لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

قصص من وحي قلم الاعضاء قصص من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-05-24, 04:45 AM   المشاركة رقم: 1761
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*


حينما وصلت باب غرفتها وقفت دون أن تفتحه ونظرت
ببعض التردد للباب القريب منها ومشاعر كثيرة وغريبة
تنتابها أولها الاستغراب وآخرها الحزن وهي تضع نفسها
مكانها تتخيل أن تواجه ظروف قاسية كالتي واجهتها تلك
الصغيرة وأن تكون متزوجة في هذا السن تعيش مع عائلة
لا تعلم أتصنفها كعائلة لها أم غرباء عنها ! بينما فقدت
عائلتها الحقيقية بين أحياء وأموات .

أفكار جعلتها تتخطى ترددها وخطواتها تتجه نحو باب الغرفة
الموصد والذي ما أن وصلته رفعت يدها وطرقت عليه دون أن
تترك نفسها فريسة للتردد مجدداً ، ولم تنتظر سماع صوتها
تسمح لها بالدخول بل أدارت المقبض مباشرة فبثينة قالت بأنها
تريد أن تنام وهي تشكك بصحة ذلك خاصة أنها أخبرتها بأنهما
تتناولان الغداء معاً دائماً !.

وهو ما حدث بالفعل وعيناها تقع من فورها على الجالسة على
طرف سريرها تمسك كتاباً مدرسياً بين يديها ، وما أن رفعت
رأسها ونظرت لها حتى عادت قدماها لخيانتها مجدداً وهي تنظر
للعينان الجميلة الحزينة ولا تعلم ذاك الذبول فيهما واحمرار
جفيهما الطفيف سببه شعورها بالنعاس أم أنها كانت تبكي !!
وتجاوزت كل ذلك أيضاً وهي تجد نفسها تقول مبتسمة

" هل مسموح لي بالدخول أم عليا المغادرة فوراً ؟ "

وأتاها الرد سريعاً من التي قالت متفاجئة

" بالتأكيد يمكنك الدخول "

لم تتردد أبداً وهي تغلق الباب وتوجهت نحوها قائلة بابتسامة
وهي تنظر للمكان حولها وكأنها تحاول التهرب من النظر لعينيها

" لديك غرفة جميلة ، وأنا في مثل عمرك كنت أحلم بها كثيراً "

قالت آخر كلماتها وهي تصل عندها وتفاجأت مجدداً بنظراتها
الحزينة التي كانت تتجنبها وها هي تخطئ مجدداً ودون قصد
منها ولا أن تعلم الأسباب !! ورغم ذلك ابتسمت مجدداً وهي
تجلس بجانبها وقالت تنظر لكتاب الرياضيات بين يديها

" ما هذا الذي تقرئينه ؟ "

قلبت حينها يمامة الورقة بحركة لا إرادية وقالت ونظرها عليها
بينما كان صوتها منخفضاً

" لدينا اختبار نهاية الأسبوع "

واستمرت تنظر للأرقام فيها وإن من دون تركيز بينما التصقت
نظرات كنانة بها ولم تفهم بما تصنف مشاعرها حينها ! لكنها
وجدت نفسها تقول ما كانت موقنة بأنها قد لا تتفوه به وما تراه
السبب الحقيقي لسلوكها الغريب نحوها بينما كان صوتها حنوناً
معتذراً

" جئت لأعتذر إن كنت أزعجت خلوتك ليلة البارحة لكني فعلاً لم
أكن أعلم أنك ... "


وتوقفت كلماتها ما أن قاطعتها وهي ترفع نظرها لها بينما حركت
رأسها بالنفي قائلة

" لا أنا لست غاضبة منك "

ابتسمت حينها وشعرت بأن المسافة بينهما تقلصت كثيراً في
لحظة وإن كان الواقع يقول غير ذلك ، ورغم كل ذلك قالت تحاول
التقدم خطوة أوسع نحوها قائلة

" أنا ليس لديّا شقيقات أبداً وتمنيت هذا دائماً ، أيمكننا أن
نكون شقيقتان ؟ "


لا تنكر بأنها انتظرت بأنفاس مقطوعة بل شبه متوقفة ردها أو رد
فعلها تشعر وكأنها تتعامل مع شيء شديد الحساسية كمنديل مبتل
بين يديك تخشى أن يتمزق بينهما في أي لحظة ولازالت تعزي كل
تصرفاتها وانطوائها وانزوائها عنها بظروف حياتها وما مرت به
، ولا تنكر أيضاً بأنها سمعت الهواء يخرج من صدرها حين
ابتسمت الشفاه الجميلة أخيراً وإن كانت ابتسامة متكلفة بعض
الشيء ، وإن كانت أيضاً لم تشملها حين قالت

" وأنا ليس لديا شقيقات ولا أم لكن الآن أصبح لديا والدتي
وبثينة "

لم تستطع كنانة التحكم في ضحكة صغيرة خرجت منها حينها وإن
كانت محرجة وقالت

" هذا يعني أنّ طلبي مرفوض ؟ "

وكما توقعت سرعان ما حركت يمامة رأسها وقالت معتذرة

" لا بالتأكيد أنا آسفة لم أقصد ذلك "

ابتسمت لها بحب حينها وباتت ترسم صورة مختلفة لها في عقلها
فهي تبدو مختلفة كثيراً عن بثينة وعن أي فتاة في مثل عمرها
فهي أصغر من سنها بكثير ! اتسعت ابتسامتها وهي تقول

" شقيقتان إذاً ؟ "

حركت يمامة رأسها سريعاً مبتسمة ابتسامة صادقة جعلت قلب
كنانة يبتهج وظهر ذاك واضحاً على ملامحها ومدت يدها للكتاب
قائلة

" إذاً دعيني أساعدك في هذا فأنا كنت أحب الرياضيات طيلة
سنوات دراستي "

*
*
*
دخل المنعطف الثالث ونظر لمرآة السيارة الجانبية ولازالت
السيارة السوداء ذاتها تتبعه فأدار المقود بحركة غاضبة هامساً
من بين أسنانه

" توقعت هذا منك ضرار السلطان "

وما كان له أن يتوقع غير ذلك بعد أن علم بأنه أخرجها من القصر
بل وبعد اتصاله الذي تعمد أن لا يجيب عليه فبالتأكيد سيرسل من
يتتبعه ليصل لمكانها ثم يأخذها ورغماً عنه وإن أوسعوه ضرباً ،
وهذا ما لن يسمح به أبداً ومهما كلفه هذا فلن يوافق على
إعادتها للقصر ولا للمصح النفسي وعلى جده أن يشرح له أولاً
سبب العداء بينه وبين مطر شاهين ولما يتهمه في كل ما يصيب
حفيداه التؤام ! ثم يتناقشا معاً في مصيرها الذي لن يكون المصح
وإن سعى لإخراجها من البلاد ودخل السجن بسبب ذلك .

إنعطف بسيارته ما أن أخفته شاحنة كبيرة عن مطارديه وركنها
ونزل منها بحركة سريعة وأوقف سيارة أجرى وركبها سريعاً ،
وما أن انطلقت به أدار رأسه ونظر للخلف حيث السيارة السوداء
التي دخلت الشارع وتوقفت على مقربة من سيارته المركونة
جانباً وابتسم بسخرية متمتماً

" انتظروني هنا حتى تتعبوا فلن أخرج لكم "


وما أن نظر أمامه أخرج هاتفه واتصل بالذي أجاب فوراً فقال

" أنا وقاص لن أزور الشقة في وقت قريب فلا تتركا الموجودة
في الداخل تغادرها ولأي سبب كان وسأرسل الطعام لكما ولها
وأي شيء تطلبه أبلغوني أولاً وأنا أتصرف لا تتحركا من هناك
مفهوم ؟ "

وصله الصوت الرجولي الواثق سريعاً

" حسناً سيدي "

أومأ برأسه فهو سبق وعرفهما واختبرهما بنفسه ورغم ذلك قال
بحزم يرفع سبابته وكأنه يقف أمامه

" سأكرر مجدداً لا تخرج ولا أحد يدخل لها ومهما كان وكانت
صفته وقال لكما ، ولتعلما جيداً لن تكون عقوبتكما هينة إن
غادرت أو مسها أي سوء "


وصله صوته سريعاً

" كن مطمئناً "

قال وهو يبعد الهاتف عن أذنه

" أنا أعتمد عليكما وأبلغاني بأي شيء مريب يحدث "

وأنهى الاتصال معه ونظر للهاتف في يده قبل أن يخرج الشريحة
منه لأنه خاضع لنظام مراقبة شركة جده وفتح النافذة ورماه
منها متمتماً

" لن تصل لها أبداً جدي أعذرني فسلامتها أهم منك
ومن الجميع "

*
*
*


ما أن توقفت حافلتهم وكانت أولى الحافلات وصولاً نزلت منها
بقفزة واحدة كطفلة صغيرة تغادر باص المدرسة وابتسمت
مغمضة العينين تستنشق رائحة أشجار الصنوبر العالية تستمع
لأصوات الطيور المتفرقة فها قد وصلوا أخيراً وإن بعد منتصف
النهار حيث المكان الذي كان مخيماً لآلاف اللاجئين قبل وقت
قريب وتحوّل لمحمية حالياً أو هو في طور التحول بمعنى أدق
ولذلك يتم تنظيم الرحلات الخاصة بمنظمات الإغاثة للمساعدة في
إنقاذ وتحديد أنواع الحيوانات التي ينبغي أن تتواجد فيها ، وقد
تم اختار هذه الجهة لهم لتمشيطها والتأكد من سلامة الحيوانات
الموجودة فيها وأنواعها وأعدادها ، ولأن مكوثهم هنا لن يتجاوز
اليومان فالرقعة التي سيقومون بتمشيطها لن تكون كبيرة كثيراً
كما أنّ عددهم وتقسيمهم لمجموعات سيساعد في إتمام عملهم
في الوقت المحدد ، ولأنها الرحلة الأولى لهم خارجياً ولأدغال
كبيرة تحديداً كانت رحلة الأحلام بالنسبة لهم .

توجهوا جميعهم نحو المشرف على مجموعتهم والذي قال فور
تحلقهم حوله

" سننطلق معاً الآن ثم سنفترق على ثلاث مجموعات كل
مجموعة لديها جهاز تحديد موقع من أجل الطوارئ والاجتماع
ليلاً في موقعنا هذا للتخييم ، ومسدس تخدير من أجل الحيوانات
المفترسة التي عليكم إصابتها على الفور إن كانت لا تحمل بطاقة
مكتوب عليها رقمها ، وعليكم وضع واحدة لها وتسجيل كافة
المعلومات عنها في الدفتر المخصص لكم أما الحيوانات الأليفة
فسيكون مهمة التحقق من تدوينها أكثر سهولة ، ولأن الوقت
قارب المغيب ستكون رحلة تدريبية تقريباً اليوم وقصيرة أيضاً "


قال الشاب النحيل ذو الشعر المجعد يضيق عينيه من تحت نظارته
الطبية الكبيرة

" لا أعتقد بأنه يمكننا اللحاق بأرنب ما لجحره ! "

ضحكوا جميعهم وقال المشرف

" لا ضرورة لتعقب الأرانب ليست هدفنا وعليكم الاطلاع على
القوائم لديكم لمعرفة هدفكم المحدد "


وأشار بيده للشاب الذي بدأ بتوزيع الأوراق عليهم وقد انشغل
الجميع بالنظر لها وتعالت التعليقات المتفرقة وكان إحداها لكاتي
التي قالت مبتسمة

" مكتوب حمار وحشي هنا "

ورفعت نظرها لساندرين التي كانت منشغلة مع ورقتها وتابعت
بسعادة تحضن ورقتها

" أيمكنك تخيل شعوري لو رأيت واحداً "


تمتمت ساندرين ببرود دون أن ترفع نظرها لها

" وكأنك لم تريه سابقاً في حديقة الحيوان "

ضحكت كاتي وقالت

" لكن ليس مخدراً وعن قرب "

حدقت فيها بضيق حينها وقالت

" يا إلهي عليهم أن لا يختاروك قائداً لأحد الفرق "

" ساندي أنتِ ستكونين كذلك "

اتسعت عيناها وهي تنظر للمشرف ما أن قال ذلك مبتسماً وقالت
سريعاً وبرفض قاطع

" لا رجاءً أستاذ ﺭﻭﺑﺮﺕ أنا أريد التمتع لا أن أصرخ عليهم
طوال الوقت "

ضحكوا جميعهم وقال أحد الشبان

" حسناً أنا يمكنني قيادة المجموعة "

نظرت له مبتسمة وقالت

" أجل الرجال أفضل لهذه المهمة "

قال ضاحكاً

" يالك من رجعية "

وانتبه الجميع للمشرف الذي بدأ بسرد أسماء كل مجموعة وما
أن انتهى نظرت كاتي لساندرين وقالت محبطة

" يا إلهي نحن لسنا معاً "


مدت شفتيها بعبوس ولا تفهم لما وهم يعلمون بأنهما صديقتان !
نظرت للمشرف وقالت

" أيمكننا أن نحدث تغييراً "

أشار بالأوراق في يده لشخص معين وقال بابتسامة جانبية

" قائد مجموعتكم يقرر "

عبست ملامحها ونظرت للشاب الطويل ذو الشعر الأشقر الناعم
والذي كما توقعت حرك رأسه بالرفض مغمض عينيه يرفع
حاجبيه عالياً وفي صمت فتمتمت حانقة

" ياله من انتقام مخزي "

فتح عينيه وابتسم قائلاً بلا مبالاة لإهانتها

" لا بأس في هذا "

كشرت في وجهه وانتقل نظرها كما الجميع حيث توقفت حينها
الحافلتين الأخريين وقالت كاتي تكزها بمرفقها وبكلمات
هامسة ذاهلة

" ساندي هذا زوجك هنا !! "

تحركت مقلتاها الزرقاء سريعاً نحو باب الحافلة الأخرى والنازل
منه وهو يرفع النظارة الشمسية عن عينيه ويثبتها في شعره
فشعرت بالأرض تشتعل تحت قدميها ، وما زاد الأمر سوءاً أنه ما
أن وقع نظره عليها غمزها بعينه مبتسماً بل وتوجه نحوهم يدس
يديه في جيبي بنطلونه الجينز ، وما أن وصل لهم قال مبتسماً
ينقل نظره بينهم

" مرحباً يا رفاق "

تداخلت عبارات الترحيب به بينما قال مشرفهم مبتسماً

" جيد أنك وافقت على فكرة الانضمام لنا "

حرك كتفيه وقال مبتسماً

" لم يكن هذا مخططي لكن منظمون الرحلة أصروا كثيراً وأنا
خجلت من الرفض المستمر "

وقال آخر كلماته وهو ينظر للتي كانت تكاد تتحول عيناها
لرصاص قاتل وتنطلق نحوه ، وكان في جعبتها المزيد لولا أن
أوقظها صوت التي همست بقربها

" ساندي الجميع يسمع ويرى نظراتك أيضاً فاصمتي رجاءً "


فلاذت بالصمت بينما أشاحت بوجهها للجانب الآخر بحركة قوية
غاضبة وقال المشرف

" حسناً ستفترق المجموعات الآن وكما أخبرتكم موعدنا هنا وقت
المساء فلا يفترق أحد منكم عن قائده اتفقنا ؟ "


صرخ الجميع متحمساً بالموافقة عدا ساندرين التي عادت نظراتها
الحانقة لإحراق الذي تحرك مع مجموعتها دون أن ينظر نحوها
ولا أن يهتم ومزاجه الذي عبّرت عنه الابتسامة التي لم تفارق
شفتيه هو ما كان يزيد وضعها سوءاً وهي ترى الاستمتاع الذي
كانت تحلم به وتنتظره في هذه الرحلة يُسلب منها ويعطى لذات
الشخص الذي سرقه وهو ما جعلها تسير مبتعدة عنه تتعمد
النظر جانباً حيث جدوع الأشجار العالية المتراصة دون أن تشارك
في أيٍّ من الأحاديث التي كانت لا تتوقف حولها لأنها تعلم جيداً
إن فتحت فمها ماذا ستقول ولمن تحديداً لذلك ابتلاع لسانها هو
السلام للجميع وإن كانت تشعر فعلياً بجمرة تتقد في حلقها .

*
*
*

نظر لاسمه على شاشة هاتفه ولا يفهم سبب التوتر الذي شعر به
حينها فالأمر مجرد كذبة صغيرة ستكون في صالح الجميع قبله
لكن لأنه لا يمكنه التكهن بردود فعل جبران الجديد عنهم تماماً
يصعب عليه منع هذا التوتر والتردد ألا شعوري ! وتذكر كلمات
قاسم في مكالمته الأولى بينهما وهو من لم يلتقيه سابقاً ولا يعرفه
سوى كقريب لغسق وزوج لابنتها يوضح له بأن الأمر مجرد
إلهاء لمتمردي صنوان لبعض الوقت لأن بطبيعة الحال سيصرف
جبران كل تركيزه على التحقق من الأمر وإيجادها .

اشتدت قبضته في حجره وهو يتذكر اتصاله ليلة البارحة وبعد كل
هذا الانقطاع عنهم وكيف كان يصرخ ويزمجر دون حتى أن
يترك له مجالاً ليتحدث يعيد ويكرر العبارات ذاتها يسب مطر
شاهين تارة ويسبه هو ورعد تارة أخرى والموضع ذاته هو
قضية الطلاق والثأر حتى أن سبابه ولعانه وصل لقاضي الجلسة
لأنه خان صداقته بوالدهم والمركز الذي وضعه فيه وهو يرفض
قضية الطلاق كما يزعم .

تنهد بعمق واتخذ قراره النهائي الذي سيكون في صالح الجميع
وحتى غسق نفسها لأنه بالتأكيد سيسعى الآن للوصول لها ، وبعد
رنين دام لثواني فقط انفتح الخط ووصله صوته البارد الجاف

" ماذا تريد ؟ "

اشتدت أصابعه على الهاتف فيها وانتابه الشعور ذاته كلما سمع
صوته بعد قراره الأخير بتركهم حين رفض والدهم تزويجه بغسق
وقطعت هي الأمل أمامه أيضاً وكانت مشادة كلامية شهدوها
جميعهم اتهمها فيها بأنها أضعف من أن تتخلص من رجل هجرها
وتركها خلفه بعد أن أخذ ابنتها منها ، بل واتهم والده أيضاً بأنه
جبان قيّدته شروط وضعها رجل مختفي من أكثر من عشرة أعوام
ولم يكن يعلم أحد بأنه كان يرفضه وغيره لأنها لازالت زوجة
لذلك الرجل ! فكانت النتيجة أن طرده والدهم وأن قرر هو تركهم
وللأبد ولم يروه بعدها ولا يوم موته ولا بعد كل ما حدث معه هو
شقيقه بالرغم من أنه يقود أولئك المتمردين تحت شعار الانتقام
لمقتل شراع صنوان والمتهم بالطبع هو مطر شاهين ، سحب
نفساً عميقاً لصدره وقال وهو يزفره

" هل ذهبت غسق لك ؟ "

وصله صوته المصدوم صارخاً

" ماذا !! "

كان يتوقع هذا منه ، ومن صوت الكرسي الذي سمعه يُسحب على
الأرض ثم يقع علم بأن الأمر فاجأه فوق توقعاته لذلك قال يعيد
مجدداً

" قلت هل هي موجودة لديك يا جبران ؟ تحدث ولا توقع نفسك
في مشكلة مع مطر شاهين لأنه متجه هناك أيضاً "

كان يحاول فعلياً إقناع نفسه قبله بما يقول ليجيد الدور الذي هو
مجبر على تأديته وهو يلقي عليه الأكذوبة تلو الأخرى يخشى
من أن يزل ويفسد الأمر ، لكن يبدو بأنه نجح بالفعل فقد صرخ
من فوره

" ما هذا الذي تتحدث عنه !! هل جننت ؟ "

قال سريعاً أيضاً كي لا يشك بالأمر

" غسق مختفية منذ فجر اليوم ومن رأوها قالوا بأنها اتجهت
نحو مدنكم هناك فلا تدعي بأنه لا علم لك بالأمر "

سمع كلماته كالفحيح وهو يهمس من بين أسنانه

" لم أكن أعلم بالأمر لكن سيكون "

اشتدت أصابعه على الهاتف أكثر وقال بغضب وكأنه يعيش الأمر
حقيقة

" جبران توقف عن الجنون ، أخبرتك بأن زوجها متجه إلى هناك
والإعلام بأكمله يتحدث عن وجهته لكن لا أحد يعلم عن السبب "
نظر لهاتفه ما أن أغلق الخط في وجهه وتمتم بضيق

" مجنون ولن تتغير أبداً وحتى عدوك يعلم عن نقاط ضعفك
وكيفية محاصرتك "


وما أن سمع حركة ما خلفه أدار كرسيه الكهربائي ووجد نفسه
مواجهاً لعمته التي لم يشعر بها وهي تدخل الغرفة ولا يعلم ما
سمعت من حديثه ، وأتاه الجواب سريعاً وما أن قالت باستغراب

" هذا جبران ؟ ما هذا الذي كنتما تتحدثان عنه ؟! "

تمتم ببرود وهو يبعد نظره عنها

" لا شيء "

قالت سريعاً وبضيق

" كيف لا شيء وأنت تخبره عن ذهاب مطر شاهين لهم وتقول
زوجها !! هل غسق في الموضوع ؟! أليست مع رعد أم أنكم
تكذبون علينا فقط ؟ "


تمتم بهمس حانق وهو يعود بكرسيه نحو الوراء ونظره أيضاً

" سألتك الصبر يا الله "

قالت سريعاً وبضيق تحاول النظر لوجهه

" ماذا تقول فلست أسمعك ؟ "

نظر لها وقال بضيق مماثل

" قلت لا شيء عمتي وإن اتصل بك جبران وسألك قولي فقط لا
أعلم ولا تتحدثي عن رعد مطلقاً "

حدقت فيه باستغراب وقالت

" ولما ؟ "

قال من فوره
" من أجل سلامته وسلامة الجميع عمتي رجاءً لا تناقشي أكثر "

غادرت متمتمه بحنق "

صبراً جميلاً وبالله المستعان "

وما أن غادرت الغرفة أخرجت هاتفها وجربت الاتصال برعد
ولازال هاتفه مقفلا فتأففت وتوجهت نحو ممر غرفتها متمتمه
بحزن عميق

" رحمة الله عليك يا شراع ، لو تعلم فقط ما حدث بعدك "

*
*
*

*
قلبت ورقة أخرى من الكتاب تنظر للأسطر الانجليزية المتراصة
تحت ضوء الخيمة الضعيف نسبياً والجالسة قريباً منها تراقبها
بملل ولا تفهم أهي منسجمة فعلاً فيما تقرأه أم تدعي ذلك فقط !
لكن ما تفهمه جيداً بأنها يبدو لن تغادر خيمتهما الليلة ولن تفعلها
أبداً فترة مكوثهم هنا !.

تنهدت بضيق وامتدت يدها وأبعدت طرف الخيمة تنظر لسبب
الأصوات الصارخة بحماس فجأة تحاول أن تفهم ما يجري حتى
نظرت نحو ساندرين التي أبعدت وجهها عن كتابها أخيراً وقد
قالت وإن ببرود قاتل

" ما بهم يصيحون كالبغال ! "

قالت كاتي ببرود مماثل وهي تبعد يدها

" لن يعجبك معرفة السبب على ما يبدو "

وتابعت تواجه نظراتها المستغربة

" يبدو أنه تم تمديد فترة بقائنا هنا "

رمت ساندرين الكتاب من يدها صارخة

" ماذا ! "

وكان هذا المتوقع منها فحركت كاتي كتفيها قائلة بقلة حيلة
لمواجهتها بالحقيقة

" سمعت أخباراً متفرقة اليوم عن أن الجمعية المسؤولة عن
المحمية قد أعجبهم ما قام به أفراد منظمتنا خلال هذا اليوم وبأننا
الأكثر تنظيماً وإتقاناً بين البقية لهذا يبدو قد تم تسليم مناطق
جديدة لنا لتمشيطها ويبدو أنّ الأخطر منها في انتظارنا "


صرخت ساندرين بغضب رافض

" هذا يعني بأننا لن نرجع لإنجلترا في الغد ؟! "


وهو ما جعل صديقتها تلك تلتصق بطرف الخيمة الصغيرة خلفها
وقالت تحاول أن تبتسم لتخفف من غضبها

" ظننت أن خبراً كهذا سيسعدك فجميعنا كنّا نرى بأنها فترة
قصيرة جداً ! "


رمت يدها قائلة بضيق

" كان هذا قبل أن يصبح ذاك الدبور فيها مع شقراواته "

لم تعجب كلماتها تلك التي قالت بضيق هذه المرة تهاجمها

" أرى أنك من يسلمه لهن طواعية ، ثم هو .. "

وتوقفت كلماتها ما أن صرخت بها

" اصمتِ الآن لا أريد أن أعلم عنه شيئاً "


وأشارت بسبابتها نحو باب الخيمة متابعة

" وغادري أريد أن أنام "


وهو ما جعل الجالسة هناك تشتعل وقالت بضيق

" كل ما تفعلينه لا يوصف سوى بأمر واحد سندي "

وسحبت نفساً عميقاً لصدرها تشجع نفسها وهي تتابع بكلمات
قوية ومتشهدة على نفسها

" أنك تغارين عليه "

وصرخت وهي تفر ضاحكة بسبب الكتاب الضخم الذي طار نحوها
، وهدأ ركضها كما ضحكاتها ما أن أصبحت في الخارج ووجدت
أمامها الذي حركت كتفيها بقلة حيلة وهي تقول له

" لم ينجح الأمر فمزاجها لا يتقبل حتى وجودي أنا بجانبها وزد
عليه خبر تمديد فترة بقائنا هنا "


ابتسم بإمتنان وإن لم تصل تلك الابتسامة لعينيه وقال

" حسناً شكراً لك كاتي "

وغادر وتركها فهو من طلب منها هذا في كلمات مختصرة فقط
وهي حاولت وباءت محاولتها بالفشل للأسف ، راقبته وهو يبتعد
قبل أن تنظر نحو خيمتهما وتمتمت بعبوس

" حمقاء فليتزوج بي واحد مثله فقط سألتصق به طوال الوقت "

وغادرت في الاتجاه الآخر مغمغمه بسخرية

" يبدو هذا سبب فشلك عاطفياً كاتي الغبية "
*
*
*
فتحت الدرج وأخرجت منه الصندوق الذي تحتفظ فيه بأشيائها
التي لم تفارقها منذ أعوام طويلة ولم تستطع التخلص منها رغم
بشاعة الذكريات التي كانت تربطها ببعضها لأنها دربت نفسها
طويلاً على مواجهة كل تلك الذكريات والآلام لتستطيع التسامح
مع نفسها ومع ذكرى كل من آذوها ومهما كانت أسبابهم ونوع
الأذى الذي تسببوا لها به ، وبهذا كانت تشعر بالسلام الروحي
دائماً فجميعهم تقريباً غابوا وللأبد ولا جدوى من كرههم والحقد
عليهم ، ولهذا هي تبحث عن والدتها ومستعدة لمسامحتها
والبدء من جديد من أجل مستقبل تكونان معاً فيه لا مكان فيه لكل
آلام وقسوة الماضي مهما كانت الأسباب والمتسبب بها ، فهي
كانت تراها دائماً السبب في مقتل زوجها الذي يكون والدها
وبسبب كرهها ذاك لها ولواقعها كطفلة زُهرية أرادت دائماً
التخلص منها لأنها رأت بأنها السبب في جميع آلامها ومشاكلها
التي تلت موت ذاك الزوج .

لمعت عيناها بحزن ويدها تمتد لقطعة الجلد دائرية الشكل
الموصول طرفيها بخيط من الجلد أيضاً وأمسكتها بين أصابعها
وابتسامة حزينة ترتسم على شفتيها تناقض الألم في عينيها
الشاردة في تفاصيلها فهذه القطعة الصغيرة كانت أكثر شيء
رافقها في حياتها وعاش معها كجزء منها وهي ليست سوى وهم
صدقه الناس حتى بات عقلها الباطن يقتنع به وتعايشت مع
نظرات الشفقة في أعينهم حين يرونها ويظنون بأنها فقدت عينها
لتعيش طفلة مختلفة عن أقرانها وليست سوى كذبة من العجوز
التي كانت قد تولت رعايتها بعد أن تخلت والدتها عنها حين
وضِعت بين خياري تركها أو تسليمها للموت على أحد صخور
جبال ثنان ولتحميها وضعت لها هذه القطعة الجلدية تخفي بها
حقيقة لون عينيها المتباين وكانت تحرص على تبديلها بين
عينيها بالتناوب وهما تتنقلان من بلدة لأخرى كي لا تخسر نظر
العين التي ستعتمدها للرؤية وحيدة ، وكانت تحفظ كل بلدة أي
لون من عينيها كانوا يرون وكأنها حفيدتها وليست فتاة
غريبة عنها .

لم تكن تلك هي الفترة الأصعب في طفولتها الشاقة تلك لأن خروج
والدتها مجدداً وبحثها عنها جعلها تهرب من منزل تلك العجوز
خفية عن الجميع وعلمت بعدها بأن تلك الحياة التي كانت تراها
تعيسة ثمة ما هو أتعس منها لتتحول لمتسولة وسارقة تجلب
المال لسيدها وهي لازالت تنتقل بين مراحل طفولتها ولتكتشف
بعدها أن حتى ذاك العجوز الجشع أقل قسوة ممّا واجهته بعدها
وهي تتحول لعروس قاصر تزف لعجوز في عمر جدها .

ثلاث أشخاص فقط كان لهم موقف في حياتها لن تنساه أبداً وهم
تيم ووالده شاهر كنعان وإن كان لا يذكرها ولم يتعرف عليها
وثالثهم زين ، ثم يأتي الأهم وهو مطر شاهين الذي حين علم
بوجودها وصلة الدم التي تربطهما انتشلها وبشكل نهائي من ذاك
المستنقع الذي الله وحده يعلم ما الذي كان سيوصلها له .

رفعت يدها لعينيها ومسحت الدموع من رموشها بحركة سريعة
وأغلقت صندوقها بعد أن أعادت تلك القطعة داخله وأغلقت
الدرج عليه ورفعت نظرها لمرآة التزيين أمامها وابتسمت ككل
مرة متمتمه

" ما بك دانيا يا حمقاء أنتِ تجاوزتِ كل هذا وأصبح
من الماضي "


كان لكلماتها تلك مفعول السحر كالعادة وانشغلت بنزع العدسات
اللاصقة من عينيها وظهر لونهما الحقيقي والمشهد الذي تراه في
كل ليلة قبل نومها ولا تنكر بأنها أجبرت نفسها في الماضي على
فعلها حين قررت وبكل قوة وإصرار على مواجهة كل ما يربطها
بماضيها بشجاعة وها هي تفعلها وكأنه أمر عادي واعتادت على
رؤية وجهها بهاتين العينين كما تراه طوال النهار وهما مخفيتان
عنها لأن وجود هذه العدسات اللاصقة طوال الوقت يرهق مقلتيها
وساعات الليل تُعد فترة استراحة لهما .


أطفأت نور الغرفة واندست في سريرها وأنارت هاتفها لتضبط
منبهه على وقت صلاة الفجر كالعادة ، وكالعادة أيضاً دسته تحت
وسادتها بعدها متمتمه بشفاه مبتسمة وعينان مغمضتان

" الغد سيكون أفضل بالتأكيد "
*
*
*
رمى الهاتف من يده متأففاً وقال بضيق

" ما هذا الملل ؟ لا إنترنت ولا دراسة ولا خروج من المنزل
والجميع ممل هنا "

وقال آخر كلماته يرمق بطرف عينيه التي كانت تجلس فوق
الأريكة وترفع قدميها على طرفها تحضن ركبتيها وتريح ذقنها
عليهما وقد بادلته ذات النظرة وقالت ببرود

" لديك منزل آخر اذهب له "

ضرب يديه يلصقهما ببعضهما وقال بضحكة

" ملتصق بك هنا لن أتحرك من مكاني حتى تعود والدتي "

لون الحزن عيناها بسبب آخر كلمة قالها وشردت نظراتها في
الفراغ وقالت بحزن

" خالي رعد هاتفه مقفل حتى الآن "

تنهد الكاسر بعمق وقال

" هكذا أفضل .. "

رفعت نظرها له فتابع من قبل أن تعترض قائلاً بضيق

" هل تريدي أن تعلم مثلاً عن وضع البلاد أم عن شرط أولئك
الغيلوانيين ؟ "

توترت أنفاسها وملأت الدموع عينيها وقالت بأسى

" تُرى أيفعلها والدي ويوافق شرطهم ذاك ؟ "


حرك رأسه بعجز وحيرة وقال

"إن كنت مكانه لا يمكنني أن أقرر فكيف أن أعلم بأفكاره الآن !"


وفرد يديه متابعاً بقلة حيلة وإن كانت كلماته حزينة حائرة

" لكنه سيختار أقل الحلول ضرراً ومهما كان قاسياً ، هذا
أمر بديهي "

جعلت كلماته تلك الدموع تلمع في عينيها مجدداً ورفعت رأسها
وذقنها عن ركبتيها وقالت معترضة بمرارة وحرقة

" وهل سيكون أقل ضرراً علينا أن نتشتت وأرى امرأة أخرى
مكان والدتي لتدمر عائلة لم تجد فرصة بعد لتجتمع كعائلة
حقيقية وقصة حب عمرها أعوام طويلة تموت بسببها ؟ "


وتسللت دمعة وحيدة من رموشها لوجنتها مع آخر كلمة قالتها ،
وبالرغم من تألمه بكلماتها التي ذبحت روحه قال بضيق

" تسليمكم لهم وعنق جدك معكما هو الحل الأنسب في رأيك ؟ "

نفضت يدها قائلة بضيق مماثل وإن كان الحزن والمرارة
تملآن عينيها

" لما تفكيركم قاسٍ هكذا أنتم الرجال ؟ "


أشار بسبابته لصدغه وقال بضيق أشد

" لأننا نفكر بهذا وليس بالخردة الموجودة وسط أضلعنا فهي
لا تجدي سوى في جلب المصائب لصاحبها "


سقطت دمعة أخرى من رموشها الطويلة شعر بها جمرة تسقط
في قلبه وهو ما جعله يرتدي قناعه المفضل في مثل هذه الأوقات
الصعبة يحاول التخفيف عن نفسه وعمّن يحب وإن بطريقة
حمقاء ، ارتسم الخبث على ملامحه وضيّق عينيه قائلاً بمكر

" أعلم ما يجعلك منزعجة هكذا ، رئيس جهاز المخابرات
الجديد لم يتصل ولم يهتم أليس كذلك ؟ "

تبدل الحزن في ملامحها للاستغراب تدريجياً وقالت ببحة

" رئيس ماذا ؟! "

شخر بسخرية ونصب ساق على الأخرى يريح ظهره لظهر
الكرسي وقال

" كنت متأكد بأنه لم يفعلها وهذا هو الدليل .. "

وأشار لها بسبابته عند آخر كلمات قالها قبل أن يلوح بها نحوها
وهو يتابع بتهديد

" فقط لا تكوني تصرفت ِبحمق واتصلتِ أنتِ به "

أنزلت قدميها للأرض ووقفت على طولها وقالت بضيق

" لما لا تخرج من غرفتي وتتركني وشأني "

قال بحنق مصطنع يمسك نفسه بصعوبة عن الضحك

" فعلتها إذاً يا حمقاء ؟ "

أمسكت خصرها بيديها وقالت وضيقها يزداد شدة

" لا أفهم ما الذي تريده تحديداً !! "

حرك يده ببرود نحوها وقال

" جدك لا يفعل شيئاً سوى الصمت لكنت تركتك وتسليت معه ،
هو على الأقل لا يحاول فهم امرأة تبحث عنه ولا تجده "


قال آخر كلماته يرمقها بسخرية مستفزة مما جعلها تضرب الأرض بقدمها صارخة

" كااااسر "

ضحك ورفع سبابتيه وحركهما مع حركة راقصة من كتفيه وهو
يدندن ممسكاً ضحكته كلمات أغنية تناسب حالتها وهو ما جعلها
تشتعل أكثر وقالت غاضبة تشير له بسبابتها

" أتعلم بأنكما أحمقان أنتَ وهو ولا شيء وسط أضلعكما سوى
قطعة خردة بالفعل "

انفتح باب الغرفة حينها ودون طرق وكان قاسم الذي وقف يمسك
مقبض الباب بيده ونقل نظره بينهما قبل أن يستقر على عينيها
المتفاجئة بشكل واضح فقفز الكاسر واقفاً وقال يشير بيده بحركة
سريعة ضاحكاً

" تعالى واسمع ما تقول عنك التي تزوجتها "

شهقت بقوة تنظر له مفجوعة بينما ضحك هو بصوت مرتفع
وكان الحديث لقاسم الذي قال مبتسماً يشير برأسه نحو الخارج

" هيّا غادر واتركنا نتفاهم "

نظر له الكاسر وقد تحركت خطواته نحوه وما أن وصل له وقف
واستدار برأسه ناحيتها وصوب بسبابته نحوها وأصدر صوت
رصاصة بشفتيه ثم غمز له وقال بمكر

" عاقبها بما تستحق حسناً "

ضحك ودفعه من كتفه نحو الخارج قائلاً

" غادر بسرعة "

ودخل مغلقاً الباب بضربة من قدمه وفرد ذراعيه لها وقال مبتسماً

" تعالي هيّا "

ابتسمت عيناها الحزينة قبل شفتيها وملامحها الطفولية الفاتنة
وركضت نحوه وقفزت لحضنه قفزاً وتشاركا ضحكة واحدة
وتعلقت ذراعاها بعنقه تدفن وجهها فيه تشعر بمعنى وجوده في
حياتها وهو ما افتقدته طيلة الأيام الماضية وما زاد من تشتتها
وضياعها ولم تكتشف ذلك إلا الآن ، أحاطت ذراعاه بجسدها
يحضنها بقوة وقال مبتسماً

" ما الذي فعلته بي اليوم يا مشاغبة ؟ "

نزلت قدماها للأرض وابتعدت عنه ولوت شفتيها قبل أن
تتمتم ببرود

" يبدو لي أنك مهتم بالفعل ! "

ضحك وقال

" تمنيت لو وجدت دقائق قليلة فقط لأكون هنا "


وتابع يدس يده في جيب سترته

" وقت الفراغ الوحيد ضاع من أجل هذا "

وأخرجها وفيها صندوق مخملي أسود صغير وفتحه على نظراتها
الفضولية المتحمسة ينظر لها مبتسماً وهو يفتحه كاشفاً عن
الخاتم الذهبي الجميل في شكل زهرات مع أوراقها متتابعة
ومغطاة بفصوص لامعة جعل عيناها تلمع بانبهار ورفعت نظرها
لعينيه وقالت مبتسمة بذهول

" كم هو رائع "

ابتسم وأخرجه من علبته ورفع يدها ودسه ببطء في خنصرها
وقال بابتسامة رقيقة ينظر لعينيها

" كنت أريد جلب خاتم زواج لكني أحترم رغبتك بأن توافق
والدتك أولاً "


حضنته بقوة وقالت مبتسمة تغمض عينيها بقوة

" أحبك "

أحاطتها ذراعاه مجدداً وبقوة أكبر زاده كلماتها التالية والتي
جعلته يتمنى أن امتلك جناحين ليطير بها بعيداً عن الجميع ما أن
قالت بحنان تدفن وجهها في صدره

" وجودك وحده ما يجعلني أقوى في مواجهة كل ما يحدث "

تنهد مبتسماً وأبعدها عنه وأمسك بوجهها واختفت الابتسامة من
وجهه ما أن ابتعدت عنه بسبب صوت الطرقات على الباب الذي
سرعان ما انفتح وظهر وجه الكاسر الذي مد رأسه فقط نحو
الداخل تزينه ابتسامته المتسعة في استقبال نظرات قاسم الحانقة
والذي كان يمسك خصره بيديه فقال يمسك ضحكته

" أعتذر على المقاطعة لكن والدك وصل "


وقال آخر كلماته وهو يحاول رؤية الواقفة خلفه والتي ركضت
نحوه حينها فابتعد عن الباب ضاحكاً وما أن اختفت نظر لقاسم
وقال بضحكة صغيرة

" عليك أن تأتي معي لتنقذني منها "

تبدلت نظراته للاستغراب وقال

" ماذا تقصد ؟! "

توجه نحوه وشده من يده وقال يسحبه خلفه

" تعالى فقط "

وسار به باقي الممر وصولاً لبهو المنزل حتى وقفا بقرب تيما
التي كانت تنظر نحو الخارج مستغربة قبل أن تكتشف وجودهما
ونظرت لعيني الكاسر وقالت مستغربة

" أين هو ! "

أشار بإبهامه خلف كتفه وغمز بعينه وقال بابتسامة ساخرة

" لتعلمي فقط ما تحدثنا عنه صباحاً "

اتسعت عيناها بما دمج الذهول والغضب معاً فهو يقصد بالتأكيد
حديثه عن علاقتها بقاسم وها هو يبرهن لها بأنها تتركه من أجل
والدها وتضعه في المرتبة الأخيرة دائماً ، ركضت نحوه هامسة
من بين أسنانها

" تباً لك يا أحمق "

وبالرغم من أنه احتمى بجسد قاسم الذي حاول أن يبعدها ضاحكاً
إلا أنه ناله من ضربات يدها نصيبه وهي تقفز لتصله تضرب بها
بعشوائية لم تنتبه ولا بأن ضرباتها أصابت قاسم أيضاً والذي فقد
القدرة على إيقافها من كثرة ضحكه على سلوكها وكلمات الكاسر
المستنجدة حيناً والمستفزة لها حيناً آخر .


" تيمااا !! "

توقفت فجأة مع توقف أصوات الضحك والحديث ما أن علا
الصوت الرجولي المبحوح الغاضب باسمها وكأنه زر تشغيل قام
بإيقافهم جميعاً ونظرت سريعاً للواقف عند الباب ينظر لها بعينين
أشد غضباً وهمست مصدومة

" أبي !! "

لم يبدر منه أي رد فعل ولم يضف شيئاً لكن نظراته كانت تتحدث
والتي كان لقاسم الجزء الأكبر منها وقد استقرت عليه نهاية
الأمر وإن كان يحدثها وقد قال بضيق

" لغرفتك فوراً أبان سيدخل لغرفة الضيوف "

وتابع وهو يتحرك من هناك قائلاً بنبرة أشد ضيقاً

" وأنت يا قاسم اتبعني لمكتبي "

وتجاوزهم دون أن تنظر عيناه الغاضبة نحوهم بينما كانت نظرات
تيما الحزينة تتبعه قبل أن تنظر لقاسم باعتذار خفي وعينان
حزينة فاكتفى فقط بالابتسام لها مجعداً أنفه في حركة طفولية
بينما لامست سبابته أنفها وهو يجتازها وتبتعه نظراتها بأسى
حزين فهي تعلم مثله تماماً بأن ما ينتظره توبيخ معتبر من
والدها لما رآه هنا وكان يصمت عنه .

ما أن اختفى عن نظرها أيضاً نظرت نحو الكاسر وقد تبدلت
نظراتها للغضب وأمسكت خصرها بيديها قائلة بضيق

" هل أنت مبتهج الآن ؟ "

ضحك وقال ملوحاً بيده

" هيّا غادري قبل أن يدخل ابن عمتك وحينها والدك ... "

ومرر إبهامه على عنقه مع صوت من شفتيه بمعنى يقتلك
والابتسامة الساخرة تزين شفتيه فضربت قدمها الأرض بحنق
وغادرت باتجاه ممر غرفتها وتركته خلفها يراقبها قبل أن ينظر
ناحية باب المنزل وللذي دخل منه حينها فانشغل به ومد يده له
وقال مبتسماً

" مرحباً بالمحامي الذي لمع نجمه بين ليلة وضحاها "

وأتبع كلماته بضحكة مرحة فصافحه أبان وقال مبتسماً

" أنت بالتأكيد الكاسر"

افترقت يديهما وقال مبتسماً

" أصبت .. وحمداً لله جاء من يزيل الملل عني "

تشاركا الضحك هذه المرة وقال الكاسر يشير بيده نحو الداخل

" تعالى آخذك لغرفتك ... "


وتابع ضاحكاً ما أن تحركا معاً

" فقط لا تكون متعباً وتريد أن تنام "

ضحك أبان وقال ينظر له وهما يدخلان الممر الغربي

" متعب بالفعل لكني متشوق للتعرف عليك "

كانا حينها عند باب الغرفة فوقف ونظر للكاسر وقال

" هل صعد خالي مطر لغرفته ؟ "

حرك رأسه بالنفي قائلاً

" لا هو في مكتبه مع قاسم "

ولوح بسبابته والوسطى علامة الجلد وقال يمسك ضحكته

" سينال نصيبه عقوبة الزواج من طفلة "

ضحك أبان كثيراً وقال

" زوجتي أصغر سناً منها "

اتسعت عينا الكاسر فاغراً فاه قبل أن يقول يحرك أصابعه بجانب
رأسه علامة الجنون

" عائلة الشاهين هل فقدتم عقولكم ؟ "

ضحك أبان مجدداً وقال

"يقولون كلما كانت الزوجة أصغر سناً أبهجت قلب الرجل أكثر "

ضحكا معاً وقال الكاسر

" بل جعلته يمشي على يديه "


عاد أبان للضحك وربتت يده على كتفه وهو يفتح باب الغرفة قائلاً

" تعالى يبدو أن رفقتك تزيل الهموم "

لكنه توقف مكانه وقد تذكر طلب عمه رماح واتصال عمه جبران
نهاراً وعاد الحزن الذي حاول إخفائه بضحكاته مع الجميع وشعر
بالألم ما أن تذكر عبارته الغاضبة حين أخبره بأنه في منزل عائلة
الشاهين وليس منزلهم

( أجل هذا ما تجيد فعله يا طفل الركض نحو قتلة جدك والسبب
فيما حدث لعمك رماح )

وما أن نظر له أبان مستغرباً مزاجه الذي انقلب فجأة قال

" أين كنتم بادئ الأمر فلا أخبار عنكم اليوم أبداً ؟! "

غمز له أبان بعينه مبتسماً وقال

" أسرار دولة "

دخل وقال متملقاً

" صدّقتك فعلاً "

ضحك أبان دون أن يعلق وهو ينزع سترته ممّا جعله يسير خلفه
قائلاً بضيق

" عقابك أن تكون مع قاسم الآن "

رمى السرة من يده وقال بضحكة وهو يرفع أكمام قميصه ناصع
البياض كاشفاً عن ساعديه

" بل أن تشعر والدتي بوجودي هنا الآن "

ارتمى الكاسر على الكرسي الجلدي قائلاً بضحكة

" الخبر الرائع إذاً أنها ليست هنا ولم تأتي "


ضحك أبان وقال وهو يجلس على طرف السرير مقابلاً له

" أخبرني إذاً ما هذا العقاب الذي ينتظر قاسم وأنا أستحقه معه "

*
*
*

دخل خلفه مغلقاً باب المكتب ليعم الصمت الموحش المكان ووقف
عند الباب يراقب قفاه لوصوله لطاولة مكتبه بالرغم من أنه لم
يأخذ أي شيء منها ولم يضع شيئاً عليها أيضاً كما لم يتوجه نحو
الكرسي وكل ما وصله هو صوته الجامد جمود الصخر مالئاً
صمت المكان ما أن قال

" لن تتوقع بالتأكيد أن أثني عليك فيما فعلته وإن كان له نتائج
إيجابية لكنه حمق واستهتار "

شد يديه بجانب جسده بقوة يستقبل كلماته بصدر رحب كما اعتاد
دائماً وقال الحقيقة التي لا نفاق فيها

" لو كنت أريد ثناءك ما كنت فعلت ذلك بالتأكيد "

استدار نحوه حينها وغزت الحدة صوته القوي المبحوح ما أن
قال بضيق

" يرضيك إذاً أن تستخدم ابنة خالك ووالدة زوجتك كسلاح
وكأنها ليست عرضك ومن دمك ؟ "

على الرغم من أن المكان كان شبه مظلم إلا أنه رأى بوضوح
الغضب المرتسم في عينيه وملامحه وها هو عاد مطر شاهين
الذي عرفه قبل قدومهم للبلاد ، الرجل البارد الصمات دائماً وإن
تحدث إما بجدية يلقي أوامره فقط أو بغضب لأي تصرف وإن رآه
لوحده خاطئاً واختفت الابتسامة التي رآها في ملامحه بعد
عودتهم إلى هنا وكأن سبب ظهورها واختفائها واحد ! وهو
الواقع بالتأكيد ويبدو بأنه لم يخسر تلك الابتسامة فقط بل وأمور
كثيرة أهم هي ما قتلتها ، حافظ صوته كما مزاجه على ثباته وإن
قال بشيء من البرود

" أنتَ تعلم بالتأكيد بأن اسمها وصل لشخص بعينه والمحيطين
به فقط ولم يتم ذكر زوجتك في الإعلام "

قال كلمة زوجتك متعمداً ليذكره بأنه نسي هذه أيضاً وهو يعدد
أنواع صلتها بهم ، توقع منه كل شيء حينها إلا أن يتهرب من
الحديث في الأمر بمهاجمته وقد قال بكلمات غاضبة

" وبالحديث عن الزوجة أليس من المفترض أن تكون رجلاً يُعلم
زوجته كيف تكون امرأة تستحقه لا أن يتحول لمراهق آخر يراقب
تصرفاتها ويضحك "

أغمض قاسم حينها عينيه متنهداً بعمق وهو يستقبل إهانته
الجديدة بصمود هو استغربه في نفسه ! لكنها سطوة حضور مطر
شاهين وعليه أن لا يستغرب هذا بكل تأكيد ، وكانت ثواني
معدودة فقط وعاد وفتحهما ونظر لعينيه قائلاً والبرود لم يغادر
صوته

" لم تنسى بالتأكيد بأنك من قال هي خارج سريرك طفلة وعليك
التعايش مع ذلك "

صاح فيه من فوره موبخاً

" أنا لم أنسى كلمة ممّا قلت وكنت أقصد حياتكما معاً لا أن
تُنقص من قدرك هكذا أمام الجميع "

كان صبره وصل أقصاه عند إهانته الجديدة تلك فقال بضيق

" حبك وتفهمك لزوجتك هو استنقاص لنفسك يا مطر ؟! "

لم تزد عبارته تلك مزاجه إلا سوءاً وصرخ موجهاً سبابته نحوه

" فكرت بطريقتك هذه لوقت وكانت العاقبة وخيمة ـ تذكر هذا
جيداً يا قاسم "

لا ينكر بأن كلماته تلك جعلته يصاب بذهول لحظي ورغم علمه
المسبق بما حدث في المحكمة وبعدها إلا أنه لم يتوقع أن يخرج
عن صمته الطويل ويقول هذا ! ولأنه يراهن على أنه قال ذلك
وأفصح عنه دون شعور منه وهو من يعرفه جيداً قال بضيق

" تحرضني ضد ابنتك وحيدتك يا مطر !! "

لم يتوقع مجدداً أن يعود لحديثه السابق وهو من تعمد الابتعاد
عنه ليثبت له بأنه كان واعياً لكل ما قاله وملأ صوته القوي
الغاضب صمت المكان صارخاً وقد عاد لتوجيه سبابته كرصاصة
قاتلة نحوه

" بل ضد التصرفات التي تجعلك ضحية لغباء النساء وتدفع الثمن
غالياً لأنك رجل مطر شاهين قبل أن تكون زوج ابنته"

عاد قاسم للتحديق فيه بعينين متسعة دون إبداء أي رد فعل بسبب
الأفكار التي هاجمته حينها ودفعة واحدة فهل كان سبب ابتعاده
اليوم شعوره بالتقصير ناحية واجبه للوطن ؟! أيلوم نفسه على ما
حدث !! قال ما أن تحرر من قيود تلك الأفكار وبكلمات غاضبة
يواجه عيناه بذات القوة

"لا ابنتك ولا أنا ولا حتى نفسك نستحق دفع ثمن غضبك يا مطر"

" غادر من هنا "

صرخ بها في وجهه بطريقة أعنف من سابقاتها تكاد تهتز لها
الجدران وسبابته هذه المرة تشير للباب خلفه فتراجع نحو الوراء
خطوة قبضتاه تكاد تتمزق أصابعها بينها من شده عليها ورغم
ذلك كانت كلماته هادئة بطريقة استغربها هو في نفسه ما أن قال

" سأغادر لأنك لست بمزاج جيد للحديث فقط لكن أريد أولاً أن
أقول بأنه حين تثق في امرأة وتهبها قلبك لن تكون مجرماً في
حق نفسك ولا في حق أحد ومهما آلت له الأمور لأنها بشر مثلنا
وعلينا فقط فهمها كي لا نخسرها ولأي سبب كان "


ولاذ بالصمت عند آخر كلمات قالها يقف مواجهاً للإعصار المدمر
الذي أصابه الصمت المريب فجأة ، ورغم ذاك لم ينتظر منه أي
تعليق وغادر مغلقاً الباب خلفه وسار عبر الممر بخطوات واسعة
بينما انشغلت أصابعه بإغلاق زر سترته السوداء متمتماً ببرود

" أتمنى أن تكون رسالتي وصلت يا رجل الحروب "

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 10-05-24, 04:47 AM   المشاركة رقم: 1762
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 



*
*
*

كانت نظراته تراقبها منذ جلست وهي تقلب الطعام بالملعقة وما
وصل منه لشفتيها القليل فقط وكأنها تحاول إضاعة الوقت بهذا
ليمضي فقط ! وما أن وضعتها جانباً متمتمه تحمد الله غادر
صمته قائلاً بضيق

" هل تعتبرين هذا طعاماً ؟ لقد تركت تناول العشاء لهذا
الوقت لتأكلي "


وقفت وهي تضع المنشفة جانباً قائلة بصوت مرتخي يشبه
شحوب ملامحها الرقيقة

" لم تعد لديّ رغبة في تناول المزيد "

لكنها لم تغادر مكانها بينما ارتفع نظره معها وقد قالت

" أريد هاتفي أو أعطني هاتفك لأتحدث مع ابنتي ووالدي "

عاد بنظره ليديه التي كان يقطع الخبز بينها متمتماً ببرود

" هم بخير ولا يحتاج الأمر أن تتحدثي معهم "

قالت بضيق

" رعد ما هذا السجن الذي تفرضه ؟ "

وضع الخبز من يده ونظر لها وقال بضيق أشد

" ليس سجناً بل وصايا طبيبك وأنا أنفذها "

قالت بغضب محتج

" أنا أعلم منه بما يصلح لي "

حرك رأسه برفض صامت وكأنها لا تشتعل غضباً أمامه فصاحت
تضرب صدغها بيدها في أولى بوادر الانفجار الذي انتظره طويلاً

" عليا أن أتحدث معهما وأعتذر منهما قبل أن أفقد عقلي يا رعد
افهم هذا أرجوك "

كان يشعر بالمرارة بسبب كلماتها التي كانت تذبح قلبه وقد زادها
لمعان الدموع في عينيها الواسعة فهو يفهم جيداً ما تمر به ،
ورغم ذلك خالف أوامر طبيبها أيضاً ولم يستطع مقاومة كلماته
وهي تخرج من بين شفتيه بينما كان ينظر لعمق عينيها
السوداء الفاتنة

" هم فقط ؟! "

كان يعلم بأنه وجه سؤال لم تتوقعه بل ولم يتوقعه هو أيضاً !
لكن ما استطاع توقعه حينها هو رد فعلها وهي تدير ظهرها له
متوجهة نحو باب الغرفة لتهرب كالمرة السابقة من الحديث عنه
لذلك لحق بها سريعاً وأمسكها من ذراعها موقفاً إياها مرة أخرى
أيضاً وأدارها نحوه قائلاً بضيق

" ما معنى تهربك من الحقيقية يا غسق ؟ "

نفضت ذراعها منه وقالت بضيق مماثل

" لأنهم من سيقبل الاعتذار ويتفهم أسبابي فقط يا رعد فتوقف
عن محاصرتي به في كل حديث بيننا "


كان ينظر لعينيها بصمت ، للألم الذي يخفيه كل شيء فيها
عداهما وعن نوع الندم الآخر الذي ترفض التحدث عنه حتى الآن
ويخشى أن يقتلها الصمت عنه وكتمه في داخلها ، صمت جعلها
تنفجر مجدداً ونفضت يديها بقوة صارخة بحرقة والدموع
تملأ عينيها

" لقد .. لقد دمرت كل شيء يا رعد ، الوطن وعائلتي والجميع ،
آذيت ابنتي ووالدي معي "


وتقاطرت الدموع من عينيها نهاية الأمر متحررة من القيود التي
كانت تتعبه أكثر منها وقالت بمرارة وصوت كسير مختنق تشير
بيديها لنفسها

" أنت لا تعلم ما أشعر به هنا يا رعد ، أنت تقتلني أكثر بسجني
في هذا المكان ولست تساعدني "


كانت قبضتاه تشتدان بقوة تكاد تمزقهما ولا شيء غيره أمامه فلا
يمكنه احتواء دموعها ولا حزنها في حضنه وإن كانت مشاعره
أخوية صرفة ناحيتها لذلك لا شيء أمامه سوى الاحتراق في
صمت ، لكنّه لن يسمح لها أيضاً بأن تغوص في أخطاء الماضي
مجدداً حتى تدمرها نهائياً لذلك قال بهدوء حذر ظهر واضحاً في
صوته كما عينيه

" وهو تأذى أكثر منهم يا غسق لكنّ رجل مثله لا يتحدث ولا
يرى أحد ذلك فيه وهذا لا يعني بأنه لا يشعر "

ضربت بأصابعها على صدرها بقوة صارخة ببكاء وألم

" ولما أكون أنا الملامة ؟ أليس هو من تركني أتخبط لأعوام
طويلة لأصل لما وصلت له الآن وهو يخفي الحقيقة عني ؟ هل
من العدل أن تُترك في أرض المعركة بلا سلاح ولا خطة وتُلام
فيما بعد ؟! "

غادر هدوئه وقال بضيق وباحتجاج رافض وسبابته تشير نحو
البعيد بحركة متكررة

" إذاً والدي ووالدك في الذنب سواء ، وحتى ابنتك التي كانت
تعلم عن وجود تلك المرأة وتخفيها عنك "

وتوجهت سبابته نحوها وهو يتابع بصراخ أعنف

" الجميع أخفى الحقائق عنك يا غسق لكن لومك يتجه نحو
شخص واحد فقط ، جميع من تري بأنهم تضرروا بسببك كانوا
السبب في تضررك أيضاً واستطاع قلبك تجاوز ذلك ناحيتهم "


صرخت بصوت أعلى مسكتة إياه وكأنها تفعلها مع عقلها قبله

" لن أعيد ما قلت في كل مرة يا رعد "

لكن ذلك لم يجعله يصمت بل قال بحدة

" أعلم بأن كبريائك لا يسمح لك بالاعتذار من شخص لن يقبل
ذلك منك لكن هذا لن يساعدك في تجاوز ما تشعرين به
يا غسق "


كان يواجها بالحقيقة وإن آلمتها لكن نكرانها ومحاربتها سيؤلمها
أكثر من ذلك وهو ما ظهر بوضوح حين أدارت ظهرها له
وركضت باتجاه الغرفة واغلقت الباب خلفها ووقفت مستندة عليه
والدموع التي حاربتها لساعات بدأت بالتدفق ودون توقف وقد
قرر عقلها إكمال عقوبتها أيضاً والمواقف مع أصواتهم تتكرر
داخله دون توقف


( لنختصر المسافات يا غسق ، اتركينا نعطي لأنفسنا فرصة
أخيرة واستمعي لي وقسما سيتغير كل شيء )


( غسق لا تكوني والجميع وكل شيء على مطر )


( هذا استنكرني بعدك يا غسق ، رفضني لأعوام لأنك لم تعودي
فيه ، سرق النوم من عيناي لليالٍ يطلبك فما حجم غرورك الذي
لم يشبعه كل هذا يا ابنة دجى الحالك ؟ )

( لا تطعني هذا يا غسق ، إياك والغدر به يا من وحدك فيه )

( قسما لن أسلمك لأي رجلٍ كان وأنا أعلم بأنه لازال لي مكانا
وإن صغيرا في قلبك ، وإن حدث يوماً وفعلتها فتأكدي بأن الموت
كان من نصيب ما هو لك وسط هذه الأضلع أيضا يا ابنة
الشاهين )


( تلك هي الحقيقة يا غسق فلن يتمسك ابن شاهين بما لا يريده
ولن يأخذ ما هو ليس له ، لا يفعلها وإن كان الموت خياره
الآخر )


( غيسانة شاهين الحالك )

( على ابنة شراع صنوان ان تعود لعائلتها والأبناء حق للوالد )

( وبما أننا هنا من أجل طلاق الأم وإبطال زواج الابنة فعلى الحق
أن يعود لأصحابه )


( لن تجدي من ينقذك من الهلاك الذي سترمين نفسك فيه في كل
مرة تذكري هذا جيدا , وتذكري أيضا بأن الندم لا يصلح شيئا
انكسر وانتهى كما أن الموت ليس المأساة الوحيدة التي تنهي
الإنسان فثمة من يعيش يتمنى الموت ولا يجده ولومه لا يتعدى
نفسه ، تذكري كل هذا حين تمرين بموقف مشابه مستقبلا )


( لن أتدخل كي لا تلقي باللوم سوى على نفسك حين تدمري
بيديك ما يحمله لك في داخله يا غسق فالرجال أمثال مطر شاهين
لا يعشقون بسهولة وليس أي امرأة تلك التي تسكن الموجود
وسط أضلعهم فخياراتهم عظيمة مثلهم تماما كما قراراتهم بالوداع
والفراق إن جُرح كبريائهم يا شقيقتي لا تنسي هذا )

ضربت بيديها على أذنيها بقوة تصرخ باكية وكأنها تطرد تلك
الأصوات منها وازداد بكائها حدة كما العبرات الموجعة التي
خرجت دون رادع يصرخ بها قلبها قبل جوفها قد تحررت معها
آلام سنين طوال ووجع اعتمر قلبها وذبحه لأيام تساوي سنوات
عمرها تشعر بكل شيء في داخلها يتمزق مع كل صرخة تتحرر
من أضلعها مختلطة بعبرة موجعة أكثر منها وكأنها فقدت صلتها
بكل شيء حولها ولم تكن تعي ولا تسمع ولا صوت رعد الذي
كان يطرق الباب ويترجاها أن تتوقف عن إيذاء نفسها يعدها نادماً
أن لا يتحدث في الأمر مجدداً .

*
*
*

توجهت نحو باب الغرفة فتحته وتأففت وهي تغلقه بقوة وعادت
نحو الداخل فهي نسيت أن ابن عمتها هنا ولا يمكنها الخروج
هكذا توجهت نحو الخزانة وفتحتها وأخرجت فستانا طويلا
بأكمام طويله وقماش ربيعي خفيف لبسته فوق ثيابها على عجل
وسحبت حجابها وهي تتوجه نحو باب الغرفة ووضعته على
رأسها وهي تغادر بينما رمت أحد طرفاه نحو الخلف بإهمال
فلا يمكنها النوم قبل إن تراه خاصه وهو غاضب منها هكذا
وإن كانت تتوقع ماستسمعه منه لكنها مستعدة لتلقي كل ذلك
المهم أن تراه وتتحدث معه يكفيه كل ما يمر به الآن وحيدا
وها هي تزيد الوضع سوءا بحماقاتها
ما أن وصلت بهو المنزل كانت ترى خطواته تصعد آخر عتبات
السلالم فأسرعت بخطوات شبه راكضه لكنها ما أن كانت في
الأعلى كان قد دخل غرفته وأغلق بابها فتوجهت نحوه تقاوم
ترددها بتجاهل الصوت الصارخ داخلها يأمرها بالعودة لغرفتها
وترك الأمر لوقت آخر لأنها تعرف نفسها جيدا لن تنام ولن يهنأ
لها بال وما أن وقفت أمامه رفعت قبضتها وطرقته دون الوقوف
للتفكير لحظه في الأمر وما ستقوله له ولما هي هنا
لم تكتشف بأنها كانت تحبس أنفاسها إلا حين وصلها صوته
الجامد الجاد من الداخل وإن لم يختفي تعبه الواضح فيه

" أريد أن أنام ياتيما "

حبست غصتها مع عبرتها والدموع تلمع في عينيها وكأنها تناجي
الخشب الأصم أمامها أو أنه يراها من خلفه لكن كل ما سمعته
بعدها هو صوت إغلاقه القوي لباب الحمام فتنهدت بحسرة وحزن
نفساً طويلاً شعرت به يَخرج بروحها معه وأولت ذاك الباب
ظهرها تمسح عيناها ببطء من أثر الدموع التي لم تفارق رموشها
أساساً وتوجهت نحو السلالم عائدة من حيث جاءت تنظر
لخطواتها بحزن وخيبة أمل .

وما أن وصلت للأسفل توقفت مكانها تنظر لطيف الرجل الذي
دخل من باب المنزل حينها وكان قاسم الذي اعتقدت سابقاً بأنه
غادر لمنزله وليس ما يزال هنا ويبدو كان يتمشى في الخارج أو
جالساً هناك !
لمعت الدموع في عينيها مجدداً ما أن اقتربت خطواته منها يداه
سجينتا جيبي بنطلونه الكحلي الفاخر وقد قال بكلمات هادئة رزينة

" ما كان عليك التحدث معه وهو في مزاج سيء "


همست بصعوبة تجاهد عبرة سجينة أضلعها بينما نظرها لم
يفارق عينيه من خلف دموعها المتحجرة هناك

" ليته تحدث وإن غاضباً وصرخ بي ، لا أعلم إلى متى سيكتم
في نفسه ..! حتى ينفجرَ قلبه ؟ "

قالت آخر كلماتها تلك بصوت كسير حزين قابله الواقف أمامها
بتنهيدة عميقة وهو يبعد نظره عنها متمتماً بشيء من البرود

" لا تخشي من ذلك فهو أخرجه بطريقة ما "

اقترب حاجباها باستغراب وقالت وكأنها تذكرت فجأة ما حدث هنا
قبل قليل

" ماذا قال وعن ماذا تحدثتما في مكتبه ؟! "

نظر جانباً وكأنه لازال يتجنب النظر لها أو يهرب من تلك العينان
الدامعة وتمتم بجمود

" لا تهتمي للأمر كثيراً "

تحرك رأسها برفض وقالت بحزن ولم تفارق نظراتها جانب
وجهه المقابل لها

" بات كل شيء متوقع بالنسبة لي فقل ما لديك يا قاسم "

نظر لعينيها الحزينة الكسيرة وتنهد بقلة حيلة واقترب خطوة
أخرى منها وارتفعت يده لوجهها ومسح بظهر سبابته المثنية
تحت جفنها الدمعة المعلقة في رموشها حتى الآن في حركة
جعلتها تغمض عينيها متنهدة بأسى حزين ، وما أن أبعد يده
قربها من شفتيه وقبّل أثرها العالق في إصبعه وقال بخزن وهو
يبعدها ببطء بينما لم يفارق نظره عيناها

" حتى متى ستحترق شمعتي بسببهم ؟ حتى تنتهي واحرم منها
هي أيضاً ؟! "


عادت تحرك رأسها والدموع تلمع في عينيها مجدداً وكأن الكلمات
تختنق في حنجرتها وترفض الخروج ، وما أن فكر في إمساكها
من ذراعها وسحبها لحضنه لعله يخفف وإن القليل عنها لأنه
عاجز عن فعل غير ذلك توقف مكانه بسبب انحراف نظراتها خلفه
وحيث صوت الخطوات البطيئة التي وصلت لسمعه أيضاً فاستدار
برأسه جانباً ونظره يتبع صقر الذي اجتازهما متمتماً بالسلام
وكأنه يُخرج الكلمات مكرهاً من جوفه المتعب المنهك ، وما أن
أصبحت تيما تحديداً خلف ظهره استدارت نحوه بحركة واحدة
وكأنها تذكرت حينها فقط بأنها رأته وبأنه كان متغيباً مع والدها
طيلة النهار حيث حتى الإعلام ورجاله بل وحرسه لا يعلمون
وقالت بكلمات مندفعة سريعة بينما تشتد أصابعها البيضاء على
قماش حجابها الناعم الملفوف حول عنقها

" عمي صقر ماذا حدث وما الذي توصلتم له معهم ؟ "

توقفت خطواته فجأة واستدار ببطء نحوهما ونظر لعينيها بصمت
لبرهة قبل أن يقول


" لا شي فقد طلب أحد مشائخ الجنوب أن نجتمع في منزله نهاية
الأسبوع القادم وسنرى ما سيحدث حينها "


وكما توقعت كان ثمة اجتماع ما يجمعهم بتلك العائلة وأولئك
الرجال وهو لم ينكره ، وحيث خانتها هي كلماتها تنظر لعينيه
بحزن فقط كان السؤال الأخر من قاسم الذي تحرك نحوه
بخطوتين قائلاً

" كنتما في الجنوب إذاً ؟ "


تحرك رأس صقر إيجاباً وقال بتنهيدة قصيرة

" ليس تماماً فقد كان ثمة أمر مهم يريد مطر فعله بنفسه
ورفضت إلا أن أكون معه "


كان الاستغراب الذي رآه في عينيهما متوقع تماماً ، ولأن الأمر لا
يخص ما يريدان الاستعلام عنه قال ونظره موجه نحو قاسم

" كيف هو حال عمير ؟ هل ثمة أخبار عنه ؟ "

لون الحزن عيني الذي تنهد قائلاً

" ها نحن ننتظر مرور الوقت الذي حدده الأطباء "

تحركت حينها خطوات تيما متوجهة نحو ممر غرفتها لأن الحديث
عن الأمر الذي يخصها قد انتهى على ما يبدو وآخر ما سمعته
صوت صقر قائلاً

" مطر قال بأنه يصعب إخراجه خارج البلاد بسبب عملهم السري
سابقاً في الخارج ، كم أتمنى من الله أن يُتم شفائه "

فتمتمت شفتاها ب ( آمين ) وهي تبتعد تماماً عن أصواتهما فكم
أحزنها فعلاً ما حدث له فهو صديق والدها وأحد رجاله وزوج
ابنة خالة والدتها وصديقتها المقربة قبل المركز المهم الذي كان
يتقلده وما فعله من أجل البلاد قبل وبعد عودته لها .


ما أن دخلت غرفتها غيرت ثيابها وارتدت بيجامة نوم ناعمة
بأكمام طويلة وتوجهت نحو مرآة التزيين جلست أمامها ونظرت
لوجهها الحزين وبشرته الشاحبة وعيناها التي باتت غائرة تعيسة
وظلال بنية طفيفة بدأت تزين بشرة جفنها السفلي وكأنها دفنت
للتو أحد أفراد عائلتها !

تنهدت بعمق مغمضة عينيها وما أن فتحتهما نظرت لحركة يدها
وهي تفتح الدرج الواسع أمامها ونظرت داخله ويدها تمتد لربطة
الشعر ورفعتها بيديها عالياً وأدخلتها خلال رأسها ثم رفعتها فوق
جبينها فابتعدت بذلك غرتها بعيداً عن وجهها وعادت ونظرت
للدرج مجدداً تُخرج العلب الموجودة فيه وتقرأ الكلمات الانجليزية
المطبوعة عليه قبل أن ترميها مكانها وتعود وترفع الأخرى حتى
توقفت عند إحداها أخيراً فتحتها وأخرجت بعضاً من السائل
الكريمي فيها ونظرت لوجهها في المرآة ووزعته على بشرتها
الناعمة شديدة البياض وبدأت بتوزيعه عليها بأطراف أصابعها
بحركة بطيئة بينما لم يترك نظرها صورة عيناها الحزينة أمامها
ولا تفهم لما تفعل هذا !
هل تهرب من أفكارها ؟ من نفسها أم من واقعها ؟! حتى أنها لم
تكن من اشترى كل هذا بل والدتها وقت وجودها معها في منزلها
وهي جلبتهم إلى هنا كي لا تجدهم هناك وتظن بأنها لا تهتم بما
تجلبه من أجلها خصيصاً وما يفترض بأن كل فتاة تهتم بشرائه
واستخدامه كل ليلة قبل أن تنام .

أغلقت العلبة ورمتها في الدرج بإهمال وأمسكت بأخرى قرأت
المكتوب عليها وكان مصيرها كسابقتها قبل أن تغلق الدرج وإن
كانت تحتاج فعلياً لوضع البعض منه تحت عيناها .

نظرت ناحية هاتفها ما أن علا رنينه مالئاً صمت المكان ووقفت
وتوجهت نحوه ونظرت للاسم على شاشته وهي ترفعه وتذكرت
مكالمتها لها صباحاً وبأنها ستكون هنا معها خلال ساعات قليلة
ولم يحدث ذلك فتهدت بحزن وهي تفتح الخط ووضعته على
أذنها هامسة

" مرحبا عمتي "


ولم تترك المجال للموجودة في الطرف الآخر أن تتحدث وهي
تتابع بحزن وعبرة مكتومة

" لما لم تأتي عمتي ..؟ أنا أحتاجك بجانبي وجدي الذي أتعبني
بعزله لنفسه عنّا وحتى والدي كذلك وإن كان لا يقول هذا "


وصلها الصوت الحزين سريعاً

" بنيتي الحبيبه أقسم بأني غادرت ظهراً وأعادونا عند مدخل
الحميراء لأنهم يمنعون المغادرة إلا للضرورة "


اقترب حاجباها الرقيقات بحزن هامسة

" حتى الطائرة ! "

قالت جوزاء مباشرة

" لا يوجد مطار في الحميراء كما أنّ الطائرات توقفت رحلاتها
اليوم أيضاً وثمة أخبار بأن الحياة ستعود لطبيعتها تدريجياً ومنذ
الغد وسأكون لديكم في أقرب وقت أعدك صغيرتي "


وتبدل صوتها للحماس الباسم وهي تتابع

" رجال والدك لم يخذلوه أبداً والقنوات الإخباريّة لا تتوقف عن
التحدث عنهم وعلى رأسهم قاسم وما فعله جهاز المخابرات في
هذه الأزمة وخلال ساعات قليلة فقط وهو يقوم بتجميد حتى
الخلايا النائمة "

ابتسمت بحزن تتذكر ملامحه التي لا تفارقها صورتها أساساً
وابتسامته التي تعشق وهمست بصوت باسم حزين

" الحمد لله "

قالت محدثتها سريعاً

" أجل كم نحمد الله أن الأمر لم يتحول للأسوأ وإن لم تهدأ الأمور
بعد لكنها على الأقل توقفت عند السوء الذي بدأت به "


وتنهدت فور ختامها لكلماتها تلك بينما تبدلت نبرتها للحزن
متمتمه

" أعان الله شقيقي مطر على كل ما ينتظره "

لمعت الدموع في عيني تيما حينها واشتدت أصابعها على الهاتف
فيها هامسة بحزن وحسرة

" ليت تلك المحاكمة لم تحدث وتلك المرأة لم تكن عمتي يوماً
ولم أعرفها ولم نراها لا هي ولا والدتها في حياتنا "

واختلطت آخر كلماتها تلك بعبرة شعرت بها تحرق حنجرتها
وجوفها قبلها بينما كان صوت جوزاء لا يقل عنه حزناً وتعاسة
حين قالت

" تيما حبيبتي يكفيك تعذيباً لنفسك ولا تتركي الشيطان
يتلاعب بك "

تحرك رأسها حينها برفض وفارقت الدمعة الأولى رموشها
وخرجت كلماتها من عمق المأساة الحقيقية داخلها

" لا يمكنني تخيل أن يوافق والدي شرطهم ذاك ، سيقتل قلوبنا
جميعها به "

ولامست شفتاها بظهر أناملها وكأنها تمنع شهقتها الباكية من
الخروج ، وكان ما ساندها على الصمود صوت عمتها حين
وصلها قوياً واثقاً وإن شابه بعض الحزن

" والدك رجل حروب يا تيما ، رجل لا يمكنه أن يفكر كما نفكر
نحن فلا هو يرى أفكارنا وقرارتنا صائبة ولا نحن نراه كذلك ،
لكنّه وكوني واثقة من ذلك سيفعل كل ما في استطاعته ليجنب
الجميع الضرر "

" إلا نفسه بالتأكيد "



وانهارت جالسة على السرير خلفها ما أن قالت كلماتها الشبه
باكية تلك فهي تفهم معنى ما تقوله عمتها وبأنه سيضحي بكل
شيء وحتى سعادته من أجلهم ، وهذا ما تعلمه من في الطرف
الآخر جيداً والتي قالت ما يمكنها فقط التخفيف به عنها حينها
وبكلمات حزينة عاجزة

" عليك بالدعاء بنيتي لا شيء آخر بيدنا نفعله والله وحده قادر
على كل شيء "


شدت شفتاها المرتجفة لازالت تقاوم نفسها بكل ما تملك من قوة
كي لا تنهار باكية كالأطفال وهو ما جعل كلماتها تتشتت كما
أفكارها حين قالت

" أخشى .. هو ... "


واستطاعت فعلها نهاية الأمر وقول ما هي نفسها تخشى التفكير
فيه ودمعة جديدة تفارق رموشها

" هو لن يتردد في هذا القرار بعدما حدث ، وهذا جل ما أخشاه "

قالت جوزاء سريعاً وكأنها تحاول نفي أفكارها تلك عن
نفسها قبلها

" تيما يفترض بأنك أكثر من يعرف والدك ! وموقنة من معرفتي
له بأنه لن يتخذ ذلك فقط لينتقم من والدتك أو ممّا فعلته فهذا
زواج لا طلاق ولا تعدد ولا زيف فيه ، أي هو حكم انتحار له
أيضاً وليس لها فقط "


لم تجعلها كلماتها تلك تشعر بالتحسن وبالأخص آخرها وذاك القيد
الذي وضعه أولئك الغيلوانيين حول عنقه بل وأعناقهم جميعاً
ليعجزوه عن أي خيار آخر فإما أن يسلمهم عمه وبالتالي هي
ووالدتها أو أن يوافق شرطهم ذاك ، وهو ما جعل الدموع
تتكدس في عينيها مجدداً وتكسر صوتها بألم وبحة قائلة

" لكنُه حين سيكون خياره الوحيد سيفعلها فهو لم يفكر في
نفسه يوماً "

وتناثرت دموعها كحبات رقيقة على وجنتيها وهي تشير بيديها
للبعيد وقالت باكية

" انظري عمتي كل ما حدث ويحدث له ، كل خساراته وكل ما
عاناه لأعوام طويلة مضت وما يقاسيه الآن سببه أنه يفكر في
الجميع ، جميعنا دمر نفسه وحياته وشبابه من أجلنا ولازال يدفع
الكثير وهو الملام دائماً "

كانت تحارب عبراتها كي لا تلحق بدموعها وهي التي تمسكت
بكل تلك القوة طيلة النهار لتنهار حصونها المنيعة الآن حين
استطاعت أن تتحدث وتخرج ما يكاد يحرقها كتمه داخلها كل تلك
الساعات تحترق ولا يعلم أحد عمّا يحدث خلف ملامح الفتاة
الجميلة الصامتة الشاردة طوال الوقت ، لكن تلك الدموع تحجرت
الآن أيضاً وفجأة وعلقت أنفاسها الباكية في حنجرتها ما أن
وصلها صوت عمتها معاتباً

" لا أصدق بأنك قد تكوني في صفه ضد والدتك ! "

وهو ما جعل عيناها تتسع وتحرك رأسها برفض قائلة سريعاً

" لا لم ولن يحدث هذا فما عانته هي لا يقل عنه شيئاً ، إنهما
ضحية قضية لا يد لهما فيها وأحقاد وضغائن وانقسامات دفعا
ثمنها ظلماً وجوراً "


تنهيدة جوزاء الواضحة هي ما وصلها حينها وقبل أن تقول
بعجز وحزن

" لو فقط أعلم ما الذي يريده أولئك الرجال من عمي دجى
وعائلته ! "

أجابت تيما حينها سؤالها بحزن وانكسار

" هو الثأر لموت أشقائهم بالتأكيد "

قالت جوزاء سريعاً وبنبرة ملؤها حيرة وتساؤل

" ينتابني شك مريع حيال ذلك يا تيما "

وهو ما جعل ملامحها الحزينة تتبدل للاستغراب فجأة
وقالت بتوجس

" ما معنى هذا عمتي ؟! "

كانت تشعر بضربات قلبها ترتفع وتضرب في أذنيها وهي تنتظر
كلمات التي رحمتها أخيراً قائلة

" إن كان الأمر كما تقولين فلما أوصاني مطر بيمامة وشدد على
ذلك ؟! ويبدو ثمة شكوك حول تورط زوجة والدها معهم سابقاً
ومحاولتها قتلها ، حتى أن ثمار مزرعتهم أثبتت التحقيقات بأنها
تعرضت للإتلاف المتعمد بسبب اختلاط التربة حول جذوعها بمواد
كيميائية ! وزيزفون وشقيقها موت والدتهم محترقة بفعل فاعل
وكل ما مرا به ألا ينتابك الشك حيال أنها أمور مدبرة تطال كل من
يقرب لجدك وتربطه رابطة الدم به ؟! "


ارتفعت أناملها لشفتيها المصدومة وشرد نظرها للفراغ
وقالت بريبة

" لكن ... لكن ماذا عنك أنتِ عمتي وعائلتك ؟! وحتى عمي
صقر ! أنتم أقرباء له أيضاً !! "

كان ما فكرت فيه سليماً وواقعياً فلما حياة من ذكرت تسير بشكل
طبيعي ولم يفكر أحد بأذيتهم كما يبدُ ! وهو ما فكرت فيه جوزاء
سابقاً بالتأكيد وما أكدته كلماتها حين قالت

" وهذا ما يحيرني في الأمر لكنّ كلام والدك بشأن يمامة جعلني
موقنة بأنه ثمة سر ما تجاوز الثأر "

حركت رأسها في حيرة متمتمه

" ماذا سيكون إذاً ! "

قالت تلك متنهدة

" الله وحده يعلم ومن بعده رأس ذاك البغل شعيب غيلوان "

وقالت آخر كلماتها تلك بحنق وهي تذكر اسمه وهو ما جعل
الممسكة بالهاتف تشرد في الفراغ بعينين حزينة وما جعل من
في الطرف الآخر تسأل فجأة

" هل تواصلتِ مع والدتك وعلمتم عن مكانها ؟ "

تقوست كتفاها وهمست بحزن

" ليس بعد ، هاتفها وهاتف خالي رعد مغلقان طوال الوقت "

ولمعت الدموع في عينيها ما أن تابعت بحسرة

" الله وحده يعلم ما تمر به الآن ، لو فقط تركوني أكون معها "


قالت جوزاء سريعاً

" هذا أفضل لها وحتى لك يا تيما صدقيني "

تحرك رأسها وغمغمت بأسى

" لا أعتقد ذلك "

وتابعت على الفور قائلة بألم

" أنا لم أعد أريد شيئاً سوى سلامتهما فقط وليتوقفا عن
أذية بعضهما "

تنهدت جوزاء بحزن قائلة

" تيما بنيتي إن كتب الله لوالديك أن يفترقا ويعيش كل
واحد منهما بعيداً عن الآخر فلن يغير قدر الله ذاك شيئاً ومهما
كانت الأسباب والمتسبب بها لذلك عليك أن تتوقفي عن التفكير
في كل ما ليس لك السلطة عليه وأن تلتفتي لدراستك وزوجك
ومستقبلك "


كانت كلماتها تحاكي الواقع تماماً وهو ما أعجز المعنية بالأمر
عن الكلام لأن فعل ذلك بالنسبة لها أصعب كثيراً من التفكير فيه
أو التحدث عنه لذلك اكتفت بمسح عيناها الباكية بطرف كم
بيجامتها الذي كانت تشده بأصابعها بينما تابعت التي علمت بأنها
لن تعلق على ما قالت

" تيما أنتِ لست لأيٍّ منهما وعائلتك وإن كانت مجتمعة فأنت لن
تكوني معهم بل مع زوجك وفي منزلك وعائلة خاصة بك تحتاج
منك كل هذا الاهتمام والعطف والمحبة "


وتنهدت من فورها متابعة وكأنها تذكرت أمراً ما فجأة

" وبغض النظر عن كل ذاك السوء الذي حل بنا لازلت أحمد الله
أن الزوج الآخر كان عمي صقر وليس قاسم "


شهقة قوية هي كانت رد فعل تيما الأول والتي خرجت دون شعور
منها ولا استئذان ويدها الحرة تلامس صدرها بينما همست
شفتاها المرتجفة وهي تتخيل ذلك

" يا إلهي "


فلن تكون طعنة واحدة ما ستوجه لها حينها بل اثنتان كل واحدة
منهما أشد عليها من الأخرى ، وشعرت بتعاستها تتعاظم وهي
تختبر الشعور الذي سينتاب والدتها حين تعلم بالأمر بينما قالت
من في الطرف الآخر

" أرأيت رحمة الله ؟ هو لا ينسانا وما علينا هو الحمد والشكر
وعلى كل حال "


تمتمت شفتاها تحمده بحزن وقالت السؤال الذي جال في عقلها
ورفض الابتعاد عنه

" ترى هل لأن قاسم لا يقرب لجدي ! "

وعادت وأجابت نفسها بريبة وتساؤل

" لكنه ابن شقيقته وخالي صقر أيضاً ! "

وعادت الألغاز للتكدس في عقلها المشوش ووصلها صوت عمتها
الحائر العاجز

" لا أعلم كيف يفكر أولئك المجرمين وعجزت عن التحليل
والتفسير حقاً !! "


كان وقع كلماتها تلك أقسى عليها من أي شيء لأن حالها يشبهها
تماماً واشتدت أصابعها في قبضة واحدة في حجرها وكأنها تحاول
التخفيف عن الألم الذي كان يعتصر قلبها حينها وقالت بتعاسة
بدت في ملامحها كما كلماتها

" لن يتركوه وشأنه إذاً بما أنه زوج حفيدة دجى الحالك ، وهذا
جل ما أخشاه أن يقتلوا البقية المتبقية من قلبي "

وعادت الدموع للتجمع بين جفنيها تشوش زرقة مقلتيها الباهتتان
وما من مواسي لها حينها سوى صوت عمتها الحزين الذي
طرقت كلماته قلبها قبل أذنها

" ليحفظه الله ويحفظكم جميعاً بنيتي ولن نتكهن بالأسوأ بما أنه
خارج لعبتهم حتى الآن "

" يا رب "

ذاك كان فقط ما جادت به الشفاه الزهرية الحزينة بينما وصلها
صوت عمتها الحنون

" هيّا نامي حبيبتي ولا تفكري في شيء الله هو المتصرف فيه
وتأكدي فقط بأن والداك يحبانك لكنها التضحيات التي يكون
الوطن المقابل لها ، إنها كسلاسل تقيد صاحبها والنساء يدفعن
الثمن غالباً "

شعرت بكلماتها تعتصر قلبها ألماً وتمتمت بحزن تنظر للفراغ
بوجوم كئيب

" ليحفظهم الله لي لا أريد شيئاً أكثر من ذلك "

وصلها صوت جوزاء مختلطاً بضحكة مكتومة حينها

" جيد ها هو قاسم أصبح من ضمنهم أخيراً "

ضربت قبضتها على فخذها وقالت بعتاب خجول وابتسامة حزينة
تزين شفتيها

" حتى أنت عمتي "

وصلها صوتها الباسم سريعاً لازال متأثراً بضحكتها تلك

" إنه رجل رائع يا تيما وأنا أعرفه منذ صغره وكيف ربته والدته
وعاش بين أفراد عائلة الشاهين ومتأكدة من أنه سيكون مثلهم
تماماً زوج مخلص مضحي وأب رائع ورجل قوي يحميك وعائلته
قبل نفسه "

تنهدت مبتسمة تشعر بتوهج خداها وكل ما شعرت به حينها
الاشتياق له وهي من كانت معه منذ وقت قريب ! لكنه القلب
المحب دائماً ما يفعلها ما أن يتحدث أحدهم عن الذي لا يسكنه
سواه ، تاهت الكلمات منها بينما قالت التي لم تنتظر ذلك
فرسالتها وصلت وهو المهم لديها

" هيّا تصبحي على خير بنيتي وسأكون معكم ما أن تتيسر
الأمور أعدك "

همست حينها تودعها مبتسمة بحنان

" شكراً لك عمتي تصبحين على خير "

وأبعدت الهاتف عن أذنها ونظرت له بين يديها اللتان باتت
تريحهما في حجرها وكم كانت ممتنة لها فهي شعرت بارتياح
كبير بعد مكالمتها تلك وكم تمنت أن كانت معهم اليوم لكانت أمور
كثيرة تغيرت في هذا المنزل لكنها تعذرها أيضاً ويكفيها
مشاعرها نحوهم وأن فكرت في القدوم كل تلك المسافة من أجلهم
وأن تحدثت معها كامرأة وليس كطفلة وهو ما يفكر فيه كل من
سيحادثها بالتأكيد وأولها عبارة

( لا تفكري كالأطفال ، انت لازلت صغيرة على فهم هذا )
والأقسى من كل ذلك
( توقفي عن البكاء على والدتك كالأطفال )

لأنه لا أحد منهم يفهم ما مرت به وحرمانها منها ومن أن تكون
لها عائلة فهم لم يعرفوا هذا الشعور أبداً .

تنهدت بأسى مستغفره الله فها هو الكاسر فقد والديه وهو حديث
ولادة وسيتمنى أن يراهما وإن كل واحد منهما في مكان ، لذلك
عليها أن تحمد الله فقط وتدعوه ليبقيا في حياتها .

كانت نظراتها ملتصقة بشاشة هاتفها التي لازالت تزينها قائمة
الأسماء القليلة الموجودة فيها وابتسمت شفتاها بحزن وحنين
وهي تنظر لعبارة ( أمي حبيبتي ) التي كانت اختارتها اسما
لرقمها ، ولن تفكر في وضع سبابتها عليه بالتأكيد لأن النتيجة
ستكون واحدة وكسابقتها وهو صوت المجيب الآلي الذي
سيخبرها بأن الرقم مقفل ، ولعلّ الأمر كما قالت عمتها هو أفضل
لكيهما هكذا وخاصة ذاك القلب المكسور الذي الله وحده يعلم ما
يقاسيه الآن ، نظرت من بين دموعها السابحة في مقلتيها لاسم
قاسم ولم تتردد كسابقتها في الضغط عليه بل وتشغيل مكبر
الصوت وانغرست أسنانها في طرف شفتها تمسك ابتسامتها
المناقضة فجأة لحزن ملامحها وعينها ما أن انفتح الخط سريعاً
وملأ صوته الباسم المكان الساكن حولها "

ما هذه الليلة السعيدة !! "

ازداد انغراس أسنانها في شفتها والابتسامة فيهما تتسع أكثر قبل
أن تحررها ببطء وقالت

" مجحف وناكر "


كان رد فعله المبدئي ضحكة رجولية عميقة شعرت بها تلتف
حولها وتدفئ قلبها حتى تبدلت ملامحها للرقة وابتسامتها للحنان
بينما قال

" هل أحصي لك عدد المكالمات التي تلقيتها منك بالتاريخ
والساعة والدقيقة ؟ "

عبست ملامحها بطريقة طفولية فاتنة تشبهها وقالت تنظر للجهاز
المسطح بين يديها وكأنها تراه من خلاله بينما خرجت كلماتها
مستاءة حانقة

" غريبون أنتم الرجال تكرهون مطاردة المرأة لكم طوال الوقت
وإن جنبتكم ذلك اتهمتموها بالتقصير ! "

كان تعليقه الأول ضحكة أخرى قال من خلالها

" أنتِ من علّمك كل هذا "


تبدلت ملامحها للحزن الذي لم يتركها سوى من لحظات فقط ما
أن تذكرت مربيتها المتوفاة وكل ما كانت تخبرها به ومنذ صغرها
عن عالم الرجال كما تسميه ، وتذكرت عبارتها تلك حين سألتها
لما تخبرها عن كل هذا بينما ضحكت قائلة

( لأني أريدك حين تصبحي امرأة ناضجة واعية لا تتعذبين بسبب
حب رجل سكن قلبك ويرفض الخروج منه بل أن يكون هو كذلك
ولا ينالك حتى يقسم أن لا يتركك ويكون معك وهو يعرف معنى
أن يفقدك وما أن يبتعد عنك يترك قلبه وعقله لديك )

ارتسم طيف ابتسامة حزينة على شفتيها وتمنت أن كانت تلك
المرأة العظيمة على قيد الحياة الآن لتخبرها بأن كل ما علّمتها
إياه وجدته حقيقياً بالفعل ، لكنها قالت بدلاً عن ذلك للموجود
ضمن الأحياء ويسمعها الآن وبكلمات أنثوية رقيقة ماكرة

" بل أعلم عنكم أكثر ممّا تعلمونه أنتم عن أنفسكم "


عاد للضحك مجدداً وقال

" آه يا إلهي وكنت أنا ضحية التحقق من كل هذا "

أمسكت ضحكتها تغمض عيناها بقوة فهو كان وكأنه يسمع عقلها
وما كان يحدث فيه وهو ما أعجزها عن التعليق على ما قال ،
ويبدو بأنه لم ينتظر ذلك وقد قال مغيراً مجرى الحديث بأكمله

" اتصلت قبل قليل وكان هاتفك مشغولاً ولوقت طويل ! "

رفعت الهاتف لحضنها وارتفع رأسها مغمضة عينيها وابتسامة
محبة تزين شفتيها فها هو فكر في فعلها قبلها بالرغم من أنهما
كانا معاً من وقت قريب ! وكم حمدت الله أن زالت تلك الغمامة
الغريبة بينهما الأيام الماضية والتي لا تفهم كيف ولا متى حدثت !
كل ما تفهمه بأنه أروع رجل عرفته بعد والدها فهو قادر على
امتصاص غضبها وإن لم يكن السبب فيه ، يفهمها وفي صمت
ويمكنه الشعور بما يؤلمها وما تحتاجه وإن كانت ترفضه .
أبعدت الهاتف مجدداً وقالت تنظر له بين يديها بينما لازلت
الابتسامة المُحبة تزين شفتيها

" تلك عمتي جوزاء اتصلت بي واعتذرت عن المجيء لأن
طرقات المدينة جميعها مغلقة لديهم "


وتبدلت ملامحها للحزن عند آخر كلماتها تلك بينما قال
هو مباشرة

" وهو الأفضل فعليهم أن لا يتنقلوا كثيراً من أجل سلامتهم هذه
الفترة على الأقل "

عاد الحزن للسيطرة التامة على ملامحها الجميلة وقالت

" هل الوضع سيء كثيراً وستنشب الحرب ؟ "

وتعالت ضربات قلبها مع آخر كلمة قالتها وهي تخشى حتى من
النطق بها فكيف بعيشها حقيقة وواقع أمامها ! لكن سرعان ما
غمر رئتيها الهواء المنعش البارد ما أن بدد مخاوفها من قال
بكلمات واثقة

" لن يسمح أحد بذلك ووالدك أولهم تأكدي من ذلك يا تيما "

همست مبتسمة بأمل كسير تنظر للفراغ أمامها

" كم أتمنى هذا "

وعادت ونظرت للهاتف بين يديها وعادت ضربات قلبها للتوتر ما
أن قالت ما لا يمكنها احتجازه فيه أكثر من ذلك

" أنت تعلم شيئاً عن مكان والدتي ورعد بالتأكيد فالمخابرات لا
يخفى عنها شيء في البلاد ؟ "

كان شكها في محله وأكده صمته التام عن الإجابة فقالت بعبوس

" قاسم !! "

كان تنهده الواضح جوابه الأول والمؤكد لظنونها تلك قبل أن
تخرج كلماته الجادة من هاتفها

" هي بخير يا تيما وحين يقرر شقيقها بأنه يمكنها مغادرة مكانها
سيفعل بالتأكيد "

ترقرقت الدموع في عينيها وهمست ببحة وصعوبة

" لكن ... "

وخانتها الكلمات وهي تتشاجر في حنجرتها أيُّها يخرج أولاً وقالت
نهاية الأمر وبنبرة حزينة شبه باكية

" أقسم بأني مشتاقة لها ولا يمكنك تصور كم يكون ذلك "

وسحبت الهواء لصدرها بقوة توبخ نفسها وهي تتذكر كلمات
عمتها والكاسر قبلها ومسحت عيناها بطرف كمها في حركة
سريعة وقالت بسرعة توقفه عن قول ما كان ينوي قوله ولم
تسمع منه سوى حرفان مبتوران

" هل تنام في المنزل ؟ "

قال بعد صمت لحظة ومبتسماً

" بالتأكيد أين سأكون مثلاً بما أنني لست معكم هناك ؟ "

لا تعلم أي مشاعر انتابتها وهي تقول حينها

" ماذا فعلت أيضاً فيما يخصه ؟ "

واتسعت عيناها مندهشة ما أن صرخ متفاجئاً وقبل أن
يقول بضحكة

" وأخيراً تذكرت زوجة قاسم أنه لديهما منزل وحياة مستقبلية قد
يأخذها الفضول للسؤال عنها "


لم تستطع أن تكتم ضحكة خجولة غلبتها بالرغم من الحزن الذي
انتابها وهي تدرك بأن كل ما قالاه حقيقة وبأنها تضعه في المرتبة
الأخيرة دائماً وهو يشعر بهذا ويراه بل ويتفهمه ويصمت
عنه أيضاً .

أغمضت عينيها مبتسمة ولا تعلم كم ستحب هذا الرجل وفي كل
مرة تظن بأنه لم يعد هناك شيء أقوى من ذلك ؟!
احمرت وجنتاها وهي تحذره قائلة

" لا تجعلني أندم على هذا "

" لا بالله عليك "

كان تعليقه الباسم سريعاً وقال متابعاً

" هو شبه متوقف منذ تلك الزوبعة التي أحدثتها والدتك
واعتصامك عني حتى ترضا بي نسيباً لها لكني اشتريت
باقي الأثاث "

تقوست شفتاها بحزن وهي تستمع لكلماته التعيسة تلك بين أسطر
إجابته عن سؤالها وتابع ما أن لم يصدر عنها أي تعليق

" وما أن أتصل بمهندس الديكور سيكون هنا وينهي الأمر خلال
أيام قليلة "

تمتمت مبتسمة

" هذا جيد "

كان ذاك فقط ما قالته فهي لا تهتم حقاً لما سيكون عليه المكان
أكثر من اهتمامها بأنه يجمعهما معاً ، بينما قال الذي يبدو أنه
عكسها تماماً متحمساً وكان ينتظر فقط أن تسأل عن ذلك

" في آخر مرة اختلفت معه حول الغرفة الغربية في الطابق
الثاني وكان رأيه بأنها ستكون غرفة للأطفال أفضل من تجهيز
غرفتين للضيوف لكني أخبرته بأن الأمر مؤجل ولا أريد أن تكون
ثمة غرف فارغة حين نعيش فيه ، أنا أكره هذا "

غابت الابتسامة عن شفتيها وهي تسمع تلك العبارة تحديداً من
بين ما كان يسترسل في قوله وكأنه لا يهتم لما عناه بما يقول !
اغلقت مكبر الصوت ورفعت الهاتف لأذنها فهي تحتاج لسماع هذا
فيها مباشرة وقالت وقد انعقد حاجباها الرقيقان بقوة

" ما معنى أنه مؤجل بينما سنكون موجودان فيه !! "

قال مباشرة

" لأنه ليس وقته وأنت أمامك دراسة و.. "

قاطعته بضيق

" دراسة ماذا ...! أنا لست موافقة "

وحين كان سيتحدث وتعلم جيداً ما سيقول سبقته قائلة بكلمات
جادة لا مزاح فيها

" أنا أعلم جيداً لما لم يتزوج أي واحد منكم هناك ، لأنكم تخشون
على بعضكم من أي هفوة سببها حماقات النساء ، أما هنا فما
المانع من أن يكون لكل واحد منكم عائلة ؟ يكفيكم ما أضعتموه
من أعماركم من أجل الوطن "


كانت تنهده المتضايق حينها كفيل بأن تعلم بأنه لم يقتنع بكلمة
ممّا قالت وجاء تعليقه الحانق مؤكداً ما أن قال

" أريد أن أفهم هل لي رأي في الموضوع أم لا ؟ "

قالت من فورها محتجة على أفكاره تلك

" بلى ولكل منا رأيه وعلينا مناقشته ، هذه حياة تخص كلينا "

وصلها صوته مباشرة متملقاً

" أجل لي أن أتصور هذه الحياة وأنا أجوب به المنزل صراخه
يثقب رأسي لأنه بالطبع والدته لديها امتحان ما في الغد "

التوت شفتيها بابتسامة ماكرة وقالت


" وما المانع في ذلك ألست والده ؟ "

تنهد متمتماً باستسلام

" لا مانع لدي بالتأكيد "

وسرعان ما تبدل مزاجها للضيق وقالت تمسك خصرها
بيدها الحرة

" ثم هل هذا ما يزعجك فقط أنك ستشارك في الاعتناء به !! "

قال مبرراً وبكلمات جادة

" بل أنت التي أرفض أن تتعب فالأمر ليس بالسهل كالتحدث عنه
يا ابنة مطر "

زمت شفتيها بسبب مناداتها بتلك الصفة ، ولأنه يعلم كلاهما لما
قال ذلك قالت ببرود تبعد يدها عن خاصرتها

" وأنا راضية وسأهتم به وقت الامتحانات أيضاً "

وصلها صوته الحانق سريعاً

" تيما الأمر ليس عناداً "

رمت قبضتها في الهواء قائلة بضيق

" أنا لا أعاند إلا إن كنت ترى بأن القرار لك دائماً وأنا من عليها
الخنوع والرضا وتلك حياة لا أريدها "

توقعت منه كل شيء حينها إلا ما قاله بكلمات ساخرة

"ينتابني الشك حيال تاريخ ميلادك الحقيقي يا ابنة مطر شاهين "

" قاسم !! "

قالتها بحنق تذكره بأن الموضوع بالنسبة لها ليس مزاحاً ولا
حديثاً عادياً فتهد بعمق قبل أن يقول بكلمات هادئة رزينة
ذات الوقت

" الأمر ليس فرضاً للرأي لا من طرفي ولا من طرفك يا تيما هو
الواقع يحتم علينا بالتنازلات وأنت أيضاً أعني فأمامك شهادة
ثانوية وفصو... "

قاطعته بعينين متسعة

" وستؤجل الأمر حتى تخرجي تعني ! "

قال بهدوء وكأنها لم تعترض أساساً

" لا فالدراسة الجامعية أسهل من حيث نظامها "

تنفست بضيق وقالت بعناد

" لست موافقة ورغماً عنك ، أنا من ستحمل ليس أنت "

ضحك وقال

" ولن يحدث إن لم أريد لا تنسي هذا "

شعرت بالحمى تغزوا جسدها حتى أشعلت وجنتيها وكأنها لم تكن
من قالت ما قالت قبل قليل ، بينما جنبها هو التفكير فيما ستعقب
على كلامه ذاك قائلاً بشيء من البرود

" تيما لننهي الجدال في الأمر فليس وقته ، من يسمعك يظن
بأنها العقبة الوحيدة أمامنا الآن "

قال آخر كلماته بنبرة تفهمها جيداً فالتوت شفتاها وقالت
ببرود مماثل

" سيكون هذا الخلاف الكبير بيننا قريباً على ما يبدو "

وكان رده الساخر جاهزاً أيضاً وقال

" لست متفائلاً بهذا فقد لا تكونين هنا في منزلي قبل اتمامك
الثانوية أساساً "


كان رد فعلها شهقة قوية وهو ما جعله يتابع بذات نبرته الساخرة

" إن كنا سننتظر موافقة الجميع فسيكون كذلك بالتأكيد "

عبست ملامحها قائلة ببؤس

" هل ترضى أنت أن نتزوج رسمياً ووالدتي ليست موافقة
وستغضب مني ولن تحدثني بعدها بالتأكيد "

تنهد بعجز أمام نبرتها الحزينة تلك فلا شيء يكسره سواها
وقال مستسلماً

" لا حل أمامي سوى الصبر ، أعانني الله عليكما كلاكما ووالدك
معكم أيضاً "

أمسكت ضحكتها وقالت تحرك كتفها

" يمكنك التراجع متى أردت "

وكان تعليقه بما يشبه المفاجأة بكلامها حين قال

" لن أفعلها إلا لسبب واحد فقط وهو طلب منك وإن
بكلمة واحدة "

غابت الابتسامة عن وجهها مصدومة وأمسكت خصرها بيدها
مجدداً وقالت بضيق

" هكذا هو الأمر سهل لديك ! قد أكون غاضبة حينها أو أنك
فعلت أمراً أجبرني على ذلك "

تمتم ببرود من فوره

" قولي هذا لشخص لا يعرفك جيداً فأنت ولله الحمد تشبهين
والدك في هذا وليس والدتك "


شعرت بكلماته ذبحت روحها قبل قلبها ولأنها تعرف وجهة
نظره في الأمر لم تتفاجأ بذلك لكنها لم تستطع منع كلماتها
الحزينة حينها

" لما لا يستطيع أحد منكم تفهم ما مرت به وما أرغمها
على هذا ؟ "


كان تعليقه سريعاً أيضاً وحاسماً

" لننهي الحديث في الأمر تيما كي لا يغضب أحدنا من الآخر "

وها هو كما توقعت متعصب لرأيه السلبي ضد والدتها بسبب
عقبات ما حدث ، تنهدت بأسى وقالت متمتمه ببرود

" لن يفهم رجل ما تشعر به امرأة ، إنكم متعصبون كثيراً
لبعضكم "

كان صمته مريباً حينها حتى خُيّل إليها أن المكالمة بينهما انقطعت
وكانت ستبعد الهاتف لتتأكد من ذلك لولا خرج صوته الرجولي
المتزن مجدداً وبنبرة تساؤل وريبة

" هل أفهم من حديثك بأن والدك المخطئ ومن دفعها لذلك "

فغرت فاها مندهشة وقالت سريعاً

" أنا لم أقل هذا ولم أعنيه وأعذر والدي أيضاً "

تبدل مزاجه للابتسام الذي اظهرته كلماته حينها وقد قال

" ليهبني الله ابنة مثلك تشعر بي أكثر حتى من نفسها "

أدارت عيناها جانباً متمتمه ببرود

" مهتم بهذا حقاً ...! لقد صدقتك "

اختلط صوته بضحكة خفيفة وهو يقول

" قلت بأنها تنازلات لم أقل بأني لا أريد أن يكون لي أبناء "

تمتمت ببرود

" وأنا لا أريد هذا التنازل "

عاد للضحك مجدداً وقال

" كم أحب كبيرة القب والعقل هذه يا الله "

ابتسمت ابتسامة مزجت الحنان والحب والحزن معاً في مزيج
غريب يشبه مشاعرها نحوه والذي سرعان ما أصبحت التعاسة
الشعور المسيطر عليه بل وتعالت ضربات قلبها بخوف وهي
تتذكر كلام عمتها عن الغيلوانيين وأنه من الغريب أن لم يكن
ضمن دائرة غضبهم الانتقامي ذاك وهو ما جعل الكلمات تخرج
من بين شفتيها بحزن وحنان

" اعتني بنفسك جيداً قاسم أرجوك من أجلي "

وكان ذاك ما جعل من في الطرف الآخر يتأوه بصوت رجولي
رخيم مرتخي متمتماً

" آه بربك تيما توقفي عن تعذيبي في هذا السرير البائس البارد "

وهو ما جعل خداها يشتعلان وقالت مندفعة

" وقح .. اصمت الآن "

ضحك بصوت مرتفع وقال

" من كانت قبل قليل تهدد وتتوعد بأنها ستحمل مني مرغماً "

ولم تزد كلماته تلك وضعها إلا سوءاً وقالت مهددة

" اصمت أو أنهيت الاتصال الآن "

ضحك مجدداً وقال

" حسناً ها هي توبة مولاتي ، لا تحرميني من سماع هذا
الصوت رجاءً "


لوت شفتيها وتمتمت ببرود

" من يسمعك لا يصدق بأنك كنت هنا قبل قليل ! بل وكل
يوم مؤخراً "

قال بضحكة

" وهل تركني شقيقك أقول كلمتين في غيابه ! وإن غاب هو قام
خالي صقر بالمهمة ، وإن لم يكن هو خرج لنا والدك من تحت
الأرض "

لامست يدها مكان قلبها وتنهدت بحزن هامسة



" ليحفظكم الله لي جميعاً "

قال من فوره بصوت باسم

" نامي هيّا واتركيني أنام ورائي أسبوع حافل الله وحده يعلم
كيف سيكون "

غضنت جبينها قائلة بتساؤل بسبب كلامه ذاك

" هل قرار تعيينك كرئيس لجهاز المخابرات دائم ؟! "

قال مباشرة

" لا .. ولن أوافق على هذا فأنا رجل ينفع أن يكون امرأة أكثر
من هذا "

قال آخر كلماته بما يشبه الضحكة المكتومة فاتسعت عيناها وقالت
بضحكة مندهشة

" كيف يكون ذلك ! "

ضحك على رد فعلها وطريقة فهمها للأمر وقال موضحاً

" أعني أنني أحب أن يكون لي منزل وعائلة أقضي
معهم أغلب يومي ليس رجل لا يراه أبنائه وزوجته إلا آخر
الليل قبل أن ينام "

عاد الحنان والدفء لملامحها الجميلة بسبب كلماته تلك بل وما
قالته عمتها عن تأكدها من أنه سيكون زوج رائع وأب مضحي
بينما حدثت نفسها

( وتريد أن تحرم نفسك الأطفال من أجلى ..! لا تحلم بهذا ) .

بينما قال هو بعد صمت لحظة منهياً حديثه الأسبق

" ثم أنا متيقن ما أن يترك والدك منصبه الحالي لن يبقى واحد
من رجاله في مناصبهم فهم مرتبطون به ارتباط الروح بالجسد
والجميع سيسلمون أماكنهم لمن سيراه هو الجدير بها "


تبدلت ملامحها للتساؤل وقالت باستغراب وريبة

" هل سيرضى الشعب بغيره رئيساً لهم ! "

وكان التعليق سريعاً من الذي قال وكأنها لمحت سخرية
ما في صوته

" الشعوب لا تفكر كما تفكرين يا تيما ووالدك يفهم هذا جيداً
لذلك فعل كل ما فعله من أجل تراب الوطن ليس الموجودين
فوقه لأن الشعب يريد الماء الغذاء الأمان الراحة وتوفير
احتياجاته ولا يهم لديه عن طريق من تكون ومن الجالس في
مبنى القصر الرئاسي "


حبست كلماته تلك أنفاسها في صدرها بينما تحرك رأسها بعدم
تصديق متمتمه

" لا .. كيف يكون ذلك ! "

ولم يرحمها وهو يؤكد كل ما قال وبكلمات جادة

" إنها الحقيقة يا تيما ومن لم يؤمن بها لن يفعل شيئاً من
أجل وطنه "

وتثاءب قائلاً بكلمات كسولة

" هيا نامي فإن تحدثنا عن هذا لن نصمت قبل طلوع النهار
وسأنام في مبنى المخابرات حينها "

ابتسمت بحب وحزن وقد اختلطت مشاعرها نحوه بأخرى
متناقضة بسبب ما قال قبل لحظات بينما همست شفتاها

" أحبك كثيراً .. اعتني بنفسك "

وأبعدت الهاتف عن أذنها على آخر كلماته

" أحبك دميتي الجميلة "

وأنهت الاتصال ونظراتها الحزينة تتبع الهاتف الذي اراحته مع
يديها في حجرها مجدداً وفكرت في كلماته التي ترفض مفارقتها،
فهل فعلاً لا تهتم الشعوب لمن يحكمها مادامت تعيش رغد
الحياة ! هل يدرك والدها ورجاله جميعهم ذلك لذلك تفانيهم
وحبهم للوطن نابع من داخلهم لا يهتم كل واحد منهم إن ذكر
التاريخ اسمه أو أثنت الناس عليه ؟!
هو هذا ما يسمونه الولاء للوطن إذاً ! يا إلهي كم هو صعب
وقاسي ولا يستطيع فعله إلا الرجال فعلاً ، فأن تدرك حقيقة أن
الشعب الذي تضحي بكل شيء من أجله قد يتخلى عنك في أي
لحظة لأنه يرى بأنك لم تعد مصدر أمان بالنسبة له هو شعور لا
يمكنها تخيله ! وأدركت حينها معنى كلماته تلك فإن فكر كل واحد
منهم هكذا ما فعلو كل ما فعلوه من أجلهم .

ارتفعت نظراتها الحزينة للفراغ وعادت الدموع تلمع في عيناها
الواسعة وتذكرت كلمات عمتها عن تضحية الرجال من أجل
الوطن وما تعانيه النساء تحديداً بسبب ذلك وشعرت بالتعاسة
تغمرها فلا يمكنها تخيل أنه ثمة من قاست ولازالت تعاني مثلهم
من أجل تراب هذا الوطن .

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 10-05-24, 04:49 AM   المشاركة رقم: 1763
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

تقاطرت الدموع من عينيها مجدداً وهي تنظر لما يعرض على
شاشة هاتفها وكأنها تراه للمرة الأولى وليست المرة العاشرة
تقريباً تعيده دون توقف وكأنها تعاقب نفسها بهذا وتكوي قلبها
المحترق أساساً تنظر للخارجين من الملهى الليلي وقد التقطتهم
ألآت تصوير هواة التشهير ومطاردة المشاهير بينما يداهما
تمسكان ببعضهما خارجان من هناك ، من المكان الذي ما كانت
لتتصور بأن يدخله وإن وحيداً فكيف أن يكون برفقة امرأة وهذه
تحديداً ؟! والتي كانت تلوح للمصورين مبتسمة حركة خطواتها
توضح الوضع الذي وصلته بسبب سهرتهم تلك .

دفنت ملامحها وعبراته في ركبتيها تحضنهما بقوة جالسة فوق
سريرها وهذا حالها منذ وقت بل ومنذ عادت من المستشفى نهاراً
، فها هو اختار أقسى طريقة لقتلها وهو من يعلم بأن أكثر ما
يقودها للجنون هو اقتراب أي امرأة منه وإن كان كارهاً لذلك
فكيف أن يكون الأمر طواعية ! يا إلهي ما أقسى هذا الشعور ،
إنها نار تتآكلها من الداخل وباتت عاجزة عن تحملها .

ولا تجزم بأنه قد يفكر في فعل هذا انتقاماً منها لأنها لم تعد تعنيه
ولا حتى بمشاعر كره قد يوجهها نحوها فهي في نظره ليست
سوى امرأة خائنة نجسة بل ورفضت حتى تلقي عقابه المجهول
لتكفر عن ذلك الإثم ، وقالها قبل مغادرته من هنا بأنه لها ما
اختارت أن تريد لنفسها وها هو يختار أيضاً وهي المتضرر في
كلا خياريهما فمن ستلوم في هذا ؟ مطر شاهين ؟ والده ؟ نفسها
أم الجميع معاً ؟ لكن النتيجة واحدة وأنها خسرته وللأبد حيّاً كان
أم ميتاً .

تعالت شهقاتها الباكية ولازالت تدفن بكائها الموجع في ركبتيها
وأصابعها قد آلمتها من كثرة شدها على الهاتف فيها قبل أن
ترميه بعيداً دون أن تعلم أو تهتم أين أصبح وما حدث له فالمهم
لديها أن تتوقف عن سماع تلك الأصوات التي تذكرها بما لم
تنساه ولازالت تراه وإن ابتعد عن عيناها ، وعادت كلماته
لمهاجمتها وبقسوة تشبه كلماته تلك .

( تجنبي ما تعلمين جيدا بأنه سيغضبني ، لا تخرجي من داخلي
تيم الذي لا أريدك أن تريه )

( أنت الحد الفاصل بين ماضي وحاضري ماريا، أنت طفولتي
ووالدتي التي فقدتها بسبب الجميع عداك، لا أريد أن أضعك في
مرتبتهم ماريا لا تختاري ذاك لنفسك )

ضربت قبضتها على ساقها وصرخت بألم وحسرة وصوت باكي

" وها هي اختارت ذلك ، ها هي مارية اختارت كل ما حذرتها
منه سابقاً "

وقفت مغادرة السرير عند ذاك الحد ونظراتها الدامعة تنتقل حولها
كالضائع في الظلام الدامس وكأنها تبحث عمّا يساعدها في اتخاذ
قرارها ذاك والمضي فيه .. ثيابها ، حذائها ، هاتفها .. أي شيء
، فهي لا يمكنها تحمل كل هذا وعليها أن تفعلها والآن .

لكنها توقفت مكانها ولسبب مختلف تماماً وأقوى من كل القوى
التي كانت تحركها حينها وهو باب الغرفة الذي انفتح بعد
طرقتين متتابعتين لم تكن كافية سوى لمحاولة مسحها للدموع من
عينيها في محاولة فاشلة فذاك القماش الناعم لم ينجح سوى في
جعل بشرة وجنتيها تحترق أكثر ولم يخفي إرهاق عينيها ولا
احمرار جفنيها ولا في تغيير صورة الملامح الرقيقة الباكية وهو
ما قرأه الداخل من الباب حينها بوضوح وما جعل حاجباه ينعقدا
وبقوة بالرغم من كلماته الهادئة حينها قائلاً

" مساء الخير ماري "

حاولت جاهدة أن تجيب ، لا بل أن تصرخ في وجهه بقوة

( أنا لست ماري ، أنا لست واحدة منكم أنا مارية هارون فقط ،
أعيدوني لبلادي ولبلدتي ولمنزل عمي القديم وكل التعاسة التي
عانيتها فيه ، أعيدوني حتى مارية الشابة التعيسة هناك )

لكنها عاجزة عن قول كل ذلك لأن مصيرها حينها السجن
والموت فقط وليس هي وحدها بل والكثيرون .. تيم رواح وقاص
هزار كين عمها الحارثة وزوجته وساندرين وحتى كنانة
وعائلتها وسلسة طويلة سيقودهم كل واحد فيها للأخر وستنهي
حياة الكثيرين بسببها لذلك عليها أن تكون
( ماري دفسينت ) فقط أحبت ذلك أم كرهته نفسها حتى تنتهي
نهايتها بالتأكيد وتُنهي حياتها التعيسة بيديها ووحيدة .
قال الذي لم يغادر الاستغراب ملامحه بعد بينما انتقلت نظراته
لأذنها المغطاة بضمادة ولاصق طبي

" ما الذي يبكيك ماري ؟ هل الجرح في أذنك يؤلمك ؟! "

لمعت عينيها بحزن وتذكرت حينها فقط بأنه ثمة ألم وجرح هناك
فهي كانت تعاني ما هو أقسى من ذلك بكثير يذبح قلبها ويمزقه ،
إيماءة صغيرة من رأسها هو كل ما استطاعت الرد به وعيناها
تمتلئ بالدموع دون شعور منها ولم تستطع قول أي شيء بينما
لم ينتظر هو ذلك قائلاً

" ألم يصف لك الطبيب أي مسكنات ؟ "

تحركت شفتاها حينها وقالت ببحة تهرب من عيناه التي نظرت
لعينيها مجدداً

" بلى ولازال القليل على وقت أخذها مجدداً "


قال والتجهم لم يغادر ملامحه بعد

" تناوليها الآن إذاً ، هل ستتحمل الألم فقط لأنه لم يحن وقتها ؟
سأتصل بطبيب العائلة غداً فيبدو أن ذاك الطبيب فاشل ومبتدئ "

تنهدت باستسلام ولم تعلق أو تعترض بينما يبدو لم ينتهي ما لديه
فقد قال بضيق

" وعلى فاليريو أن يُخرج ذاك القط من هنا أو رميته بنفسي في
النهر فلن نتحمل حادث مشابه مجدداً "

اتسعت عيناها ونظرت له مصدومة فيبدو بأنهم لم يجدوا غير ذاك
القط المسكين لتلفيق الجريمة له لأنه بالطبع لا يمكنه لا الدفاع
عن نفسه ولا قول الحقيقة ، كما يبدو أن هذا الرجل علم للتو بما
حدث لذلك جاء الآن للاطمئنان عليها ، قالت وقلبها يتألم على
القط المسكين

" لا عمي أرجوك فهو .. "


وتاهت الكلمات منها تحاول أن تجد تتمة مناسبة لكذبتهم تلك
فعليها فعلياً أن تكتسب خبرة في هذا فيبدو بأنها ستحتاج للكثير
منه وهي هنا ، وسارعت ما أن رأت الاهتمام في نظراته

" أعني بأنها لم تقصد أذيتي أنا من تصرفت معها بشكل خاطئ
وآذيتها دون قصد لأني لم أتعامل مع القطط سابقاً وهي تصرفت
بطبيعتها الحمائية فقط "


وسحبت نفساً عميقاً لصدرها اكتشفت معه بأنها كانت تحبس
أنفاسها في مكان ما بسبب توترها المريع ، وتابعت حين لم ترى
أي لين في ملامحه وبكلمات راجية حزينة تشبه ملامحها المجهدة
من كثرة البكاء

" لا تخرجها من هنا أرجوك عمي "

فهي لا يمكنها تخيل أن يفعل ذلك بفاليريو وليس بالقطة المسكينة
فمن الواضح أنها تعني له الكثير من سلالتها والمكان الذي جاءت
منه واسمها ، وما تركها هنا إلا لأنه يرفض تركها وحيدة في
شقته في نورثد بالتأكيد ، كما يبدو جلياً أن والده يكره القطط
ومجبر على تحمل وجودها هنا ووجد الآن سبباً مناسباً لرميها
إلى الخارج ، غمرها ارتياح لا يمكنها وصفه ما أن قال وإن
بعدم اقتناع

" حسناً فقط لأنك تريدين ذلك لكن حادث آخر مشابه لن أقبل
رجائك أبداً ماري "

ابتسمت بامتنان واضح وإن لم تصل تلك الابتسامة لعينيها المتعبة
الحزينة وقالت

" لن يتكرر هذا أبداً تأكد من ذلك "

استدار جهة الباب قائلاً

اتمنى ذلك .. وسأخبر الطبيب يراك غداً "


وغادر ونظراتها تتبعه بينما قال وهو يغلق الباب

" طابت ليلتك ماري "

وأغلق الباب على صوت تنهدها القوي بينما علقت نظراتها
الحزينة مكان تواجده وكأنها تراه من خلف الخشب المصقول ولا
تعلم متى ستعتاد الكذب على هذه العائلة وهي توهمهم بأنها فرد
منهم ؟ وليس أي فرد فاكتشاف كذبتها هذه لا أسوأ منه سوى
حقيقة أن صاحبة الهوية الحقيقية ميتة بالفعل ولم يعد لها
أي وجود .

أبعدت نظرها عن هناك ليستقر في الجانب الآخر وحيث هاتفها
المرمي أرضاً والذي يبدو اجتاز تلك الحادثة بسلام ولم يتحول
لقطع مبعثرة في المكان وشحبت ملامحها بحزن فهذه العائلة التي
تتألم لأجلها لا تختلف عن تلك الفتاة التي سرقت حلمها منها ولا
والدها الذي يسعى وبكل جهد لتدمير وطنها فهم أعداء لها
ولبلادها ، فقط هذا ما عليها الاقتناع به والتوقف عن توبيخ
نفسها ولومها فإن اكتشفوا هويتها الحقيقية لن يرحمها
أحد منهم .

أغمضت عينيها بقوة وحركت رأسها في رفض وهي تتذكر ما
كانت تنوي فعله قبل قليل وغلبتها فيه مشاعرها وتمتمت
بأسى حزين

" توقفي عن الجنون مارية انت اخترتِ وجوده حياً وهو اختار
طريق آخر بعيد عنك وانتهى "

وغطت عيناها بكفها عند نهاية كلماتها الباكية تلك ولم يعد يمكنها
التحكم في الدموع التي عادت للنزول منها مجدداً فاليوم كان
أقسى بكثير من تحملها وها قد انتهى بتحطم حلمها بمستقبل
يجمعهما وللأبد .

*
*
*
كان الأمر يحتاج لأن يجتاز بها أكثر من شارعين ليتخلص من
أولئك الصحفيين المزعجين قبل أن يرتكب جرما في أحدهم بسبب
غضبه المكبوت ذاك بينما كانت خطواتها تترنح لسيرها بصعوبة
ليس فقط بسبب سحبه لها بخطوات لا يمكنها أن تجاريها بل
وبسبب وصولها لحالة الثمل بسبب كثرة المشروب والرقص
هناك

سحبها من ذراعها ناحية باب السيارة الخلفي المفتوح ودفعها
نحوه هامسا بغضب من بين أسنانه

" تحركي قبل أن أقتلك "

وكانت دفعته تلك كفيلة لرميها داخلها وقد ارتمت نائمة على
ظهرها بينما كانت مقابلة له وأبعدت الخصلات التي غطت وجهها
قائلة بابتسامة مائلة وعينان نصف مفتوحتان وكلمات كسولة

" لا يتصرف الرجل هكذا مع حبيبته "

ورمت رأسها للخلف وقد أطلقت ضحكة عالية وكأنها تُكذب نفسها
فيما قالت قبل أن تنظر له مجدداً من باب السيارة المفتوح وقالت
بكلمات خدرة تبرم خصلة من شعرها حول سبابتها

" هل سنذهب لغرفتك "

ضرب بكفه على سقف السيارة وصرخ بغضب ينظر لعينيها

" توقفي عن التفوه بالحماقات أعلم أنك تعين جيدا ما أقول
وهي المرة الأخيرة التي أتلقى فيها اتصال من والدك يطلب مني
البحث عنك لأني في المرة القادمة سأنقل له فقط صور ما تفعلين
وما سيحدث بعدها وأنت تغادرين من هنا مع أول شاب
سيصادفك "

تأوهت وقالت ولازالت تلعب بخصلة شعرها الأحمر حول أصابعها

" تغار تيموثي "

ضرب الباب هامسا من بين أسنانه

" سافلة "

وبإشارة من يده للجالس في الأمام قام ذاك من فوره بتشغيل
السيارة وهو ما جعلها تجلس مسرعة ونظرت من النافذة صارخة
بالذي تركاه واقفاً مكانه

" هيه افتح الباب لا أريد المغادرة مع هذا بل معك "

لكن أيّا منهما لم يستجب لصراخها الهستيري ذاك ، لا الذي غادر
بها من هناك مسرعاً ولا الذي تركاه واقفاً عند الرصيف ينظر
للسيارة المبتعدة بحاجبين معقودان بشدة ونظرات غاضبة غائمة
، وما أن اختفت سيارتهما مع صوت صراخها الهستيري المرتفع
الرافض تحركت خطواته نحو الجانب الآخر دون اهتمام وسار
عبر الزقاق الفارغ المظلم والذي ما أن وصل نهايته وقف مكانه
بسبب الذي خرج حينها من خلف أحد البنايات العالية حيث كان
يقف ينتظره ومن احتاج لثواني قليلة ليتعرف على ملامحه
المختفية تقريباً خلف ظل المبنى المقابل من الجانب الأخر ولم
يسمح لنور العمود خلفهم هناك لجعله يراه بوضوح ، همس
بخفوت ونظراته العابسة الجامدة تتفحص ملامحه

" زين "

ابتسامة متشنجة كانت رد فعل الواقف على بعد خطوات منه أو
بالأحرى متوترة وهو ما أخفاه وهو يهمس أيضاً وإن بصوت
أوضح

" مرحبا "

يعلم بأنه رد فعل سخيف منه وعبارة ترحيب بدت الأسخف في
تاريخه لأنه يعلم أي شعور ينتابه وهو يقف أمام هذا الشاب
تحديداً وأي سطوة لحضوره لا يشبهها سوى ما يشعر به حين
يقف أمام زعيمه ذاك ، كما لم يستغرب أيضاً نظراته له حينها
فهي المرة الأولى التي يأتي بحثاً عنه بل والأولى التي توكل له
فيها مهمة ومن أي نوع كانت وكم كانت شاقة بالنسبة له ،
فبالرغم من بساطتها إلا أنه كان من الصعب حقاً أن يعثر على
شخص لم يعد يملك منزلاً ولا رقماً للتواصل معه ويبدو بأنه
انفصل كلياً عن البقية لهذا لا يعلم أحد عنه شيئاً ولهذا تم تكليفه
هو بهذه المهمة فكان وكأنه يطارد السراب فحتى وقوفه بالقرب
من مبنى البحرية في نورثد والمنظمة السرية التي يعمل فيها بل
وحتى منزل ذاك الجنرال الذي يُعد خطيباً لابنته لم يساعداه في
العثور عليه ، أي سيكون أوقف جميع نشاطاته السابقة وهو ما
لم يجد له أي تفسير حتى الآن !!

ولم يصدق عيناه وهو يرى صورته في صفحات أخبار المشاهير
قبل قليل ممّا جعله يتوجه نحو ذاك الملهى سريعاً والذي كان
ولحسن حظه أنه قريب منه .

" ماذا تريد "

لم يستغرب بالتأكيد كلماته تلك وإن كان يستغرب القسوة والحدة
فيها ! وبات الأمر واضحاً لديه بأنه ثمة مشكلة ما وتبدو كبيرة
جداً أحدثت شرخاً واسعاً بين هذا الشاب ومن كان يعتبره ابن له
وإن لم ينجبه ! سحب نفساً عميقاً لصدره وقال

" الزعيم طلب أن أتحدث معك فقدت جميع الاتصالات بك بعد
احتراق شقتك "

قال مباشرة وبذات نبرته الجامدة

" لا هاتف لدي "

حدق فيه زين باستغراب ولم يستطع استيعاب ما قال وهو ما جعل
نظراته تنتقل من عينيه لسترته نزولا لجيبي بنطلونه في نظرة
تؤكد عدم اقتناعه بالأمر وأكده كلماته وقد قال باستغراب

" وكيف تتواصل مع .. "

" أخبر زعيمك بما قلت "

وتوقفت كلماته بسبب مقاطعته له بتلك العبارة الحازمة وهو ما
جعله يعود وينظر لعينيه الغاضبة بطريقة لا يفهمها ! ومؤكد يعلم
ما كان ينوي قوله فكيف تواصل مع والد تلك الفتاة التي أخذها
من هناك إن كان لا يملك هاتفاً !
يحار فعلاً في أمر هذا الشاب فعدد المرات التي قابله فيها قليلة
بعدد المرات التي زار فيها منزلهم هناك وإن لم يدخله يوماً لكنه
مزيج مختلف تماماً عن كل من عرفهم في حياته ويحار فعلياً إن
كان يمكن لهذا الوجه الوسيم أن يعرف الابتسام أو المزاح !
قال أخيراً وما لم يعد يمكنه تركه في نفسه أكثر

" وهل ستعمل بدون أوامر "

" أجل "

لم يستطع منع عيناه من الاتساع بسبب جوابه ذاك فكيف يكون
هذا ! لقد فقد هذا الشاب عقله بالتأكيد !! ولم يترك له مجالاً لقول
شيء مما يفكر فيه ويظهر واضحاً في عينيه وهو يقول بحزم
بينما دس يداه في جيبي بنطلونه

" الأمر لا يعنيك يا زين قم فقط بما طلب منك "

وهو ما ألجمه تماماً عن قول أي شيء يزم شفتيه بقوة ولن
يستطيع بالتأكيد مناقشته فيما يخصه وحده ، لكن ثمة ما لم
يستطع إمساك نفسه عنه وهو يراه يدير ظهره له مغادراً لذلك قال
سريعاً

" وأزير ؟ "

توقفت خطواته حينها وإن لم يستدر نحوه وهو ما شجعه وتابع
قائلاً

" إنه يسأل عنك دون توقف "

كان الحزن واضحاً في آخر كلماته تلك فتعلقه بأولئك الأطفال
أصبح أكبر من تصوره هو نفسه ! تابع حين لم يصدر أي رد فعل
عن الواقف مكانه هناك
" وأنت تعرف سلوكه جيدا أخشى أن يصبح عنيفا مع الأطفال
أو يؤذي نفسه "

تحركت حينها خطواته وقال بكلمات باردة بالكاد سمعها تنتقل له
مع النسيم وكأنها جزء منه

" سأزوره في أقرب وقت "
وابتعد عنه خلف ظلال البناية المجاورة قبل أن يستدير خلفها
ويختفي عنه تماماً فأطلق نفساً عميقاً واستدار نحو الطريق الآخر
متمتماً يحرك رأسه بعجز

" يا لك من والد ياتيم !! "

*
*
*
كان جميع المتحلقين حول النار الواسعة في غناء وتصفيق
مستمر والأجواء بالنسبة لهم لا يضاهيها أي شيء عدا من القليل
من الأشخاص الذين قرروا الابتعاد عنهم والتحدث معاً في أماكن
بعيدة قليلاً عن كل ذاك الطرب ، وأحدهم كان رواح الذي جلس
وحيداً على طرف صخرة بعيدة مولياً ظهره للجميع بينما ثمة
عينان كانت تراقبه طوال الوقت وهي كاترينا أو كاتي كما يسميها
الجميع ، والتي حاولت كثيراً حتى أصابها اليأس أن تقنع التي
لازالت تجلس داخل الخيمة أن تغادر وتكون معهم لكن جوابها
كان الرفض حتى أقلعت عن الفكرة حين تحول رفضها ذاك لغضب
وتركتها وانضمت للبقية .

توقفت عن الغناء والتصفيق ووقفت وتوجهت نحوه قبل أن تمر
بأحد المقاعد الخشبية المعدة للرحلات وحملته في يدها حتى كانت
خلفه وشعر بوجودها واستدار رأسه نحوها فقالت بضحكة خجولة

" هل أتطفل قليلاً على خلوتك ؟ "

قال مبتسماً

" بالطبع كاتي "

دارت حوله ووضعة كرسيها مقابلاً له وجلست قائلة بابتسامة
ودود

" يبدو أنك تشعر بالملل هنا ؟ "

حرك رأسه نافياً وتمتم بابتسامة محرجة

" أنا لا أحبذ هذه الأجواء فقط "

قالت بضحكة صغيرة

" أنتم العرب تظنون دائماً أننا ما أن نجتمع سنحتسي المشروب
ونمارس الجنس "

وخبت ضحكتها وشعرت بالإحراج ما أن لاحظت بأن كلماتها تلك
أو آخر ما قالت جعله يحرج وقد شغل نظره بالغصن اليابس
الذي كسره بين يديه قائلاً

" لا ليس كذلك قطعاً فأنا ولدت وتربيت هنا وأعرف الاختلاف
جيداً "

ابتسمت بارتياح حينها وقالت

" حسناً هل تشاجرتما إذاً ؟ "

وراقبت بفضول رد فعله وهو يكسر الغصن مجدداً قبل أن يرمي
قطعه الصغيرة تحت قدميه وخرجت منه ضحكة صغيرة وقال وهو
ينظر لهم

" نحن لم نتفق يوماً لنتشاجر ، إننا في شجار مستمر "

ضحكت أيضاً وقالت

" لا أعلم كيف تزوجتما حقاً !! "

نظر حينها جانباً وقال بابتسامة مائلة

" وما أنا كنت أتخيل هذا لكنها فعلتها وأتاحت الفرصة لي "

كانت تنظر لجانب وجهه تحاول فهم شخصيته فعلاً بل وفهم
المزيج الغريب بينهما وكيف يمكن أن يكونا زوجين وهل ستنجح
حياتهما معا ! قالت مبتسمة تنظر لعينيه ما أن نظر لها

" لقد عرفت ساندرين منذ طفولتي بل وفي أول يوم لي في
المدرسة الابتدائية ، لقد كنت طفلة هادئة وخجولة بينما كانت هي
العكس تماماً "

وقاطعت نفسها بضحكة صغيرة بينما ابتسم الجالس أمامها
وتابعت
" كان سبب تقربي منها أني أحتاج للحماية من الأطفال
المتنمرين "

ارتفع حاجباه مبتسماً فضحكت بإحراج وقالت

" أجل عليّا الاعتراف بهذا فهي كانت مع حيويتها المستمرة
شجاعة ولا أحد يمكنه الاقتراب منها أو من صديقاتها "

واتسعت ابتسامتها وهي تتابع قائلة

" كان ثمة فتى يضايقني كثيراً بسبب سخريته من تسريحة
شعري حينها ، لقد طرحته ساندرين أرضاً ولم يجرؤ على فعلها
بعد ذلك وأتممت سنوات دراستي الابتدائية محمية تماماً "

وتشاركا الضحك معاً مع نهاية كلماتها تلك وقال رواح

" وكيف تقبّلت هي صداقتك وأنتما النقيض تماماً ! "

حركت كتفيها وقالت مبتسمة

" ساندرين لم تكن ولازالت لا تمنع أحداً من مصادقتها أو
الاقتراب منها لكن من يفهمها فقط يمكنه الاستمرار صديقاً لها
لأن الأغلبية يبتعدون بسبب صراحتها أمّا أنا فكان ذاك أكثر ما
يعجبني فيها "

أومأ برأسه موافقاً ما قالت وفي صمت بينما تابعت هي من فورها
وذات الابتسامة تزين شفتيها

" إنها مختلفة تماماً ، لا تهتم بأن ترضى الناس عنها ولا تسعى
لإرضائهم ، لا تجامل أحداً ولا تتبع مصالحها وذات الوقت هي لا
تؤذي من لم يتعرض لها فهي ليست وقحة ، الوقح هو من يهاجم
الجميع تقريباً من أساء إليه ومن لم يفعل ذلك وخاصة الأضعف
منه في نظره لكن هي لا تفعل هذا أبداً حتى أنها بالرغم من
تدربها على رياضة الكاراتيه في صغرها وشجاعتها لم تتنمر على
واحد من الطلبة يوماً ولم تتعرض لمن لا يتعرض لها "

وتابعت تنظر لعينيه المحدقة بها باهتمام وانتباه

" وحتى الآن إن في الجامعة أو منظمة الإغاثة فقط إن تعرض
شخص ما لها يتحول لعدو فعلي في نظرها حتى أنها كانت السبب
دائماً في إبعاد الطلبة المزعجين عنّا في البحوث والرحلات
التعليمية فكل ما يفعله الواحد منهم أن يعتذر ما أن يجدها في
المجموعة "

وختمت كلماتها تلك بضحكة فقال رواح ضاحكاً

" هذا استغلال بشع "

حركت رأسها برفض وقالت مبتسمة
" ليس كذلك فأنا أحبها كثيراً وأحببت شخصيتها لأنها مختلفة
وصريحة وواضحة لا تؤذيك في غيابك وتطعن ظهرك بينما تُظهر
لك العكس تماماً في وجودك ، أي لا وجه آخر لديها هو
واحد فقط "


أومأ موافقاً لما قالت وأبعد نظره للأسفل متمتماً بابتسامة غريبة

" وأنا أحب هذا فيها ، بل وما يجعلني متعلق بها "

ارتسمت المفاجأة على وجه المقابلة له وقالت

" لكني أراها تراك عكس ذلك تماماً ! "

نظر لها وحرك كتفيه قائلاً

" هذا هو الواقع للأسف "

اقترب حاجباها باستغراب وقالت

" لما لا تخبرها بكل هذا إذاً ؟! "

ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه وقال

" وهل ستصدق هذا ! هي من أرغمتني على إيذائها دائماً حتى
باتت تكرهني "

كان يتجنب النظر لها بينما شعرت فعلاً بألم خفي إن في نظرته
تلك أو كلماته وهو ما جعلها تقول وبنبرة جادة

" لا أراه كرهاً أكثر من كونه غضب ، إنها غاضبة منك فقط "


جعلت كلماتها تلك نظراته تعود نحوها وباهتمام واضح فقالت
مؤكدة

" عليك أن تفكر في طريقة أخرى غير إيذائها لأنها تُظهر رفضها
لك فقد يكون ما في داخلها نحوك مختلف تماماً "

أومأ برأسه موافقاً وشردت نظراته للأسفل وقال وكأنه
يحدث نفسه

" وهو ما أنا عازم على فعله فإمّا أن نستمر معاً بعد ذلك أو أن
أتركها تبحث عمّن هو أفضل مني في نظرها ويمكنها أن تهبه
مشاعرها "

لم تستطع منع ابتسامة ظهرت على شفتيها بسبب آخر ما قال
وتخيلها لذلك حقيقة فخرجت كلماتها مختلطة بضحكة

" حسناً أنا لا يمكنني أنْ أصدق أنَّ ساندي قد تركض خلف رجل
أو تبكي فراقه أو جراحه لها ، وحتى إن أغضبته فلن تسعى
لترضيه وإن غضبت منه فلن تسامحه أبداً فهي تنتقدني دائماً بعد
كل قصة حب فاشلة وتوجه لومها بأكمله نحوي وبأني السبب
بالرغم من أنه هو من تركني "


تشاركا الضحك معاً بسبب آخر كلمات قالتها وقال رواح مبتسماً

" أنت فتاة رائعة كآتي وأتمنى أن تلتقي بمن يستحقك لأن جميع
من هجروك لم يكونوا يستحقونك "

اتسعت عيناها باندهاش وجمعت كفاها بجانب وجهها وقالت

" يا إلهي أنت لست ثري ووسيم فقط بل ولبق ورائع "

وعادا للضحك مجدداً ووقفت حينها وقالت مبتسمة

" أتمنى فعلاً أن تستمرا معاً وليس العكس فلن أتمنى لصديقتي
المقربة شخصاً أفضل منك "

ورفعت كرسيها وغادرت ونظره يتبعها للخلف وانحرف قليلاً نحو
خيمة معينة مضاءة قبل أن يعود به للأمام ورفع غصن يابس آخر
وكسره بين يديده متمتماً بابتسامة جانبية

" إما أن أمتلك قلبك ساندي أو أن أكسر الموجود بين أضعلي
هكذا وأنسى أمرك "
*
*
*

تقلبت في سريرها متأففة وهذا حالها منذ وقت فقد اتخذت جميع
الوضعيات لعلها تنام وبلا فائدة بالرغم من أنها استيقظت باكراً
ولم تنم منتصف النهار لكنها لم تستطع النوم الآن ! وبالرغم من
السكينة التي شعرت بها بعد مكالمة عمتها وقاسم لكن يبدو أن
مفعول كل ذلك كان لحظي فقط واختفى .

رمت اللحاف عن رأسها متأففة ولازالت نائمة مكانها وغابت
نظراتها الحزينة في الفراغ الشبه المظلم فهي لن تنام بالتأكيد
وقلبها يتألم على الموجودة بعيداً عنها فكيف بالموجودين هنا قربها !

جلست تبعد خصلات شعرها الناعم عن وجهها ونظرت للأرض
وهي تنزل قدميها وتدسهما في الحذاء المنزلي الناعم ووقفت
وغادرت الغرفة ، لن تفكر في الصعود مجدداً بكل تأكيد وكان
قاسم محقاً بأنه ما كان عليها فعل ذلك وهو غاضب لكن ثمة شطر
آخر من قلبها موجود هنا عليها أن تحاول من جديد لعلّها تخرجه
من عزلته تلك بالرغم من تفهمها لما يشعر به وعجزه الذي
يكسر قلبه لكن هذا لن يساعده في اجتياز ما حدث بل سيزيد
وضعه سوءاً ومتيقنة من أنه لولا يقينه من أن الحرس
المنتشرين في الخارج لن يسمحوا له بالمغادرة لكان فعلها دون
تراجع أو تفكير .

حين وصلت باب الغرفة وقفت تنظر للنور المنبعث من أسفله
بحزن فها هو لم ينم أيضاً ولن يعرف النوم طريقاً لعينيه بالتأكيد ،
لم تمسك مقبضه وتديره كالمرات السابقة لتتأكد إن كان فتحه أم
لا قبل أن تغادر في صمت في كل مرة بل طرقت عليه بكفها وقالت
برجاء حزين

" جدي افتح الباب أرجوك ، أعدك أن لا أتحدث أبداً إن كنت لا
تريد هذا ، فقط اتركني أكون معك "


وتكسر صوتها وقالت بصوت شبه باكي والدموع تلمع في عينيها
ما أن لم يصدر عنه أي رد فعل

" جدي أنا أحتاجك أرجوك لا تكن قاسياً مع نفسك ومعي "

وابتسمت شفتاها من وسط الحزن المخيم على ملامحها ما أن دار
قفل الباب وانفتح لتجده واقفاً أمامها فارتمت في حضنه سريعاً
وطوقت جسده بذراعيها تشعر بملمس يده على شعرها وهمست
بعبرة مكتومة

" كم أتمنى من الله أن لا احرم منك أبداً "

بينما اكتفى هو بالمسح على شعرها بحنان فابتعدت عنه ونظرت
لعينيه وقالت بابتسامة حزينة

" هل يمكنني النوم هنا معك "

وحين عبست ملامحه وتغضن جبينه وحاجباه وفي صمت تمتمت
بعبوس رقيق يشبهها

" ليس الأطفال فقط من حقهم هذا "

ظهر طيف ابتسامة على ملامحه المتجهمة وتمتم بابتسامة جانبية

" لو يعلم قاسم فقط عن هذا "

ابتسمت شفتاها وشعرت بانتشاء كبير فهي على الأقل نجحت
ليس فقط في جعله يفتح باب غرفته أخيراً بل وفي رسم ابتسامة
على شفتيه وإن كانت لا تقارن البتة مع ابتسامته التي عرفتها
طوال فترة معرفتها له ، حركت كتفها قائلة بضحكة صغيرة

" لن يعلم إن لم تخبره ، وإن أخبرته فسأغضب منك "

وتجهمت ملامحها مع آخر كلمات قالتها في عبوس طفولي مازح
فاتسعت ابتسامته وهو ما شجعها كي لا تنتظر منه الموافقة على
طلبها وهي تندفع داخل الغرفة بينما أغلق هو بابها قبل أن
يستدير نحو سريره الواسع والذي باتت تنام في منتصفه تقريباً
وتغطي نصف جسدها بلحافه وكانت تضم يديها تحت وجنتها
وتنظر له مبتسمة بحب فكم يعشق هذه الفاتنة الصغيرة ، لا
يظاهي شعوره نحوها سوى ما يشعر به نحو والدتها والتي
وهبتها له هدية من الخالق كانت المؤنس الوحيد له في سنوات
غربته تلك وإن كانت كالبدر تماماً لا يراها إلا مرة واحدة
كل شهر .
توجه نحوها وجلس بقربها ويده تمسح على خصلات غرتها
الحريرية الملمس ينظر مبتسماً بحب لملامحها الفاتنة الجميلة
وكأنه ينظر للمرأة التي أحبها وكانت زوجة له لفترة قصيرة
سرعان ما سرقها منه كل شيء حية وميتة ، تبدلت ابتسامته تلك
للحزن وكم تمنى أن كان السند لتلك الزوجة ولهما من بعدها ، أن
يحميهما ابنته وحفيدته والذكرى الوحيدة التي تركتها له من
بعدها وكم كره عجزه وقلة حيلته ، الشعور الذي ما أن ينتابه
تمنى أن غادر هذه الأسوار العالية وقتل البقية المتبقية من رجال
تلك العائلة لعله يرتاح وترتاح البشرية جمعاء منهم وأولهم
عائلته وليُعدم بعدها لم يعد يعنيه هذا .

عادت الابتسامة لشفتيه وإن كانت حزينة ذابلة ما أن قالت التي
تعلق نظرها به فوقها مبتسمة

" أخبرتني سابقاً عن الطريقة التي تعرف بها والدك بوالدتك
لكنك لم تخبرني كيف افترقا وما حدث معها وكيف توفيت ؟ "

تنهد بعمق وقال وأصابعه تحرك خصلة من غرتها الناعمة نحو
الخلف ونظره عليها

" طلقها ما أن علم جدي شاهين عن تلك الزيجة بينما تقبل
وجودي بينهم وكفرد منهم "

عبست ملامحها وهمست بأسى

" ولما رفض وابنه يريدها ! "

ابتسم بحزن وعادت يده للتحرك متحسساً كفه نعومة شعرها وقال
ناظراً لعينيها

" لأنها من الشهبان كما أخبرتك وما كان جدي ليوافق مناسبة
لصوص وقاطعي طرق وهم أشراف الجنوب وسادتها "


تنهدت بحزن متمتمه

" لقد كسر قلبه بما فعل "

اومأ برأسه إيجاباً وقال بشرود

" أحياناً يتبع المرء عاطفته وتكون العواقب سيئة لأنه تغاضى
عن كل ما يعلم بحدوثه ومنذ البداية "

تقوست شفتاها بحزن قائلة

" لكن قتل تلك العواطف مؤذي أيضاً "

تمتم حينها بحزن ونظره يستقر على عينيها مجدداً

" ليرحمهم الله جميعاً "

ومال طرف شفته وتابع

" لكنها امرأة قوية وحياتها لم تنتهي عند ذلك ، لقد تزوجت
ثلاث مرات متتابعة دون أن تهتم "


قالت بضحكة صغيرة

" كان الرجال يتسابقون عليها كما يبدو "

ابتسم وقال بشرود حزين

" كانت جميلة كالبدر "

تنهدت حينها وقالت مبتسمة

" لي أن أتخيل هذا إن كانت بملاح والدتي ولون عيناي وشعر
فاتح طويل "

نظر لها ولامست سبابته المثنية نعومة وجنتها وقال بحب

" أجل فقد تقاسمتما كلاكما حسن جدتك وجدة والدتك وكل واحدة
أخدت القليل من واحدة "

اقترب حاجباها الرقيقان وقالت بحزن

" وكيف ماتت ؟ "

أبعد يده عن وجهها وسحب الهواء لرئتيه وزفره وقال

" كنت خارج البلاد حينما علمت بأنها توفيت ودُفنت في المقبرة
التي كانت تخص عائلتها فهم كانوا يدفنون موتاهم بجانب بعضهم
ومنذ أعوام "


ونظر لعينيها مجدداً وغيّر مجرى الحديث بأكمله وهو يحاول
الابتسام وإن من أجلها فقط

" ما رأيك أن نترك كل هذا وأروي لك قصة مختلفة كنتِ
تحبينها كثيراً "

خرجت منها ضحكة صغيرة وقالت

" كنت طفلة ! "

اتكأ بطرف رأسه على ظهر السرير ورمقها بطرف عينيه قائلاً
يشاكسها

" لا أراك مختلفة الآن "

اتسعت عيناها مصدومة بسبب كلماته تلك ممّا جعله يضحك ..
ضحكة شعرت بها أحيت قلبها الممزق الحزين وكم حمدت الله أنها
رأتها على وجهه وفي هذا الوقت تحديداً والذي تمر فيه عائلتهم
الصغيرة بأصعب محنة قد يكونوا مرو بها في حياتهم ، قالت
وكلماتها تختلط بضحكة صغيرة

" موافقة إن كان قاسم والكاسر لن يعلما "

ضحك مجدداً ولامست يده شعرها من جديد وقال مبتسماً

"موافق فلعلنا نرويها كاملة هذه المرة فقد كنتِ تنامين في
منتصفها في كل ليلة حينها "

عبست ملامحها فجأة وقالت

" لأنك كنت لا ترويها لي إلا وقت النوم وكانت مرات قليلة تلك
التي قضينا فيها الليل معاً ، وما أن أسألك عنها صباحاً تقول بأن
قصص النوم وقت النوم فقط "

ابتسم وقال ويده تبعد خصلات غرتها للوراء

" هيّا انتبهي إذاً وفي صمت لأن أسئلتك الكثيرة حينها كانت
السبب في نومك قبل أن تنتهي "

قالت بضحكة

" لن أسأل وأنا بهذا العمر بالتأكيد "

ابتسم وبدأ بسرد قصة طفولتها المتوقفة منذ أعوام وبكلمات
رجولية عميقة باسمة

" يُحكى في سالف الزمان أنه وفي أحد البلدان يوجد ملك يعيش
في قلعته الكبيرة والتي كانت تقبع عالياً فوق أحد الجبال وكان
للملك ثلاث فتيات جميلات "

تثاءبت فجأة رغم انتباهها وتركيزها معه مما جعل ابتسامته
تتسع وتابع

" كان الملك يحب فتياته حباً كبيراً ويخاف عليهن درجة أنه كان
يمنع خروجهن ولأي سبب كان ، وفي أحد الأيام استيقظ صباحاً
على صوت صراخ يعمّ القصر بأكمله حتى وصل لغرفته فغادر
الغرفة راكضاً ليفاجئ بأصوات تصرخ بذات العبارة

( الأميرة اختفت ، الأميرة اختفت )

ليكتشف الجميع بأن الأميرة الكبرى لم تعد موجودة وبطريقة
غامضة لا أحد يفهمها لأن أبواب القصر كانت مغلقة جميعها ،
ولم ينتهي الأمر عند ذلك فما أن مرت أيام قليلة وفي غمرة بحثهم
الذي لم يتوقف اختفت الأميرة الوسطى وبذات الغموض
والطريقة ... "

ابتسم وتوقفت كلماته ما أن أغمضت عينيها وانتظمت أنفاسها
وتركت قصتها معلقة كطفولتها ، انحنى نحوها وقبّل جبينها بحب
، وما أن ابتعد عنها اتكأ بطرف جبينه على ظهر السرير مجدداً
ينظر بحزن لملامحها النائمة الساكنة يشعر بألم لا يمكنه وصفه
مصدره قلبه ، كانت لتلومه لأنه تزوج وحكم عليهم بتلقي العقاب
معه وهو من كان يعلم حينها بالثأر الذي سيلاحقه لكنها تمتلك
قلباً لم تمتلكه جميع النساء وعقلاً فاق سنها بأعوام كثيرة وكم
يتمنى من الله أن يحميهما ، لا يهتم لما سيحدث له المهم لديه أن
تسعدا وأن تكونا بخير فقد كانت سعادتهما الثمن لكل ما حدث .

*
*
*
*
*
*

وضعت في حقيبة يدها آخر ما ستأخذه معها وهي تذكرة المغادرة
، وهذا ما جاءت به ستغادر به حتى جرح كرامتها ومشاعرها
لتترك ذكريات جديدة سيؤلمها تذكرها طوال عمرها ، ولم تكن
تتخيل بأن قرارها هذا سيكون سريعاً هكذا لكنّها لن تدفع كرامتها
ثمناً لمشاعرها مجدداً ومهما حدث ، بالرغم من أنّه يعز عليها
فراق عمتها جوزاء ويمامة وبثينة وأن تغادر دون علم الجميع
لكن لا يمكنها تحمل كل هذا فكلما طالت فترة بقائها سيكون
قرارها هذا أصعب على نفسها وعلى الجميع .

ارتفعت عينها الحزينة نحو الصناديق والحقائب التي كانت تملأ
أكثر من نصف الغرفة الواسعة وقد التفت حولها الأشرطة
الحمراء وزينتها باقات الأزهار البيضاء ، وتجمعت الدموع في
عينيها وهي تتذكر كيف قمن بتجهيزها بأنفسهن من أجلها بعد
أن قامت والدته بشراء الكثير حتى ترجتها أن تتوقف لكانت
غرفتان وليس واحدة فقط ستكون ممتلئة بهم .

وعلى الرغم من الثراء الذي يتمتعون به وبمكالمة هاتفية واحدة
كان أفخم وأكبر مركز تغليف سيقوم بما هو أجمل من هذا بكثير
وخلال ساعات قليلة إلا أن جوزاء اختارت أن تفعلنه بأنفسهن
ولم تقترب ولا الخادمات من أغراضها ، وفهمت لما فعلت هذا ما
أن رأت الحماس وسمعت الضحكات من الفتيات وكانت لحظات لن
تنساها ما عاشت ، وكم كان رائعاً أن عاشوا تلك اللحظات معاً
ولم تصل هذه الصناديق جاهزة لتستمتع بالنظر لها من الخارج
فقط ، وأدركت كم هي امرأة عظيمة ولا تتكرر أبداً ، وعلمت الآن
لما استطاع شقيقها ذاك توحيد بلاد ممزقة وقيادتها حتى وهو
بعيد عنها .

تنهدت بعمق وهي تبعد نظرها عنهم لحقيبتها الصغيرة بين يديها
فهي لا تريد أن تتراجع عن هذا فبالرغم من كل المحبة التي
شهدتها من هذه العائلة إلا أنها مفروضة على قلب شخص ما
هنا وهو الأهم منهم جميعاً ومن سيغلق عليهما باب منزل واحد
بل وغرفة واحدة وسيكون معها بينما قلبه ومشاعره مع امرأة أخرى .
امتلأت عيناها بالدموع وهي تتذكر الليلة الوحيدة التي نام فيها
هنا بل والتي زار فيها المنزل فهو ولأسبوع كامل تحجج بأنه لديه
رحلات ومنشغل بينما نام تلك الليلة فقط هنا ولم تلتقي به لكن
علمت بأنه موجود في الأعلى ولم تستطع النوم تلك الليلة أبداً
وكانت تتقلب في سريرها وكأنه جمر متقد تحتها وقررت نهاية
ليلتها تلك بأن تتصل به وتخبره بأنها تريد التحدث معه وكانت
ستخبره بقرارها الانفصال عنه وعودتها لعائلتها إن كان
سيعاملها باقي حياتهما هكذا فهي ليست مجبرة على العيش معه
مجرد جسد امرأة في حياته وهو كذلك لأن قلبه مع غيرها طوال
الوقت ، لكن المفاجأة وما زاد عزمها على فعل هذا بل وما جعلها
تبكي تلك الليلة وبحرقة حتى غلبها النعاس أنها حين اتصلت به
كان هاتفه مشغولا وفي ذاك الوقت المتأخر فما سيكون ذلك ومع
من سيتحدث ! خاصة أنها جربت الاتصال به خلال ثلاثون دقيقة
في أوقات متفرقة وقلبها الغبي يحاول تبرئته وبأنه قد يكون تلقى
اتصال ما خارجي بسبب فارق التوقيت بين البلدان لكن رقمه كان
مشغولاً طيلة تلك المدة ، ولا تعلم كم استمرت مكالمتهما تلك كل
ما تعلمه بأنها شعرت بأذى لم تشعر به حياتها وبنار تشتعل
داخل قلبها وكأنه يحترق فعلياً .

وما أن استفاقت صباحاً حجزت تذكرة عن طريق الانترنت وذهبت
لاستلامها اليوم وقت خروجها مع الفتاتين لشراء باقي الأغراض
واستغلت فرصة أن كانت عمتها ليست معهن لأنه ثمة ضيوف
لديها .

مسحت الدموع عن عينيها بحركة سريعة ونظرت مستغربة لباب
الغرفة الذي طرقه أحدهم فمن سيكون هذا وفي هذا الوقت !
وأول ما أخبرها به عقلها أنها إحدى الفتاتين فقامت بدس حقيبتها
في درج طاولة السرير وحمحمت قليلا ليبدو صوتها طبيعياً وقالت
تنظر للباب

" تفضل "

وما أن انفتح الباب حاولت بكل جهدها إخفاء التفاجئ في عينيها
ما أن وجدت جوزاء تقف أمامها وقد دخلت قائلة بابتسامة

" ما الذي يوقظ عروسنا حتى هذا الوقت ؟! "

حاربت توترها باستماته وهي تقول مبتسمة وإن كانت
ابتسامة متشنجة

" نمت قليلاً بعد الظهر ويبدو أني أدفع ثمن ذلك الآن "

اقتربت منها وقالت تجلس أمامها على السرير بينما قدماها على
الأرض عكسها

" هذا لأنك تشعرين بالملل وما أن ننتهي من التحضير لزفافكما
ستمارسين عملك السابق وسيصبح يومك مليئاً "

ابتسمت والدموع تملأ عينيها في تناقض يعبر فعلياً عمّا يحدث
داخلها وفي وقت آخر كانت لتسعد بهذا ، لكنّ تلك الابتسامة
تلاشت أيضاً وبكل ما تحمله من حزن وخيبة أمل ما أن قالت
الجالسة أمامها بنظرة عتاب واضحة

" هذا إن كان ثمة بقاء لك هنا معنا "

من شدة صدمتها لم تستطع قول شيء وهربت بنظراتها
المصدومة ليديها التي كانت تشدها في حجرها بينما تابعت حوزاء
دون أن تنتظر تعليقاً منها

" علمت من بثينة بأنك زرتِ مبنى السفارة وأحد مكاتب الرحلات
الجوية اليوم "

رفعت نظرها لها حينها وقد تبين لها كيف علمت بينما تابعت
موضحة

" هي لم تكن تنقل لي ما فعلتموه ولم أسألها بل كانت تتحدث مع
يمامة التي كانت تسألها عن ذاك المكان وأنا سمعتهما مصادفة
واستفسرت منها عن الأمر "

نظرت ليديها مجدداً وقالت متلعثمة

" في الحقيقة أنا ... "

وخانتها الكلمات وشدها ليديها يزداد أكثر تشعر بأنها متنفسها
الوحيد لما يحدث داخلها بينما اختصرت جوزاء كل ذلك
قائلة بريبة

" هل تمر علاقتكما بأي مشكلات يا كنانة ؟! "

شعرت بالألم في قلبها بسبب سماع ذلك ولم تستطع رفع رأسها
ولا النظر لها بينما همست شفتاها بصعوبة وبحة بكاء خفي

" أنا قررت المغادرة فعلاً والانفصال عنه "

وشعرت بأنفاسها علقت في مكانٍ ما وهي تقول ذلك ، ولأنه لم
يبدر أي رد فعل من الجالسة أمامها رفعت نظرها لها وشعرت
بالألم وهي ترى العتاب وخيبة الأمل واضحاً في عينيها يعبر عن
حزنها لقرارها هذا فقالت بأسى حزين ونبرة اعتذار

" أعلم بأني مخطئة بتصرفي هذا وبأنه يفتقر للباقة لكني أحببتكم
ويعز عليّا فراقكم أو قول هذا لك وأنتِ من أرادتني ومن بين
جميع الفتيات زوجة لابنك وشعرت بالخجل من نفسي "

وامتلأت عينها بالدموع عند آخر كلمات قالتها وإن لم تفارق
رموشها السوداء الكثيفة بينما قالت جوزاء مجدداً وبإصرار
وبنبرة جادة

" ما الذي بينكما يا كنانة ؟ أخبريني وأعدك أن أترك الخيار لك
ولن اجبرك على تغيير أي قرار تتخذينه ، فما الذي حدث جعلك
تقررين الانفصال عنه ؟ "

كانت نظرات جوزاء ملأها إصرار وعزيمة لمعرفة جواب سؤالها
ذاك بينما وجدت كنانة صعوبة لم تعرفها في حياتها وهي تحاول
إخراج تلك الكلمات من قلبها قبل عقلها ولسانها وكأنها لم تعرف
اللغة يوماً ! ونجح الأمر أخيراً وهمست وإن بصعوبة

" لأنه لا يحبني "

وامتلأت عينها بالدموع مجدداً وهي تتابع وكأنها تنتزع الكلمات
من روحها انتزاعاً

" بل امرأة أخرى "

وكان رد فعل جوزاء هو اتساع عيناها في صمت وفي نظرة
عبّرت عن اندهاشها بأمر متيقنة من أنه لا وجود له ! بينما قرأته
الجالسة أمامها بشكل مختلف تماماً وبأنه رد فعل على علمها
بأنها علمت عن هذا الأمر وهو ما جعلها تتابع بنبرة شبه باكية
وأول دمعة تنزلق من طرف رموشها

" لِما أجبرته على تركها والزواج بي عمتي ؟ لِما أحرقتِ قلبيهما
وكتبتِ التعاسة لنا ثلاثتنا ؟! "

كانت هذه الصفعة الأخرى لجوزاء ففوق أنه يريد أخرى هي من
حرمته منها وأرغمته على الزواج بغيرها ! لكن سرعان ما
تغيرت ملامحها من الصدمة للاستغراب والجدية وقالت

" من أخبرك بهذا ؟! "

رفعت حينها كنانة يدها لعينيها ومسحت الدموع من رموشها
وكأنها تمنع تسرب غير تلك الدمعة اليتيمة منهما بينما هربت
بنظراتها ليديها التي أصبحت في حجرها مجدداً وتنفست بعمق
وكأنها تستجمع قواها لقول ما تريد قوله ، وبالرغم من ذلك
خرجت كلماتها حزينة تعيسة ما أن قالت

" هو بنفسه قال لي بأنه يريد فتاة أخرى وبأني اختيارك أنتِ
وليس هو "

أشاحت حينها جوزاء بوجهها جانباً تضرب فخذها بكفها تكتم
غضباً ما متفجراً داخلها وهمست لنفسها

( ويلك مني يا ابن جوزاء ، ما هذه الأكاذيب التي تصوغها
وما سببها ! )

نظرت لها عند تلك الفكرة وقالت

" أخبريني الآن ما الذي حدث بينكما مفصلاً ومنذ تقابلتما
أول مرة "

رفعت كنانة نظرها لها حينها وشعرت بالتوتر فثمة أمور لم تخبر
بها ولا والديها ولا تعلم كيف ستصوغ الأحداث دون أن يعلم عقل
هذه المرأة بأنها تخفي أمر ما فهي باتت تعلم عن أهم ما حدث
بينهما ولم تخبر به أحداً وهو علمها بوجود امرأة أخرى في
حياته ، ولأن الجالسة أمامها متيقنة بأنه ثمة أمر ما جعله يقول
ذلك كانت تنتظر وبإصرار أن تعلم السبب فهي تعرفه جيداً لم تكن
ثمة أي واحدة في حياته لكان أخبرها عنها حين قررت تزويجهما
بل وسألت كل واحد منهما إن كان لديه فتاة يريدها أو يُكن لها
في قلبه شيئاً وإن بينه وبين نفسه لتزوجه بها ومهما كانت وابنة
من ستكون فكان جوابه النفي ، بل وهو من أخبرها بنفسه بعد
عودته من سفره الذي التقاها فيه أول مرة أنها تعجبه ويريدها !
بل ولم تخفى عنها مشاعره نحوها وكان متلهفاً لإحضارها إلى
هنا على الرغم من الظروف التي كانت تمر بها عائلتيهما !!

قالت مجدداً وبرجاء حازم حين لاحظت التردد الذي تخفيه عيناها

" إن كان لي خاطر لديك أخبريني بكل ما حدث ولن يعلم أحد ولا
غيهم أو والديك بما دار بيننا وأعدك وأنا ابنة الشاهين "

وراقبتها بفضول وهي تسدل جفناها تخفي حدقتاها عنها وكأنها
تحاور نفسها وتقنعها بفعلها ، وبالفعل كانت قد شجعتها كلماتها
تلك وهو ما ظهر جلياً في عيناها ما أن نظرت لها مجدداً وإن
كانت كلماتها حزينة حين قالت

" سأخبرك بكل ما حدث لكن تعديني أيضاً بأنك لن تمانعي رحيلي
وستزوجينه بالمرأة التي يحب ليكون سعيداً معها "

كانت تُخرج كل كلمة من داخلها وكأنها تنتزع أشواكاً تمزقها
وتشعرها بألم لم تعرفه حياتها حتى ظهر ذلك جلياً على ملامحها
وعيناها ، وتجاوزت جوزاء الألم الذي شعرت به وهي ترى
الدموع تلمع في عينيها وهي تقول تلك العبارة التي لا تخرج من
أي امرأة بسهولة وتشعر بما تعانيه الآن وهي تقولها ، ولأنها
متيقنة بأنه ليس ثمة امرأة أخرى غيرها لا في قلبه ولا حياته
قالت وبجدية واثقة

" أعدك وأقسم لك "

بدأت حينها كنانة تسرد لها كل ما حدث منذ لامست عجلات
طائرته أرض المطار وحتى اللحظة واستطاعت قول كل شيء
دون أن تخفي شيئاً عنها وكأنها تقف أمام قاضي محكمة ! وهي
بالفعل لا تشبه أي امرأة عرفتها فأخبرتها عن كل شيء حتى
السبب الذي جعلها لا تخبر والديها بما بينهما وهي تستمع لها في
صمت وانتباه دون أن تقاطعها سوى من تبدل ملامحها بين
الضيق والاستغراب والحنق والحيرة مع كل حدث ترويه لها حتى
انتهت ولاذت بالصمت تنظر لعينيها بحزن وهو ما جعلها تهرب
منهما وأشاحت بوجهها جانباً وكأنها لا تريد أن تقرأ شيء ما
فيهما حينها بينما غمغمت شفتاها بخفوت لم يفهمه سواها

" تباً لك يا ابن جوزاء أتنتقم لكرامتك منها ! "

وهو ما فهمه ذكاءها سريعاً ما أن علمت بما حدث فهو شعر
بالإهانة وجرح كرامته وذاك ما دفعه لفعل كل هذا بسبب التخوف
الذكوري الفطري من أن تعتاد على أذية مشاعره ودون رحمة
كلما انزعجت منه أو أزعجها ، لكنّه اختار أقسى الطرق على قلب
المرأة وهو معاقبتها بامرأة أخرى وإن كان لا وجود لها ، وهذا
ما يشعرها بالغضب منه لأنه كان بإمكانه فعلها بما هو أيسر من
ذلك ليس أن يوصلها لهذه المرحلة ويبدو لازال يحمل المزيد لأنها
لازالت تقاوم ولم تعلن هزيمتها أمامه وتتأدب كما يريد ، نظرت
لها مجدداً وقالت بهدوء

" كنانة أنا على استعداد لفعل ما تريدينه ولن أرغمك على أي
شيء فقط أريد أن تجيبيني على سؤال واحد وبصدق وكأنك
تتحدثي مع نفسك "

قالت آخر كلماتها تلك بترقب شديد جعل الجالسة أمامها تشعر
بالحيرة وكل ما صدر عنها إيماءة من رأسها موافقة فقالت
جوزاء دون انتظار كلماتها وبنبرة جادة

" هل ثمة مشاعر ما تحملينها له ؟ "

وكان ذاك ما جعلها تهرب بعينيها منها مجدداً بل وتمنت أن فرت
هاربة من الغرفة بأكملها بسبب كمية الحرج التي شعرت بها ،
لكن لا الموقف ولا ما هي فيه الآن يسمح لها بهذا لذلك وكما
طلبت منها قالت وكأنها تحدث نفسها بينما كانت نظراتها الحزينة
مركزة على يديها في حجرها مجدداً

" لقد رأيت وعرفت الكثير من الشبان بحكم عملي إن عرب
كانوا أم أجانب لكن لم يحدث معي ما حدث حين التقيت به وتحدثنا
وهو لا يعلم من أكون "

رقّت ملامح جوزاء والابتسامة الودود تزين شفتيها بينما تركيزها
مع التي سحبت نفساً عميقاً لصدرها وزفرته بقوة وكأنه تشجع
نفسها على المضي فيما تابعته قائلة وإن بتشتت وتردد كبيرين

" لقد.. لقد شعرت بأشياء لم أعرفها حياتي لكن حين لم يحضر
الحفل وقال بأنه يريد فتاة أخرى ولا يريدني ومن قبل أن يلتقي
بي ويعرفني أدركت حقيقة ما أشعر به نحوه حين تبدلت
مشاعري له للألم والجراح بدلاً من الكره "

قاطعتها عبرة مكتومة كادت تنفجر معها باكية وتابعت والدموع
تملأ عينيها مجدداً

" لقد أخبرني بأنه يرضيك بي وسيرضي قلبه بها فيما بعد
ويتزوجها أيضاً "

ارتفع حاجبا جوزاء وهي تسمع ذلك بينما رفعت كنانة رأسها
ونظرت لعينيها هذه المرة وأشارت بيدها لنفسها وقالت بأسى
والدموع لازالت تحرق جفنيها

" كيف يمكنني استحمال كل هذا ؟ أن يعيش معي وقلبه مع
أخرى ثم يتزوجها لأصبح أنا مجرد زواج صوري في حياته
وأراهما معاً أمامي وأحترق في صمت "

كانت جوزاء تمسك نفسها بالقوة عن شتمه وسبه أمامها وقول
الحقيقة لها لترحمها ممّا هي فيه الآن وتعاقب ذاك المتلاعب
الكاذب وتُفشل مخططه لكنّها تعلم جيداً بأن هذا لن يعالج الوضع
فهي تعرف شخصية ابنها ذاك جيداً فلو كان أبان مكانه لفعلتها
دون تردد لأنه متلاعب مشاكس ومرح سيأخذ الأمر بفكاهة
وانتهى لكن غيهم مختلف عنه تماماً وما كان ليفعل هذا لو لم
يشعر فعليّا بالإهانة منها وإن لم تقصد ذلك وكانت مفارقات
قصتهما السبب .

مدت يدها نحو يديها وشدت عليهما بقوة وقالت بابتسامة حنون
تنظر لعينيها

" أنتِ امرأة رائعة يا كنانة فبالرغم من كل ما حدث وأخبرك به
ومشاعرك نحوه تطلبين مني تزويجه بها والابتعاد عنه وهو لك
ملكك كما أراد قلبك ! "

تكسر صوتها حينها وهمست بصعوبة وكأنها تجبر نفسها على
قول ذلك

" لأني لا أؤمن بأنه يمكن لامرأة أخذ مكان واحدة غيرها في قلب
رجل ومهما فعلت خاصة إن كانت ما تزال على قيد الحياة وثمة
أمل لديه في الوصول لها "

وتخللت عبرة مكتومة كلماتها وهي تتابع بعينين دامعة

" وكذلك لا أريد له التعاسة فهو لم يختر كل هذا بل قدرنا
التعيس "

ملأ الحزن عينا جوزاء حتى كادت تشعر بالأمر واقع أمامها
وامتدت يدها لذراعها ومسحت عليها قائلة

" كم أنا فخورة بك يا كنانة فالمرأة العظيمة فقط من تفعلها
وتضحي بسعادتها من أجل من تحب ولا تحارب في معركة
ليست لها "

كانت كلماتها تلك أقسى على الجالسة أمامها من أن تثني بها على
نفسها فهي تؤكد لها بأن نيل قلب رجل ينبض لأخرى أمر
مستحيل لذلك لم تجد ما تعلق به بينما لم تنتظر جوزاء ذلك وهي
تبعد يديها عنها قائلة

" أنا وعدتك أن يحدث ما تريدين لكن لي طلب واحد فقط
قبل ذلك "

اكتفت كنانة بالصمت أيضاً بينما اقترب حاجباها باستغراب تنتظر
التي قالت بعد صمت لحظة

" أريد منك أن تؤجلي قرارك هذا لثلاثة أشهر فقط "

من اتساع عيني كنانة حينها وتبدل ملامحها فهمت جوزاء
رفضها للأمر لذلك سبقتها قائلة برجاء

" أقسمت عليك بالله أن لا تمانعي "

وهنا حاصرتها في زاوية ضيقة فهي لم تعرف منها الأيام
الماضية سوى المحبة وعاملتها وكأنها ابنتها بل وأكثر من ذلك
ووصل بها أن تقسم مترجية إياها ! غطى الحزن ملامحها وقالت
مستسلمة وإن كانت غير مقتنعة

" من أجلك فقط لأنه يعز عليّا رفض ما تريدين وأنتِ من عاملتني
كابنة لك أمّا بقائي هنا أكثر من هذا فلن يزيد الأمر إلا صعوبة
وسوء بالنسبة لي "

وكان ذاك ما جعل ملامح جوزاء تسترخي فهي خشت أن ترفض
ولن تستطيع إجبارها حينها أو ستخبرها الحقيقة وهذا ما لا تريد
فعله الآن وها هي والحمد لله لم تجبرها على فعلها ، أمسكت يدها
بين يديها وقالت مبتسمة بحنان ومحبة

" ونظرتي لك لم تخب أبداً ولن يجد ذاك الغبي امرأة تساويك أبداً
ليجد أفضل منك "

وأرادت أن تقول وهو يعلم ذلك جيداً لكن لكل شيء أوانه ، بينما
أرخت كنانة نظراتها للأسفل تخفي المرارة والحزن في عينيها
بسبب كلماتها تلك وهو ما جعل جوزاء تكمل ما بدأته قائلة

" وثمة أمر ما آخر "

رفعت نظرها لها حينها وفي صمت فتابعت من فورها

" ستعيشين معه خلال تلك الأشهر في منزلكما "

وما أن كانت ستتحدث وبما تعلمه جيداً وأظهرته ملامحها وهو
الرفض القاطع قاطعتها قائلة بجدية ويداها تشد على يديها
بينهما أكثر

" أعلم ما تودين قوله وما تشعرين به ولك أن تضعي الحد الذي
تريدينه بينكما هذه الفترة وإن نام كل واحد منكما في غرفة
لترجعي لعائلتك عذراء كما جئتِ "

أشاحت كنانة حينها بوجهها جانباً ولم تعلق ولم تستطع جوزاء
تفسير ذلك سوى بأنه رفض تكره البوح به وهو المرجح
لذلك قالت

" أنا سأفعلها وأترجاك إن كنتِ سترفضين "

وهو ما جعلها تنظر لها بحركة سريعة وقالت مندفعة باستنكار

" حاشا لله عمتي ينقطع عنقي قبل أن تفعليها "

وتابعت من فورها والأسى يرتسم على ملامحها الجميلة

" لكن أنا .. "

وانقطعت كلماتها وكأنها فقدت القدرة على النطق فجأة وملأت
الدموع عينيها مجدداً وقالت بأسى حزين تترجاها أيضاً

" سيكون الابتعاد أقسى حينها وكذلك نسيانه ، ارحمي قلبي
أرجوك فلن تُجدي محاولة اقترابي منه لتغيير مسار مشاعره
منها نحوي "

وانسابت أول دمعة متغلبة على صمودها ما أن قالت آخر كلماتها
تلك وهو ما جعل الجالسة أمامها تقول وبجدية واثقة

" أعلم لكن لي غرض ما من هذا بعيد جداً وأعدك يا كنانة لن
تخرجي من هذه المعركة إلا المنتصرة على كل شيء وأولهم
نفسك وهو وامرأته تلك أيضاً "

لم يبدو الاقتناع على الملامح الحزينة التعيسة ولن تلومها على
هذا لأنها لا تعلم عمّا تعلم به هي لذلك حاولت مجدداً وبلا يأس

" ثقي بي يا ابنتي وحينها ستعلمين معنى وصدق ما قلت الآن "

أومأت برأسها موافقة حينها وإن لم يغادر الحزن ملامحها ولم
تتحدث فتنهدت بارتياح فهي على الأقل لم ترفض وهو الأهم في
الموضوع ، ربتت يدها على ظهر كفها النائم في كفها الآخر
وقالت تنظر لعينيها

" وستخبريني كل ليلة بما حدث وما قال وستفعلي كل ما سأطلبه
منك وانسلخي عن شخصيتك الاستقلالية هذه الفترة فقط "

كانت ترى وبوضوح عدم الاقتناع في عينيها بل والحيرة
والاستغراب ولن تستغرب هذا منها والصراع الذي يحدث داخلها
الآن لكنّها ستفعل ما طلبت منها وهو المهم بالنسبة لها ، وكم
تحمد الله أنها علمت عن الأمر قبل أن يكتشفوا اختفائها فجأة
وستكون طائرتها تحلق في السماء حينها .

وقفت مغادرة السرير ما أن رسمت خطوط مخططها القادم كما

تريد ولامست يدها كتف الجالسة مكانها تنظر لها فوقها وقالت
مبتسمة بحب

" سأتركك تنامي الآن ولا تفكري في أي شيء وأوله السفر من
هنا ولا تنسي وعدك لي "

جاهدت كنانة نفسها لرسم ابتسامة وإن كانت متشنجة مزيفة وقد
همست شفتاها

"حسناً "

بادلتها جوزاء ابتسامة أخرى لكنها أكثر صدقاً وعمقاً وانحنت
نحو طرف رأسها وقبلته وقالت وهي تستوي واقفة

" هيّا تصبحي على خير فأمامنا يوم طويل غداً للبحث عن فستان
زفاف أسطوري لم تلبسه واحدة غيرك من قبل وإن اضطررنا
لجلبه من الخارج "

وأنهت كلماتها تلك بحماس باسم بينما لم تستطع الجالسة تحتها
مشاركتها فيه ، ولأنها تفهم هذا وتعذرها تركتها وتوجهت نحو
باب الغرفة وغادرتها مغلقة الباب خلفها بهدوء بينما وقفت مولية
ظهرها له تفكر في كل ما سمعته منها وملامحها تتقلب بين
الحنق والغضب وارتفعت يدها لذقنها ومسحت عليه وتمتمت
متوعدة

" لك ما تريد يا ابن جوزاء انتقم لكبريائك منها هذه الفترة ثم
عليك تلقي عقابك الذي تستحقه "

وتحركت من هناك متابعة توعدها وتمتماتها الحانقة

" لن أكون ابنة شاهين الحالك إن لم أجعلك تترجاها لترضى عنك
وتنتهي نهاية أبان "
*
*
*
أغلقت مصحفها وشفتاها تتمتم بآخر كلمات قرأتها بسبب
الطرقات المنخفضة على باب غرفتها ووضعته جانباً وانفتح الباب
كاشفاً عن جسد والدتها التي دخلت واقتربت منها في صمت
وخمنت من طريقة وقوفها وترددها بأنها ستتحدث عن موضوع
وثاب مجدداً فشعرت بالصداع يرتفع في رأسها لمجرد التفكير في
الأمر وأن تستمع لسيل إلحاحها الآن ، فهو منذ غادر تلك الليلة
لم يرجع وغضب والدها لم يغادره أيضاً كما يبدو ليتصل به
ويطلب منه العودة كما اعتاد بل واعتادوا جميعاً وإن كان سبب
خروجه في كل مرة غضبه هو من أمر ما وليس العكس كما الآن
، وفي أبعد توقعاتها ما كانت لتتخيل أن يفعلها ويطرده ومن أجل
من ؟ واحدة من بناته وهو الذكر الوحيد له بينهن ! ويبدو بأنه
تواصل مع والدتها لما كانت لتصمت كل هذه الأيام .

وقفت وتوجهت نحو سريرها تبعد خصلات غرتها الناعمة خلف
أذنيها تسمع خطوات التي تبعتها وقد غادرت صمتها أخيراً قائلة

" هل تحدثت مع زوجك ؟ "

اغمضت عينيها وتنهدت بضيق فها هي ستمارس هوايتها
المحببة وهي الإلحاح ولن تعجز في إيجاد خيارات أخرى غير
ابنها ذاك بالتأكيد والدليل ها هو أمامها ، جلست على طرف
سريرها قائلة

" لا أمي فهاتفه مغلق "

وقفت قربها وقالت تمسك ظهر يديها بكف الآخر في وسطها

" إذاً عليك زيارته في المستشفى والاطمئنان عليه ، لا نريد أن
نصبح قطعة لحم إبل عجوز في أفواه الناس "

لو كانت الجالسة تحتها في مزاج غير الذي هي فيه الآن لضحكت
فعلياً على التشبيه الذي اختارته لكن لا مزاجها ولا تلك العبارة
التي تذكرها بماضيها وخوفهم الدائم من أحاديث الناس ساعداها
على ذلك ولم يزدد وضعها إلاّ سوءاً ونظرت لها فوقها
وقالت بضيق

" كيف سأذهب له وقائد مسافر ووسام بعيد عن هنا وملتزم
بدراسة أبنائه ولا يمكنه التغيب عنهم ؟ ثم ما الذي سأفعله هناك
فهو محاط بحراسة مشددة بالتأكيد "

ولم يؤثر ذلك أيضاً بالتي ضربت على ظهر كفها قائلة ببرود

" وسام لن يمانع إن أخبرته وسيترك السيارة لزوجته
لتتكفل بالأمر "

حدقت فيها جليلة باستغراب قبل أن تحرك يدها جانباً قائلة بضيق

" يترك السيارة لها ونسافر نحن لحوران على أقدامنا ! "

أمالت رأسها جانباً مبعدة نظرها عنها وتمتمت حانقة من نفسها

" آه فعلا ... استغفر الله "

وما أن نظرت ناحيتها سبقتها تنهي أي مجال لمناقشة الأمر أكثر

" عمته قالت بأنه لم يتواصل معهم أحد منذ ليلة الحادث ولم
يصلهم خبر موته فهو بخير والحمد لله "

وما أن كانت ستتحدث وبما تعلمه جيداً قاطعتها برجاء حانق

" أمي بالله عليك لا يمكنني الذهاب له هناك وسط رجال مطر
شاهين وهم رفاقه ومؤكد لن يتركوه وحيداً "

وتابعت من فورها وقد تبدلت نبرتها للبرود ملوحة بيدها

" ولا تخشي من أحاديث الناس فلا أحد هنا يعلم ذهبت أم أتيت ،
وإن كنت هنا أو هناك "

كان رد فعلها أن أبعدت نظرها عنها مشيحه بوجهها جانباً
ومتنهدة بضيق وتمتمت ببرود

" لا أعرف واحدة ترفس النعيم بقدميها مثلك "

" صبراً جميل وبالله المستعان "

همست جليلة بتلك الكلمات وهي تبتعد بوجهها جانباً أيضاً ،
وأغمضت عينيها بقوة ما أن قالت التي عادت ونظرت لها
وبضيق تشير لها بيدها

" أنا من يقول هذا يا جليلة وليس أنتِ "

تنهدت بنفاذ صبر تستغفر الله في قلبها وانحنت نحو الأسفل قليلا
تمسك يديها بطرفي الفراش عند جانبيها تنظر للأرض تحتها
تحاول فقط تهدئة نفسها فهي لا تريد أن تخطئ مع والدتها وتنفث
نيران ما تشعر به فيها فهي ورغم سلبيتها إلا أنها والدتها
وتحبها وواجب عليها احترامها ، لكنها تعبت من ترديد ذات
الكلمات وبأنها ابنتهم وعليهم أن يشعروا بها ، أغمضت عينيها
بحزن ما أن قالت الواقفة فوقها برجاء

" جليلة برضايا عليك يا ابنتي لا تجعلينا ملهى لأحاديث الناس
وتشمتيهم بنا وبك فليست هذه المرة الأولى التي تتطلقين فيها
وليس من أي رجلان "

شعرت بكلماتها تجرح كرامتها مجدداً بينما أفرغت كل ذلك
باعتصار اسفنج الفراش بين أصابعها حتى كانت تكاد تخترقه
من فوق غلافه القماشي لازالت على وضع جلوسها السابق تنظر
للأرض وقد لمعت دموع القهر في عينيها بوضوح وما أن قالت
الواقفة قربها ودون يأس ولا مراعاة لمشاعرها

" الناس يا جليلة إن ... "

قاطعتها حينها وهي ترفع رأسها لها بحركة غاضبة وقالت

" أمي سألتك بالله حين تطلقتِ من زوجك السابق هل قالت الناس
بأنه المخطئ وبأنك مظلومة وبأنك تركتِ فلذة كبدك لأن بقائك
معهم كان جحيماً أكبر من تركهم والمغادرة ؟ "

كانت تحاربها في أرضها وهي تذكرها بتجربتها الواقعية التي
شهدتها بنفسها لكن ذلك لم يجدي كما يبدو وهي تهاجمها
قائلة بضيق

" لا يمكنك المقارنة بين والد شقيقاك وعمير ولا العائلة التي
عشت معها بمن تعيشين معهم "

استوت في جلوسها حينها وقالت بحرقة تشير لنفسها

" ومن قال هذا ؟ هل عشتِ معي هناك لتحكمي ؟ "

قالت بضيق تعدد لها وهي تلوح سبابتها نحوها

" أجيبي إذاً هل ضربك ..؟ هل آذاك ..؟ هل أهانك بكلمة
واستنقص من قدرك أو قدر عائلتك ؟ أو هل ترك مصيرك لأهله
يتحكموا بك كنعجة لديهم وخادمة لهم لتقارني ؟ "

فردت ذرعيها قائلة باستنكار

" أمي أنا لم أقل بأنه عاب بي أو بكم أنا أتحدث عن الأسباب
التي لا يعترف الناس بوجودها فهم يحكمون بالظاهر فقط "


وحين علمت بأنها لازالت بكامل قوتها الهجومية عكسها تماماً
وثمة سيل أقوى من هجومها قادم نحوها قالت تنظر لها برجاء
وكلمات متأسية لعلها ترحمها

" أمي حلفتك بالله الرجل هاتفه مقفل وعمته لا أخبار لديها ولا
يمكنني التواصل مع أحد ولا الذهاب لحوران وحادثه لم يكن
سهلاً فلن يغادر المستشفى خلال أيام بالتأكيد فإن كان وجودي هنا
يضايقك أُخبر وسام يأتي ليأخذني لديه "


وقالت آخر كلماتها تلك بأسى حزين لأنها باتت تشعر بالفعل بأنها
عبء ثقيل عليهم ووجودها هنا يشكل ذعراً حقيقياً لوالدتها التي
تفكر في الناس وأقاويلهم أكثر من تفكيريها فيها هي وكأنها
شوكة في حلقومها لن ترتاح إن لم تنتزعها !
قالت التي استفاقت من صدمتها مهاجمة لها

" ومن قال بأني متضايقة من وجودك ! لا تتهربي من أخطائك
بمهاجمتي يا جليلة "


" أخطاء !! "

همست جليلة بتلك الكلمة فقط تنظر لها بدهشة فعادت لمهاجمتها
تشير لوجهها بسبابتها

" أجل مخطئة ومكانك هو منزلك وإن كان زوجك ليس موجوداً
فيه فلن تغفل الناس طويلاً عن وجودك هنا ولن أتحجج في كل
مرة لمن يريد زيارتنا من عماتك وبناتهم أو بنات أعماك "


أطبقت شفتيها بقوة تمنع نفسها فعلياً من التحدث هذه المرة فقط
لأنها والدتها وإن كانت أنفاسها الغاضبة المكبوتة أكبر دليل على
ما تكتمه ، ولا تفهم كم مرة ستوجه سكينها نحوها وتغرسه في
قلبها ودون رحمة ؟!


صوت رنين هاتفها الذي ارتفع مالئاً الأجواء المشحونة رغم
صمتهما كان طوق نجاتها الفعلي وكم شعرت بأنه جاء في الوقت
المناسب وإن كانت تجهل هوية المتصل وما سيحمل لها أيضاً
لكنها متعبة نفسياً أكثر منه جسدياً وبحاجة ماسة فعلاً للهرب من
إلحاح والدتها في ذات الموضوع الذي لا حل لديها له وتعجز عن
إفهامها هذا فهل ستركب الحافلة وتذهب لحوران مسافة سفر
لوحدها لترضيها وترضي أفواه الناس !

وقفت من فورها وتوجهت نحوه ورفعته تنظر للرقم الغير مسجل
لديها والذي عاود الاتصال مجدداً ما أن انتهى اتصاله الأول ،
ولا تنكر بأنها شعرت بالريبة وخافت من فعلها وفتح الخط وهي
تتذكر تلك الرسائل التي وصلتها سابقاً لكنها خمنت أيضاً بأن
يكون شخصاً تعرفه بالفعل أو شقيها قائد قد اتخذ وسيلة أخرى
غير رقمه الموجود لديها ليتواصل معها وهو ما شجعها على
فعلها وفتحت الخط ووضعته على أذنها قائلة بتردد

" مرحباً من معي "
تحررت أنفاسها العالقة وأراحها صوت المرأة التي قالت سريعاً

" السيدة جليلة عُرابي معي ؟ "

تعالت ضربات قلبها وشعرت بالخدر في أطرافها جميعها عدا
حدقتاها التي توجهت نحو والدتها المتوجهة نوحها حينها ويبدو
قرأت جيداً ما يحدث من التغير المريع في ملامحها فهي نادتها
بلقبه وليس لقبها أي ستكون من طرفه وتعرفها من خلاله ،
خرجت كلماتها بصعوبة وصوت منخفض

" أجل أنا هي "

وصلها الصوت الانثوي الواثق سريعاً

" معك الدكتورة سعاد أشرف من مستشفى حوران المركزي "

أمسكت يدها بساعد والدتها التي كانت تضم يديها عند وسطها في
حركتها المعتادة وإن كانت تنظر لها بفضول خالطه الكثير من
الاستغراب وكأنها تحتمي بها من السقوط وكم شعرت بالخوف
ممّا قد تحمله هذه المكالمة فلم يتصل بها أحد من المستشفى من
قبل ليفعلوها الآن ! ولما اختاروها هي وليس رقم منزله هناك
كالمرة السابقة ؟! ولم تستطع ولا الترحيب بها بسبب تيبس
لسانها فكم هو مريع شعور انتظار الفاجعة ! إنه أكبر من عيشها
نفسها ! ورحمتها من في الطرف الآخر أخيراً وقالت دون انتظار
أكثر

" أردت إعلامك بأن السيد عمير استفاق قبل لحظات "

شعرت بالحياة تذب في عروقها مجدداً وتركت يدها ساعد والدتها
حينها ورفعتها لصدرها ولم تستطع تدارك مشاعرها تلك اللحظة
ولا منع الدموع التي ملأت عينيها وهي تحاول سحب أنفاسها
العالقة بين حنجرتها المتشنجة ورئتيها المتوقفتان عن العمل
بينما همست شفتاها بما يشتبه ابتسامة سعادة

" حمداً لله .. الحمد لله "

كانت عيناها الدامعة تنظر لوالدتها التي كانت تشير لها بيدها تريد
معرفة ما يحدث ولم تستطع إجابتها بينما تابعت من في الطرف
الآخر قائلة

" لقد طلب مهاتفة زوجته وعمته لطمأنتكم عليه وقد كلفني أحد
مرافقيه بهذا "

لا يمكنها نكران ما شعرت به حينها ولا استغرابها لأن يختارها
أيضاً بالرغم ممّا حدث قبل الحادث ومجيئها إلى هنا ومعرفته
لمشاعرها نحوه ! لكنها تجاوزت كل ذلك لما هو أهم منه وقالت

" وكيف هو وضعه ؟ "

صمت من في الطرف الآخر جعلها تشعر بالريبة وتأكد لها ذلك ما
أن قالت ببعض التردد المناقض لحديثها السلس الواثق سابقاً

" حقيقة الأمر ليس جيداً وليس سيء "

تعالت ضربات قلبها وقالت باستغراب

" وكيف يكون هذا ! "
قالت تلك مباشرة

" الإصابات والكسور في جسده كثيرة لكن لم يحدث أي نزيف
داخلي والحمد لله ولم يدخل في غيبوبة بما أنه أفاق وتحدث
وإن قليلاً "

وتابعت من فورها وكأنها تتوقع المعتاد وهو السؤال عن إمكانية
زيارته وطلب رؤيته

" هو نائم الآن ورئيس الأطباء أوصى بمواصلة حقنه بالمسكنات
، أي سيكون نائماً اغلب الوقت لأنه كان يتألم كثيراً حين فتح
عينيه "

اشتدت أصابعها على الهاتف فيها ونظرت ناحية والدتها مجدداً
وسألت عمّا سيخلصها من إلحاحها المستقبلي بالتأكيد

" هل ستطول فترة مكوثه في المستشفى ؟ "

وصلها صوتها سريعاً

" لا يمكننا تحديد هذا بسبب وضعه فما يحدده هو فترة العلاج
التي يحتاجها هنا ومدى استجابة جسده لذلك "

تنهدت بعمق متمتمه

" حسناً شكراً لك "

وقالت سريعاً قبل أن تنهي تلك الطبيبة المكالمة

" هل يمكنني الاتصال بك للاطمئنان عليه مستقبلاً "

كان صوتها باسماً حين قالت مباشرة

" بالتأكيد سيدتي ومتى أردت ذلك "

شكرتها مجدداً وأنهت الاتصال معها ونظرت لوالدتها التي
قالت بترقب

" ماذا قالت وما هي حالته ؟ "

وراقبتها بفضول وقد انشغل نظرها مع حركة سبابتها وهي تخزن
رقم تلك الطبيبة قائلة

" قالت بأنه يحتاج لوقت للتعافي التام لكنه تجاوز مرحلة الخطر
وفتح عينيه اليوم وتحدث "

جمعت الواقفة أمامها يديها عند شفتيها هامسة بسعادة وارتياح

" حمداً لله "

وراقبتها وهي تضع هاتفها على الطاولة خلفها وما أن استدارت
نحوها ونظرت لها قالت جليلة باستياء

" لا تنظري لي هكذا أمي ، الطبيبة قالت أمامك بأنه لن يغادر
المستشفى الآن "

ضربت كفها بالأخر في وسطها وقالت متملقة

" أنا لم أسمعها أنتِ من سمعها "

اتسعت عيناها بصدمة فهل تشك في صدق ما تقول ! لكنها لم
تترك لها مجالاً لا للتحدث ولا الدفاع عن نفسها وقد قالت
بحدة وحزم

" أنا لن أتحدث معك في الأمر مجدداً لكن أريدك أن تعلمي بأن
المرأة التي لا تقف مع زوجها في محنته لا تستحق أن تكمل
حياتها معه "

وتابعت بضيق وهي تتركها متوجهة نحو باب الغرفة

" قلت ما لدي وإن كنت لا أراك تهتمين أساساً بالحياة معه ولن
تغادري من هنا مجدداً "

وضربت الباب تغلقه خلفها وتركت التي انهارت على الكرسي
قربها وقد ضمت رأسها بين يديها تنظر للأرض وقد تسابقت
خصلات غرتها الناعمة للتسلل من بين أصابعها وأغمضت
عيناها بقوة ورأسها يكاد ينفجر بسبب الشجار الذي يحدث داخله
وكل ما حدث ، كلمات والدتها كلام الطبيبة وحتى ما حدث قبل
مجيئها إلى هنا .

رفعت رأسها مستغفره الله بهمس خافت ونظرت نحو هاتفها الذي
عاود الرنين مجدداً وعادت لدس خصلات غرتها خلف أذنيها
ومدت يدها نحوه وأجابت سريعاً قائلة

" مرحباً رحاب ماذا حدث معك ؟ "

وكانت هذه إحدى صديقاتها في العمران ومن أعلمتها وحدها
بوجودها هنا بل وغادرت اليوم باكراً خلسة من هنا من أجلها قبل
تحرك الناس في المدينة ودون أن يشعر والداها أيضاً لتقوم
بسحب عينة من دمها لتعرف سبب الحالة التي مرت بها فقد
تكون مصابة بأحد أمراض الدم ، ولأنها لم تشفى تماما من آثار
ضرب وثاب لها خرجت قبل وقت بداية الأعمال ودوام المدارس
هنا ولن تخبر والدتها بالتأكيد كي لا تمنعها أو تخبر والدها
لتذكرها مجدداً بأنها السبب الوحيد لتحدث الناس عنهم دائماً .

ولن تنسى النظرة المصدومة في عيني صديقتها تلك ما أن رأت
وجهها وقد قالت مباشرة ودون تفكير

( هل يضربك رجل مطر شاهين ذاك )

وحين نفت لها ذلك لم يخنها ذكاؤها بالطبع وهي تتوقع الشخص
الصحيح وهو وثاب وكانت غاضبة منها قبله هو وتستغرب أن
تصمت عمّا حدث لها وهي التي عملت ضمن مكاتب إدارة جمعية
حاربت بالدرجة الأولى المتسببين في قضاياً العنف الأسري لكن
المرأة تبقى دائماً سجينة لأفكار عائلتها ومجتمعها مهما حاربت
ذلك ، وحاولت تهدئتها وهي تخبرها بأن والدها وقائد اقتصوا
لها منه .

تنهدت بعمق تهرب من التفكير في كل ذلك وهي تسمع كلمات
التي قالت بعد أن لاذت للصمت لبرهة تقلب أوراق ما قد وصل
صوتها بوضوح لها

" نتيجة عينة الدم ظهرت من وقت مغادرتك لكن نقلها للطبيبة
لتراها هو ما احتاج لبعض الوقت "


شعرت بضربات قلبها وكأنها مطرقة صغيرة تضرب طبلة أذنيها
بحركة متكررة وهمست بترقب

" وماذا قالت ؟ "

أتاها الجواب سريعاً من محدثتها تلك

" قالت بأنه أنتِ من عليها التحدث معها وليس أنا لأنها سألت
عن أمور وحدك من يعرف إجابتها "

عادت ضربات قلبها للتسارع بجنون وقالت بريبة واستغراب

" ما معنى هذا ! ما الذي أظهرته نتائج التحليل ! "

وانتظرت بفضول مريب التي رحمتها أخيراً قائلة

" ما أن رأت الورقة سألتني إن كنتِ تتناولين نوعاً من الأدوية
المسكنة أو مضادات الاكتئاب والصداع النصفي وبجرعات زائدة
حتى أنها خمنت بأنك حاولتِ الانتحار "

اتسعت عيناها بقوة قائلة بجزع

" ماذا ...! أعوذ بالله "

وتابعت من فورها مستنكرة ذلك

" ثم أنا لا آخذ هذا النوع من الأدوية ولا المسكنات ولا وقت
الزكام وإن كان شديداً فكيف سآخذ كمية كبيرة منه ! "


قالت تلك سريعاً

" هذا ما أظهرته نتائج التحاليل بل وقد قامت بشرح الأعراض
التي ذكرتها لي وكأنها أنت من يتحدث ، وقالت بأنه عليها أن
تتوقف عن هذا أو ستتعرض أعضاء جسدها للأذى كالكبد
والكليتين وستصاب بمتلازمة السيروتونين "


همست مصدومة

" سيرتو ماذا ! "

كانت وكأن ذاك فقط ما سمعته من كل تلك الفواجع بينما قالت
محدثتها موضحة

" السيروتونين مادة كيميائية طبيعية يفرزها جسدنا يا جليلة
ومسئولة عن ضبط الانتباه والسلوك ودرجة حرارة الجسم لكن
زيادتها عن الحد الطبيعي يسبب تصلباً في العضلات ونوبات
صرع وحتى الوفاة إن لم يتم علاجها "

لامست يدها صدرها وهمست بعدم تصديق

" يا الله ما هذا وكيف حدث ! "

كانت تعيش صدمة لم تعرفها حياتها فهي لم تتعرض من قبل لأي
مرض غريب أو مزمن وكانت تتمتع بصحة جيدة ولم يسبق أن
حدث ذلك لأحد تعرفه ! بينما كان كامل انتباهها مع التي قالت

" ثمة جرعات دواء دخلت جسدك بكمية كبيرة يا جليلة وإن لم
يكن بسببك فبسبب شخص آخر "

تحرك رأسها بعدم تصديق متمتمه

" وكيف يكون هذا ! "

وغاب نظرها للفراغ تحاول استيعاب ذلك وإيجاد جواب له فهي لم
تفعلها ولم تتناول أي نوع من الأدوية الفترة الماضية ! وتذكرت
فجأة المكان الوحيد الذي تناولت منه الطعام ولمرات عديدة قبل
مرضها وهي عمته وابنتها ، لكنها عادت وحركت رأسها في
رفض تغمض عينيها بقوة تطرد منه تلك الأفكار فهي لا يمكنها
ولا مجرد الشك في نوايا تلك المرأة الطيبة ، لكن ابنتها تلك ؟
كانت الافكار تتزاحم في رأسها وبالكاد انتبهت لكلمات التي قالت

" الطبيبة قالت بأن هذا يحدث غالبا مع الأطفال لتناولهم الدواء دون علم ذويهم أو المرضى النفسيين أو كبار السن لكن من في
مثل وضعك وحالتك لا يكون إلا من أراد قتل نفسه بالتأكيد "

لم يلتقط دماغها فعلياً سوى آخر كلمات قالتها فهمست

" أعوذ بالله "

بينما تابعت تلك من فورها

" وقالت إن لم تشعري بالتحسن عليك زيارة الطبيب سريعاً
ودخول المستشفى "

حركت رأسها بالنفي متمتمه بضياع لم يغادرها بعد

" لا حمداً لله باتت الأعراض أقل من السابق "

بدا الارتياح واضحاً في صوتها و قالت مبتسمة

" اتمنى لك الشفاء التام صديقتي "

ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها أيضاً وإن لم تصل لعينيها
وقالت بامتنان

" شكراً لك يا رحاب لن أنسى ما فعلته من أجلي أبداً "

رن صوت ضحكة واضحة من محدثتها تلك وقالت

" ما أجمل أن أسمع هذا من زوجة أحد رجال الدولة "

وكان لها مفعول السحر على ملامح جليلة أيضاً وقالت بشبح
ابتسامة

" أعرفك جيداً لن تحتاجي له وإن طلبت أنا منك ذلك "

ضحكت مجدداً وقالت

" ومن يعلم ؟ "
ابتسمت جليلة بحب وقالت

" أعرف استقلاليتك جيداً وكم أتمنى من الله أن يعوضك عن كل
ما مررتِ به خيراً "


قالت التي اختلطت كلماتها بضحكتها

" لا تتمني لي الزواج مجدداً أرجوك يكفيني والدتي "

ضحكت رغماً عنها ولأول مرة منذ لم تعد تذكر متى فرحاب إحدى
ضحايا الطلاق التعسفي لكنها كانت مثالاً للمرأة القوية ورغم
صغر سنها وتعلقها العاطفي بذاك الرجل الذي رماها خلف ظهره
دون اكتراث أثبتت للجميع بأنها القادرة على علاج نفسها بنفسها
والوقوف وكأنها لم تتعرض لتلك الضربة القاسمة القاتلة
وساعدتها جمعية الغسق في إتمام دراستها الثانوية المتوقفة ثم
اختارت دراسة التحاليل الطبية وهي تعمل الآن وتغيّرت
شخصيتها تلك بشكل جذري وكأنها ليست هي نفسها ، ابتسمت
بحزن وحنان وهي تتذكر التي غادرت غاضبة من هنا وقالت

" هم الأمهات جميعهن هكذا ، ليحفظهن الله لنا "

وصلها صوتها الهامس بحنان

" آمين يا رب "

وتابعت من فورها

" عليّا العودة الآن للمختبر ، إن احتجتِ أي شيء أخبريني فوراً
يا جليلة "

قالت ممتنة

" شكراً لك يا رحاب وأعتذر على إرباكي يوم عملك "

قالت تلك سريعة بنبرة توبيخ

" لا تكرري هذا مجدداً أو غضبت منك "

ابتسمت بحب وقالت

" ليحفظك الله دائماً "

وأنهت الاتصال معها وشرد نظرها للفراغ وهي تتذكر كل ما
سمعته منها وشعرت بالاختناق وارتفعت يدها لصدرها تشعر
تحت ملمسها بازرار بيجامتها القطنية الناعمة وتعالت أنفاسها
وهي تتخيل أن استمر ذلك وحدث ما قالت عنه تلك الطبيبة ،
وعادت التساؤلات لمهاجمة رأسها ولم تستطع إبعاد الشبهة عنهم
فهي لم تأكل شيئا ولا من مطعم خارجي ! وقادها تفكيرها لكأس
العصير ذاك والذي قالت بأنهم من يعدونه بأنفسهم ولا تفهم لما
هو تحديداً ! هل لأنه القاسم المشترك في كل مرة جلبوا لها فيها
الطعام ؟! أجل فهو كذلك بل والشيء الوحيد الذي يمكن من خلاله
فعلها .

حركت رأسها بقوة تغمض عينيها وتعوذت من الشيطان هامسة
لكن سرعان ما عادت لذات النقطة فلا خيار آخر أمامها والطبيبة
لم تذكر سبباً آخر غير الأدوية والنسبة مؤكد كانت واضحة في
عينة دمها بالرغم من مرور أسبوع كامل وتحسن حالتها فكيف
كانت سابقاً !

لا يمكنها ولا مجرد التفكير في اتهام عمته ولا تصدق أن تفعلها
تلك المرأة الطيبة لكن ابنتها لن تستبعدها ولا يمكنها تبرئتها
مهما حاولت خاصة وهي لاحظت سلوكها الغريب نحوها مراراً
ونظراتها الكارهة المشمئزة تلك لكن لما ! ماذا فعلت لها لتكرهها
هكذا درجة أن تفكر في أذيتها هكذا واحتمال قتلها !

تخللت أصابعها بين خصلات شعرها وأمسكت برأسها فهي لم تعد
تفهم شيئاً ممّا يحدث ولا تنكر شعورها الغريب بالخوف !! .

أوقفت التفكير في كل ذلك وتحركت نحو باب الحمام المغلق
متمتمه بضيق

" وتريدين مني الذهاب هناك الآن يا أمي لأكون معهم وحيدة !
هل جننت لأفعلها "

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 10-05-24, 04:54 AM   المشاركة رقم: 1764
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*
انفتح الباب الضخم على مصراعيه أمام السيارات السوداء التي
اجتازته بالتتابع تحاكي فخامتها ولونها اللامع تحت أشعة الشمس
مكانة من دخلت هنا من أجله ومن كان في استقباله ما لا يقل عن
عشرة رجال واقفين في انتظاره على الرغم من كبر سن أغلبهم
وعلو مكانتهم في تلك القبائل لأنه بالنسبة لهم كان ولازال
وسيبقى القائد الأول والوحيد ومصدر فخرهم لانتمائه لهم من
بين قبائل البلاد بأكملها .

وما أن فتح باب سيارته ونزل منها حتى تحلقوا حوله بدلاً من
انتظاره قرب باب المجلس الزجاجي الكبير كما كان مخططاً
لاستقباله وبدأت الأيدي تصافحه تتركه الواحدة لتمسكه الأخرى
والبعض من كبار السن اختار حتى احتضانه وتقبيل كتفه وعلى
الرغم من كرهه لكل هذا لكنّه كان مراعيّا لهم وكأن كل واحد
منهم والد له وجب عليه احترامه .

ما أن انتهى حفل الاستقبال الطويل ذاك ابتسم صاحب المنزل وهو
أحد كبار قبائل الجنوب وقال فارداً ذراعه له ولعمه مبتسماً

" تشرف منزلي ومجلسي بزيارتكم وما أسعده من يوم هذا الذي
دخله فيه الزعيم ابن شاهين "

كان رد مطر الوحيد عليه أن ربت على كتفه مبتسماً بينما تحركت
خطواته نحو باب المجلس والجميع في إثره عدا عن حرسه
الذين انتشروا حول المكان بحركة سريعة.

وما أن تجاوزت خطواته الباب حتى استقرت نظراته الصقرية
على الموجودين في الجانب الأيسر بل وتحديداً شعيب غيلوان
وأشقائه والذي كانت نظراته القوية موجهة لعينيه تحديداً لازال
يتحداه بها وكأنه الند له وليس رئيساً لبلاده ! وهذا ما يحدث
للأسف حين يكون حكم القبيلة هو الأعلى والحاكم عادلاً .

وما أن هَمَّ الجالسون هناك بالوقوف بالتتابع حتى ارتفعت يد مطر
في إشارة واضحة وصامتة للجميع يمنعهم من الوقوف تبجيلاً له
وتقديراً لمكانته وهو ما جعل كل واحد من ذاك الجمع يلزم مكانه
حيث كراسي المجلس الفخمة المشابه للمكان حوله .

وما أن أصبح الجميع جالساً داخل المجلس الواسع ملقياً السلام
بصوت جهوري رخيم وتفاوتت الأصوات وهي تجيب تحيته تلك
أعينهم معلقة به تحاكي لهفة كل واحد منهم للتوجه نحوه
والسلام عليه والترحيب به بما يعبر عن مكانته في قلوبهم .

وما أن جلس وكالمعتاد في مثل هذه المواقف ولأنه رفض أن تقام
أي مأدبة طعام من أجله بالرغم من أن الطاولات الموجودة في
المنتصف قد امتلأت بما لذ وطاب كواجب ضيافة كان سيتحدث
أحد كبار القبائل محاولين إيجاد حلول مناسبة ترضي أصحاب الدم
والثأر توقف بسبب يد مطر التي ارتفعت له بكل احترام ما أن
خرجت منه أول كلمتين بينما انتقلت نظراته بينهم قائلاً بجدية
وحزم يشبه نظراته كما كلماته تلك

" أنا هنا فقط لأقول ما لديّ وبشهادة الموجودين جميعاً ولن يزيد
أحد على ما سأقول "


وهو ما جعل الأعين جميعها تحدق به منتظرين وبترقب وفضول
ما يبدو بأنه سيختصر جمعهم هذا وفي لحظات فقط !!
*
*
*
ما أن فتحت الباب حتى أدمعت عيناها دون شعور منها وهي ترى
أمامها صاحبة الفستان الأبيض التي وقفت على طولها تبتسم لها
بحب ، ومن شدة انبهارها بجمالها ومشاعرها تلك اللحظة لم
تستطع التحكم في نفسها أكثر وغطت وجهها بكفاها وبكت وقلبها
يحمل مشاعراً لم تعرفها حياتها وهي التي كانت تجزم بأن لحظة
ولادتها ورؤيتها بين يديها شعور لن يضاهيه شعور لتكتشف الآن
أنه ثمة لحظات أقوى منها بكثير .

أبعدت يديها تمسح الدموع عن عينيها مبتسمة ما أن قالت الواقفة
بعيداً عنها بعبوس طفولي وابتسامة شابها الكثير من الحزن

" أمي لا تتسببي في بكائي الآن لأتحول لمهرج "

توجهت نحوها قائلة بضحكة صغيرة تغلبت على حزن فراقها

" لن ترى أعينهم عروساً في جمالك وفي جميع الأحوال "

وتشاركتا حضناً قوياً كل واحدة منهما تغمض عينيها مبتسمة
بسعادة تريد أن تعيش جمال تلك اللحظة بجميع تفاصيلها فهي لم
تراها منذ غادرت لصالون التجميل صباحاً بينما انشغلت بترتيبات
صالة الاحتفال ، تعلم بأن ابنتها جميلة ومنذ طفولتها لكنّها لم
تتخيل أبداً أن تكون بكل هذا الجمال وهي ترتدي فستان الزفاف
وتتزين كعروس لأنها لم تكن تستخدم مساحيق التجميل سابقاً .

ابتعدت عنها وأمسكت وجهها بيديها وقالت بسعادة تنطق بها
عيناها قبل شفتيها

" ما أجملك وما أسعدني برؤيتك عروساً "


وتبدلت ملامحها للحزن ما أن أبعدت زهور يدها تقبلها وقالت

" رحم الله والدك ليته كان موجوداً ليراك الآن "

غطى الحزن على ملامحه وعيني زهور أيضاً وقالت حينها

" كم افتقدته اليوم على الرغم من أن والدي عبد الرحمن كان
كوالد لي ولم أشعر يوماً بخلو مكان الأب في حياتي "

همست شفتا والدتها بحزن

" رحمه الله وجعله من أهل جنته "

وكان ذاك ما زاد تعاسة المقابلة لها والتي قالت ولازالت تحاول
جاهدة أن لا تفارق الدموع عيناها السابحة فيها

" حتى أعمامي لا أحد منهم هنا وإن من أجله ومن أجلي في يوم
كهذا ! بل وعماتي أيضاً ولا واحدة منهم فكرت في تلبية دعوتنا "


تنهدت والدتها بحزن وقالت

" نحن فعلنا ما يوجبه علينا واجبنا نحوهم كعائلة لك وأفعالهم
هم محاسبون عليها أمام الله "

اقترب حاجباها الرقيقان حينها وهمست بأسى

" لا أفهم سبب كرههم ألا منطقي لنا ! "

قالت التي شغلت نفسها بترتيب فستان الزفاف الطويل تحتها
وبكلمات لا مبالية

" هم لم يحبوني يوماً ، بل وموت والدك الذي كان بقدر من أقدار
الله يشعرون بأنني السبب فيه "

تقوست شفتا زهور بحزن ويداها تشتدان بقوة على باقة الأزهار
البيضاء الممسكة بها وكأنها تفرغ انفعالها بها بينما قالت بترقب
تنظر لها وهي تستوي واقفة

" ووالدة أويس لم تأتي ؟ "

قالت والدتها وقد عادت للنظر لعينيها

" لا فهو سبق وقال بأن صحتها لا تعجبه مؤخراً ويخشى عليها
من التعب بسبب الطريق الطويل ذهاباً وإياباً "

تمتمت حينها شفتاها بحزن

" شفاها الله وعافاها "

وتابعت من فورها ونظراتها تشرد في الفراغ بحزن وشوق

" حتى مارية ليست هنا بجانبي ، كم تمنيت هذا "

تنهدت الواقفة أمامها بحزن وقالت ويدها تلامس ساعدها
المخصب بالحناء

" ليسعدها الله أينما كانت وعلينا شكره لأنها تخلصت من تلك
العائلة الكريهة التي كانت تعيش معها "

وتابعت من فورها تحاول رفع الفستان

" هيّا فوالدك في انتظارك لتدخلي فالقاعة ممتلئة جميعها
وصديقاتك متلهفات لرؤيتك "

لكنّها لم تتحرك من مكانها وقالت تنظر لها

" أويس لم يصل بعد ؟؟ "

نظرت حينها لها وقالت

" لا .. لقد اتصل به والدك قبل قليل وقال بأنه يحتاج لنصف
ساعة تقريباً ليصل حوران "

عبست ملامحها وقالت

" أخشى أن يعود أويس الذي عرفته سابقاً في الجامعة ويفعلها
بي ولا يأتي ويجعل مني سخرية للجميع "

قالت التي اتسعت عيناها مستنكرة

" اعوذ بالله .. هل ثمة رجل عاقل يفعلها ! "

وتابعت من فورها تنفي الفكرة

" لا لن يفعل هذا ، لا بك ولا بوالدك ولا بنا جميعاً وهو يعلم بأنه
ثمة حفل بل ومأدبة رجال كبيرة ينتظرونه "

*
*
*
غطت جسديهما باللحاف وانحنت نحو جبين كل واحد منهما تقبّله
بمحبة وحنان فما باتت تحمله في قلبها نحو هذان التوءمان فاق
توقعاتها بكثير ، ولا تتخيل أن يمضي يومها دون أن تراهما فيه
وتسمع أصواتهما وضحكاتهما وتهتم بأدق تفاصيلهما .

ابتعدت عنهما وابتسمت وهي تلعب لعبتها المفضلة حين يكونان
نائمان أو يوليانها ظهرهما ، خاصة أنهما يملكان ذات الثياب
ويرفضان ارتداء ملابس مخالفة لبعضهما فتحاول معرفة كل واحد
منهما وتختبر صدق توقعها .

مدت يدها نحو النائم قريباً منها وحاولت برفق إبعاد جفن عينه
للأعلى وضحكت بصمت وهي تبعد يدها ما أن تحرك متضايقاً وها
هي فشلت مجدداً ومن ضنت بأنه جاد ظهر أنه عَنان فسبحان من
صورهما نسختان هكذا ! .

وقفت بعدها وغادرت الغرفة ، وعلى الرغم من أن الوقت قارب
المساء لكن لم يرجع يمان بعد وهو ما بات يفعله مؤخراً ولا تفهم
لما ولم تسأله فبعد تلك الليلة ولقاء ذاك الفتى الزهري لم يتبادلان
الحديث مطلقاً ، ولأنه أصبح ثمة غرفة أخرى هنا ازداد وضعهما
سوءاً وابتعاداً فلا تراه سوى في الوقت الذي تضع فيه صينية
الطعام في غرفته ، وحتى الصغيران يقضيان أغلب وقتهما معها
وبصعوبة تقنعهما ليناما ليلاً مع شقيقهما كي لا يشعر بأنه وحيد
هنا ، بينما ما يجذبهما للنوم معها هو قصص ما قبل النوم فقط
كما ترى ، أو هو الحنين لوالدتهما وتعودهما على النوم في
حضنها وخاصة جاد أمّا عَنان فتراه أكثر استقلالية من شقيقه .

وصلت باب المطبخ وتوقفت هناك تنظر للباب الجديد المفتوح
بينهم والذي لم تجرؤ على الاقتراب منه طيلة أيام الأسبوع
الماضي بسبب وصايا بل أوامر أويس أولاً ويمان ثانياً وبأنه على
الوباء المسمى مايرين أن لا تقترب من والدته حتى بات النظر له
يشعرها بالألم في كل مرة ليذكرها أيضاً بحقيقتها في هذه الحياة
والتي لم تنساها أساساً ، لكن هذا ظلم وإجحاف في حقها فهي
ممنوع عنها حتى إعداد الطعام لها أو حتى غسل ثيابها فترة
غياب ابنها ذاك ، ومسموح فقط للصغيرين بهذا وهو فقط ما
تفعله بأن تذكرهما دائماً بالذهاب لها ورؤيتها خشية أن يرتفع
السكري لديها فجأة وتمرض ولا أحد يعلم عنها ، ولم يكن الأمر
يحتاج هذا غالباً فهما وبسبب الحلوى التي يحصلان عليها منها
دائماً يزورانها باستمرار وهو الأمر الذي يعجز راتب شقيقهما
الضئيل على توفيره لهما .

تحركت جيناتها قبل خطواتها في تمردها الأول على أوامرهم تلك
وهي تتوجه نحو الباب المفتوح فهي تبقى ابنة غيلوان ماذا تفعل
مع نفسها ؟ إنه شيء يبدو يسري في دمائهم لا تعرفه تهور أم
تمرد أو شجاعة تقود بصاحبها لهلاكه المحتم ؟! ولا يعنيها
تفسير هذا فهي لا تستطيع سوى إطاعة عقلها حين يقرر نيابة
عنها ومهما كانت النتائج وما تحصده من بعدها ففي آخر مرة
فعلتها وخرجت بحثاً عنه ها هي عُوقبت بسجنها وإغلاق الباب
عليها من الخارج وضاعت منها فرصة الخروج والتأكد من
حديث ذاك الزهري عمّا حدث لبئر أراضي غيلوان ذاك .

حين تخطت قدماها الباب الحديدي سارت خطواتها وهي تنظر
حولها وابتسمت وهي ترى مصدر تلك الرائحة التي كانت تصلها
من قبل أن يُفتح الباب بينهم وعلمت الآن بأنها مزيج من رائحة
أوراق الحبق والنعناع وشجرة العطر فيبدو بأنه اختار كل ما
يمكن لوالدته أن تستمتع بوجوده وإن كانت لا تراه .


حين وصلت باب المنزل الخلفي المفتوح على تلك الجُنينة ازداد
توترها وكاد ترددها أن يتغلب عليها وترجع أدراجها لكنّ
الخطوات التي سمعتها تقترب منها منعتها من فعلها وملأت
الدموع عينيها وهي تنظر للتي اقتربت تستدل بيدها طريقها على
جدار الممر الصغير الذي يلي الباب الخشبي وهي ترى الآن
ولأول مرة المرأة التي حرموها من الاقتراب منها ، وبالرغم من
أنها كانت قد قاربت الستون عاماً لكن الغرة الكثيفة الناعمة التي
كانت تحف حاجباها لازالت تحتفظ بسوادها تقريباً وقد زيّنت
عينان فاقاها سواداً وبالرغم من أنها فقدت نورهما إلا أنهما من
أجمل ما رأت ! فهي في المرة السابقة التي طرقت باب منزلها
بحثاً عن يمان حدثتها من الخارج دون أن تراها .

كتمت أنفاسها دون شعور منها حين قالت التي لازالت تقترب
بخطوات بطيئة حذرة

" جاد أم عَنان أنت ؟ "

ارتجفت شفتا مايرين تمنع نفسها بالقوة عن الانفجار باكية بينما
تابعت التي مدت يدها نحوها مبتسمة

" تعالى هيّا لما تقف هناك ؟ "

وهو ما جعلها تتسمر مكانها وعجزت خطواتها على إطاعتها حتى
وصلت عندها وتوقف قلبها ما أن رفعت يدها ومدتها للأمام
ولامست أطراف أصابعها وجهها لتتصلب يداها هناك قبل أن تعود
بها تمسكها بيدها الأخرى ، وتمنت مايرين حينها لو لم تدخل إلى
هنا ولم تفكر في فعلها لكن ما حدث بعدها خالف جميع توقعاتها
حين ابتسمت تلك الشفاه البارزة وقالت صاحبتها

" هذه أنتِ يا مايرين ؟ وأخيراً قررتِ زيارتي "

لم تستطع تدارك مشاعرها حينها وحضنتها دون شعور منها
وقالت باكية

" سامحيني يا خالة أرجوك ، سامحيني على كل ما أصابك بسبب
وجودي في هذه الحياة "

وازداد بكائها أكثر ما أن لامست يدها ظهرها قائلة بحزن

" لا تقولي هذا يا ابنتي فلا ذنب لك فيما حدث "

وتابعت والدموع تلمع في العينان السوداء الواسعة المحدقة
في الفراغ

" أنتِ واجهتِ من الظلم ما لم يراه أحد منّا جميعنا يا مايرين ، لا
أنا ولا أويس ولا حتى عمك عبد الجليل رحمة الله عليه عانينا ما
عانيته أنتِ "

ابتعدت عنها حينها وقالت باكية تنظر لعينيها وإن كانت لا تراها

" بلى فبسبب وجودي عانيتم ما عانيتموه ، أنا من كان وجودها
السبب وليس العكس "

وتابعت بحرقة بعد شهقة بكاء موجعة " ليتني لم أولد ولم أرى
النور يوماً "

امتدت يدها نحوها حينها حتى لامست وجهها وقالت بحزن

" أعوذ بالله يا ابنتي ، لا تُغضبي الله منك فهو ما أوجد شيئاً إلا
لحكمة ما ولا يخلق عبثاً "

وأنزلت يداها لكتفها وقالت تدفعها نحو الداخل وابتسامة صادقة
تزين شفتيها

" هيّا تعالي ادخلي ألقي نظرة على المنزل قبل أن تصل العروس
فثمة أمور لا يمكنني فعلها "

تبدلت ملامح مايرين للاستغراب حينها وقالت وهي تتحرك معها

" عروس من ! "

قالت التي كانت تنظر أمامها مبتسمة بسعادة

" عروس أويس فهو تزوج وسيحضرها من حوران اليوم "

أشرق وجه مايرين حينها وقالت بابتسامة متسعة تنظر لها

" أويس تزوج ! "

كانتا قد وصلتا بهو المنزل الواسع حينها وقالت والدته مبتسمة

" أجل وأخيراً منّ الله عليّا برؤية عروسه وأسأل الله أن أحمل
أبنائه قريباً "

" آمين يا رب "

كان ذاك فقط ما همست به شفتا مايرين الحزينة تشعر بالسعادة
من أجله على الرغم من كرهه الأسود القاتل لها لأنها تعذره بل
وحزينة على حالهم وعدم زواجه حتى الآن وكأنها لعنة واحدة
شملتهم من رفض الزواج طواعية ومن لم يفعل .

كانت تنظر للمكان حولها حين قالت الواقفة قريباً منها
وببعض الضيق

" هو رفض وضع أي قطعة أثاث هنا رغم محاولاتي لإقناعه لأنه
يريد أن أتنقل في المنزل بسهولة ولا أتأذى ، لكنها تبقى عروس
وستعيش فيه كمنزل لها "

وكان بالفعل كما قالت وتراه أمامها وبالرغم من أنه منزل طيني
قديم أو هكذا يخيل لها فقد تمت إعادة هيكلته جذرياً سقفه
وجدرانه وكأنه منزل جديد مبني حديثاً ! وحتى البساط الذي
يغطي أرضيته كاملة كان من أجود الأنواع ويبدو جديداً بينما لا
وجود لصالون هنا ولا طاولة تلفاز ولا أي قطع أثاث أخرى فعلاً ،
ورقّت ملامحها بحزن فكم يُحب هذا الشاب والدته فهو أطاع حتى
رغبتها بأن يعيشا هنا في هذا المنزل ومزرعة والده على الرغم
من أنه يمكنه العيش في أي مدينة من مدن البلاد الكبيرة وفي
منزل فخم جديد !
نظرت نحوها وقالت مبتسمة بحزن

" إن لم تستطع تقدير وضعك وظروفه فهي لا تستحقه "

وكانت وكأنها قرأت كل ذلك في داخلها وقد لامست يدها ذراعها
وقالت بحنان

" كم أسعدني أنك لا تحملين نحوه أي ضغينة "

امتلأت عينا مايرين بالدموع وقالت بحزن

" لم ولن يحدث هذا وأعلم بأنه رجل شهم والجميع هنا يحبه
لكنّه قدري وعليّا تقبله "

ورفعت يدها لعينيها تمسح الدموع عنها بينما قالت التي عادت
للمسح على ذراعها بحنان

" أسعدك الله يا بنيتي فكم سعدت حين علمت بخبر زواجك
فأويس يحب زوجك كثيراً ويمدحه دائماً وها هو الله عوضك
عن كل ما قاسيته أخيراً "

عادت دموعها لمحاولة كسر حاجز عينيها مجدداً وأرادت أن
تقول بأن نحسها ولعنتها لم تغادرها أبداً وأنها عادت لتعيش
التعاسة ذاتها وهي معه وفي وجوده لكنّها لم تستطع فعلها ليس
لرفضها قول ذلك فقط بل ولأن عيناها تسمرت مكانها كما باقي
أطرافها وهي تنظر للباب المقابل والذي يفصل بهو المنزل عن
بابه الرئيسي ما أن تحرك ببطء شديد مع استدارة الواقفة أمامها
نحوه وشعرت بالذعر فلن يدخل هذا المكان دون طرق سوى
شخص واحد من المفترض أنه في حوران الآن ! أم ترك عروسه
تنتظر وعاد وحيداً !! والأسوأ من كل ذلك ما سيجده هنا في
انتظاره .

*
*
*

توقفت سيارته على مبعدة منه فها قد جد ضالته أخيراً ومن جاب
الشوارع لساعات وساعات بحثاً عنه وقد شقت أنوارها جسور
المدينة منذ ساعات الفجر الأولى حتى أظلمت من جديد بل ولوقت
متأخر وهو يبحث ودون يأس .

لمع الحزن في عينيه واشتدت قبضتاه على المقود بقوة وهو
ينظر للواقف عند سياج الجسر يتكئ بمرفقيه عليه بينما كان
يصوب نظره نحو الأمام ونحو البعيد وكأنه موجود في بعد آخر
خاص به وحده ، واستطاع أن يدرك بقلبه قبل عقله أي أفكار
تتصارع داخله الآن وأي أحداث تلك التي لم تغادر مخيلته حتى
اللحظة ، فزيارته لشقته المحترقة كانت كفيلة بأن يعلم عن كل
هذا فأي إعصار هذا الذي اشتعل داخله جعله يحرق كل شيء !
لقد وجهوا له ضربة قاصمة لا ينكر هو نفسه أنها فاقت
توقعاته !! بل ورد فعله كان ما فاق كل ذلك ! وكيف له أن
يستغرب هذا فأي رجل شرقي غيور كان ليجن جنونه فكيف إن
كان الواقف هناك والذي لطالما كان عنفوانه وكبريائه وغيريته
مختلفة عن جميع الرجال .

تنهد بعمق وحزن مغمض عينيه وعادت تلك المكالمة لمهاجمة
تفكيره مجدداً رغم مرور ساعات طويلة عليها

" ما هذا القرار المجنون يا مطر ! "

كان ذاك ما صرخ به ما أن أجاب أخيراً من أمضى وقتاً طويلاً
يحاول التواصل معه ولا يجيب ولم يترك أي طريقة لفعل ذلك ولم
يتم تحويل المكالمة له إلا بعد عناء ، بينما لم يكن رد محدثه
حينها بأقل حدة حين قال

" إنه رد الفعل الطبيعي على جنون ابنك "

اشتدت قبضتاه على المقود واتكأ بجبينه عليه وذكرى تلك
المكالمة تهاجمه مجدداً وهو يعقب على ما قاله بضيق

" لا أصدق هذا ومنك أنت تحديداً يا مطر ! من كان في مرتبة
الابن بالنسبة له ! "

قال حينها مطر مؤكداً بحزم

" بلى وأحبه أكثر منك أنت والده ، لكنَّ سلامة البقية أهم بالنسبة
لي ولن تتغير تلك القرارات قبل أن يعود لصوابه "

أغمض عينيه بقوة كما اشتدت أصابعه على المقود أكثر حتى بات
يشعر بالألم فيها و لا يفهم ما سبب كل هذا ولم يتخيل أن يكون
رد فعله هكذا ! وإن كان يظن بأنها خانته فعلياً مع رجل فممن
ينتقم بكل ما يفعله ؟! وكان هذا سبب السؤال الذي وجهه له
حينها بتساؤل مريب

" هل تظنه علم بمخططنا ذاك ! "

وكان جواب مطر قاطعاً وحازماً حينها

" لا أعلم ولست أجزم بذلك لكان أخرجها من هناك وما تركها
لديهم وإن أحرق منزلهم ومن فيه "

وهو ما فكر فيه هو أيضاً فما الذي يريده بتمرده هذا إذاً ! هو
سبق وأقسم بأن يترك المهمة بأكملها إن تم إبعادها عنه وهذا ما
يفعله الآن تقريباً ، لكن لكان قطع علاقته بذاك الأميرال وابنته
أيضاً لأنه الجزء الذي كان يرفضه ويكرهه في تلك المهمة
بأكملها !

كم يشعر بالندم وبأنهم تسرعوا بفعل ذلك ويخشى من أن يتسبب
بأذية نفسه فهو لا يريد أن يخسره وإن كان يرفضه ولا يعترف
به والداً له ، لكن هو من لم يترك لهم خيارات أخرى فلما سيلقي
باللوم على نفسه أو على مطر ! بلى هو من صنع منه هذا وقام
بترويضه كنمر بري وحين انكسر القيد تمرد حتى على مدربه
فمن سيخضعه لسيطرته الآن ! لا أحد بالتأكيد ولن يسمع سوى
قرارات نفسه وعقله ورغماً عنهم جميعهم .

ارتفع رأسه عن المقود وإن كانت لازالت أصابعه تشتد حوله بقوة
وعادت نظراته المتأسية الحزينة لمراقبته وكلمات مطر الآمرة
المهددة تلك تعود لمهاجمته مجدداً

" شاهر ابتعد عنه ولا تفكر في فعلها ومحاولة التحدث معه حتى
نعلم ما يريد بكل هذا ومتى سينتهي جنونه ويعود لرشده "


صرخ فيه حينها بأسى

" لكنّه إبني ، كيف تريد مني أن أقف وأتفرج عليه وهو يقود
نفسه نحو الهلاك ! إن شعر رؤساء تلك المنظمة مجرد الشعور
بالريبة اتجاهه بسبب ما يفعل سيقومون بقتله بالسم الذي يحمله
في جسده ودون أدنى رحمة "

وصله صوت مطر حينها آمراً لم يتغير أي شيء فيه

" لذلك قلت ابتعد عنه لا نريده أن يتهور بأي شيء يا شاهر "

" وماذا عن زوجته ؟ "

همس بتلك الكلمة بحزن لم يستطع إخفاءه وهو ما كان له تأثير
على صوت محدثه أيضاً وإن قال بضيق

" تلك كارثة أخرى لا شيء بيدنا نفعله حيالها سوى تمني أن
تكون أعقل من أن تُهلك نفسها والجميع معها "

قال حينها وبحنق شديد

" ولما لا تخرجها من هناك ؟ لن تعجز عن فعلها "

قال مطر من فوره وبصوت حاد

" هذا جنون ، هل تتخيل تبعات ذلك ؟ "


لتعجزه كلماته تلك عن الرد فهو يفهم ويعلم جيداً ما ستكون
النتائج المترتبة عن تطبيق فكرته تلك وهو مواجهة غستوني
مديتشي الذي لن يقف صامتاً وسيبحث عنها بكل تأكيد ويكتشف
بذلك كل شيء ، كان صمته ذاك مدججاً بالألم وبالغضب من نفسه
لقلة حيلته وعجزه حتى عن حمايتها هي المرأة الضعيفة ومن
تكون جزء من عائلته ، بينما أضاف محدثه دون اهتمام لصمته
ذاك يذكرّه مجدداً وبنبرة تحذير واضحة

" كلامي واضح يا شاهر ليبتعد الجميع عنهما حتى تصلكم أوامر
أخرى مني "

لم يستطع أيضاً مناقشته ولا معارضته ولكن أيضاً لم يستطع منع
نفسه من أن يقول وبكلمات قوية حازمة

" ذنب إبني وزوجته في عنقك يا مطر إن أصابهما مكروه .. لا
تنسى هذا "

وأنهى الاتصال معه عند ذلك وهو يحمّله كامل مسؤولية ما
سيحدث لهما مستقبلاً بالرغم من يقينه بأنه يحمل إثم ذلك معه
أيضاً وهو من وافق عليه وكان مقتنع به تماماً أيضاً ، ويعلم
أيضاً بأن مطر كان مكرهاً على فعلها من أجل سلامتهما قبل
البقية لكنه أب وهذا الابن هو ما تبقى له في هذه الحياة وما
تركته زوجته تلك له وما يربطه بها وإن كانت غائبة عنهم ، ولا
يستطيع لوم أحد غيره على هذا لأنها طبيعة البشر كي لا يقتله
الندم وهو يوجه ذاك اللوم نحو نفسه .

مسح وجهه بكف يده مستغفراً الله بهمس كئيب وهو يحاول
إخراج نفسه من كل تلك الأفكار للواقع الأقسى منها وعيناه لا
تفارق الواقف مكانه هناك وشعر بالعجز وهو من أمضى طوال
تلك الساعات يبحث عنه متجاهلاً كل الألم والتعب بسبب جلوسه
الطويل وتحريكه للمقود يشعر الآن بأنه مقيد وعاجز عن فعل ما
كان عازماً عليه ! فلما بحث عنه ؟! هل ليطمئن عليه فقط كما
كان يقنع نفسه ؟ الأوامر كانت واضحة وعلى الجميع أن يبتعدوا
عنه لكنه لم يستطع فعلها ولا يريد لقلبه أن يتآكل أكثر من ذلك
ولا للندم أن يقتله حينما سيفقده وزوجته تلك معه .

فتح باب السيارة يحارب أي تردد قد يجعله يتراجع عن فعلها
وتوجهت خطواته نحوه حتى ظهرت له ملامح نصف وجهه
المقابل له بوضوح بسبب النور الخافت للأعمدة الممتدة على
طول الجسر وخصلات من شعره الناعم كانت تتراقص فوق
جبينه بينما نُحتت ملامحه وكأنها صورة تنبض بالحياة .
توقفت خطواته حينما لم يعد يفصله عنه سوى خطوتين فقط
تقريباً وإن كان على وضعه السابق لم يتغير لكنه يعلم بأنه شعر
بوجود أحدهم وإن لم يقده فضوله ولا لمعرفة من يكون .
سحب نفساً عميقاً لصدره وكأنه يشجع نفسه بذلك وقال
وهو يزفره

" تيم هل لنا أن نتحدث وإن كغريبين لا يعرف أحد منّا الآخر "

كانت كلماته ونبرته تلك تحمل في طياتها رجاءً كسيراً بينما كان
رد فعله التجاهل التام له وكأنه لم يسمعه لكنه على الأقل لم يغادر
ويتركه أو يقوم بمهاجمته كالسابق لذلك قال مجدداً ودون يأس
وبنبرة جادة هذه المرة

" تيم علينا التحدث قليلاً وفيما هو أهم من جميع خلافاتنا "

وحدث ما توقعه واستغرب تأخره حتى اللحظة وهو يستوي في
وقوفه قبل أن يوليه ظهره وغادر متجاهلاً له بل ومعرفة ما يريد
قوله وهو يخبره بأنه أمر مهم ، فصرخ يشد يديه بجانب
جسده بقوة

" والدتك كانت مصابة بسرطان الرئة ولم يكن هناك أي علاج
لها ولا أمل من شفائها "

جعلت كلماته تلك خطواته تتوقف وإن لم يستدر نحوه ، لا ينكر
بأنه لم يكن ينوي قول ذلك وكل ما جاء للتحدث معه فيه هو
مارية وكل ما حدث وفعلوه لكنّه تعب من الصمت ، متعب من كتم
كل ذلك في نفسه وتحمُل أذيته المتواصلة له وتحميله إثم كل ما
حدث معهما ، سحب نفساً عميقاً لصدره وكأنه يفقد تلك الأنفاس
ويموت وقال ينظر لقفاه بحزن

" حتى هي كانت تعلم بذلك وأرادت إخفاء الأمر عنك كي تعيش
على الأمل ولا تحزن "

ولمعت الدموع في عينيه تكسر صموده الرجولي فذكراها وذكرها
لازال يفعل الكثير بقلبه ولم يساعده هذا الابن لتخطي كل ذلك
بالرغم من مرور كل تلك الأعوام ، وهذا ما حدث مجدداً وهو يدير
نصف وجهه فقط نحوه قبل أن تخرج كلماته الغاضبة الكارهة
كرصاصة قاتلة يوجهها نحوه في كل مرة

" حتى معرفتي بهذا لن يشفع لك ما حدث لي ولها أبداً "

وما أن أدار وجهه عنه مجدداً وتحركت خطواته ليبتعد عاد لشد
قبضتيه بقوة يفرغ فيهما كل ما يكبته وصرخ مجدداً وإن كان
الألم يقطر مع كل كلمة

" كانت من اختار هذا ورفضت أن أخرج بكما من هناك كي لا
اقتل بسبب ابن راكان وكي يعيش أحدنا من أجلك ، كم مرة سأعيد
هذا ؟ "


توقفت خطواته مجدداً واستدار نحوه هذه المرة بكامل جسده
وصرخ بالمثل لكن بغضب متفجر يرمي بيده جانباً

" موتك أشرف لك مئة مرة ممّا قاسيناه ومن تبريرك السخيف
هذا ولن أغفر ما حييت لأي شخص منكم آل كنعان وآل هارون
تخلى عنّا وعنها ليعيش رغد الحياة بينما تركها تتألم وتموت من
الإهمال قبل المرض وتركني أعيش طفولة يعجز عن تحملها
الرجال "

ولم يكتفي بذلك فقط لقتله بل وجه سبابته نحوه صارخاً بتهديد

" ويمكنك اعتباري ميتاً من الآن وتوقف عن البحث عني وعن
ملاحقتي أو قتلتك "

اتسعت عيناه وهو يسمع ذلك منه فما عناه باعتباره ميتاً من
الآن ! هل بات متيقناً بأن مصيره الموت وهو ما يصبوا له !!
شعر بالهواء يختفي من رئتيه وعيناه لازالت شاخصة على
اتساعها ينظر للذي يبدو لم يهتم لكل ذلك وهو يوليه ظهره مجدداً
فقال بصعوبة

" ومارية ؟! "


كانت هي من فكر فيها حينها فإن كان سيرمي بنفسه للموت دون
أن يهتم له هو فماذا عنها ! لم يكن يجزم بأن ذاك الصوت
المختنق المنخفض قد وصله حتى أثبت له عكس ذلك وإن كان
يدير ظهره له وقد دس يديه في جيبي سترته الجلدية قائلاً بجمود

" لا شأن لي بها "

تحرك رأس حينها برفض وله أن يتوقع هذا بعدما فعلوه
وقال غاضباً

" لكنها زوجتك وليست مُدربة ولا أحد يعلم ما ستواجه
هناك وحيدة ! "

قابل الواقف على بعد خطوات منه كل ذلك بصراخه الغاضب وهو
يتحرك مجدداً

" قلت لا شأن لي بها ولا أعرف واحدة اسمها مارية "


فصرخ فيه بالمثل وخطواته تبتعد عنه أكثر

" هل جننت ! إنها زوجتك عرضك وشرفك يا تيم بل ووصية
والدتك الوحيدة لك "

لكنه ابتعد بخطوات واسعة دون أن يهتم لما قال ولا حتى للرد
عليه ونظراته المتأسية تتبعه وجسده يبتعد ويبتعد حتى اختفى
عنه .

*
*
*


*
*
*

حين وصلت المكان الذي خرجت قاصدة إياه تحديداً من بريستول
حتى لندن وقفت مترددة أمام باب المطعم الفخم الواسع وكانت
ستعود أدراجها ، وهذه ليست المرة الأولى التي تقرر فيها هذا بل
وفي كل دقيقة مرت منذ وقت خروجها بالرغم من تشجيعها
لنفسها مراراً ومنذ استيقظت صباحاً كي لا تفر كالجبانة كما فعلت
في المرة الماضية بعد لقائها بوقاص فهي كانت على اتفاق معهن
لتجتمعن معاً هنا لكنها عادت أدراجها لبريستول وتحججت بأنها
علمت فجأة بأن والدها مريض وذهبت لزيارته ، وكادت تموت
ندماً فيما بعد ووبخت نفسها كثيراً على ما فعلته وهروبها بجبن
وكأنها ستدخل ساحة حرب وليس باب مطعم ! لكن هذه المرة
ستفعلها ومهما تأخرت في الوصول إلى هنا بسبب حروبها
الضارية مع ترددها .

شجعت نفسها وهي تعبر الشارع متوجهة نحو بابه الواسع وما
أن دفعته ودخلت أصبحت أمام الأمر الواقع وتخلصت من فرص
هروبها أخيراً خاصة وأنها رأت بوضوح الطاولة التي كانت
تجلس حولها قرابة العشرة نسوة وهن المجموعة التي تعرفت
عليهم عن طريق برنامج تطوير الذات الذي انضمت له مؤخراً
عبر الانترنت والذي عثرت عليه مصادفة وهي تتصفحه وظهر
لها إعلان مدفوع الأجر خاص به وقررت وعلى غير العادة فعلها
والانضمام له وأقنعتها الفكرة المطروحة عنه ووجدت بأنها
تحتاج فعلياً لأن تتغير من الداخل وليس الخارج فقط لأنه كان
أشبه بقشور لن تستطيع إقناع الناس بها ما لم تُقنع نفسها أولاً ،
وفهمت حينها ما كان يردده وقاص دائماً عن أن ما تحتاجه هو
تغيير داخلها وليس مظهرها الخارجي ، وقاص الذي لم تراه ولم
يزر قصر العائلة طيلة أيام الأسبوع الماضي وبعد لقائهما ذاك
الذي كانت تظن بأنه سيكون السبب في تغيير حياتهما وبشكل
جذري لكنها غبية ومغفلة كما تنعتها شقيقتها جيهان دائماً وما
كان ليصدقها ويكذب تلك ، وحتى زوجة والده أسماء لم تعد
تعتبرها حليفة لها بعد أن اتهمتها بالغباء أيضاً وهي تهاجمها
وفهمت بأن وقاص تحدث معها ليتأكد من صدق ما قالته ، وكم
أحزنها حين اكتشفت بأنها كانت تستغلها لتخبر جده بما فعل بعد
أن استغلتها لتقتل هي تلك القاتلة فتورطها في الجريمة وتنجو
هي منها ولولا ظهور ذاك الشبح من العدم لكانت الآن في
الزنزانة تنتظر الحكم .

رمت كل تلك الأفكار من رأسها وتنفست بعمق تشجع نفسها
وخطواتها تتحرك نحوهن ببطء فهي لم تتخذ صديقات في حياتها
مطلقاً ولا حتى حين كانت طفلة وكان عقلها مشبعاً بفكرة أنه غير
مرغوب بها وبأنها ستكون عرضة لسخرية الجميع إن هي
تحدثت معهم أو اقتربت منهم ، وما أن كبرت وأصبحت شابة
ازداد الوضع سوءاً وانعدمت ثقتها بنفسها وبشكل نهائي .

ما أن وصلت لهن توقفت الأحاديث والضحكات فجأة وتوجهت
الأنظار جميعها نحوها وشعرت بتوتر لم تعرفه حياتها وكادت
تنهار باكية كالأطفال وطار أدراج الرياح كل ما تعلمته ! واكتشفت
الآن أن التطبيق أصعب بكثير من الاستماع وهو ما زاد وضعها
سوءاً .

وقفن بالتتابع ما أن قالت إحداهن وهي تقف مبتسمة

" أنتِ بالتأكيد جمانة "

جاهدت نفسها بشق الأنفس لترسم ابتسامة وإن متوترة على
شفتيها وهي تمد يدها نحوها قائلة

" نعم وسررت بلقائكن "

وتبادلت السلام بالأيدي مع الجميع وكل واحدة منهن تعرفها
باسمها وكان بينهن ثلاث عربيات غيرها بينما كُن من مدن
مختلفة في جنوب انجلترا لهذا احتاج الأمر لأسبوع لتجتمعن معاً
هنا مجدداً .

حين جلست في مكانها كان انتباهها كما نظراتها موجه نحو امرأة
واحدة بينهن والتي كانت بجسد يشبه جسدها سابقاً حتى أنها
كانت متوسطة الجمال أيضاً لكنها كانت مهتمة بأناقتها بالرغم
من كل ذلك وكانت ترفع خصلات شعرها القصير الناعم بنظارة
شمسية للأعلى وتضع القليل فقط من الزينة على وجهها ، لكن
طريقة تحدثها وثقتها وإدارتها للحديث كان ما جعلها تُصاب
بالذهول وكيف أنّها باتت تراها أجمل بكثير من حقيقتها ! وتألمت
بشدة حين أدركت بأن سلوكنا له الدور الأكبر في إظهار صورة
ما عنّا وإيصالها للغير ! ولها أن تتخيل الآن كيف كان يراها
الجميع وأولهم وقاص ، يا إلهي إنها تشعر بالألم في قلبها وكم
شعرت بأنها طفلة وحمقاء وستحتاج لعشرات السنين لتصل لما
وصلت له الجالسة هناك وكأنها سيدة المكان وليست مجرد
سمينة بشعة كما كانت تسمع هي سواء إن كانت حقيقة أم أوهام
صورها لها عقلها .

انتبهت فجأة للتي قالت مبتسمة تنظر لها

" يبدو بأنها لم تنتبه لما كنتِ تقولينه يا جوان "

ابتسمت حينها محرجة ونظرت للجالسة قريباً منها وقالت معتذرة

" آسفة يبدو أني شردت قليلاً "

قالت تلك مبتسمة

" كنت أسألك ما هو الذي دفعك للانضمام للمركز بما أنك العضوة
الجديدة معنا ؟ "


ارتجف فكها وكأنها تقاوم البكاء كالأطفال وقالت والدموع
تلمع في عينيها

" أريد أن أستعيد زوجي "

تأوهت تلك قائلة بابتسامة

" أوه مشوارك سيكون طويلاً ومراحله عديدة هكذا "

ابتلعت غصتها مع ريقها وتمتمت بحزن

" سأصبر وأحاول "

تحدثت الجالسة على يسارها وقالت تنظر لها

" بما أنك ذكرتِ كلمة استعادة فثمة امرأة أخرى إذاً ؟ "

شعرت برغبتها في البكاء تتعاضم وجاهدت نفسها بالقوة فعلى
جمانة السابقة أن تموت وأولها دموعها التي كانت تذرفها في كل
وقت وموقف ومكان ، استجمعت المتبقي من قواها وقالت
بعزيمة

" أجل وأنا الأحق به منها ، إنه زوجي وهي من دمرت كل ما
بيننا ، دمرت زواجي وحياتي وأخذته مني "

ما أن أنهت كلماتها تلك كانت عيناها تلمع بالدموع السجينة فيها
تحاربها باستماته كي لا تنزل لتنهار حصونها وهو ما لا تريده
بينما استدار رأسها نحو التي قالت

" لكن عزيزتي عليك أن تعلمي بأنه ثمة أمور كثيرة سيكون
عليك اكتسابها قبل أن تنتقلي لمرحلة استرجاعه لك "

كان من تحدثت حينها هي ذاتها السيدة ممتلئة الجسد التي سرقت
انتباهها سابقاً من بين الجميع فتنهدت بأسى وقالت

" أجل بالتأكيد "

تابعت تلك من فورها

" وعليك أيضاً أن تضيفي احتمال عدم عودته لخياراتك "

" ماذا !؟ "

اتسعت عيناها مصدومة وهمست فقط بتلك الكلمة وهي تسمع ذلك
منها بينما تابعت سريعاً

" أجل فقد لا يحدث هذا لذلك عليك توسيع نطاق أهدافك كي لا
تفقدي شغفك لتغيير نفسك حينها أو لا يصيبك الإحباط ومن ثم
التقهقر والعودة للوراء لأن هدفك كان واحداً ولم تصلي له "

حركت رأسها برفض وارتفع صوتها بحدة قائلة

" لا بل هو زوجي وعليه أن يعود لي ويكون لي وحدي "

قالت حينها الجالسة بجانبها وهي جوان ومن سرقت نظرها
واهتمامها

" جمانة يبدو لي أنك بحاجة لشيء آخر قبل أن تكوني ضمن
مجموعة تطوير الذات "

اقترب حاجباها باستغراب وقالت

"ما معنى هذا !! "

حركت كتفها قائلة ببساطة

" أقصد هل قمتِ بزيارة معالج نفسي من قبل ؟ "

اتسعت عيناها وقالت بضيق

" ولما ..! أنا لست مجنونة "

انطلقت ضحكات متفرقة منهن جعلتها تشعر بالتقوقع على نفسها
مجدداً بينما قالت إحداهن مبتسمة

" المجانين لا يأخذونهم للمعالجين النفسيين "

وقالت أخرى سريعاً وهي تشير بيدها لهن

" هل تريننا أمامك ؟ جميعنا ذهبنا لهم يوماً ومنّا من لازالت
تفعلها "

تهربت بنظراتها منهم للطاولة أمامها فلازالت شخصيتها الضعيفة
المهزوزة تمنعها من مواجهة الأعين وهي تتحدث بينما خرجت
كلماتها من عمق حقدها وكراهيتها قائلة

" أنا لا أريد كل هذا بل أريد استعادة زوجي من تلك الوضيعة
المنحلة وأن تختفي من حياتنا فقط "

وشعرت بكراهيتها لها تتعاظم حينها وهي تتذكر ما قالته سابقاً
وبأنها الأحق منها به وبأنه زوجها لأنها هي من وافق على هذا !
واشتدت قبضتاها حتى كانت تشعر بألم انغراس أظافرها الطويلة
في كفها وإن كانت لا تفهم تماماً ما كانت تقصده لكنّه تهديد
واضح لها بأنها إن أرادته لنفسها ستأخذه منها وبكل سهولة .
ارتفع نظرها للتي قالت حينها وكانت السيدة ممتلئة الجسد ذاتها

" لن نتحدث عن هذا الآن وستفهمين ما أقوله يوماً إن لم يكن
مصير كل ما تفعلينه الآن الفشل "

أبعدت نظرها عنها بل وعنهن جميعهن وأحنت رأسها تنظر ليديها
اللتان لازالت تشدهما في حجرها بقوة وكأنها تفرغ غضبها
المكبوت فيهم ولم تعلق على ما قالت فهي بالفعل تفعل كل هذا
من أجله ولتستعيده ولتكون المرأة التي يستحقها ويراها كذلك
وستفعل كل شيء وإن اضطرت للاستعانة بوالدها وإخباره بما
يحدث وتخفيه عنه ليخلصها من وجود تلك المرأة وبأي طريقة
كانت .

وقفت بعد قليل معتذرة بلباقة منهن لأنها فعلياً لم تعد تستطيع
البقاء فهي لم تفعلها حياتها خاصة إن تحدثت ونظر الجميع لها
ولم تتخيل أن تفعلها وتتحدث أساساً !.

حين أصبحت في الخارج وقفت تنتظر سيارة أجرى وشعرت
بخطوات ما خلفها تماماً وهو ما جعلها تستدير بحركة سريعة
متوجسة وشعرت بالتوتر وهي تحاول الابتسام للتي أصبحت تقف
أمامها وكانت السيدة الممتلئة ذاتها وقد قالت مبتسمة حينها

" أعرفك بنفسي أنا الطبيبة جورجينا وصاحبة مركز تطوير
الذات الذي قمتِ بالانضمام له مؤخراً "

اتسعت عينا جمانة مع انفراج شفتيها في شهقة صامتة وحركة لا
إرادية بينما عجزت عن قول أي شيء ، ويبدو أن الواقفة أمامها
لم تنتظر ذلك وقد قالت مبتسمة بلباقة تشبهها

" أنا أفعل هذا مع الجميع لأتعرف عليهن في اللقاء الأول دون
معرفة من أكون "

تقوست شفتا جمانة حينها وقالت بأسى من نفسها

" يمكنني تصور الفكرة التي أخذتها عني إذاً "

كان رد فعل جورجينا الأول ضحكة صغيرة قالت بعدها مبتسمة

" أنتِ بحاجة للكثير فعلاً والمشوار أمامك طويل لكنه ليس صعباً
وهو المهم فالبعيد يمكن الوصول له لكن الصعب لا "

وتحول نظرها لحقيبتها الصغيرة التي فتحتها وأخرجت منها
بطاقة ما مدتها نحوها قائلة

" هذا عنوان عيادتي أتمنى أن تقومي بزيارتي قريباً ويمكنك
حجز موعد عن طريق الرقم المدون فيها "


أخذتها منها بعد تردد لحظي ونظرت للمكتوب فيها قبل أن تعود
وتنظر لعينيها وقالت

" أنتِ معالجة نفسية إذاً ؟! "

ابتسمت وأومأت برأسها وقالت

" أجل "

وتابعت من فورها وبابتسامة أكثر عمقاً تجعدت لها أطراف
عينيها قليلاً

" وما أن تشرفينا بزيارتك لنا ستري بنفسك أنه ليس المجانين
من يدخلون العيادة "

شعرت جمانة بالخجل من نفسها أكثر بسبب حديثها ذاك وقالت
بابتسامة محرجة

" أنا آسفة حقاً على ذلك "

بينما أهدتها الواقفة أمامها ابتسامة متفهمة وقالت موضحة

" لا تعتذري فهي أفكار الأغلب لكننا مجرد أطباء كغيرنا ، كما أن
الاضطرابات النفسية مرض كأي مرض عضوي ، بل ووضعنا
الصحي بأكمله مرتبط بصحتنا النفسية "

حركت رأسها حينها مقتنعة تماماً بما قالت بينما قالت جورجينا
مبتسمة وهي تمد يدها مصافحة

" سنلتقي ونتحدث أكثر ، أنا أنتظر أن تفعليها وتأتي "

مدت يدها سريعاً وصافحتها قائلة

" بالتأكيد وفي أقرب وقت "

لكنّها لم تغادر مكانها بعد توديعها لها كما توقعت بل قالت وهي
تنظر لأول الشارع بعيداً

" سأعلمك الآن الطريقة التي تجعلين بها سائق سيارة الأجرة
يقف من أجلك "

ووقفت بجانبها وهي تنظر لذات المكان ما أن أنهت كلماتها تلك
ونظرات جمانة المستغربة تتبعها وهي تقف عند حافة الرصيف
تقريباً ، وما أن اقتربت سيارة مسرعة من بين باقي السيارة
العمومية أشارت نحوها بيدها بالرغم من أنه ما يزال بعيداً
وأنزلتها سريعاً وأخرجت بها هاتفها من حقيبتها ووضعته على
أذنها دون أن تتحدث مع أحد ونظرت نحو الجانب الآخر وكأنها
تنتظر وصول أحدهم أو تخبره عن مكانها وهو ما جعل تلك
السيارة تبطء من سرعتها تدريجياً حتى توقفت أمامها وهو ما
جعل نظرات جمانة تتسع وهي تنقل نظرها بينهما حتى قالت تلك
الطبيبة مبتسمة

" بالتأكيد أخبرك عقلك الآن بأنك إن كنتِ مكان ذاك السائق
لتابعتِ طريقك لأنني وجدت من سيقلني ولن أحتاج لسيارتك وإن
توقفتِ من أجلي "

همست جمانة من وسط ذهولها

" أجل حدث !! "

اتسعت ابتسامتها وقالت

" هذا تفكيرنا نحن النساء لكن تركيبة الرجال تختلف تماماً ،
إنهم يتعلقون بالفرص الضائعة أكثر من المتاحة "

وتركتها في دوامة أفكارها تلك وفتحت لها باب السيارة الخلفي
وقالت بابتسامة أكثر اتساعاً

" كما أنهم يكرهون الانتظار طويلاً ، أتمنى أن نلتقي قريباً "

جلست حينها في السيارة ليس مشوشة العقل فقط بل واللسان
الذي عجز عن قول أي شيء ، وبينما انطلق صاحب سيارة
الأجرة كانت نظراتها هي ما تزال تراقب التي ودعتها بيدها قبل
أن تستدير عائدة ناحية باب المطعم ولم تصدق ما تراه أمامها
وكأنها تعيش في حلم أو كوكب آخر !!

نظرت أمامها ولمعت عيناها وهي تهمس بانبهار

" يا إلهي أيمكنني أن أكون مثلها هكذا يوماً ؟! "

نظرت لحقيبتها في حجرها ما أن علا صوت رنين هاتفها ، وما
أن أخرجته منها نظرت لاسم شقيقتها جيهان على شاشته فقلبته
فوق الحقيبة دون أن تجيب بينما نظرت ناحية النافذة بامتعاض
وهذا وضعها طيلة الفترة الماضية غالباً تتجاهل اتصالاتها وإن
أجابت لا تقول سوى كلمات مختصرة ولا تشعر بعد تلك المكالمة
سوى بالسوء فلازالت شقيقتها تلك تستنقص من قدرها وتخبرها
في كل مرة بشكوكها حول أنها تخطط لشيء تخفيه عنها وبأن
نهايتها ستكون أبشع ممّا تتخيل ، ولما ستخبرها ؟ هي لم تجد
الحلول لديها يوماً بل كانت تستنقص من قيمتها في كل مرة
وتضع اللوم عليها وتشعرها بالدونية والغباء حتى باتت لا ترى
غير ذلك في شخصيتها لذلك هي عازمة الآن على تقرير
مصيرها وما تريد فعله وحيدة ومهما تخبطت ووقعت ستفعل هذا
وحدها ودون مساعدة ولا تحطيم من أحد .

" هل يمكنك إيجاد حل لرنينه سيدتي "

سرق نظرها سائق السيارة وصاحب تلك الكلمات المتضايقة قبل
أن تنظر لهاتفها فهي بالفعل سافرت مع افكارها تلك وتركت
صوته يصدح في السيارة المغلقة بينما لم تتوقف شقيقتها تلك
عن محاولة الاتصال بها .

قامت بقطع الاتصال وبحركة سريعة أرسلت لها

" أنا مشغولة الآن بدرس القيادة سنتحدث لاحقاً .. وداعاً "

وما أن أرسلتها انحنت نحوه قليلاً قائلة

" يمكنك التوقف هناك عند بوابة مدرسة ويمبلدون "


*
*
*

كان يستمع بكامل انتباهه لمحدثه عبر الشاشة المسطحة أمامه
يضم يديه أمام شفتيه مرفقيه مثبتان على الطاولة تحته بينما
كان يقول أويس بكل اهتمام

" إذاً فنقلك للقضية هنا معناه تبرأتها من التهمة لأنه سيؤخذ
بعين الاعتبار جميع الأدلة التي تثبت تورط شخص ثالث في
القضية وإن أنكرت هي ذلك لأنه كما يدان المتهم وإن أنكر
ضلوعه في الجريمة يُبرأ المدان حال ثبوت العكس وإن اعترف
بجريمته وهذا ما بات ينص عليه القانون في المادة الجديدة
خمس مئة وسبعة لهذا العام "

حرك وقاص رأسه برفض وقال من خلف قبضتيه التي لازال يتكئ
بشفتيه عليها مشبكاً أصابعه

" لن يكون حلاً أبداً فالجريمتان السابقتان جميع الادلة فيها
ضدها وباعترافها أيضاً فنحن سنغلق باب قضية بهذا لنفتح
الأخرى والأكثر تعقيداً ولن يصمت أهل المقتولان كما قاموا بفتح
القضية ونقلها إلى هنا سابقاً فكيف إن أصبحت لديهم هناك ؟ "

وأغمض عينيه لبرهة متنهداً بعمق قبل أن ينظر له مجدداً وتابع
بصوت أجوف كئيب

" هذا إن لم يكن قاتل نجيب هو الذي فعل كل هذا ليورطها
ويعجزنا أمام إنقاذها هذه المرة وحاصرنا تماماً "

واشتدت أصابعه على قبضتيه بقوة يكتم كل ما يشعر به حينها
خلف أسنانه التي تكاد تتحطم بسبب ضغطه القوي عليها بينما
رفع أويس كفاه لحدود كتفيه قائلاً بيأس وقلة حيلة

" أنا عجزت أمام كل هذا ، إنها أغرب قضية رأيتها وسمعت
عنها !! "

أبعد حينها وقاص يديه واعتدل في جلوسه وقال ونظره منشغل
بحركة سبابته على شاشة هاتفه الموضوع جانباً

" عليّا أن أكون هناك في أقرب وقت فثمة أمور سأطلع عليها
بنفسي ، لن تُحل خيوط القضية ما لم أزر مكان حدوثها وأتحدث
مع الشهود أيضاً "

كان تعليق أويس الصمت إلى أن نظر ناحيته مجدداً فقال بهدوء

" بل مفتاح كل ذلك لديك هناك وهو زيزفون نفسها "

تحرك رأس وقاص بعجز وشعر بكلماته تلك صدمت حاجز الواقع
وتلاشت من خلفه كالسراب ورفع يده لعينيه ومسح بسبابته
وإبهامه عليهما وهو يغمضهما وتنفس بعمق وقال ببؤس هامساً
ولازال مغمضاً عينيه

" لم تتحدث طيلة الأعوام الماضية لتتحدث الآن ! بل ولم تفلح
لجنة محلفين كاملة في إرغامها لأفعلها بمفردي !! "

وصله صوت أويس وهو لازال يعيش الظلام القاتم وهو يغمض
عينيه بقوة ولم يبعد يده عن وجهه

" لأنها لم تثق بهم جميعهم ، إن شعرت بأنها تثق بك ستفعلها "

ابتسامة ساخرة متألمة زينت شفتيه وأراح يده على الطاولة بينما
عاد ونظر له خلال الشاشة المصغرة أمامه وقال

" حديثك هذا يشبه ما قاله الزعيم تماماً "

قال أويس باستغراب

" مطر شاهين تقصد ! هل تحدثت معه ؟ "

أومأ برأسه بحركة خفيفة وقال بهدوء

" أجل بالأمس فأنا كنت أتركه الخيار الأخير لأنه أنكر تماماً أي
صلة له بها بعد دخولها منزل والدتها وخروجها من البلاد بعد
موتها "

" وماذا قال ! "

كان سؤال أويس سريعاً ونظراته الفضولية تكاد تخترق الشاشة
بينهما ينظر بترقب للذي قال يشرح تفاصيل ما حدث

" قال بأنْ لا أعتمد عليه في هذا ومفتاح اللغز بأكمله لدي
وهي زيزفون "

وأشاح بوجهه جانباً ونظراته تعبس بقوة وكأنه غاضب من كل ما
قال بينما تابع ونظره لازال شارداً للبعيد وكأنه يحدث نفسه

" قال بأنها لا يمكنها الوثوق في أنفاسها التي تعبر رئتيها
وستدافع عن شقيقها لآخر دقيقة لها في هذه الحياة ولن تسلم
سرها وقضيتها تلك إلا لمن تخطت ثقتها به كل ذلك "

واشتدت أصابعه في قبضة واحدة على الطاولة أمامه بينما احتاج
أويس لتفسير فعلي لما قال وعلّق باستغراب

" ومن سيكون هذا الذي ستسلمه عنق أحب شخص لديها وتثق
به !! إن كانت حتى القضية اغلقت منذ أعوام بطلب منها كي لا
تسلمه لحبل المشنقة ! "

نظر وقاص للأسفل وحرك رأسه في يأس متمتماً بنبرة متألمة

" هي لا تهتم لأن تموت أكثر من اهتمامها بأن يعيش هو وينسى
الماضي ! إنه تعلق قوي ، حب ورابطة دم وأخرى جينية معقدة
فهي تشعر به حتى حين يتألم وإن كان بعيداً عنها "

قال أويس سريعاً

" قرارك هو السليم إذاً يا وقاص وعليك المجيء إلى وطن
الجريمة ، ومن حديثك يبدو أن زعيمك لم يرفض ذلك "

أومأ برأسه دون أن يرفعه وقال بشبه همس

" لكنه ليس العقبة الوحيدة في هذا "

قال أويس مستغرباً

" من تقصد ! جدك ؟ "


رفع نظره له وحرك كتفيه وقال ببرود

" نوعاً ما فهو يبحث عن زيزفون "

وتابع من فوره ونبرته تتحول للغضب المكبوت

" والأشد من كل ذلك هو القاتل المجهول الذي أراها ولأول
مرة تخاف أحداً مثله ! "

ورفع رأسه عالياً مع ارتفاع يديه له يمرر أصابعه خلال خصلات
شعره الناعم وقال بنبرة شابها الحزن وهو ينظر للأعلى مسنداً
رأسه بيديه

" ولأني أجهل عدوها ذاك يصعب عليّا تركها هنا والسفر كما
تسليمها لجدي لأنه ينوي فعلياً إرجاعها للمصح النفسي كي
ينقذها من تبعات الجرائم التي ظهرت جميعها للعلن الآن "


قال أويس بعد تردد لحظي

" قد لا يعجبك ما سأقول لكني أراه الحل الوحيد والأنسب وإن
مؤقتاً فقط "


كلماته تلك جعلته ينظر له بحركة سريعة وخرجت كلماته
كالسيل الغاضب

" لا هو ليس كذلك فهذا الحل لم يخدم قضيتها في شيء سابقاً ،
الجميع يفكر في تخليصها قضائياً لكن لا أحد فكر في تبعات ذلك
على نفسيتها يا أويس "

وتنفس بعمق يحاول تهدئة نفسه من ذاك الغضب الغير مبرر كما
يراه وارتفعت يده لزر قميصه وفتحه بحركة قوية متأففاً ومنه
بات يخنقه بينما حاول جاهداً أن يقول بكلمات أقل غضباً وإن لم
تخلو من الحدة والضيق وهو يشير بيده جانباً

" أتعلم ما قاله طبيبها في أوراقه تلك التي تركها ؟ "

وتابع من فوره وقبضته تضرب على الطاولة تحته وكأنه يؤكد كل
نقطة فيها

" قال إن تعرضت لنوبة شديدة مشابهة للماضي فلن تنجو
منها هذه المرة ولن ينقدها ولا أمهر الأطباء من الجنون
التام والأبدي "

قال أويس والحيرة تملأ ملامحه

" ولما سيحدث هذا ! لقد تخطت جريمة مقتل شقيقك التي حدثت
أمام عينيها وهي المتهم بها ! أي أن الماضي تكرر أمامها بكل
تفاصيله واستطاعت الخروج من تلك الليلة سليمة العقل فما
الذي سيفعله بها المصح النفسي وهي حفيدة ضرار السلطان ولن
تُعامل كأي نزيلة لديهم بالتأكيد "

قال وقاص سريعاً والضيق لم يغادر صوته كما ملامحه وقد عاد
للتلويح بيده بعيداً

" هل كنت هنا لتحكم أي ليلة تلك التي عاشتها ؟ لا يمكنك قول
هذا وأنت لم تراها ولم ترى كل مرة وصلت فيها لحالات مشابهة
وغابت تماماً عن الواقع ترى وتسمع أشياء لا يراها أحد غيرها
، فهل سيحتوي أولئك البشر نوباتها تلك بالطريقة التي لن تجعلها
تصل لما حذر منه طبيبها سابقاً ؟ كل ما سيفعلونه هو حقنها
بالمهدئات التي لا تقودها سوى للنوم الذي يسيطر على عقلها
الباطن ليجعلها تعيش كل ما حدث في كابوس بشع لن تفيق منه
بسهولة لأنها تحت تأثير ذاك السم القاتل "

وتوقف فجأة وقد عاد لمحاولة ترتيب أنفاسه الغاضبة المتلاحقة
وكأن محدثه ذاك جده وليس شخص آخر لا يد له في كل ما
يحدث ! وتابع سريعاً بعناد وكلمات خرجت من بين أسنانه

" لن أسلمها للمصح النفسي وإن سجنت بدلاً عنها "

كان الصمت هو تعليق أويس حتى كان وكأن الانترنت توقف فجأة
تاركاً صورته معلقة في الشاشة ! والتي احتاجت للحظات كي
تعود وتنبض بالحياة مجدداً وقد قال بكلمات متأنية مستغرباً
" ما تقوله الآن تخطى ما يفعله المحامي ورابطة الدم يا
صديقي !! "

" أجل أحبها "

ملأت صرخته الغاضبة تلك الغرفة حوله وانفجرت مشاعر الرجل
المكبوتة أخيراً ورحمته من احتراقه بكتمانها داخله ، ولم يكتفي
بذلك فقط بل ضرب براحة يده متابعاً بصوت مرتفع وكأنه ينظر
لنفسه في مرآة

" بل وأعشقها كما لم يفعل أي رجل من قبل وأعلم يقيناً بأنها لم
ولن تكون لي لا بقلبها ولا مشاعرها ولا حتى جسدها لكنها
الحقيقة ولن أسلمها للموت ولا الجنون وإن دفعت حياتي ثمناً
لذلك "

كانت ابتسامة رقيقة ما زين الملامح الرجولية في الشاشة أمامه
قبل أن يقول صاحبها مبتسماً

" دافع إذاً وبكل ما لديك من قوة كي لا تندم مستقبلاً فالندم
مقبرة الرجال "

ولأنه يعلم بأنها لن تتعدى كونها لحظة ضعف من رجل كبت
الكثير في داخله واجتمعت عليه الهموم من كل جانب ، وما أكده
صمته التام وهو يبعد نظره عنه بينما بدأت أصابعه الطويلة
بتدليك قفا عنقه ابتعد عن الحديث في الأمر بأكمله قائلاً

" ما خياراتك إذاً ؟ "

تحرك حينها رأسه في حيرة وقال بشرود

" لا خيارات لدي لقد اغلقت جميعها "

وعاد ونظر له وقال متابعاً

" لم أقم بزيارة الشقة طيلة الأسبوع الماضي خوفاً من أن يجدها
جدي أو غيره من خلالي "

حدق فيه أويس بذهول وقال

" وكيف هذا يا وقاص تتركها وحيدة وثمة قاتل مجهول
يطاردها !! "

قال من فوره

" لن أفعل هذا بكل تأكيد فعيني تراقبها ومن يحرسانها أيضاً ولن
أغفل عنها وإن كنت بعيداً "

وشد على شفتيه بقوة وحنق وتمتم وهو يشرد بنظره

" كان تيم الخيار المناسب لكنه أصبح أمراً مستحيلاً "

" تيم ! "

همس بها أويس مستغرباً ولاذ بالصمت ينتظر الذي نظر له مجدداً
وقد قال بخيبة أمل

" نعم فهو من يمكنني استئمانه عليها حتى وقت عودتي خاصة
أنه يملك ما لا يستطيع أحد الوصول له وإن علم بوجوده لكن
أوامر الزعيم الأخيرة بددت كل ذلك "

عاد أويس للتحديق فيه باستغراب رافعاً حاجبيه وقال

" أوامر ماذا ! "

تنهد بضيق وقال

"لقد أصبح الجميع ممنوع من التواصل مع تيم أو الاقتراب منه"

تبدلت نظرة أويس للصدمة وقال بكلمات متفاجئة

" ماذا ...! ولكن لما ؟! "

حرك وقاص رأسه متنهداً في حيرة وقال

" لا أعلم ويبدو أنه هناك أمور تحدث ولا نعلم عنها فهو
وزوجته ثمة أوامر صارمة نحوهما وأخشى بأنه لأنهما باتا
يشكلان خطراً على الجميع "


حرك أويس رأسه بعدم تصديق وتمتم

" يا إلهي .. يالا الهول "

لم يستغرب منه ذلك فصدمتهم بالأمر كانت هكذا وأكثر وهو ما
جعله يتابع قائلاً بتفكير وكأنه يحدث نفسه

" مارية أصبحت وبطريقة ما لا أفهمها تعيش مع أقارب الفتاة
الإيطالية من والدها ومؤكد هو السبب لكن تيم !! لا أفهم ما الذي
يحدث معه وما سبب تخلي الزعيم عنه وتركه في أرض أعدائه
الحقيقيين وحيداً ! "

غطى التوجس على ملامح أويس المتفاجئة وقال وكأنه يستجدي
الكلمات لتخرج مكذبة ظنونه تلك

" ولما تعتبر هذا تخلياً منه ! قد يكون مجرد حماية لكم بما أنه
بات داخل مبنى البحرية الملكية خصيصاً ؟ "

وترقب بفضول الذي زفر أنفاسه بقوة مغمض عينيه قبل أن ينظر
له مجدداً وقال بصوت بدا أجوفاً وكئيباً

" قد تراه أنت كذلك لكن نحن من عرفنا الزعيم مطر وصلته بتيم
تحديداً لن نعتبر هذا إجراء أمني ، لا لحمايتنا ولا لحمايته "

وتنهد بعمق قبل أن يتابع

" أتمنى أن لا يصاب أي منهما بأذى فلا أحد منهما يستحق أن
يعيش يرثي موت الآخر بل أن يُمضيا حياتهما معاً وبالأخص تيم
لأنه عاش وحيداً يعزل نفسه عن الجميع "

أومأ أويس في حزن وتمتم

" معك حق ولا شيء بأيدينا إذاً سوى الدعاء والثقة بهما "

كان رد فعل وقاص أن أومأ برأسه موافقاً لحديثه ذاك وقال

" ثمة أمور أريدك أن تتأكد منها "

حرك أويس يده قائلا بابتسامة جانبية

" وما نفع كل هذا وأنت لا تريد مني الاقتراب الفعلي من كل ما
يخص تلك الجريمة ! "

قال مباشرة

" قد تحصل على أي معلومة تفيدنا حتى أجد حلاً لمغادرتي
من هنا "

وعند هنا تحوّل أويس لطرف مستمع فقط لا تصدر عنه سوى
إيماءات صغيرة من رأسه يؤكد لمحدثه بأنه مستعد لفعل كل ما
يطلب منه لعلّه يساعده وإن بالقليل في مهمته الصعبة المستحيلة
تلك كما يراها .

الضوء الأحمر الذي أضاء فجأة في الطرف الأعلى من ذاك الجهاز
هو ما جعل وقاص يصمت فجأة فهذه علامة على أن وقت تلك قد
المكالمة انتهى لأنها ستصبح من الآن عرضة للمراقبة إن من
الشركة المصنعة له أو المصممة لهذا البرنامج فأنهاها بضغطة
زر واحدة دون حتى أن يودع الذي اختفى خلف ظلام الشاشة
الالكترونية وكلاهما يعلم لما بالتأكيد .

لكنه ورغم ذلك لم يغادر مكانه بل قام بتشغيل جهاز آخر وهو
حاسوبه الشخصي والذي انقسمت شاشته على الفور لثمانية
أقسام يظهر في كل قسم فيها صورة لمكان ما مرتبطة بشبكة
مراقبة ، وتغضن جبينه باستغراب وهو يبحث عنها في تلك
الأمكنة ولا يجدها !! وتعالت ضربات قلبه بشدة فهو يراقبها
بشكل شبه تام طيلة الأسبوع الماضي ولم تختفي عنه هكذا
وباب الحمام مفتوح !

قام بتشغيل كاميرا المكان الوحيد الذي لم يراقبه سابقاً وهو حمام
غرفتها بما أنه مفتوح فقد تكون في الداخل وإن لم تفعلها في
السابق ، ووقف على طوله حين وجده فارغاً تماماً وشعر بشلل
تام في جميع أطرافه وكأن الزمن توقف من حوله قبل أن يومض
شيء ما في دماغه يأمره بأن يرجع بالتوقيت للوراء ليعلم ما
حدث ، وتحركت حينها أطرافه مستجيبة على الفور وانحنى نحوه
يسند يده على الطاولة بينما ضغطت سبابة يده الأخرى على
الأزرار بحركة سريعة حتى ظهرت له جالسة مكانها المعتاد فوق
الأريكة الطويلة تراقب عيناها السماء من باب الشرفة المغلق
قربها ، المشهد الذي لم يمل هو من رؤيته طيلة الأيام الماضية
كما لم تمل هي من فعل ذلك ولساعات طويلة وليس كأي مخلوق
بشري طبيعي كان ليفعل أي شيء يعبر عن ملله ورفضه وإن
بالدوران في نفس المكان أو حتى التنقل في تلك الشقة
الواسعة ! فهي لم تقم ولا بتشغيل التلفاز الموجود هناك ولم
تلمس يدها أي واحد من الكتب الموجودة في الرفوف المعلقة في
غرفة الجلوس بالرغم من أنها تتقن أكثر من لغة ! ويحار ما
الذي يفعله عقلها كل تلك الساعات أم أنه متوقف أيضاً !! حتى
دفاتر الرسم التي أرسلها مع العدة الخاصة به لازالت مكانها وها
هي توقفت عن ممارسة هوايتها المفضلة ومتنفسها الوحيد
أيضاً .

تقدم بالوقت بحركة بطيئة وهو يراقب أماكن تواجدها ، تناولت
الإفطار وعادت نحو غرفتها جلست لوقت مكانها المعتاد ثم دخلت
الحمام الذي غادرته بعد وقت قصير وتوجهت بعدها نحو طاولة
السرير .

توقفت انفاسه مع اتساع نظراته ما أن توقفت كاميرا الغرفة فجأة
لتتحول الصورة لشاشة بيضاء وبدأت سبابته تضغط الزر بقوة
وتتابع ولم يتغير شيء بمرور الدقائق حتى عادت للعمل مجدداً
ولم يجدها حينها في الغرفة ولا المنزل بأكمله واختفت تماماً من
المكان !.

أغلق حاسوبه بحركة واحدة شاتماً من بين أسنانه وسحب سترته
من ظهر الكرسي ووجهته باب الغرفة مباشرة وغادر الجناح
بأكمله بل والفندق أيضاً ولم يفكر ولا بالاتصال بالحارسين
الموكلان بحراستها ولا يراه يحتاج ذلك بعد اختفائها .
كان يشعر بالمسافة تبتعد عنه حتى كانت تكاد خطواته تتحول
للركض وهو يجتاز الشارع والذي يليه فقد اختار مكاناً يكون
الأقرب لذاك المبنى السكني تحسباً لأي طارئ ولكي يبعد الشبهة
حال كان مراقباً من رجال جده ، لكنه الآن فقد كل ما تعنيه كلمة
تعقل ولم يعد يهمه معرفتهم لمكانها وإن كان مراقب أم لا فقد
يكون وصل لها وأخذها من هناك وهذا هو المؤكد كما يبدو .


حينما غادر باب المصعد الكهربائي توقف مكانه مستغرباً وهو
يرى الحارسين واقفين مكانهما عند باب الشقة ! وتوجه نحوهما
مسرعاً والأفكار في رأسه وكأنها مطارق تضرب جميع جوانبه
وأنهى كل ذلك وهو يقف أمامهما وقال بأنفاس متقطعة لاهثة

" أين هي زيزفون ؟ "

تبادلا نظرة مستغربة قبل أن ينظرا له مجدداً وقال أحدهما

" في الداخل بالطبع "

حرك رأسه بطريقة غاضبة وصرخ

" لا ليست هناك "

اتسعت عيناهما وكأنهما صورتين لرجل واحد وقال الآخر

" لم نتحرك من هنا ولم يدخل أحد !! "
مد يده لهما في صمت ولم يستطع تصديق ما يقولانه فكيف
ستختفي إن لم تغادر من هنا أو لم يخرجها أحدهم !

أخد منه بطاقة الباب لأنه لم يجلب الموجودة لديه فهو كان يتوقع
بل ويجزم بأنه سيجده مفتوحاً ولن يجدهما هنا أساساً .
فتح الباب ودخل من فوره وبدأ بتفتيش وفتح جميع الأبواب التي
صادفته في الردهة قبل أن يصعد العتبات القليلة التي كانت تفصل
غرف النوم عن المكان وتوجه من فوره نحو غرفتها فتح بابها
ودخل الحمام وكأنه لم يراه ويتأكد منه حين كان هناك ! وما أن
خرج من بابه قرر الذهاب لغرفته هنا سابقاً وملاذه الأخير وعقله
يكاد يقفز من مكانه فأين ذهبت وكيف اختفت والشقة في طابق
مرتفع ! أم أن الحارسان يكذبان عليه باتفاق مع جده ؟!
ما أن وصل باب الغرفة مغادراً توقف مكانه بسبب صوت باب
ما خلفه انفتح حينها ببطء واستدار بكامل جسده نحو الخزانة
واتسعت عيناه بصدمة وشعر بقدر من الماء البارد ينسكب على
جسده المشتعل وهو ينظر للتي خرجت من بابها المفتوح حينها
ووقفت تنظر له بضيق مكتفة ذراعيها لصدرها ، وانحرفت
نظراته دون شعور نحو جهاز التكييف قرب سريرها والذي
يحوي كاميرا المراقبة ونزلت نظراته للأسفل وللحاف الأبيض
المرمي تحته وفهم حينها ما حدث هنا فهي اكتشفت بأنها مراقبة
وفعلت هذا ليضن بأنه تم إخراجها من هنا ويأتي وهذا ما حدث
بالفعل وقد وقع في فخ ذكائها والغباء الذي سببه مشاعره
نحوها !
أم أنه الكيد الذي يسري في عروق النساء جميعهن ؟!
وهل يمكن مقارنة هذه بباقي النساء !!
نظر نحوها مجدداً وحرك رأسه بيأس منها وابتسمت
شفتاه وهمس

" ما هذا الذي فعلته بي يا خماصية ؟ "

كانت ضربات قلبه المتسارعة ترفض أن تهدأ رغم اطمئنانه على
سلامتها بسبب خوفه المرعب عليها بينما قابلت هي كل ذلك
بالبرود وقد قالت ولازالت تكتف ذراعيها لصدرها

" اعتقدت بأنني ابنة الهازان حفيدة ضرار السلطان كما
تصر دائماً "

حرك رأسه مبتسماً فهذه الصفة بالفعل كانوا أفراد عائلته
يستخدمونها لاستنقاصها ، وحار في نفسه كم من مشاعر
سيحملها اتجاه هذه الفاتنة التي تقف أمامه الآن وكأنه لا يراها
ويراقبها طوال الوقت تقريباً فكل ما شعر به وهو يراها أمامه
الآن تحادثه ويسمع صوتها هو الشوق المميت !

قال والابتسامة لم تغادر شفتيه بعد

" تعلمين جيداً بأنني لم أقصد الإهانة بهذا كما يفعل البقية بالرغم
من يقيني بأنك تفضلين ذلك على مناداتك بحفيدة ضرار "

وظهر بعض الاستغراب في صوته وملامحه عند آخر كلمات قالها
فهي تناقض نفسها فعلياً بذلك !
لكنها لم تهتم ولا لتوضيح ذلك وقد غزا الضيق ملامحها وفكت
يديها وأنزلتها تشد قبضتيها بجانب جسدها بقوة وقالت بضيق

" لما تسجنني هنا وأين كنت ؟ "

قال بهدوء ينظر لعينيها الغاضبة

" أنتِ بمأمن هنا يا زيزفون لأني سأكون سبب عثورهم
على مكانك "

بدت غير مقتنعة ولا راضية عمّا قال وهو ما أظهرته ملامحها
ونظراتها الحانقة وكانت ستتحدث وكان سيقاطعها لكن الكلمات
توقفت على أطراف شفاه كليهما بسبب صوت الضجيج
والأصوات المتداخلة في الخارج وهو ما جعله يغادر الغرفة من
فوره وهي في إثره حتى كان في منتصف ردهة المنزل وتوقف
بسبب أحد رجلا الأمن الذي دخل حينها فقال وقاص من قبل أن
يتحدث ذاك

" ما الذي يحدث هنا ! "

قال الذي نظر للخلف لبرهة قبل أن يعود ينظر له

" رجال الشرطة هنا "

اتسعت عيناه هامساً

" رجال ماذا ! "

ولم يرحمه الواقف أمامه وهو يوضح ما قال

" إنهم رجال الشرطة القضائية "

وهو ما جعل عينا وقاص تتسع أكثر ونقل نظره للتي وقفت
بجانبه حينها وبادلته نظرة صامتة كل ما قرأه فيها أنها لا تعلم
شيئاً عمّا قال لكن ما الذي جاء بهم وقرار المحكمة التي يعمل
مدعيّاً عاماً فيها يمنع كل هذا !
وجاءه جواب كل ذلك ما أن دخل الرجال بلباس الشركة القضائية
بالفعل وقال أحدهما وهو يمد ورقة بيضاء نحوه

" المعذرة سيدي ثمة أوامر لدينا بالقبض على المدعوة زيزفون
ضرار السلطان "

كانت نظراته المتسعة تنظر فقط لعيني الواقف أمامه ولم يهتم ولا
ليده الممدودة بالورقة أمامه وشعر بالدماء تسري في عروقه
كدبيب النمل صعوداً حتى دماغه وأصابت غشاوة لحظية عيناه
وجفاف مريع في حلقه وكأن المياه جفت من جسده تماماً حتى
كان يجزم بأنه سيفقد وعيه ولا يفهم ما نوع ذاك الشعور !
هل سببه الخوف عليها ومن فقدانها ؟!
هل وصل فعلاً لهذه المرحلة !!

سحب أنفاسه بقوة وصعوبة وكأنه يكاد يفقدها وخرجت كلماته
جوفاء منخفضة يشعر بقواه خارت بالفعل وكأنه يراها تُعدم
أمامه الآن

" أوامر ممن وأنا من وقّع قرار الإخلاء عن سبيلها حتى وقت
المحاكمة ؟! "
أمسك الشرطي ذو الشعر الأشقر حزام بذلته العريض بإبهاميه
وقال بجمود يشبه شخصيته وإن تخلله الكثير من الاحترام بسبب
هوية ومنصب الواقف أمامه

" من محكمة العدل العليا بلندن "

تحرك رأس وقاص بعدم تصديق وامتدت يده له قائلاً بحزم عاد
للسيطرة على صوته مجدداً
" محكمة العدل مختصة بالقضايا المدنية وليس الجنائية
فأرني هذا "

مد له الورقة حينها بحركة سريعة قائلاً

" نحن لا علاقة لنا بهذا وننفذ أوامر المحكمة فقط فقد يتم نقل
القضية والمتهمة لمكان آخر من خلالها "

سحبها منه دون أن يهتم أو يفكر فيما قال والذي يفهم معناه جيداً
وهو بلاغ ما مُقدم لمحكمة العدل يتم إصدار أمر قبض من خلاله
وطعن في قراره الصادر من محكمة أولد بيلي ، وفي حال تم
قبول الدعوة سيتم بالفعل نقل قضيتها حيث قد يفقد فعلياً ورقته
الرابحة وهي إخلاء سبيلها حتى وقت المحاكمة وصدور الحكم .

رفع نظره للذي قال حينها وهو ذاته صاحب العينان الزرقاء
والشعر الأشقر المسرح للخلف بعناية بينما يلتزم مرافقاه
الصمت التام

" بعد أن تأكد لك صدق ما نقول عليك تركنا نقوم بعملنا سيدي
كي لا نضطر لاستخدام العنف لتنفيذ أوامر المحكمة "

وما أن تحرك الواقفان معه أو فكرا في فعل ذلك رفع ذراعه
بطولها بينهم وبينها صارخاً بعناد

" ليتوقف كل واحد منكم مكانه كي لا يُعاقب فلن تتحرك زيزفون
من هنا "

تحدث هذه المرة أحد مرافقيه وقد قال بكلمات هادئة

" يمكنك مراجعة مكتب مدعي عام المحكمة سيدي لا تعرضنا
ونفسك للمساءلة "

شعر بالدماء تغلي في عروقه حتى كانت ستنفجر أوردة عيناه
التي احمرت بشدة وسط بياضها وصرخ نافضاً رأسها كما يده
التي لازالت كحاجز بينهم وبينهما

" أريد أن أعلم من وراء كل هذا والقرار والقضية لدى محكمة
أولد بيلي ووقعته بنفسي ! "

لم يعلق الواقفين أمامه ليس فقط لأنهم لا يملكون جواباً لذلك بل
وبسبب الصوت الرجولي القوي المرتفع الذي وصلهم قبل أن
يظهر صاحبه من خلف ممر باب الشقة

" أنا وراء كل هذا وعليك التنفيذ فوراً "

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 10-05-24, 04:57 AM   المشاركة رقم: 1765
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*
كان الجميع في ضحك ومزاح مستمر وهم يتنقلون بين الأشجار
العالية والأغصان المتشابكة عدا التي لم يغير كل ذلك في مزاجها
شيئاً وهي تتعمد الابتعاد عنهم عدة خطوات بينما تنظر لكل شيء
حولها بعبوس تارة وبلا اهتمام تارة وبغضب تارة اخرى وكأن
مزاجها السيء ذاك يتقلب مع مزاج من كان السبب في كل ما هي
فيه الآن في وضع بات واضحاً بالنسبة للجميع وهو ما جعل
رواح أيضاً يتمسك بالصمت في بعض الأحيان .
تبدل اليومان اللذان من المفترض أن يقضوهم هنا لسبعة أيام
وهم متواجدون هنا شعرت بها سبعة أعوام وكأنها ليست تلك
المتحمسة للمجيء وقضاء وإن يوم واحد فقط هنا حتى أنها
تحججت في كل يوم فيهم كي لا تكون معهم حتى كانت تتطوع
في كل مرة للبقاء مع المجموعة التي ستهتم بترتيب أغراضهم
وإعداد الطعام للجميع ثم لا تفعل شيئاً تقريباً لأنها فقدت فعلياً
المتعة في كل هذا ، وبسبب إلحاح كاتي والأحاديث التي انتقلت
من الشاب الثري صاحب شركة الطيران لتصرفاتها الغريبة قررت
وإن مكرهة مرافقتهم .

توقف الجميع بسبب سقوط إحدى الفتيات وصرختها المتألمة التي
أوقفتهم في وقت واحد وبدأ الأقرب لها بمساعدتها على الوقوف
والجميع منشغل بأمرها عدا التي لازالت تقف في المؤخرة وقد
كتفت ذراعيها قائلة ببرود

" لعلها تكون السبب في عودتنا جميعاً "


عبارة انشغل الجميع عن سماعها عدا من كانت حواسه جميعها
معها وقد استدار رأسه نحوها مما جعلها تنظر نحو الجانب الآخر
تتجنبه متعمدة فتنهد بضيق وتوجه نحوها ، وفي أول محاولة له
للاقتراب منها بعد وصولهم أمسكها من يدها وسار بها عدة
خطوات مبتعدين عن الجميع ورغم اعتراضها ومحاولاتها لإيقافه
إلا أنه لم يتوقف إلا حين أراد هو ذلك وتأكد من أن صوت
صراخهما المؤكد لن يصلهم ، ترك يدها بحركة غاضبة قائلاً

" ألا يمكنك احترامي كزوج لك أمامهم على الأقل ؟ "

مسدت ساعدها بحركة غاضبة وصرخت بالمثل

" أنا لست مجبرة على هذا "

وكان ذاك ما زاد من اشتعاله بينما توجهت سبابته نحو وجهها
قائلا بأمر غاضب

" بلى ورغماً عنك "

كان صراخها أشد وتمردها أعنف وهي ترمي يدها بحركة قوية

" ومن هذا الذي سيرغمني "

" أ..... "

وتوقفت كلماته وسيل صراخه الغاضب الذي كان سيخرج دون
قيود وحواسه جميعها تنتقل خلفه ليس بسبب صوت حركة
الأغصان على مسافة قريبة نسبياً منه بل بسبب النظرة المتسعة
في عيني الواقفة أمامه وشفتاها تتسعان وكأنها تحاول قول شيء
ما وعاجزة عن إخراجه من جوفها ! وما أن استدار نحو الخلف
بحركة بطيئة حتى اتسعت عيناه أيضاً وهو يرى الدب البني
الواقف على ساقيه يديه متدليتان نحو الأسفل ينظر لهما بصمت
مريب ! وتوقفت ضربات قلبه وهو يتراجع للخلف خطوة لكن
الأمر تحول لصرخة عالية شاركه فيها الصوت الأنثوي من خلفه
ما أن قفز ذاك المخلوق الضخم راكضاً نحوهما ولم يشعر بنفسه إلا وهو يمسك بيدها ويركض بها في الاتجاه الآخر صارخان .
*
*
*
لم يظهر على ملامحه أي نوع من الصدمة أو الاستغراب وهو
يرى الذي ظهر من خلف كلماته تلك وقد وقف بين رجال الشرطة
وكأنه واحد منهم فهو يتوقع كل هذا منه ما أن يعلم بمكانها ويبدو
بأنه كان مراقباً بالفعل وما يجهله فقط هو مكان وجودها ، وها
هو لا يضعه بين خيارين كالسابق بل ينفذ مباشرة ولأنه يعلم بأنه
لن يسمح له بتسليمها للمصح النفسي قرر وبكل قسوة أن يسلمها
للعدالة والسجن وكأنه يحميها من الموت بما أشد منه مئة مرة !
طغى شعور المرارة على ملامحه وهو يدرك كل ذلك وظهر ذلك
بوضوح ما أن غادر صمته ونظره لم يفارق العينان الحادة أمامه
بينما حملت كلماته كل معاني الأسى

" لما تفعل كل هذا بحفيدتك جدي لماذا ؟! "

وكالمتوقع منه والمعتاد قابل كل ذلك بكلمات غاضبة غير مبالٍ
بالرجل الممزق أمامه بين قلبه ومشاعره وإنسانيته وكأنه ليس
قطعة منه بل وأعز أحفاده لديه صارخاً في وجهه وطرف عصاه
المدبب موجه نحوه

" لأنقذها منك قبل الجميع لأن ما يحركك نحوها هو مشاعرك
وليس عقلك "

كان في السابق ليدافع عن نفسه وينكر اتهامه له بأنه يحمل
مشاعر نحوها بل ويقولها هكذا أمامها !
لكنه لم يكترث لكل ذلك وقد تخطى فعلياً مرحلة إنكار ذلك إن أمام
نفسه أو أمام الجميع فنفض يده بقوة صارخاً أيضاً

" وهل من العقل أن نسلمها للسجن ؟ "

قال ضرار بكلمات غاضبة

" بل للمصح ولأنك ترفض ذلك فالسجن هو الحل البديل "

صرخ من فوره في وجهه

" ما هذا الجنون ؟ "

وكان ذاك ما جعل ضرار يشتعل أكثر وأشار له بعصاه مجدداً
صارخاً أيضاً

" الجنون هو ما تفعله أنت وما سينتج عنه "

تركه حينها ونظر جهة زيزفون لأن قلب ذاك الجد بات من القسوة
بأن لا يرحمه هو حفيده المفضل فكيف بها هي !
بينما كانت نظراتها منشغلة عنه بالنظر لعدوها الأول والأخير
ومن لا ترى غيره في وجوده بنظرات كفيلة بإحراقه حياً وإن كان
لا يراها أو يبدو لا يهتم لها ، لكنه نجح في سرقة نظرها له ما أن
قال بقهر نافضاً يده

" أين هو ذاك الرجل الذي كان يحميك سابقاً ؟ أين هو ولما
يصمت الآن ؟! لما لا يأخذك من الجميع مجدداً ؟ "

كان على استعداد للتخلي عنها كما لم يفعل من قبل وما لم يطعه
قلبه لفعله أبداً إن كان المقابل أن يحميها منهم جميعهم لكنها
قابلت كل ذلك بما لم يتوقعه أبداً ونظراتها تتبدل للغضب صارخة

" لا أريد أن أذهب معه وإن طلب ذلك "

ونفضت يدها جانباً متابعة بحدة

" لا أريدهم جميعهم ، لا في حاضري ولا مستقبلي "

اتسعت عيناه باندهاش بسبب ما قالت ورد فعلها الهجومي
الغاضب فما الذي يجعلها تقول ذلك عمّن كان السبب وحده بعد
الله لتكون هكذا امرأة بكامل عافيتها بعد أن كان خيار جنونها هو
الأقرب من كل شيء !
من انتشلها من ماضيها الأسود ومن قضايا نهايتها موتها بالتأكيد
وثابر على تعليمها وتثقيفها وفي كل شيء !

حرك رأسه في عجز عن فهم كل هذا وقال باستنكار وصوت
غاضب

" وهل يرضيك الذهاب للمصح النفسي أو السجن ؟! "

" بلى أريد "

قالتها هكذا ببساطة وبكامل هدوئها الغير مسبوق تنظر لعينيه التي من هول صدمته لم تستطع ولا أن ترمش وهمس أخيراً

" ماذا ؟! "

ونفض رأسه بقوة وكأنه يطرد كلماتها تلك منه أو يرفض الفكرة
وتصديقها أو الموافقة عليها وقال بضيق

" زيزفون هل تعلمين تبعات ما تقولينه الآن ! "

همست ببرود عادت للتقوقع خلفه

" أجل "

وما أن انفرجت شفتاه التي كانت تحاكي نظراته وأفكاره الغير
مستوعبة لما يسمع سبقته قائلة بجمود

" إن كان لي رأي في تحديد مصيري فأنا موافقة "

حرك يده أمامها برفض قاطع قائلاً بحزم

" لن أوافق وسنغادر من هنا الآن ولي تفاهم مع قرار تلك
المحكمة "

كانت أنفاسه الغاضبة تتلاحق في صدره الذي أظهر تفاصيله
القميص ناصع البياض من تحت سترته المفتوحة وكأنها إعصار
يجتاح أضلعه لكنها توقفت تماماً بسبب الشفاه الجميلة التي
همست صاحبتها بخفوت حزين تنظر لعينيه

" عدني بأن إسحاق سيكون بخير "

اتسعت عيناه وشعر بقلبه يُسحق بقوة وبألم تَمزقه وكأنها تسحقه
داخله بنظرتها تلك قبل كلماتها التي انتابه الشك للحظة بأنه قد
سمعها فعلاً !
نظرة لم يعرفها من قبل ولا في لحظات حزنها وضياعها القليلة
النادرة تلك !!
وهمست شفتاه دون شعور منه وباستغراب

" زيزفون !! "

فهو لا يمكنه استيعاب ولا تصديق هذا ! لكنّه كان حقيقياً وإن
صعُب عليه تصديقه وما أكده هو كلماتها التالية وما أن تحركت
شفتاها هامسة مجدداً

" سأضع مصيره ومستقبله بين يديك "

أغمض عينيه ببطء وكأنه يحاول إخفاء ألم قلبه بذلك فسعادته بأن
وثقت به أخيراً لم يستطع الاحتفال بها وأفكاره تقوده لأمر آخر
وغشى الألم عيناه التي انكشفت لها مجدداً وقال ما لم ولن يفكر
في منع لسانه عنه وخرجت كلماته من عمق الألم الذي لازال
يشعر به يمزق قلبه هامساً أيضاً

" وماذا عنك ؟! "


كانت نظراته التعيسة المفجوعة تراقب وبترقب مريع حدقتاها
الزرقاء الباهتة التي أدارتها بعيداً عنه وكأنها تهرب بهما منه
قبل أن يتبعها وجهها وهي تشيحه بزاوية صغيرة بعيداً وتبدل
كل ذلك في عينيها لما يشبه السحب الرمادية التي تخفي زرقة
السماء في اليوم الغائم الماطر وكأنهما تتحولان لصخرة صماء ،
ولم تكن كلماتها بأقل منهما غرابة وقد همست شفتاها وكأنها
تحدث نفسها وبصوت أجوف

" أنا مِتُّ في تلك الغرفة من أعوام طويلة "

اشتدت قبضتاه بجانب جسده بقوة وكأنه يعتصر قلبه بينهما أو
يمنعهما من فعلها وجذبها لحضنه متجاهلاً مبادئه وجميع
الموجودين هناك وغشت عيناه سحابة دموع رقيقة بالكاد لمعت
فيهما ولم تعلم كم آذته كلماتها تلك وقتلته وفعلت به ما لن تفعله
أقسى أنواع التعذيب بينما تحرك رأسه برفض في حركة بطيئة
هامساً
" ليس صحيحاً "

نظرت لعينيه مجدداً لكن نظرتها حينها لم تحملّ إلا القوة التي
عرفها فيها دائماً وابتعدت عن الحديث في ذاك الأمر قائلة بكلمات
حازمة تشبه حزم ملامحها الفاتنة تلك

" سأغادر معه وسأضع القضايا جميعها بين يديك لكن إن كان
مصير إسحاق السجن أو حبل المشنقة لن أسامحك ما حييت "

ورفعت سبابتها بينهما هامسة من بين أسنانها

" بل وسأقتلك لتكون جريمتي الأولى ويومي الأخير في
هذه الحياة "

كان التقلب المتناقض في النظرات من نصيبه هو حينها وعيناه
تعبسان فجأة كما حاجباه اللذان انعقدا بشدة فجأة أيضاً وهو
الطبيعي فهي تضع كامل ثقتها به ولأول مرة وهي التي وبكلمة
واحدة منها أوقفت كل تلك القضايا قبل أعوام وتهدده بالقتل حال
فشله في ذات الوقت !! وهو ما لمحته في نظراته تلك وما جعلها
تجتازه بخطوات واسعة قائلة

" يمكننا التحدث عن كل شيء تريد معرفته ولك أن لا تأتي
وتنسى الأمر تماماً "

لو أنها لم تجتازه متجهة نحو الواقفين هناك لكانت لتضحك فعلياً
على الملامح المرتسمة على وجهه بسبب كلماتها تلك فهل
سيرفض وهو من كان يرى ذلك أبعد من أحلامه بأن تهبه قلبها
وتبادله وإن جزئاً بسيطاً ممّا يشعر به نحوها ! هل هو من الغباء
أن يفعلها !!

ما أن استفاق من حالة البله التي تملكته وجمدته مكانه تلك تحرك
نحوهم وهم يغادرون المكان ما أن سارت أمامهم وشعر وكأنهم
يستلون قلبه من أوردته معهم ويرحلون به ، وكان هدفه هو جده
الذي أمسك بذراعه ممّا جعله يقف ويلتفت نحوه فقال سريعاً
ينظر لعينيه

" أين يأخذونها ! لن تسلمها للشرطة ولن تنام في الزنزانة
ولا ليلة واحدة ولا إن كانت بمفردها "

" هه "

الهمس الأنثوي بالضحكة الساخرة المبتورة تلك كان ما جعل
نظرات كلاهما تنتقل نحوها بينما كانت تنظر لعيني وقاص تحديداً
وقالت وتلك السخرية لم تغادر طرف شفتيها المقوسة نحو الأعلى

" تصدق فعلاً بأن رجال الشرطة سيكونون هنا خلال دقائق
فور التبليغ عن المكان ؟ لما كان ثمة جريمة في الحياة لو
كانوا كذلك "

وغادرت ما أن قالت كلماتها تلك تاركة خلفها عيناه المتسعة ليس
لمعرفته الحقيقة تلك بل لتحليلها للأمر بذكاء هكذا بالرغم من
أنهما كانا يحملان ورقة ضبط صادرة من المحكمة رآها بعينيه !
ونظر نحو جده والشخص الوحيد الذي لم يتبعها والذي أكد له كل
ذلك ما أن قال بجمود ينظر لعينيه قبل أن يلحق بهم

" لم تترك لي خياراً آخر وعليك أن تبتعد عن أنانيتك وحبك
التملكي لها وتفكر في سلامتها وثمة قاتل يخترق حتى الجدران
ليصل إليها "

*
*
*
وضع كوب الشاي من يده وانحرف نظره نحو الجالسة عند
الحافة العريضة بين الأرضية والواجهة الزجاجية الكبيرة التي
تفصل بهو المنزل عن شاطئ البحر القريب منه ، وها قد مرّ
أسبوع كامل على وجودهما هنا في بينبان والوضع كما هو عليه
تجلس في ذات المكان في صمت ولا تفارقه إلا لتأكل اللقيمات
القليلة أو للنوم فينام ليلاً ويتركها هنا ويستيقظ صباحاً ليجدها فيه
ولا يعلم كم تكون تلك الساعات التي نامتها !
حتى محاولاته للتحدث معها أو تغيير مزاجها كانت تبوء بالفشل
دائماً فلم تتفاعل في أي مرة معه سوى بكلمات قليلة مبتورة
وابتسامة مقتضبة ، ولم يتحدث عن كل ما حدث بعد آخر مرة
مطلقاً بينما توقفت هي عن مطالبته بالمغادرة أو التحدث مع
ابنتها ووالدها وكأنها أعلنت استسلامها ويأسها منه .

وهذا هو حاله أيضاً بعد أن قطع نفسه معها عن العالم الخارجي
بأكمله لا شيء لديه سوى الجلوس ومراقبتها هكذا وكأنها تمثال
لامرأة فاتنة وَضع فيه من صنعه كل ما يعلمه عن الحزن
والضياع عيناها تبحث في عمق المحيط عن روحها التائهة
وأحلامها الضائعة وسعادتها المسروقة منها وكأنها تبحث فيه
عن نفسها ، عن طفلة عاشت طفولة مزيفة وكذبة كبيرة ، وشابة
عاصرت واقع مبهم غريب تبحث فيه عن حقيقتها ولا تجدها ،
وامرأة بقلب مكسور وروح ممزقة .
فاتنة تخبر البحر عن مدى حزنها وألمها ووحدتها تحكي له وفي
صمت عمّا لن يستوعبه أحد غيره فلا يلقي باللوم عليها ولا
يتهمها أو يحاول مهاجمتها بما حدث كما فعل هو في أول
مواجهة بينهما .

تنهد بعمق وهو يبعد نظره عنها فنحن لا نختار مصائرنا لكننا
نلام عليها ! حقيقة لا يمكنه نكرانها بل وقام بتطبيقها عليها ،
ويحار فعليّاً فيما قد تقرر فعله حيال ما حدث ؟! فإن هي ركضت
خلفه تلتمس غفرانه ومسامحته لها لن تكون غسق التي يعرفها
جيداً وعاش وتربى معها ، وإن تجاهلته وتجاهلت كل ما حدث
وهي ترى نفسها السبب فيه فلن تكون الفتاة التي رباها والدهم
وعلّمها معنى الاعتراف بخطئها والاعتذار عنه بل وإصلاحه !
لذلك هو يفهمها ويشعر بالضياع الذي تعيشه الآن والصراع
الكبير في داخلها بين كبريائها وجرحها وشعورها بالذنب والندم ،
إنها أقوى وأقسى حرب قد يعيشها الإنسان والخسارة العظيمة
فيها هو ما يحدث غالباً .

تحرك نظره معها ما أن وقفت وتوجهت نحو غرفتها مغلقة بابها
خلفها لكنّها هذه المرة تأخرت وعلى غير العادة إن كانت تقصد
الحمام ! وإن خرجت للشاطئ أو الجسر لكان رآها .

وقف وتوجه نحو الغرفة أيضاً وقرّب أذنه من بابها ولم يسمع أي
صوت فرفع يده وطرق عليه بمفصل سبابته قائلاً

" غسق هل أنتِ بخير "

وصله صوتها البعيد المتجهم

" أنا بخير أريد أن أنام قليلاً فقط "

تنهد حينها بأسى وهو يبتعد من هناك ورفع كوبه وتوجه به نحو
المطبخ غسله ووضعه في مكانه المخصص ، وما أن غادره وقف
ينظر ناحية باب غرفتها لوقت وعقله يصارع الأفكار التي تدور
فيه حتى تغلب عليه نهاية الأمر فتوجه نحو الغرفة الأخرى والتي
يتخذها غرفة له وأخرج المفتاح من جيب بنطلونه وفتح باب
الدرج الموجود بجانب السرير وأخرج هاتفه ومفتاح باب المنزل
الرئيسي فهو كان يخبئهم مع هاتفها وحتى مفتاح سيارته فيه
ولم يخرجهم مطلقاً منذ أصبحا هنا فحتى الطعام والملابس
تأتيهم من الخارج دون مغادرة .

ما أن غادر غرفته وقف ونظر ناحية باب غرفتها المغلق كما
تركه وتوجه نحو باب المنزل هذه المرة لأنه لا يمكنه الخروج
نحو الشاطئ فالمكان مكشوف على شرفة غرفتها .

ما أن كان في الخارج سار جانباً لمسافة لابأس بها حتى أصبح
بالقرب من المنزل المجاور لهم ووقف وقام بتشغيل هاتفه ولأنه
كان متصلاً بالإنترنت قبل أن يغلقه أصبحت الإشعارات تنهال عليه
من برامجه جميعها وحتى من سجل الهاتف نفسه .

وما أن بدأ بتصفح أحد المواقع الإخبارية بدأت عيناه بالاتساع
تدريجياً وهو يقرأ الخبر تلو الآخر عمّا حدث بعد مجيئه إلى هنا ،
وكان أهمها وما جعله يفتح قائمة الاتصال سريعاً هو خبر الشرط
الذي فرضه أبناء قبيلة غيلوان للتنازل عن سلالة دجى الحالك في
اتفاقية الثأر القديمة تلك .

اتصل برماح دون تفكير في أي خيارات أخرى والذي أجاب
سريعاً قائلاً

" كيف هي غسق ؟ "

زمّ رعد شفتيه بحنق وقال بعدها وإن ببرود

" قل السلام عليكم على الأقل "

وصله صوته سريعاً وبنبرة مستاءة

" السلام عليكم وكيف حال شقيقتي "

حرك رأسه بيأس منه وقال

" بخير لا تقلقوا عليها ، أخبرني أنت ما هذا الذي قرأته في
الأخبار ؟ هل هو صحيح أم مجرد حديث صحف ! "

قال رماح وبضيق

" أي واحد منه فهم يتحدثون ودون توقف "

أشار بيده جانباً قائلا بضيق أشد

" مسألة الغيلوانيين وشرطهم ذاك أعني فما الذي سيكون
أهم منه ؟ "

كان صوت تنهد رماح أول ما وصله وقبل أن يتمتم بصوت متجهم

" صحيح جميعه "


أمسك حينها رأسه بيده الحرة وتخللت أصابعه شعره وهو يهمس
بضياع وكآبة

"يا الله ..ما هذا يا رجل؟ ما الذي يريده ذاك المجرم بكل هذا ؟! "

كان تعليق رماح سريعاً ويحمل ذات الحيرة والتشتت

" لا أعلم وعجز عقلي عن تفسير غير أنهم يستفزون دجى
الحالك ليخرج للعلن "

مسح بيده على وجهه وكأنه يحاول استيعاب كل ذلك يشعر بعقله
يدور في دوامة لا نهاية لها وقال أخيراً

" الكاسر أين ؟ "

وصله جوابه سريعاً

" في منزل عائلة الشاهين مع شقيقته "

قال حينها وباستعجال

" سأتحدث معه ، وداعاً الآن وبلغ عمتي وآستريا سلامي "

وما أن فصل الخط ودون أن يسمع تعليقه اتصل بالكاسر الذي
كان عكس رماح تماماً احتاج لوقت ليجيب بينما كان صوته
متخدر بسبب النوم وقد قال

" من أنت ؟ "

تبدلت ملامح رعد للضيق وقال

" افتح عينيك جيداً وانظر قبل أن تجيب على المتصلين "

وكان رد فعله شهقة قوية سمعها بوضوح ويبدو بأنه قفز جالساً
على سريره وصرخ

" عمي رعد ! "

وتابع من فوره وباستعجال ولهفة

" أين أنتما ؟ أريد التحدث مع والدتي "

قال رعد من فوره وقاطعاً عليه أي سبيل للتفكير في ذلك

" هي بخير ، ما أخبار تيما وأين هو جدك ومطر ؟ "

لاذ بالصمت لبرهة قال بعدها بصوت كسول وكأنه ليس من تحدث
قبل قليل

" كنت نائماً ولا أعلم أين هم "

تمتم رعد حينها يستغفر الله حانقاً وقال

" مؤكد لم تعلم عن الخبر الذي عجّت به صفحات الأخبار
قبل لحظات "

قال الكاسر سريعاً

" خبر ماذا فالمصائب تتقاذف علينا من كل جانب ؟! "

تأفف حينها في صمت وقال بضيق

" تابع نومك هو الأفضل للجميع ، ولا تنقل أنت الخبر
لشقيقتك رجاءً "

" حسناً تصبح على خير "

كان ذاك فقط ما قاله وهو يسمع صوت رميه للهاتف بعيداً فحرك
رأسه بيأس منه فهل يجهل ذاك الغبي أن الشمس تقترب من
المغيب ! أنهى الاتصال معه ولم يستطع فعلها وإغلاق هاتفه
مجدداً والعودة قبل أن تشعر به بل انتقل من مكالمة لأخرى وخبر
لآخر وهو يعلم عن كل ما حدث بعد اختفائه إن في البلاد عامة
أو عائلة الشاهين خاصة .

وما أن انتهى من كل تلك المكالمات عاد نحو المنزل وهو لا يعلم
ما سيقرر الآن والمؤكد هو إبقاؤها للمزيد من الوقت هنا حتى
تنتهي هذه الكارثة الأخيرة على الأقل .

حين فتح باب المنزل نظر مستغرباً لباب غرفتها المفتوح فهل
استغرقت منه تلك المكالمات كل هذا الوقت ! تحرك نحو الباب
فهو تحدث كثيراً بهاتفه بالفعل وسرقه الوقت دون شعور منه وقد
تكون استفاقت سريعاً .

حين وصل باب غرفتها وقف ينظر داخلها باستغراب فهي كانت
خالية تماماً وباب الحمام مفتوح كما أن باب الشرفة مغلق ! عاد
نحو بهو المنزل وفتش المطبخ ثم غرفته وغرفة الجلوس وغرفة
الطعام ولا أثر لوجودها فوقف وسط المنزل يمسك رأسه بيديه
قبل أن يركض نحو غرفته مجدداً وما أن وصل طاولة السرير فتح
بابها وضربه بقوة يشتم نفسه وهو يركض مغادراً فها قد حدث ما
خشي وتوقع فلا وجود لهاتفها ولا مفتاح سيارته أي أنها غادرت
من هنا وكل ما يخشاه أن تكون تصفحت هاتفها والأخبار فيه قبل
ذلك ، بل ما يخشاه فعلياً هو الوجهة التي تفكر في التوجه
لها الآن .


ما أن وصل الرصيف المحاذي للمنزل وقف ورفع هاتفه لأذنه
وقال لمن أجاب عليه سريعاً

" احضروا لي سيارة وتابعوا خط سير سيارتي بسرعة "

وأنهى الاتصال معه ما أن سمع منه عبارة

( في الحال سيدي )

ووقف ينتظر بنفاذ صبر ونظراته لا تفارق الجانب الآخر من
الطريق ينتظر قدومهم وتمتم باستياء

" تعالوا بسرعة تباً لكم "
*
*
*
اتكأت بطرف جبينها على إطار النافذة المفتوحة تنظر بحزن
للعصفور الصغير الذي يبدو وقع من عش ما أعلى الشجرة
ووالدته تحاول حثه على الوقوف والابتعاد لتحميه من أي خطر
قد يواجه هناك في المكان المكشوف وهي تحاول جاهدة بينما كان
يصدر من الطائر الصغير صوتاً يشبه الأنين أكثر من كونه زقزقة
عصفور ، وشعرت بشوقها لوالدتها يكبر أكثر فقد مر أسبوع
كامل على وقت مغادرة رعد بها من المستشفى ولا أخبار عنهما
ولا أحد منهما فكر بالاتصال بهم ليطمئنوا عليها على الأقل ، لا
تريد شيئاً أكثر من ذلك وإن كان قلبها يتمزق شوقاً لرؤيتها
واحتضانها .
مر الأسبوع والأجواء في المنزل باتت تراها أقل توتراً وسوءاً
وإن كانت لم ترى فيها والدها تقريباً ، وإن قابلته مصادفة فلا
تتحدث معه لأنه لم يتبادل الحديث مع أحد تقريباً سوى للضرورة
وهو عمه صقر غالباً بينما بدأ جدها يغادر عزلته تدريجياً ،
يتحدث أحياناً ويحاول الابتسام وإن كانت موقنة بأنها مجرد إجبار
للنفس من أجلها فقط إلا أنه في حال أفضل من السابق خاصة بعد
زيارة عمتها واليومان اللذان قضتهما معهم وكم كانت ممتنة لذلك
فهي وبحكم حياتها معه سابقاً استطاعت تحسين مزاجه بحديثهما
الدائم عن ذكرياتهم السابقة ، عن جدها شاهين ووالدها وأعمامها
وذكريات شهدتها في طفولتها جعلتها ترى وبوضوح لمعاناً
غريباً يشع في عينيه وهو يتذكرهم ويتحدث عنهم .
وحتى الكاسر كان منسجم معهم تماماً وكأنه فرد فعلي من العائلة
بل واستطاع أن يستحوذ على محبة عمتها ، ولن تستغرب هذا
فهو مرح بروح رائعة يجذب الجميع له وقد صنعت منه والدتها
كما أرادت فعلاً رجل بعيد كل البعد على ما عليه عائلة شراع
صنوان رجال الحروب والسياسة وحتى عائلة الشاهين ، ومتأكدة
بأن حياتها مع الرجل الذي تزوجته السبب لأنه استطاع يوماً ما
أن يدوس على قلبه وسعادته وعائلته لأنه اختار الوطن ، اختار
سعادة شعبه وحريتهم وأمانهم ليتنزع من نفسه كل ذلك
ويهبه لهم .
مسحت الدمعة التي بللت رموشها دون أن تفارقها وهي تنظر
لقفل الباب الذي تحرك بعد طرقتين متتابعتين قبل أن ينفتح وشع
وجهها بابتسامة صادقة امتزجت مع الحزن العميق في عينيها
لينتج عنه صورة رائعة الجمال تشبه صاحبتها وهي تنظر للذي
توجه نحوها مبتسماً ، والذي ما أن وصل عندها حضنها من
فوره يشد ذراعيه على جسدها يدفن ملامحه في نعومة شعرها
ليأخذها لعالم مختلف لم تعرفه يوماً وهي تستمع لضربات قلبه
الثابتة مغمضة العينين ، كان هذا الحضن الذي تشعر فيه بالأمان
بعد حضن والدها ومتيقنة من أنه سيكون أمانها دائماً في وجود
ذاك الوالد أو في غيابه وهذا ما تحتاجه المرأة من الرجل
( الأمان ) فهو أهم من الحب ولن تستفاد أي امرأة من حب رجل
لا يشعرها بذلك ، وهي تجدهما كلاهما لديه .
همست بينما ارتفعت يدها لخصره تحضنه بقوة

" اشتقت لك "

وأمسكت ضحكتها تخفي وجهها في صدره ما أن همس عند
أذنها بابتسامة

" من يشتاق لشخص يذهب إليه يا كاذبة "

ابتعدت عنه حينها ونظرت لعينيه وقالت بابتسامة مشاكسة

" لن أدخله إلا عروس بثوب زفافها "

لم يستطع إمساك ضحكته وقال بابتسامة مائلة

" عروس تزفها والدتها راضية وسعيدة ووالدها مبتسماً "

خبت حينها ابتسامتها ولتغير مجرى ذاك الحديث بأكمله قالت
تعود لحديثهم الأسبق وبضيق تمثيلي

" وكأنني لم أتصل بك ! "

عقد حاجبيه ورفع سبابته والوسطى وقال ببرود

" هي مرتان فقط في سبعة أيام "

أمسكت خصلة من شعرها وادارتها حول سبابتها قائلة بابتسامة
لعوب تذكره بآخر ما قاله في مكالمتهم سابقاً

" لأنه وراءك أسبوع حافل الله وحده يعلم كيف سيكون "

ضحك وأمسك بذراعيها وهمس بابتسامة
" يا إلهي ماذا أفعل مع هذه الدمية "

لكن ابتسامته تلك اختفت تدريجياً مع اختفاء ابتسامتها ما أن
وصل لهما وبوضوح صوت السيارة التي سارت عبر حديقة
المنزل ووجهتها بالتأكيد بابه ، وأعادها هو لشفتيه سريعاً بينما
غمز بعينه يشير لمكان قدومة

" لِما لم تركضي إليه ! "

لم يبدر منها أي رد فعل ولم تفعلها كما كانت في كل مرة تتركه
وتركض له مسرعة ، كل ما تحدث حينها هو نظراتها الحزينة
والدموع التي لمعت في عينيها تحكي تعاسة لا يمكن وصفها بأي
كلمات ، ولأنه يفهمها جيداً بل وأكثر من نفسها هي ارتفعت يداه
لوجهها وأحاطهما به وقال بابتسامة رجولية عميقة تشبه كلماته

" تيما لن تشككي في حب والدك لك أليس كذلك ؟ "

تحرك رأسها بإيماءة خفيفة بينما همست بخفوت حزين والدموع
لازالت تتجمع بين رموشها

" أبداً "

ابتسم وقال ناظراً لعمق عينيها

"إذاً علينا جميعاً تفهم ما يمر به "

غطت التعاسة ملامحها الحزينة وتكسر صوتها وهي تهمس
ببحة وألم

" أقسم أن قلبي يؤلمني عليهما كليهما "

تنهد حينها وهو يشتت نظراته بعيداً عنها وكأنه يهرب منها فجأة
وهو ما قرأه ذكاؤها الفطري سريعاً وتعالت ضربات قلبها وقالت
بتوجس تحاول النظر لعينيه

" قاسم عيناك تخفيان شيئاً ! "

عاد ونظر لها مجدداً وأبعد يديه عنها ولاذ بالصمت لبرهة كم
شعرت بها أعوام طويلة ، ورحمها أخيراً وقد قال بتردد واضح

" والدك وخالي صقر كانا في الجنوب "

خرجت منها شهقة واضحة حينها تغلبت عليها قبل أن تنطلق هذه
المرة راكضة ناحية الباب وغادرت الغرفة وهو يتبعها بخطوات
مسرعة ، فالاجتماع مع أبناء غيلوان كان اليوم إذاً ؟ فمهت الآن
لما هو هنا وقد ترك جميع مشاغله فمنذ تم تعيينه كرئيس لجهاز
المخابرات لم يزرهم هنا ولا يرجع لمنزله سوى ليلاً وفي وقت
متأخر لينام .

وكان ما فكرت فيه صحيحاً وهو سبب مجيئه لأنه يخشى أن يغمى
عليها كالمرة السابقة أو أن تؤذي نفسها وهو لا يعلم ما سينتج
عنه اجتماعهم ذاك وهل سيوافق مطر على شرطهم أم سيغيرون
شروطهم جميعها أو سيتم إلغائها نهائياً بعد محاولة توسط كبار
رجال الجنوب مجدداً .

حينما وصل بهو المنزل وقف وهو يراها وخاله صقر فقط واقفان
هناك ! وبينما كانت هي توليه ظهرها كان صقر مقابلاً له وفهم
سريعاً النظرة التي وجهها له فهو يلومه على إخبارها بالأمر ،
فبادله بواحدة أخرى يخبره فيها بأنه لم يخطئ فهي ستعلم في
جميع الأحوال ويريد أن يكون موجوداً بقربها حين يحدث هذا .

اقترب منهما وهي تعيد السؤال عليه مجدداً تسأل عمّا حدث لكنه
نظر لقاسم الذي قال وهو يقف بجانبها

" أين هو مطر ؟! "

وكان سؤاله ذاك كطوق النجاة للذي نظر نحوه وقال

" ذهب للقصر الرئاسي وترك لي سيارته "

زفر حينها قاسم نفساً طويلاً وهمس

" وأخيراً "

ورفع يديه جانباً وهو يتابع
" وأخيراً قرر دخوله مجدداً حتى أصابنا الذعر من فكرة أنه
سيتركه وبشكل نهائي "

قال صقر متعجباً

" ولما فعل هذا ! "

حرك الواقف أمامه كفيه بمعنى لا أعلم وقال

" لا أفهم لما فعلها ولما دخله الآن ! "

وتبدلت نبرته للاستياء وهو يتابع

" كل ما أعلمه بأنه تركنا نحارب بعصي خشبية كل ما حدث
ووضعنا أمام اختبار لم نعرفه حياتنا "

ظهرت ابتسامة صغيرة على شفتي صقر وإن لم تصل لعمق
عينيه وقال بفخر

" ونجحتم فيه والحمد لله "

تحرك رأس قاسم برفض تصحبه تنهيدة عميقة وقال

" ليس تماماً فكل ما فعلناه يُعد مسكناً لحظيّاً فلن ينهي كل هذا
بعد الله غيره "

كانت نظرات تيما الضائعة تتنقل بينهما حتى تأففت نهاية
الأمر قائلة

" اتركونا من كل هذا رجاءً وأخبرني ما الذي حدث معكم عمي
صقر أرجوك "

وقالت آخر كلماتها تلك تنظر لصقر الذي تنهد بأسى وقال بنبرة
غريبة وكأنه مستاء من الجميع حوله

" لم يترك مطر أحد منهم يتدخل ولا ليحاول إقناعهم بالتنازل أو
تغيير تلك الشروط "
كانت الصدمة من نصيب تيما وقاسم معاً وتبادلا نظرة متشابهة
قبل أن يسرق نظرهما صقر مجدداً وقد تبدل مزاجه للضيق
فجأة وقال

" قسماً أنهم مجموعة حمقى وإن كنت مكان مطر لأمرت بزجهم
في السجن ولن آبه لمشايخ قبائل البلاد بأكملها وليس الجنوب
فقط "
جعلت كلماته تلك توجس الواقفان أمامه يصل لدروته وتكاثرت
التساؤلات في رأسيهما ، وبينما عجزت تيما عن تحريك شفتيها
أو لسانها استطاع فعلها قاسم وقال بتوجس

" ما معنى أن يرفض مطر تدخل الجميع ! "

تبدلت ملامح صقر للغضب المكبوت يشد على أسنانه بغضب
وكأنه يغرسها في لحم شعيب تحديداً وقال

" لأنه يعلم عن غطرسة عدوه ولن يسلم له عنقه مرتين
ليحاصره أكثر "

وكانت تلك القذيفة الأشد من سابقتها عليهما وكأنه يتعمد قتلهما
بالبطيء !
وكان قاسم من تحدث أيضاً لأن الواقفة بجانبه تعيش ما يعجزها
فعلياً عن التحدث بينما قال بنفاذ صبر

" خالي ارحم كلينا أرجوك "

ولم يتأخر جواب صقر عنه أكثر من ذلك وهو ينظر لعينيه وقد
لوح بيده بحركة غاضبة تعبر عمّا يشتعل داخله وكرهه الشديد
لهم قائلاً

" ما الذي سيحدث مثلاً ؟ لقد ضحى من أجل ثلاثتهم ووافق
على شرطهم الوضيع ذاك ودون أي تنازلات منهم ولا وساطة
من أحد "
*
*
*
نظرت لصورتها في المرآة ورفعت يدها لأذنها وأبعدت خصلات
شعرها البني خلفها ولامست أطراف أصابعها شحمة أذنها تلك
وتجعدت ملامحها بألم فقد تم نزع الضمادة عنها اليوم وكذلك
الغرز لكن لازال أثر الدماء الجافة يشكل خطاً مستقيماً فيها كما
لازالت تشعر بالألم ما أن يلامسها أي شيء ، وتنهدت بأسى وهي
تهرب من تلك العينان فحتى ألم كتفها اختفى وبشكل نهائي تقريباً
فقد مر أكثر من أسبوع على وجودها هنا كانت باقي أيامه هادئة
تماماً لا يشبه كل تلك الزوابع التي رافقت وصولها ويبدو كان
صادقاً حين قال

( لك هذا إذاً ماري وهو ما يليق بك )

وهل ستشكك في صدق ما يقول ! فعل دائماً ما أراد وقرر دون
تراجع أو تغيير لأنه وللأسف لا يملك قلباً غبياً مثلها .
رفعت نظراتها المليئة بالألم مجدداً وتركز نظرها على ذاك الأثر
الذي تجزم بأنه سيبقى ملازماً لها كحال كل ما تركته السنين في
روحها من ندوب ، وابتسمت بأسى وهي تتذكر كلماته وهو
يوبخها لأنها أزالت أثر الجرح القديم في طرف جبينها ، حينها
كانت مشوهة في نظر الجميع ويبدو بسبب ذلك باتت تبحث عن
الكمال في خَلقها كي لا تنظر لنفسها كنظرات الجميع لأخلاقها أم
أنها كانت تخدع نفسها بذلك فقط وكل ما دفعها لفعلها هو
انتظارها للقاء يجمعهما مجدداً وأرادت أن لا يرى أي عيب في
ملامحها لكنه بحث عن مارية الطفلة بكل ما فيها حتى ذاك الأثر
في جبينها .
تنهدت بأسى وهي تبتعد عن تلك المرآة فهي الآن لا تشعر بأي
رغبة في التخلص من هذا الأثر ليس لأنه السبب فيه ولا لأنها لم
تعد تهتم بكمالها الخارجي بل لأنها فقدت الرغبة في كل شيء
وروحها باتت خاوية كجسد تمثال أجوف .

نظرت ناحية باب الغرفة ما أن طرقه أحدهم وقالت وهي تعود
بنظرها للأوراق التي بدأت بجمعها لأنها تستعد للالتحاق بجامعتها
الجديدة كحال حياتها التي لم تستقر يوماً

" تفضل "

انفتح الباب كاشفاً عن جسد الخادمة الممتلئ قليلاً والتي دخلت
قائلة بابتسامة

" جيد أنك مستيقظة فالسيارة في انتظارك وعليك أن
ترتدي ملابس ... "

رفعت مارية نظراتها المستغربة لها بينما قاطعت هي نفسها فجأة
وقالت بضحكة صغيرة

" أو لا يحتاج الأمر أن أحرج نفسي وأقول هذا لك فملابسك
محتشمة دائماً "

تركت الاوراق من يديها حينها وقالت باستغراب أشد

" ولما ! هل ثمة زوار على العشاء ؟! "

شعرت بجدار من حديد صدم وجهها ليحوله لكتلة لحم واحدة ما
أن قالت الواقفة أمامها مبتسمة

" بل لأنكم مدعوون من قبل الأميرال غامسون لزيارة قصره "

" مدعوون ممن ! "

كان ذاك فقط ما استطاعت شفتاها المتصلبة التفوه به وعقلها لم
يستوعب بعد ما سمعته منها وكأنها تحاول تكذيب أذناها ، بينما
لم تتأخر عنها التي لم تكن تعلم بأن الواقفة أمامها الآن قد فقدت
أنفاسها بل وشعورها بالأرض تحت قدميها وهي تندفع قائلة
بحماس وسعادة

" كيف لا تعلمين عن هذا والبلاد بأكملها تحتفل بأولى مراسم
الزفاف الملكي ! "

********

المخرج : ~

بقلم سارة عبد الحميد

من ماريا الى تيم

اريد ان انسى وان اتشرب النسيان
اريد ان اكسر القضبان
اريد ان احذف من القاموس كلمة الرحيل
ان اكتم صوت العويل
ان ينسى لسانُ خدي طعم الدموع
ان تستأنس عيناي برؤيتك وان نمحو كل ماقيل
وان اظل هائمة في ذكرى حبنا الجميل


نهاية الفصل

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
(الجزء, المشاعر, المطر, الثاني)،للكاتبة, الرااااائعة/, جنون
facebook




جديد مواضيع قسم قصص من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t204626.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 27-06-17 09:03 PM


الساعة الآن 10:19 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية