كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
فتحت عينيها وجلست بحركة واحدة ونظرت حولها غاضنه
الجبين وكأنها تتأكد للحظات أين هي الآن حتى استجلب عقلها
الباطن كل ما حدث وتأكدت بأنها ليست في غرفتها في منزلهم
هناك ، وما أن أوصل لها عقلها الحقيقة كاملة وقفت وأمسكت
يديها باللحاف الأبيض الناعم وأدارته حول جسدها وهي تغادر
السرير متوجهة ناحية الحمام وكأنها ليست وحيدة في الغرفة !
وبعد حمام سريع وتجفيف شعرها القصير بالمنشفة فقط لبست
فستان منزلي قصير بالكاد وصل طوله لأعلى ركبتيها أبيض اللون
وكانت أكمامه القصيرة مزينة بدانتيل باللون الأصفر كما ياقته
المقسومة لنصفين يزينها شريط باللون الأصفر الغامق ، نظرت
لنفسها في المرآة تدور حول نفسها نصف دورة مبتسمة فقد كانت
كطفلة صغيرة خرجت من حمامها للتو ، وبعد أن أمسكت غرتها
الرطبة بمشبك أصفر اللون جانباً غادرت الغرفة وسمعت حينها
أصوات الحديث المنخفض واستغربت هل هما معتادان على هذا أم
فقط لأنها نائمة ! وكادت تضحك على غبائها فهل الرجل الذي
أبدى كرهه وانتقامه منها البارحة يفعلها ويخشى إفساد نومها !
إلاّ إنْ كانت والدته من أجبره على ذلك ، حتى أنها كانت متأكدة
بأنها لن تجده هنا ولن تراه قبل منتصف الليل .
ورغم كل ذلك لم تجعل تلك الأفكار ولا كل ما حدث يفسد مزاجها
المعتاد ولن يحظى بفرصة رؤية بؤسها وتعاستها ونتائج انتقامه
عليها فهي ندمت واعتذرت ووافقت على عقوبته .. إذاً هي باتت
بريئة في نظر نفسها وانتهى .
ما أن استدارت حول زاوية الجدار وظهر لها الجالسان على
الأرض أمامهما صينية كبيرة ممتلئة بالأطباق ويبدو يتناولان
فطورهما للتو اقتربت منهما على الفور بينما قالت مبتسمة
" لما لم يوقظني أحد حتى هذا الوقت ؟ "
وتابعت سيرها متجاهلة النظر ناحية الذي لم تسمح لفضولها أن
يجعلها تلتقط ردة فعله ووصلت عند والدته التي قالت مبتسمة
تنظر لمكان صوتها
" أنا من رفضت أن يوقظك لأن رحلتكم البارحة كانت طويلة كما
أنك نمتِ في وقت متأخر بالتأكيد "
كانت زهور قد وصلت عندهما حينها وانحنت نحوها وقبلت
رأسها قائلة بابتسامة
" صباحك بجمال الجنوب بأكمله عمتي أنتِ فقط وأويس لا "
وتشاركتا الضحك معاً وهي تجلس ونظرت هذه المرة ناحية الذي
كان يرمقها بطرف عينيه ببرود بينما كان مسدوح على الأرض
يسند مرفقه عليها يمد أحد ساقيه ويثني ركبة الساق الآخر عالياً
، ورغم كل ذاك البرود الذي وجهه نحوها لم تتغير ابتسامتها وقد
نقلت نظرها نحو التي مدت يدها نحوها قائلة
" ما أسعد صباحي وصباحه بوجودك فيه "
أمسكت زهور بيدها بكلتا يديها بينما كانت تنظر لها مبتسمة
وقد تابعت
" كيف كانت ليلتك ؟ هل نمتِ جيداً ؟ "
قالت تنظر لها مبتسمة
" أجل حتى استفقت وأنا أظن بأنني في غرفتي "
وضحكتا معاً مجدداً وتركت يديها وجلست متربعة وأصبح الفستان
بالكاد يغطي كامل فخذيها ومدت يدها نحو رغيف الخبز وقالت
بضحكة وهي تقسمه لنصفين بين يديها
" ما قيل حقيقي إذاً بأن وجبة الفطور في الجنوب تضاهي وجبات
اليوم بأكمله في باقي البلاد ! "
قالت الجالسة قربها بضحكة
" ليس كل ما يقال حقيقي فكل هذا ما أجلك بالتأكيد "
ضحكت وقالت تنظر للأطباق أمامها
" من أجلي وأنا نائمة ! "
ورفعت بقطعة الخبز في يدها قطعة من كبد الخروف المقلية
وقربتها نحو فم التي قالت لها مبتسمة
" خدي هذه اللقمة من يدي إذاً "
فتحت فمها وأكلتها قائلة بابتسامة وهي تمضغها
" هذه فقط رجاءً لأن زوجك جعلني آكل من جميع الأطباق
مرغمة "
وقف أويس حينها بينما تجنبت زهور النظر له مجدداً وتعلم بأنه
لم يتوقع تصرفها هذا وبأنها ستسجن نفسها في غرفتها تبكي
حظها التعيس ، ولم تكن تعلم بأنها أصابت نصف الحقيقة فقط أمّا
النصف الآخر سببه هربه من رؤيتها هكذا وأخذها لغرفته
وللسرير مجدداً ، بينما رفعت والدته نظرها نحوه ما أن سمعت
صوت رنين مفاتيحه وقالت
" إلى أين يا أويس ؟ "
قال يشغل نظره بالتأكد من وجود هاتفه في جيبه
" لديّا بعض المشاوير المهمة "
قالت التي لازالت ترفع رأسها له وإن كانت لا تراه
" ليس ثمة ما هو أهم من زوجتك وأنتما تزوجتما
البارحة فقط ! "
تنهد بنفاذ صبر وقال وقد نظر نحو التي عادت لقطع الخبز الطري
بين أصابعها ونظرها على ما تفعل
" هل سأسجن نفسي هنا فقط لأني تزوجت للتو ؟ "
نظرت حينها زهور نحو والدته وقالت بضحكة
" معه حق فليتركنا معاً قليلاً فقد نتحدث عنه "
وضحكتا معاً فقال الذي لازال يرمقها ببرود وإن كانت تتجاهله
والنظر ناحيته متعمدة
" إن فعلتها والدتي فلن أستغرب هذا من أحد "
وقفت حينها زهور وانحنت نحو الصينية ورفعتها وقالت
توليه ظهرها
" أنا سأجعلها تفعل هذا وأكثر منه "
وضحكت وهي تتجه نحو باب المطبخ ونظراته الحانقة تتبعها
فهي فوق تعاملها معه وكأن شيء لم يكن لا تترك أي فرصة
لإهانته بينما هو كالبليد منذ رآها فقد حتى لسانه ! سرق نظره
والدته التي قالت مبتسمة بسعادة لم يراها في وجهها من قبل
" ليسعدكما الله كم تبدو لي فتاة رائعة وتجلب السعادة للقلب "
التوت شفتاه بابتسامة ساخرة وحال قلبه يقول
( لا تحكمي على الناس بظاهرهم )
لكنّه لن يستطيع فعلها بالتأكيد ولا يريدها أن تشك في الأمر وبما
أنها اختارت أيضاً إبعادها عن كل ما يحدث بينهما فهي اختصرت
عليه الكثير من المشاكل التي لم يكن يعلم كيف سيجتازها مع
والدته .
وما أن غادر مغلقاً الباب خلفه حتى وقفت والدته أيضاً وتلمست
بيديها حتى وجدت الطبق المخصص للخبز وحملته معها ناحية
المطبخ وحيث صوت ضجيج الأطباق والأكواب ودخلت قائلة
بابتسامة
" لم تأكلي شيئاً يا زهور "
قالت التي فتحت باب الثلاجة تضع بعض العلب الحافظة فيها
" أنا معتادة على شراب القهوة أولاً في الصباح "
وأخرجت رأسها منحنية وقالت تنظر مبتسمة للتي جلست على
الفراش الموجود على الأرض
" هل تشاركيني إياها ؟ "
قالت مبتسمة
" وأنا معتادة على شرب الشاي في الفطور لكن لابأس بكوب
قهوة أيضاً "
اغلقت زهور باب الثلاجة مبتسمة وقالت تتوجه نحو الخزانة
المعلقة
" جميل فأنا لا أحب شربها وحيدة فوالدي كان يشربها معي
كل يوم "
قالت التي نظرت للفراغ أمامها مبتسمة
" يبدو أنك اشتقت لهم من اليوم الأول لك هنا "
غشت سحابة حزن ملامح زهور التي أمسكت إبريق القهوة
الفارغ بكلتي يديها وقالت
" بلى ولم أكن أتخيل أن الأمر صعب هكذا ! "
قالت الجالسة هناك مبتسمة
" الصعوبة بأكملها تكمن في الأيام الأولى ثم ستعتادين على
حياتك الجديدة بل وستشتاقين لمنزلك هنا كلما ابتعدتِ عنه "
من حسن حظها أنها كانت لا تراها ولم ترى الألم الذي ارتسم في
عينيها والسخرية التي زينت شفتيها وأرادت أن تقول بأن هذا لن
يحدث أبداً لأنها عائدة إلى هناك قريباً فهي مسألة أشهر قليلة فقط
وفترة عقوبة عليها تلقيها ثم العودة من حيث جاءت ، لكنّها لن
تتسبب في حزن قلب هذه المرأة من الآن وستتركها حتى تلمس
يداها حفيدها وتفرح به فسيلهيها ذلك عن فراقها لهم بينما
ستترك هي قلبها هنا وتغادر .
استغفرت الله بهمس كئيب وتوجهت ناحية صنبور المياه وفتحته
في الإبريق قائلة بصوت باسم كي لا تشك بأفكارها تلك
" ما الذي تريدين تناوله على الغداء ؟ "
قالت تلك مبتسمة
" أي شيء يمكنك طبخه سيعجبني بالتأكيد "
اغلقت الصنبور وتوجهت به نحو الموقد قائلة بابتسامة
" وأنا يمكنني إعداد كل شيء "
" حقيقة هذه ! "
قالتها والدة أويس متفاجئة فضحكت والتفتت برأسها فقط
نحوها قائلة
" أجل حقيقي .. صحيح بأنني لم أنهي الدراسة بعد لكن والدتي
علمتني كل شيء ومنذ كنت في المرحلة الثانوية ، كما أنها لا
تسمح للخادمة بإعداد الطعام لنا بل أنا وهي من نفعل هذا "
ابتسمت حينها بحب وقالت تنظر للفراغ أمامها
" سبحان الذي جمّلك وكمّلك ورحم من رباك "
ابتسمت زهور بحب حقيقي نابع نحوها وقالت
" ويحفظك لنا "
وما أن وضعت الإبريق على النار تحركت نحو الثلاجة مجدداً
وفتحتها وقالت والدة أويس حينها
" أعطني كل الخضار التي تحتاجين لتقشيرها وتقطيعها إذاً "
التفتت زهور نحوها بكامل جسدها وقالت تمسك وسطها بيديها
" لا بل لن تلمس يداك شيئاً من اليوم وصاعداً ، وأنا من ستقوم
بأعمال المنزل جميعها "
قالت التي تغلبت عليها ضحكة صغيرة
" وما الذي أفعله أنا إذاً ! "
قالت زهو بضحكة تخرج كيس اللحم من براد الثلاجة
" الأكل والنوم فقط بالطبع "
وضحكتا معاً وكل واحدة حب الأخرى في قلبها يتعاظم بالرغم من
كل التعاسة التي يحملها قلب كليهما وكأن كل واحدة منهما وجدت
مواسيها في رحلتها الصعبة في الحياة تلك .
*
*
*
مالت بجسدها جانباً ما أن انحنت الخادمة أمامها تضع صينية
القهوة وقالت بتذمر حين حجبت عنها شاشة التلفاز
" ابتعدي قليلاً سعاد أرجوك "
ضحكت الخادمة وهي تبتعد بينما شكرها دجى مبتسماً وهو يرفع
كوب القهوة ونظره معلق بالشاشة يتابعان كل كلمة قيلت في تلك
المقابلة والمذيع يتنقل ببراعة بين ضيوفه ممّا جعل ذاك اللقاء
ينحدر نحو الدعابة أحياناً وإن كانت الضحكات قد توزعت بين
رجاله فقط بينما اكتفى زعيمهم بابتسامات قصيرة .
كانت نظرات دجى تعبّر عن تفاعله مع كل ما يقال ويسمع بينما
عينا تيما كانت تنظر لشخص واحد بحب وفخر ومن كانت آلات
التصوير أساساً قد جعلت كامل تركيزها عليه تقريباً خلال اللقاء
الذي تجاوز الساعة ونصف حتى الآن .
توجه نظر المذيع نحو قاسم ونظر لورقته قبل أن يعود وينظر
له وقال
" لقد أثبتت للعالم بأكمله وليس البلاد فقط بأنك قادر على إدارة
جهاز حساس كالمخابرات فهل سنرى السيد قاسم في مناصب
أخرى مستقبلاً "
ابتسمت تيما وهي تتوقع جوابه والذي أصابت فيه وقد قال
" أنا لا أريد كل هذا ولم يجبرني عليه سوى الأوامر "
وهو ما جعل ابتسامتها تتسع أكثر وتمتمت بضحكة صغيرة
" لأنك تريد أن تكون امرأة يا أحمق "
نظر دجى نحوها حينها وقال مستغرباً
" من هذا الذي يكون امرأة ! "
ابتسمت محرجة ولم تعلق وعادت بنظرها نحو التلفاز وجذب
المذيع تركيزهما مجدداً ما أن قال
" الجواب عند الزعيم مطر إذاً فهل استحق أن يكون رجل
المخابرات للبلاد مستقبلاً ؟ "
قال مطر حينها وبجدية
" المكان مكان عمير وما أن يستعيد عافيته سيعود لمنصبه "
ابتسم المذيع وقال
" يمكن له أن يكون في مكان حساس آخر بما أننا نرى الشخص
المناسب في المكان المناسب الآن ، كما أن الجميع يستغرب أن
سيادتكم لم تسلموه أي مناصب سيادية سابقاً ! "
قال مجدداً وبحاجبين معقودان بقوة
" بل عمير هو الأجدر بهذا ولن ننسى ما فعله عند الحدود
الغربية للبلاد ولولاه بعد الله لكان المتطرفين يتجولون في شوارع
صنوان الآن ويقطعون رؤوس رجال الجيش والشرطة ، ولن
أتحدث عمّا فعله ونحن في الخارج لأنه سيطول الحديث عنه "
قال المذيع مستغرباً
" أيعني هذا أنك لا تثق في قدرات ابن عمتك ! "
قال مطر سريعاً
" لو كنت كذلك ما سلمته أغلى ما أملك وهي ابنتي واستأمنته
عليها ليكون السند لها من بعدي "
جعلت كلماته تلك الجالسة مقابلة للشاشة تبتسم بحب وعيناها
تلمع بالدموع الحبيسة وهمست
" ليحفظك الله لي "
تحدث صقر حينها وقال موجهاً حديثه للمذيع
" كان يجذر بك التفكير في السؤال قبل طرحه لأن ابن شقيقي لم
يسلم أي مناصب لأقاربه مطلقاً وما فعل هذا إلا بسبب وضع عمير
ولأنه يثق في قاسم الذي كان خياره الأول متنازلاً عن مبادئه "
نقل المذيع نظره منه لمطر وقال
" هذا يعني بأننا لن نرى مستقبلاً أي رجل من عائلة الشاهين
في الحكم "
قال مطر مباشرة
" نعم وسيختار الشعب بين المرشحين حينها من يجدر لرئاستهم
وتولي كل المناصب تحتها "
ارتفع حاجبا محدثه وقال مستفهماً
" الأغلب توقع أن يكون الاختيار عن طريق مجلس شورى بما
أننا نرى تطبيقك للشريعة الإسلامية منذ دخلت البلاد ! "
مال طرف شفتاه بابتسامة ساخرة في أول تعبير له غير الجدية
والحزم وقال
" هذا لا يجدي مع بلاد تحاول إعادة نفسها للتقسيم مجدداً "
كان اتهاماً واضحاً منه بأن الشعب من يدفع بعض الأمور نحو
الأسوأ وهو ما أكده سؤال المذيع التالي حين قال
" هل هذا يعني أننا قد نرى أحد أبناء شراع صنوان الثلاثة
رئيساً لها ؟ "
قال مطر من فوره وببرود
" إن اختاره الشعب فهو من حقه "
" حتى جبران شراع ! "
كان سؤاله سريعاً ومنطقياً أيضاً ومن الطبيعي أن يفكر في هذا
كما كان الجالس أمامه يتوقعه لذلك قال وبجدية
" كلامي واضح وليتحمل الجميع نتائج اختياراته ، هذا هو مبدئي
من اليوم وصاعداً "
جعلت كلماته تلك الحزن يسيطر على الملامح الجميلة والعينان
الزرقاء المحدقة في التلفاز وكلام قاسم سابقاً يتكرر أمامها وبأن
الشعوب لا تهتم لهوية من يحكمها ولا طريقة الحكم التي سيطبق
عليها مادامت حاجاتهم الأساسية متوفرة ، لكنَّ ما قاله الآن
مخيف ولم يكن كلام والدها سابقاً ومن أفنى عمره ودفع سعادته
ثمناً لتوحيده !
كان ذاك آخر سؤال وختم بعدها المذيع المقابلة يشكر كل واحد
منهم على حدا فتحررت عيناها حينها من سيطرة تلك الشاشة
المضيئة عليهما ونظرت نحو الجالس بجانبها وقالت بعبوس
حزين وكأنه لم يكن موجوداً معها ورأى وسمع كل ما قيل
" رفض الإجابة عن جميع الأسئلة التي تخص المحكمة وقضية
الطلاق ولا حتى أن ينفي الكاذب منها ! "
قال دجى بتفهم
" لأن غرضه من هذه المقابلة ليس الخوض في خصوصياته ولا
يعنيه ما نظرة الناس وأحكامهم عليه ، كل ما كان يهدف له هو
توضيح النقاط السياسية المبهمة عن عامة الشعب كي لا يتلاعب
المندسين بأفكارهم ، حتى أنه لم يكن وحيداً في هذا اللقاء
كالمعتاد من أمثاله لأنه يرى بأنهم صنعوا النصر معاً وليس
وحده ، أي أن المقابلة بالنسبة له لا تخصه هو وليست للتحدث
عنه ، كما أنك تعلمين جيداً مدى كره والدك للتدخل فيما يخصه
وحده "
تنهدت بأسى حزين ونظرت نحو التلفاز وقالت بحزن
" لا أنكر بأنني كنت أنتظر أن يجيب على الأقل عن الأسئلة التي
تخص قضية الثأر وذاك الشرط المجنون الذي وافقهم عليه "
وساد الصمت المكان مع توقف كلماتها تلك وهو ما جعلها تنظر
نحوه ووبخت نفسها على ما قالته وهي ترى نظرة الشرود
الحزين في عينيه اللتان كان يحدق بهما في الفراغ وهو ما جعلها
تستدير بجسدها نحوه وأمسكت يدها بيده التي كان يريحها على
فخذه وقالت
" جدي لا أحد يلقي باللوم عليك لقد كنت بطلاً ولازلت كذلك في
نظرنا لأنك لم تسمح بما كانوا يفعلونه ويخالف مبادئك "
حرك رأسه ولازالت نظراته شاردة في الفراغ وتمتم بهدوء
" هي أقدار الله لا أحد يمكنه الهرب منها "
ونظر نحوها وابتسامة حزينة ترتسم على شفتيه بينما لامست
أصابعه خصلات غرتها الناعمة يدسها خلف أذنها وقال ينظر
بحب لعينيها الحزينة
" ثم لكل شر ظاهر خير ما في باطنه فكل ما حدث جعلني أُرزق
بحفيدة رائعة مثلك "
شقت ابتسامة صادقة ملامحها وعيناها قبل شفتيها كم شعر بها
انعشت روحه وقالت
" بل الابنة قبل ذلك "
قرص خدها وقال بضحكة صغيرة
" بالتأكيد وليحفظكما الله لي "
تبدلت ملامحها للأسى الحزين فجأة وتنهدت قائلة بشرود حزين
" كم أنا مشتاقة لها "
قال دجى ينظر لعينيها يشعر بالحزن فيهما يعتصر قلبه
" سأتحدث مع والدك ليتركك تزوريها فأنتِ لا علاقة لك بكل ما
يحدث بينهما "
وكان هذا ما جعلها تقول مندفعة
" لا جدي أرجوك لا أريد أي شجارات بينكما "
وحين لم تلمح أي استجابة لطلبها أمسكت بيده وقالت برجاء
" أرجوك جدي "
تنهد مستسلماً وهو ما جعلها تشعر بالراحة فلن تتخيل نوع
الصدام الذي سيكون بينهما إن تحدث معه في الأمر وهي تريد
أن تتحدث معه بنفسها ما أن يهدأ قليلاً .
انتقل نظرها نحو باب الغرفة الذي انفتح فجأة ونظرت باستغراب
للداخلين منه وهم قاسم وصقر ووالدها أيضاً ! وهو ما جعلها
تنقل نظرها منهم للتلفاز وقالت وهي تعود وتنظر لهم
" ألستم في مبنى الإذاعة ! "
ضحك صقر بينما قال قاسم مبتسماً
" البث ليس مباشراً وتم تسجيله قبل ذلك بثلاث ساعات تقريباً "
قالت بضحكة محرجة
" ظننتكم هناك ونحن نراكم هنا "
كان الضحك من نصيب قاسم وصقر معاً هذه المرة بينما ابتسم
الوجه الذي كان يتسم بالجمود قبل قليل وهو ما جعلها تقف
وتركض نحوه وحضنت خصره ورأسها يتكئ على كتفه وقالت
" أحبك أبي "
لامست يده شعرها بينما ضحك صقر وقال يرمق قاسم
بطرف عينيه
" لقد فات القطار أحدهم "
واجهه قاسم بالبرود ذاته قائلاً ينظر لعينيه
" وأنا لا أريد امرأة لا تحب والدها وتفخر به ، بل وأريدها أن
تنجب وتربي أبناءً يشبهون ما تربت هي عليه "
نصب دجى ساق على الأخرى وقال ينظر لصقر
" انتصر عليك بهذه "
قاطعت تيما كل ذلك وهي تبتعد عن والدها وقالت مبتسمة تنقل
نظرها بينهم
" هيّا اجلسوا جميعكم سأعد الشاي والكعك بنفسي "
لكنّ تلك الابتسامة ماتت في مهدها ما أن قال مطر
" تيما ورائي سفر لشرق الهازان الآن لنتركها لوقت آخر "
وهو ما جعلها تتنهد بخيبة أمل بينما همست شفتاها بحزن
" حسناً "
تدخل حينها صقر وقال ونظره موجه نحو ابن شقيقه وبنظرة
يفهمها جيداً
" لا شيء لا يمكن تأجيله "
ونظر بعدها نحو تيما وقال من قبل أن يعترض
" هيّا أرنا إبداعك "
ضحك دجى وقال
" هل سنأكل شيئاً يا ترى ؟ "
نظرت له تيما بعبوس طفولي جعله يضحك بينما قال
صقر بضحكة
" ينتابني الشك حيال ذلك "
نظرت نحوه حينها وقالت بضيق تمسك خصرها بيديها
" لا تسخر من قدراتي وسترى جمال الكعكة التي ستتناولها "
جلس حينها صقر مرتمياً بجسده على الأريكة وقال بابتسامة
يشاكسها
" الأمر سيحتاج لثلاث ساعات كأقل تقدير إذاً لذلك لنجلس
ونناقش وضع البلاد ونجد الحلول أيضاً ونطبقها "
وضحك عند نهاية كلماته تلك وهو ما جعلها تضرب الأرض
بقدمها وقالت حانقة
" عمي صقر ! "
ضحك وقال يفرد ذراعيه على ظهر الأريكة خلفه
" أنا خالك ولست عمك "
قالت بضيق
" بلى كلاهما ولذلك كان عليك تشجيعي ومدحي ليس
أن تسخر مني أمامهم هكذا "
نظر حينها ناحية مطر والذي كان لايزال واقفاً مكانه عكس البقية
بينما كان يضع يديه في جيبيه فارداً ساقيه قليلاً في وقفة مميزة
زادتها ثيابه ذاتها التي كانت في التصوير وأشار له برأسه قائلاً
" والدك يشهد لك أنا لم أراك إلا هذا العام "
تقوست شفتاها بحزن ونظرت ناحية الذي نظر لصقر وقال ببرود
" كل ما تفعله ابنتي صائب لذلك ستأكل وأنت صامت تماماً "
وكان ذاك ما جعل وجهها يشرق بابتسامة جميلة وحضنته مجدداً
قائلة بينما ترمق قاسم بطرف عينيها
" كم أحبك أنت فقط "
وهو ما جعله يقول مندفعاً
" هيه أنا لا دخل لي بكل هذا ووالدك لم يتحدث إلا بسبب
ما قاله عمه "
قال دجى حينها ونظره موجه لقاسم بينما كان يمسك ضحكته
" أنت تحديداً من سيأكل كل ما سيتبقى منها ولن تقول غير أنها
رائعة ورغماً عنك "
تنهد المعني بالأمر ورفع يديه قائلاً بابتسامة
" سأفعل بالتأكيد وبصدر رحب "
قالت التي ابتعدت عن والدها ضاحكة
" الآن سامحتك "
وتوجهت ناحية باب الغرفة قائلة
" ستكون جاهزة في أقرب وقت لا أحد يغادر أو غضبت منه "
وغادرت مغلقة الباب خلفها وجميع الأعين تتبعها والابتسامات
المتباينة تختفي وكأنها فُرضت على وجوههم من أجلها فقط
وليرى كل واحد منهم ابتسامتها التي يعشق ، كان صقر من كسر
كل ذاك الصمت الذي ساد المكان بعد خروجها وقد قال ينظر
للواقف مكانه
" ما هي الخطوة القادمة الآن ؟ "
تنهد مطر وقال ببرود
" كانت ستكون في رحلة اليوم لكن ها هي ألغيت "
قال دجى من فوره
" لابأس في الأمر فابنتك أولى من كل شيء لعلّها تنسى قليلاً
الحزن الذي يأكلها "
لم يعلق على ما قال بينما توجه نحو الكرسي المقابل لهم وجلس
عليه وقال ينظر له تحديداً
" طلبت أن نكون هنا جميعنا لأنه ثمة ما علينا مناقشته يخص
وضعك مستقبلاً "
تبدلت ملامح دجى للضيق وقال
" أما زلت مصراً على قرارك الجنوني ؟ "
قال مطر بضيق مماثل
" قراري هو ما سيعالج الأمر بأكمله جنونياً كان أم لا النتيجة
واحدة "
كانت نظرة دجى تشرح ما سيكون تعليقه على ذلك لكن ما أن
كان سيتحدث توقف فجأة وأشاح بوجهه جانباً ومتمتماً
بغضب مكبوت
" الله المستعان "
وهو ما جعل الجالس أمامه يقول والضيق في صوته كما ملامحه
يزداد حدة
" عمي رجاءً لا تنظر للأمر من جانب واحد وكن عادلاً "
وما أن كان المعني بالأمر سيتحدث سبقه صقر قائلاً بحزم
" اتركه يتحدث يا دجى فالمأزق شديد والخروج منه لن يكون
بالصراخ والشجارات بل بالتروي "
كان يريد أن يقول أي تروي وتفكير وهو يقرر ما فيه هلاكه
وهلاكهما معه فهو ليس ينقذهما بهذا بل يقتل قلوب الجميع ،
لكنّه اختار الصمت مكرهاً ومتى كان يملك شيئاً غيره فقد حكم
على نفسه به من أكثر من ثلاثين عاماً ولن يستمع لرأيه ولا
قراراته أحد الآن ولا يستطيع تنفيذها رغماً عن الجميع وهو هنا
سجين وتحت حراسة مشددة أيضاً .
*
*
*
كانت منتبهة مع مساعدتها وهي تشرح لها عن جدول أعمال الغد
حين انفتح باب مكتبها وأطل رأس سكرتيرتها وقالت مبتسمة
" ثمة ضيف لا يمكن صرفه لأنه قادم من دون موعد "
نظرتا لها باستغراب بينما اندفع الباب ودخل رعد لحظة مغادرة
الفتاة الشابة وهو ما جعل مساعدتها أيضاً تعتذر مبتسمة
وغادرت مغلقة الباب خلفها ، ولأن الواقفة قرب طاولة مكتبها
كانت تتوقع ما سيقوله وقد ظهر العتاب واضحاً في نظراته سبقته
قائلة
" لقد رفعت الدولة يدها من المشروع وكان عليّا أن أكون هنا
في أقرب وقت "
وتركته ونظراته المستغربة أو الذاهلة بمعنى أدق واستدارت نحو
الطاولة تجمع الأوراق في مغلف بني كبير ، ولأنها ترفض
الخوض في الحديث عن الأمر وثمة ما هو أهم منه وضعت الملف
واستدارت نحوه مجدداً قائلة
" كل هذا وغيره لا يهم أمام ما قد يحدث لجبران الآن "
رمقها بنظرة تفكير قبل أن يقول
" هل شاهدتِ المقابلة ! "
زمت شفتيها بقوة قبل أن تحررهما قائلة
" ألمهم منها وصل لي "
حرك رأسه في حيرة متمتماً
" لا أفهمك يا غسق ! "
تكابدت على جرح كرامتها وهي تقول
" ما كان يمسك مطر عن جبران هو أنا يا رعد وقد قالها لي
سابقاً بنفسه لم يقتله لأني أعتبره شقيقاً لي "
كانت الصدمة واضحة على ملامح الواقف هناك فهو توقع كما
الجميع بالتأكيد بأن السبب هو الخوف من ردة فعل صنوان على
هذا بينما جَهِل الجميع أن ذاك الرجل لا يخشى شيئاً ولا أحداً
وهو رجل الحروب ، كانت نظراته وكأنها تبحث عن جواب ما في
عينيها بينما لم تنتظر هي تعليقه على الأمر وتابعت بابتسامة
ساخرة
" أما الآن غسق ودماء جبران أصبحت سواء بالنسبة له ولن
يتراجع عن فعل ما هدد به "
حرك رأسه في حيرة وقال
" لا يمكنني استيعاب ما أسمعه الآن ! "
وراقبت نظراته بالكثير من الترقب التي تنهدت بعمق قبل أن تقول
بنبرة لم يفهمها وكأنها تخاطب نفسها ولا تراه أمامها
" بلى وحتى الحرب على صنوان أوقفها في الماضي لذات السبب
وهو أنا "
ولم تكن تلك المفاجأة بأقل من سابقتها بالنسبة له وهو من
تساءل كما الجميع عن جواب السؤال الذي رفض الإجابة عليه
في تلك المقابلة بينما عجزت شفتاه سوى عن الهمس مستغرباً
" كيف هذا ! "
ابتسمت بمرارة قائلة
" تلك هي الحقيقة وهو قال بنفسه أن السبب واحد "
اتسعت عيناه وقال بعدم تصديق
" هذا يعني أن والدي ...! "
وضاعت الكلمات منه أمام صعوبة النطق بها ولا حتى تصديقها
وهو ما جعلها تتولى المهمة بدلاً عنه وإن كانت وكأنها تنتزع كل
حرف كأشواك من حلقها بينما ملأ القهر عينيها قائلة
" أجل والدي شراع هو من رفض السِلم واختار الحرب حينها
ومن ثم كانت تلك الاتفاقية التي حاصروا بها مطر أكثر "
تحرك رأس رعد بعدم تصديق هامساً
" لا يمكن هذا ! "
وراقبت نظراته الذاهلة التي لم ترحمه بنفي ذلك أو التشكيك فيه
وهي تقول بأسى حزين
" هو الواقع الذي كان يخفيه مطر عنّا جميعاً "
أخفض رأسه عند ذلك يشد عينيه بأصابعه بقوة يشعر بما لا يمكن
وصفه وكأن غمامة داكنة تجثم على صدره وقلبه يقول
( يا ألهي لن تفجعها في الرجل الذي رباها أيضاً )
ولم ترحمه كما لم ترحم نفسها وقالت بحزن عميق
" منذ سمعت هذا منه وألم لا يمكن وصفه أشعر به في قلبي "
ارتفعت نظراته لها مجدداً وكانت عيناه مليئة بالألم ذاته الذي يراه
في عينيها الدامعة وإن لم تفارقها تلك الدموع بينما تابعت بمرارة
" كان يحمل كل هذا في قلبه والآن رماني به ودون رحمة "
تنقلت نظراته في عينيها بضياع وقال
" والمعنى ؟! "
قالت التي لم يكن إخراج تلك الكلمات أيضاً سهلاً بالنسبة لها
" المعنى واضح ولأنه لا يفعل شيئاً خارج القانون فسيكون ثمة
محاكمة عسكرية قريباً بخصوصه بالتأكيد والحكم فيها لن يتخطى
الإعدام لأن جبران رجل جيش "
اقترب حاجباه وقال باقتضاب
" أعلم جيداً بكل هذه القوانين ما أعنيه لما رد فعله هكذا يا
غسق ! لن يفعل كل هذا فقط لأنك رفعتِ ضده قضية طلاق ؟! "
وكان ذاك ما جعلها تبعد نظرها عنه بل وأشاحت بوجهها جانباً
وكأنها تهرب من سؤال لم تتوقعه أبداً وهو ما جعله يقول
" غسق ! "
نظرت له وإن في صمت بينما كانت قبضتاها تشتد بقوة جانب
جسدها وكأنها في حرب ضروس مع نفسها للإجابة عن سؤاله
ذاك ، ولأنه لا مفر من قول الحقيقة إن الآن أو في وقت آخر
قالت معترفة
" لقد سلمني مفتاح مكتبه الخاص وأنا استغللت ذلك لأخذ أوراق
تخص القضية "
كان وقع الصدمة عليه كالمتوقع تماماً ورفع رأسه عالياً يمسكه
بيديه وأصابعه تلتقي عند مؤخرة عنقه ينظر للسقف وكأنه يفرغ
هول الفاجعة بذلك بينما همست شفتاه
" يا إلهي "
وما أن أنزل رأسه ونظر لها قال بعدم تصديق ينظر لعينيها التي
كانت تسدل جفنيها عليهما
" هل تعي معنى أن يثق رجل مثل مطر شاهين بشخص هكذا !
هل تعلمي بأنه لن يفعلها ولا مع أقرب رجاله المقربين ؟ "
ولأنه لم يكتفي من ذلك ، بل وكأن الكلمات تريد أن تقفز من حلقه
كصفعات حقيقية تابع بصوت حاد غاضب
" وهل تعي أكثر معنى أن يفقد رجل مثله ثقته في أحد ؟ بل أن
يطعنه أحدهم لأنه وثق به "
نظرت له وواجهته بالصراخ ذاته وإن كان مدججاً بالألم الذي
نطقت به عيناها قبل كلماتها
" أعلم وأعلم بأني خسرت الحرب مع الجميع وأولهم نفسي لهذا
أخبرتك بأن كل شيء انتهى ولن تجدي الاعتذارات "
وما أن انتهى سيل كلماتها تلك توجه نظرها كما وجهها جانباً
ناحية الإطلالة الزجاجية لمكتبها والمطلة على العاصمة من آخر
طابق في البرج وكأنها ترسم صورة لها في عينيها الحزينة بينما
تحركت شفتاها بما هو أعمق وأشد حزناً
" قبل أربعة عشر عاماً ظننت بأني خسرت كل شيء لكن الآن
اكتشفت العكس وأنها لم تكن خسارة تلك "
أغمض رعد عينيه متنهداً بأسى حزين وشعر بالندم وهو يتذكر
كلمات رمّاح بل وكل ما مرت به اليوم ويظهر جلياً على ملامحها
المتعبة فخساراتها تتوالى دون توقف ، خسرت زوجها والرجل
الذي تحب طفلاها والدها الحقيقي وحتى والدها الذي رباها اهتزت
صورته بفاجعة لا يعلم ما مقدار تقبلها لها !
ورغم كل ذلك ها هي واقفة وفي مكتبها وتحاول الصمود وإن
عجز كل شيء فيها عن فعل ذلك ، وكان هذا ما جعله يقول بكل
ما استطاع من هدوء
" توقفي عن لوم نفسك يا غسق فما حدث لا يمكن العودة
به للوراء "
استدارت نحو مكتبها وقالت ترتب باقي الأوراق أمامها
" أنا ضحية كالجميع لكن لا أحد سينظر لي هكذا "
تنهد بحزن وقال
" ثمة أخطاء لا تغتفر أبداً يا شقيقتي لأن الناس تراها هكذا فقط
أمّا من أراد أن يجد لك أعذاراً فسيجدها "
انتظر أن تعلق على ذلك لكنّها لم تفعل كما كان يتوقع لذلك قال
وهو ينظر لها تدس بعض الأوراق في حقيبتها بعدما طوتها
" أرى أنك متعبة هيّا سآخذك أنا للمنزل "
قالت بهدوء وهي تغلقها
" لن أذهب إلى هناك "
غضن جبينه باستغراب وقال
" أثمة مشوار ما لديك ؟ أم تعنين بشكل نهائي ! "
نظرت له وقالت
" سأذهب لمنزل عائلتي "
كانت نظرة الاستغراب أو عدم التصديق واضحة في عينيه وهو
ما جعلها تتابع
" لن أستطعم طعم الراحة ما لم أرى والدي وأتحدث معه "
أومأ برأسه موافقاً ولم يعترض فهم عائلتها بالفعل وقد يشعرها
هذا بالتحسن وإن قليلاً خاصة بعدما علمته اليوم وإن كان يخشى
تبعات اللقاء الأول بينها وبين ذاك الرجل الغاضب درجة أن بدأ
معاقبتها من الآن وبأبشع الطرق ، وكل ما تمناه قلبه أن لا تلتقي
به ويستبعد ذلك فبالتأكيد مشاغله الكثيرة لن تترك له وقتاً ليكون
هناك ، قال ونظره يتبعها وهي تتحرك بآلية وخطوات واثقة
" سأوصلك إذاً وسأخبر أحد سائقي البرج يوصل سيارتك
إلى هناك "
وما أن توقفت ورفعت نظرها له قال بأمر حازم
" والاعتراض ممنوع يا غسق "
*
*
*
تغضن جبينها وارتفع جفناها لتظهر أمامها الأوراق اليابسة ونملة
كبيرة الحجم تحاول السير مجتازة إياهم وبدأ عقلها يربط الصور
أمامه مع ما حدث البارحة ليختفي كل ذلك بسبب الحذاء الأسود
الذي دعسها بينما ارتفع الصوت الرجولي الذي يبدو أنه السبب
في إيقاظها قبل قليل منادياً
" ها هي هنا سيدي "
لتتكاثر الأصوات والأقدام سريعاً قبل أن يخترقها صوت تعرفه
جيداً وهو فاليريو والذي شعرت بأصابعه تلتف حول ذراعها
قائلاً بقلق
" ماري هل أنتِ بخير ! "
وحاول رفع جسدها يشدها من تلك الذراع لكنّها لم تستجب له ولم
تساعده على فعل ذلك فانحنى نحوها ورمى ثقل جسدها على
صدره ومرر يده الأخرى تحت ركبتيها وحملها بين ذراعيه ووقف
بها وتحرك من هناك قائلاً
" اجلب السيارة لأقرب مكان سنتجه نحو الطريق المعبد "
كان القلق واضحاً على ملامح الشاب الذي ترك عمله وعاد
للمنزل ما أن تلقى اتصالاً من الحرس هناك وكان طوال الطريق
يلتفت وينظر لها خلفه حيث كانت مرمية على المقعد الخلفي
وكأنها جثة لا حياة فيها ! وحينما وصل بها للمنزل وضعها على
سريرها أجلسها على طرفه فسقط جسدها على ظهر السرير تتكئ
عليه بكتفها ورأسها منخفض نحو الأسفل فنظر نحو الواقفتان
قربه تراقبانها بقلق وقال
" أوليفيا هل تساعديها لتستحم وسأتصل بالطبيب ليأتي سريعاً
ويراها "
خرجت حينها كلماتها الهامسة من خلف الشعر البني الذي يغطي
أغلب وجهها
" لا داعي لهذا أنا بخير "
نظر نحوها وقال عاقداً حاجبيه بقوة
" لا أرى أنك كذلك ماري "
استقامت في جلوسها يداها تمسكان بخشب السرير تحتها بينما
لازالت تنزل رأسها نحو الأسفل وقالت بصوت مرتخي متعب
" قدماي تؤلمانني فقط وسأكون بخير "
توجهت أوليفيا نحوها قائلة
" هيّا آنستي سأساعدك لتقفي "
ووقفت بمساعدتها وتوجهت بها نحو باب الحمام تسير بصعوبة
تكتم تألمها كي لا يخرج أنينها حتى أصبحتا في الداخل وأغلقت
الخادمة باب الحمام ، نظر حينها فاليريو للتي لازالت تقف قريباً
منه وقال
" ما الذي حدث يا ربيكا ؟! "
نظرت له الخادمة وقالت بكلمات سريعة
" لا أعلم سيدي كنت أتحدث معها وأصابها شيء ما فجأة ! "
وانطلق لسانها كالمعتاد تتحدث دون توقف وعن أدق التفاصيل
وما يخص الأمر وما لا يخصه حتى انفتح باب الحمام وسرق
نظرهما اللتان خرجتا منه وتحديداً التي لازالت تخطو بصعوبة لا
يغطي جسدها سوى منشفة الحمام يدها تمسك بها ناحية صدرها
بقوة وكأنها تخشى وقوعها من على جسدها بالرغم من استحالة
ذلك ! بينما تبعتها نظراتهما وهي تدخل بها ناحية غرفة
الملابس .
وما هي إلا لحظات وخرجت الخادمة وحدها من هناك ووقفت
ونظرت لهما قائلة بعبوس
" لم تسمح لي بمساعدتها "
قال فاليريو باستغراب
" كنتما معاً في الحمّام ! "
حركت تلك كتفيها وقالت بقلة حيلة
" كنت أوليها ظهري ، وافقت فقط على بقائي فيه قريباً منها "
وتابعت من فورها وبنبرة قلقة
" قدماها متورمتان ومليئتان بالخدوش والجروح ، لا أعلم أي
ألم هذا الذي تتحمله وهي تسير عليهما ! "
واستدارت عند نهاية كلماتها تلك للتي خرجت تمسك يدها بطرف
إطار الباب وأمسكت بذراعها سريعاً قائلة
" سأساعدك سيري ببطء "
وما أن أوصلتها للسرير ساعدتها لتجلس عليه وقالت وهي
تتوجه نحو باب الغرفة
" سأجلب مرهماً للجروح سيفيدها كثيراً "
نظر حينها فاليريو للواقفة مكانها تتابع ما يجري وقال
" ربيكا أعدي لها حساءً ساخناً رجاءً "
تحركت من فورها قائلة
" في الحال سيدي "
وغادرتا كليهما بينما توجه هو نحو كرسي طاولة التزيين سحبه
نحو السرير وجلس عليه ومقابلاً لها وقال
" ماري ما بك ؟! "
وراقب ملامحها وعيناها التي كانت تبعدها عنه وتابع
بترقب وريبة
" أو ماريه .. هل هذا هو اسمك ؟ "
نظرت له بحركة سريعة وقالت مندفعة
" بل ماري .. ماري مديتشي "
تغضن جبينه باستغراب ينظر لعينيها المجهدة وقد حفها جفنان
محمران بوضوح والغضب الذي كان يتفجر منهما وهي تقول ذلك
وكأنها تتبرأ من الآخر ! قال أخيراً ونظره لم يترك عيناها
" سألت ربيكا عمّا حدث لكن لا يبدو ما قالته مفهوما ً ! "
وحين لم يبدر منها أي تعليق وفهم جيداً أنها ترفض الشرح قال
مجدداً وإن بطريقة أخرى
" هل قام أحدهم بمضايقتك هنا ؟ الخادمات الحرس السائق أو
حتى والدي ؟ "
" لا "
همست بها سريعاً دون أن تضيف أي شيء آخر وهو ما جعله
يتنهد بعمق وقال بالكثير من الصبر والتفهم
" ما الذي حدث إذاً ! "
والحال ذاته لم تنبس شفتاها بكلمة وإن كانت لازالت تنظر لعينيه
ولم تتهرب كالسابق ، ولأنه لا حل أمامه غيره قال يحاصرها بما
يملك من معلومات
" مارية أليس هو الاسم الذي يناديك به ذاك الشاب اليوناني ؟! "
وعند هنا عادت للهرب من عينيه بحركة بطيئة من جفنيها فعلم
بأنه أصاب الحقيقة فقال باستغراب
" هل تحدث معك ؟ "
رفعت نظرها له بحركة سريعة وقالت
" لا ولن يحدث ذلك ولا أريد التحدث معه "
وكان هذا ما جله يحرك رأسه في حيرة وقال
" لا أفهم حقاً نوع العلاقة التي تجمعك به لكني علمت القليل من
لوسي عمّا حدث في إيطاليا قبل موتك المزعوم "
قال آخر كلماته تلك ينظر لعمق عينيها وكأنه يبحث عن الكثير
فيها فيما يخص ذاك الماضي وهو ما جعلها تبعد ليس فقط عيناها
بل وجهها عنه وقالت بكلمات مقتضبة
" لا أريد التحدث عن الأمر فاليريو أرجوك "
ولأنها تعلم بأن الأمر لن ينتهي عند ذلك نظرت له مجدداً وقالت
تسبقه
" ثم ذاك الشاب لديه خطيبة وسيتزوج بها وهذا دليل كافٍ "
لا تنكر بأن تلك الكلمات خرجت كالأشواك تذبح روحها وهي تقول
الحقيقة التي لازال يرفضها قلبها وإن أقرّ بها عقلها ، وظنت بأن
الأمر انتهى أخيراً لكنّها كانت مخطئة تماماً فالجالس أمام سريرها
لم يكتفي بذلك كما يبدو وقد عاد للتحقيق معها قائلاً
" أجل هذا من جانبه هو فماذا عنك أنتِ ماري ؟ "
حاولت جاهدة أن لا تخونها أنفاسها ولا دموعها ولا أي تغيّرات
في ملامحها فماضي تلك الفتاة سيطاردها ويوجه أصابع الاتهام
نحوها دائماً لأنها كانت غبية مثلها تماماً تعلق قلبها بشاب لا
يعترف قلب رجل الحرب داخله بالعواطف لذلك سمحت لها هي
بأن تتحدث نيابة عنها حينها وقالت بجمود تنظر لعينيه المترقبة
في انتظار تعليقها
" لا شيء فماري ماتت عند تلك الصخرة ، هذه واحدة أخرى
مختلفة تماماً "
ارتخت ملامحه فجأة وظهر طيف ابتسامة على شفتيه وقال
" أتمنى هذا ماري على الرغم من صعوبته لكنّ البعض أقوياء
وقادرين على فعلها وأنتِ تبدين كذلك بالفعل رقيقة وهشة من
الخارج وصلبة قوية من الداخل "
وتابع من فوره وهو يقف وكأن جلسة التحقيق انتهت أخيراً
" سأتركك ترتاحي وإن تحدث معك والدي أخبريه بأنك غادرتي
معي البارحة لأن هذا ما أخبرته به وأخبرته بأني من أجبرك على
المغادرة معي وترك الحفل كي لا يغضب منك "
تبدلت نظراتها للاستغراب بينما تجاهل هو كل ذلك وأن يشرح
المزيد وقد قال
" سأعود لنورثود الآن افتحي هاتفك لأطمئن عليك "
وما أن استدار ناحية الباب ليغادر قالت تنظر له بامتنان
" شكراً لك فاليريو وآسفة لما تسببت به لك "
فهي لم تتخيل أبداً أن لا يكون والده قد علم بهذا وأن يكون حمّل
نفسه مسؤولية ما سيراه ذاك الرجل عدم لباقة وسوء تصرف
بالتأكيد فقط كي لا يغضب منها هي !! بل ويبدو أنه قطع كل هذه
المسافة فقط ليبحث عنها دون أن يعلم ، استدار وجهه فقط نحوها
وابتسامته الرقيقة الودود تعود لملامح وجهه الإيطالي الوسيم
وقال
" لا عليك ماري نحن عائلة واحدة "
واستدار نظره نحو مذكراتها وأوراقها على الطاولة وقال
" سأتراسل مع جامعتك لمنحك أسبوع إجازة آخر "
وما أن عاد ونظر لها وكانت تنوي شكره مجدداً فهو قام بإنقاذها
بالفعل لأنها لم تعد على استعداد للذهاب لها لكنّ كلماتها توقفت
بسبب الخادمة التي دخلت تحمل صينية تحوي طبقاً تخرج منه
الأبخرة وقد قالت مبتسمة
" الحساء جاهز "
وتابعت وهي تتوجه نحوها
" هيّا سأساعدك على تناوله وستشعرين بتحسن كبير "
فغادر حينها فاليريو مغلقاً الباب خلفه بهدوء ونزل السلام وتوجه
ناحية المطبخ قاصداً التي وجدها خارجة منه حينها فتوقف قائلاً
" اتصلوا بي إن حدث أي شيء وأخبروا والدي بما أخبرتكما به
فقط اتفقنا ؟ "
قالت الواقفة أمامه من فورها
" كن مطمئناً سيدي "
أمال طرف شفتيه وقال ببرود
" أنا لا أخشى منك بل من لسان ربيكا إنها كمذياع قديم الطراز "
ضحكت أوليفيا كثيراً وقالت
" لا تقلق بشأنها سأتصرف أنا في الأمر "
*
*
*
|