غسق القوية أنتِ من وقفت رغم كل شيء وواجهت
الجميع وكنت امرأة البلاد الأولى وأريدك أن تبقي هكذا دائماً "

كانت كلماته مؤلمة لها بقدر سعادتها بها وتمسكت أصابعها
بقماش قميصه عند خصره وهام نظرها الحزين في الفراغ
هامسة بأسى

" لا اجزم بهذا فالصدوع باتت كثيرة والألم كبير "


عاود المسح على شعرها نزولاً وقال ينظر له وكأنها تراه
وتقابله عيناها

" بلى يمكنك فعلها ولن يهزمك أحد ولا شيء فجميعنا نخطئ
المهم أننا نعترف بخطئنا ولا نكرره "


ابتعدت عنه حينها وجعلت حركتها تلك شعرها يتحرر من مشبكه
وانساب على كتفها في أطوال متفاوتة لكنّه نظر لعينيها بدل ذلك
وقال من قبل أن تتحدث بما يعلمه جيداً

" أعلم بما تشعرين به وأعذر كل ما مررتِ به يا غسق وبأنك
واجهتِ ظلماً كبيراً ومنّا جميعنا وما فعلته كان من حقك والله
شرعه لك لكنّه جلب كوارث ومصائب كنّا جميعنا في غنى عنها
وكاد يكون فيه هلاكك والجميع "

ازداد الألم في العينان الجميلة التي تقتله في كل مرة وإن كان
يتسبب بالكثير منه بسبب ما يقول لكن عليه فعل هذا ليكون
والدها فعلاً وتكوم ابنته ، ارتفعت يده لشعرها وتغللت أصابعه
في خصلاته الناعمة المقصوصة بعشوائية ينظر لها بينهم قبل أن
يعود وينظر لعينيها وقال

" أريد أن تكون هذه آخر خسارة لك سببها نفسك يا غسق "

وارتسمت ابتسامة محبة على شفتيه وقال

" هل تعديني بهذا يا غسق الدجى ؟ "

التمعت عيناها بحزن وتذكرت والدها شراع حين ناداها بهذا الاسم
وهي صغيرة وكانت مرة واحدة فقط لم تتكرر بعدها وحين سألته
عن السبب حينها قال بأن والدتها من كانت تناديها به وهي
رضيعة والآن علمت لما فعلت والدتها هذا وتأكدت بأنه قالها دون
شعور منه بالتأكيد فهو الاسم الذي يربطها بالرجل الذي تزوجته
وأحبته تلك المرأة ولم تهبه قلبها لأنه فيه ، همست شفتاها
بخفوت حزين

" أعدك "


ولأنها لم تتخطى بعد ذكرى ما قال عادت وقالت برجاء كسير
وعيناها تمتلئ بالدموع

" أبي أرجوك أخبرني بأي شيء تخفيه ولا أعلمه ، لا أريد أن
أنكسر فيك أيضاً كالجميع "

عاد لإخفائها في حضنه مجدداً يشعر بألم كلماتها وقسوتها عليها
ويعلم بأنها لن تجتاز بسهولة صدمتها في الرجل الذي رباها
وأحبته وكأنه والدها الحقيقي ، مسحت يده على شعرها وقبّله
وقال بحزن

" لا شيء لدي سوى تلك المصيبة التي لازال الجميع يدفع ثمنها
حتى اليوم واللحظة "

ابتعدت عنه تمسح عينيها ولم تتحدث في الأمر لأنها لن تلقي
باللوم عليه في أي شيء ممّا حدث ، بينما قالت تجمع شعرها
من جديد

" أين هي تيما ؟ لما لا نذهب لغرفتها معاً "

قال دجى ينظر لها وهي تقف

" تيما ليست هنا "

نظرت له باستغراب بينما تابع هو دون أن توجه له السؤال
المتوقع

" غادرت مع زوجها قبل قليل "

وكان ذاك ما جعل عيناها تتسع وقالت

" غادرت معه ! "

قال بهدوء وكأنه يمهد للعاصفة القادمة

" أجل ووالدها يعلم "
لكنّ ما فعلته حينها مختلف تماماً عن توقعاته حيث اكتفت بأن
أشاحت بوجهها بعيداً في حركة غاضبة وفي صمت فوقف أيضاً
وقال بجدية

" هو زوجها يا غسق ومطر أعلن هذا في تلك المقابلة على الملأ
واستوفى الشرط الأخير لإتمام الزواج وهو التشهير "

تنهد بقلة حيلة حين لم تعلق ولم تنظر ناحيته فهي لازالت على
رأيها كما يبدو وإن لم تتحدث ، لذلك كل ما فعله ويراه مناسباً
أن غادر الغرفة متعذراً بتركها لترتاح .

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
(الجزء, المشاعر, المطر, الثاني)،للكاتبة, الرااااائعة/, جنون
facebook




جديد مواضيع قسم قصص من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t204626.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 27-06-17 09:03 PM


الساعة الآن 08:14 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية