كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
كانت نظراته تراقبها منذ جلست وهي تقلب الطعام بالملعقة وما
وصل منه لشفتيها القليل فقط وكأنها تحاول إضاعة الوقت بهذا
ليمضي فقط ! وما أن وضعتها جانباً متمتمه تحمد الله غادر
صمته قائلاً بضيق
" هل تعتبرين هذا طعاماً ؟ لقد تركت تناول العشاء لهذا
الوقت لتأكلي "
وقفت وهي تضع المنشفة جانباً قائلة بصوت مرتخي يشبه
شحوب ملامحها الرقيقة
" لم تعد لديّ رغبة في تناول المزيد "
لكنها لم تغادر مكانها بينما ارتفع نظره معها وقد قالت
" أريد هاتفي أو أعطني هاتفك لأتحدث مع ابنتي ووالدي "
عاد بنظره ليديه التي كان يقطع الخبز بينها متمتماً ببرود
" هم بخير ولا يحتاج الأمر أن تتحدثي معهم "
قالت بضيق
" رعد ما هذا السجن الذي تفرضه ؟ "
وضع الخبز من يده ونظر لها وقال بضيق أشد
" ليس سجناً بل وصايا طبيبك وأنا أنفذها "
قالت بغضب محتج
" أنا أعلم منه بما يصلح لي "
حرك رأسه برفض صامت وكأنها لا تشتعل غضباً أمامه فصاحت
تضرب صدغها بيدها في أولى بوادر الانفجار الذي انتظره طويلاً
" عليا أن أتحدث معهما وأعتذر منهما قبل أن أفقد عقلي يا رعد
افهم هذا أرجوك "
كان يشعر بالمرارة بسبب كلماتها التي كانت تذبح قلبه وقد زادها
لمعان الدموع في عينيها الواسعة فهو يفهم جيداً ما تمر به ،
ورغم ذلك خالف أوامر طبيبها أيضاً ولم يستطع مقاومة كلماته
وهي تخرج من بين شفتيه بينما كان ينظر لعمق عينيها
السوداء الفاتنة
" هم فقط ؟! "
كان يعلم بأنه وجه سؤال لم تتوقعه بل ولم يتوقعه هو أيضاً !
لكن ما استطاع توقعه حينها هو رد فعلها وهي تدير ظهرها له
متوجهة نحو باب الغرفة لتهرب كالمرة السابقة من الحديث عنه
لذلك لحق بها سريعاً وأمسكها من ذراعها موقفاً إياها مرة أخرى
أيضاً وأدارها نحوه قائلاً بضيق
" ما معنى تهربك من الحقيقية يا غسق ؟ "
نفضت ذراعها منه وقالت بضيق مماثل
" لأنهم من سيقبل الاعتذار ويتفهم أسبابي فقط يا رعد فتوقف
عن محاصرتي به في كل حديث بيننا "
كان ينظر لعينيها بصمت ، للألم الذي يخفيه كل شيء فيها
عداهما وعن نوع الندم الآخر الذي ترفض التحدث عنه حتى الآن
ويخشى أن يقتلها الصمت عنه وكتمه في داخلها ، صمت جعلها
تنفجر مجدداً ونفضت يديها بقوة صارخة بحرقة والدموع
تملأ عينيها
" لقد .. لقد دمرت كل شيء يا رعد ، الوطن وعائلتي والجميع ،
آذيت ابنتي ووالدي معي "
وتقاطرت الدموع من عينيها نهاية الأمر متحررة من القيود التي
كانت تتعبه أكثر منها وقالت بمرارة وصوت كسير مختنق تشير
بيديها لنفسها
" أنت لا تعلم ما أشعر به هنا يا رعد ، أنت تقتلني أكثر بسجني
في هذا المكان ولست تساعدني "
كانت قبضتاه تشتدان بقوة تكاد تمزقهما ولا شيء غيره أمامه فلا
يمكنه احتواء دموعها ولا حزنها في حضنه وإن كانت مشاعره
أخوية صرفة ناحيتها لذلك لا شيء أمامه سوى الاحتراق في
صمت ، لكنّه لن يسمح لها أيضاً بأن تغوص في أخطاء الماضي
مجدداً حتى تدمرها نهائياً لذلك قال بهدوء حذر ظهر واضحاً في
صوته كما عينيه
" وهو تأذى أكثر منهم يا غسق لكنّ رجل مثله لا يتحدث ولا
يرى أحد ذلك فيه وهذا لا يعني بأنه لا يشعر "
ضربت بأصابعها على صدرها بقوة صارخة ببكاء وألم
" ولما أكون أنا الملامة ؟ أليس هو من تركني أتخبط لأعوام
طويلة لأصل لما وصلت له الآن وهو يخفي الحقيقة عني ؟ هل
من العدل أن تُترك في أرض المعركة بلا سلاح ولا خطة وتُلام
فيما بعد ؟! "
غادر هدوئه وقال بضيق وباحتجاج رافض وسبابته تشير نحو
البعيد بحركة متكررة
" إذاً والدي ووالدك في الذنب سواء ، وحتى ابنتك التي كانت
تعلم عن وجود تلك المرأة وتخفيها عنك "
وتوجهت سبابته نحوها وهو يتابع بصراخ أعنف
" الجميع أخفى الحقائق عنك يا غسق لكن لومك يتجه نحو
شخص واحد فقط ، جميع من تري بأنهم تضرروا بسببك كانوا
السبب في تضررك أيضاً واستطاع قلبك تجاوز ذلك ناحيتهم "
صرخت بصوت أعلى مسكتة إياه وكأنها تفعلها مع عقلها قبله
" لن أعيد ما قلت في كل مرة يا رعد "
لكن ذلك لم يجعله يصمت بل قال بحدة
" أعلم بأن كبريائك لا يسمح لك بالاعتذار من شخص لن يقبل
ذلك منك لكن هذا لن يساعدك في تجاوز ما تشعرين به
يا غسق "
كان يواجها بالحقيقة وإن آلمتها لكن نكرانها ومحاربتها سيؤلمها
أكثر من ذلك وهو ما ظهر بوضوح حين أدارت ظهرها له
وركضت باتجاه الغرفة واغلقت الباب خلفها ووقفت مستندة عليه
والدموع التي حاربتها لساعات بدأت بالتدفق ودون توقف وقد
قرر عقلها إكمال عقوبتها أيضاً والمواقف مع أصواتهم تتكرر
داخله دون توقف
( لنختصر المسافات يا غسق ، اتركينا نعطي لأنفسنا فرصة
أخيرة واستمعي لي وقسما سيتغير كل شيء )
( غسق لا تكوني والجميع وكل شيء على مطر )
( هذا استنكرني بعدك يا غسق ، رفضني لأعوام لأنك لم تعودي
فيه ، سرق النوم من عيناي لليالٍ يطلبك فما حجم غرورك الذي
لم يشبعه كل هذا يا ابنة دجى الحالك ؟ )
( لا تطعني هذا يا غسق ، إياك والغدر به يا من وحدك فيه )
( قسما لن أسلمك لأي رجلٍ كان وأنا أعلم بأنه لازال لي مكانا
وإن صغيرا في قلبك ، وإن حدث يوماً وفعلتها فتأكدي بأن الموت
كان من نصيب ما هو لك وسط هذه الأضلع أيضا يا ابنة
الشاهين )
( تلك هي الحقيقة يا غسق فلن يتمسك ابن شاهين بما لا يريده
ولن يأخذ ما هو ليس له ، لا يفعلها وإن كان الموت خياره
الآخر )
( غيسانة شاهين الحالك )
( على ابنة شراع صنوان ان تعود لعائلتها والأبناء حق للوالد )
( وبما أننا هنا من أجل طلاق الأم وإبطال زواج الابنة فعلى الحق
أن يعود لأصحابه )
( لن تجدي من ينقذك من الهلاك الذي سترمين نفسك فيه في كل
مرة تذكري هذا جيدا , وتذكري أيضا بأن الندم لا يصلح شيئا
انكسر وانتهى كما أن الموت ليس المأساة الوحيدة التي تنهي
الإنسان فثمة من يعيش يتمنى الموت ولا يجده ولومه لا يتعدى
نفسه ، تذكري كل هذا حين تمرين بموقف مشابه مستقبلا )
( لن أتدخل كي لا تلقي باللوم سوى على نفسك حين تدمري
بيديك ما يحمله لك في داخله يا غسق فالرجال أمثال مطر شاهين
لا يعشقون بسهولة وليس أي امرأة تلك التي تسكن الموجود
وسط أضلعهم فخياراتهم عظيمة مثلهم تماما كما قراراتهم بالوداع
والفراق إن جُرح كبريائهم يا شقيقتي لا تنسي هذا )
ضربت بيديها على أذنيها بقوة تصرخ باكية وكأنها تطرد تلك
الأصوات منها وازداد بكائها حدة كما العبرات الموجعة التي
خرجت دون رادع يصرخ بها قلبها قبل جوفها قد تحررت معها
آلام سنين طوال ووجع اعتمر قلبها وذبحه لأيام تساوي سنوات
عمرها تشعر بكل شيء في داخلها يتمزق مع كل صرخة تتحرر
من أضلعها مختلطة بعبرة موجعة أكثر منها وكأنها فقدت صلتها
بكل شيء حولها ولم تكن تعي ولا تسمع ولا صوت رعد الذي
كان يطرق الباب ويترجاها أن تتوقف عن إيذاء نفسها يعدها نادماً
أن لا يتحدث في الأمر مجدداً .
*
*
*
توجهت نحو باب الغرفة فتحته وتأففت وهي تغلقه بقوة وعادت
نحو الداخل فهي نسيت أن ابن عمتها هنا ولا يمكنها الخروج
هكذا توجهت نحو الخزانة وفتحتها وأخرجت فستانا طويلا
بأكمام طويله وقماش ربيعي خفيف لبسته فوق ثيابها على عجل
وسحبت حجابها وهي تتوجه نحو باب الغرفة ووضعته على
رأسها وهي تغادر بينما رمت أحد طرفاه نحو الخلف بإهمال
فلا يمكنها النوم قبل إن تراه خاصه وهو غاضب منها هكذا
وإن كانت تتوقع ماستسمعه منه لكنها مستعدة لتلقي كل ذلك
المهم أن تراه وتتحدث معه يكفيه كل ما يمر به الآن وحيدا
وها هي تزيد الوضع سوءا بحماقاتها
ما أن وصلت بهو المنزل كانت ترى خطواته تصعد آخر عتبات
السلالم فأسرعت بخطوات شبه راكضه لكنها ما أن كانت في
الأعلى كان قد دخل غرفته وأغلق بابها فتوجهت نحوه تقاوم
ترددها بتجاهل الصوت الصارخ داخلها يأمرها بالعودة لغرفتها
وترك الأمر لوقت آخر لأنها تعرف نفسها جيدا لن تنام ولن يهنأ
لها بال وما أن وقفت أمامه رفعت قبضتها وطرقته دون الوقوف
للتفكير لحظه في الأمر وما ستقوله له ولما هي هنا
لم تكتشف بأنها كانت تحبس أنفاسها إلا حين وصلها صوته
الجامد الجاد من الداخل وإن لم يختفي تعبه الواضح فيه
" أريد أن أنام ياتيما "
حبست غصتها مع عبرتها والدموع تلمع في عينيها وكأنها تناجي
الخشب الأصم أمامها أو أنه يراها من خلفه لكن كل ما سمعته
بعدها هو صوت إغلاقه القوي لباب الحمام فتنهدت بحسرة وحزن
نفساً طويلاً شعرت به يَخرج بروحها معه وأولت ذاك الباب
ظهرها تمسح عيناها ببطء من أثر الدموع التي لم تفارق رموشها
أساساً وتوجهت نحو السلالم عائدة من حيث جاءت تنظر
لخطواتها بحزن وخيبة أمل .
وما أن وصلت للأسفل توقفت مكانها تنظر لطيف الرجل الذي
دخل من باب المنزل حينها وكان قاسم الذي اعتقدت سابقاً بأنه
غادر لمنزله وليس ما يزال هنا ويبدو كان يتمشى في الخارج أو
جالساً هناك !
لمعت الدموع في عينيها مجدداً ما أن اقتربت خطواته منها يداه
سجينتا جيبي بنطلونه الكحلي الفاخر وقد قال بكلمات هادئة رزينة
" ما كان عليك التحدث معه وهو في مزاج سيء "
همست بصعوبة تجاهد عبرة سجينة أضلعها بينما نظرها لم
يفارق عينيه من خلف دموعها المتحجرة هناك
" ليته تحدث وإن غاضباً وصرخ بي ، لا أعلم إلى متى سيكتم
في نفسه ..! حتى ينفجرَ قلبه ؟ "
قالت آخر كلماتها تلك بصوت كسير حزين قابله الواقف أمامها
بتنهيدة عميقة وهو يبعد نظره عنها متمتماً بشيء من البرود
" لا تخشي من ذلك فهو أخرجه بطريقة ما "
اقترب حاجباها باستغراب وقالت وكأنها تذكرت فجأة ما حدث هنا
قبل قليل
" ماذا قال وعن ماذا تحدثتما في مكتبه ؟! "
نظر جانباً وكأنه لازال يتجنب النظر لها أو يهرب من تلك العينان
الدامعة وتمتم بجمود
" لا تهتمي للأمر كثيراً "
تحرك رأسها برفض وقالت بحزن ولم تفارق نظراتها جانب
وجهه المقابل لها
" بات كل شيء متوقع بالنسبة لي فقل ما لديك يا قاسم "
نظر لعينيها الحزينة الكسيرة وتنهد بقلة حيلة واقترب خطوة
أخرى منها وارتفعت يده لوجهها ومسح بظهر سبابته المثنية
تحت جفنها الدمعة المعلقة في رموشها حتى الآن في حركة
جعلتها تغمض عينيها متنهدة بأسى حزين ، وما أن أبعد يده
قربها من شفتيه وقبّل أثرها العالق في إصبعه وقال بخزن وهو
يبعدها ببطء بينما لم يفارق نظره عيناها
" حتى متى ستحترق شمعتي بسببهم ؟ حتى تنتهي واحرم منها
هي أيضاً ؟! "
عادت تحرك رأسها والدموع تلمع في عينيها مجدداً وكأن الكلمات
تختنق في حنجرتها وترفض الخروج ، وما أن فكر في إمساكها
من ذراعها وسحبها لحضنه لعله يخفف وإن القليل عنها لأنه
عاجز عن فعل غير ذلك توقف مكانه بسبب انحراف نظراتها خلفه
وحيث صوت الخطوات البطيئة التي وصلت لسمعه أيضاً فاستدار
برأسه جانباً ونظره يتبع صقر الذي اجتازهما متمتماً بالسلام
وكأنه يُخرج الكلمات مكرهاً من جوفه المتعب المنهك ، وما أن
أصبحت تيما تحديداً خلف ظهره استدارت نحوه بحركة واحدة
وكأنها تذكرت حينها فقط بأنها رأته وبأنه كان متغيباً مع والدها
طيلة النهار حيث حتى الإعلام ورجاله بل وحرسه لا يعلمون
وقالت بكلمات مندفعة سريعة بينما تشتد أصابعها البيضاء على
قماش حجابها الناعم الملفوف حول عنقها
" عمي صقر ماذا حدث وما الذي توصلتم له معهم ؟ "
توقفت خطواته فجأة واستدار ببطء نحوهما ونظر لعينيها بصمت
لبرهة قبل أن يقول
" لا شي فقد طلب أحد مشائخ الجنوب أن نجتمع في منزله نهاية
الأسبوع القادم وسنرى ما سيحدث حينها "
وكما توقعت كان ثمة اجتماع ما يجمعهم بتلك العائلة وأولئك
الرجال وهو لم ينكره ، وحيث خانتها هي كلماتها تنظر لعينيه
بحزن فقط كان السؤال الأخر من قاسم الذي تحرك نحوه
بخطوتين قائلاً
" كنتما في الجنوب إذاً ؟ "
تحرك رأس صقر إيجاباً وقال بتنهيدة قصيرة
" ليس تماماً فقد كان ثمة أمر مهم يريد مطر فعله بنفسه
ورفضت إلا أن أكون معه "
كان الاستغراب الذي رآه في عينيهما متوقع تماماً ، ولأن الأمر لا
يخص ما يريدان الاستعلام عنه قال ونظره موجه نحو قاسم
" كيف هو حال عمير ؟ هل ثمة أخبار عنه ؟ "
لون الحزن عيني الذي تنهد قائلاً
" ها نحن ننتظر مرور الوقت الذي حدده الأطباء "
تحركت حينها خطوات تيما متوجهة نحو ممر غرفتها لأن الحديث
عن الأمر الذي يخصها قد انتهى على ما يبدو وآخر ما سمعته
صوت صقر قائلاً
" مطر قال بأنه يصعب إخراجه خارج البلاد بسبب عملهم السري
سابقاً في الخارج ، كم أتمنى من الله أن يُتم شفائه "
فتمتمت شفتاها ب ( آمين ) وهي تبتعد تماماً عن أصواتهما فكم
أحزنها فعلاً ما حدث له فهو صديق والدها وأحد رجاله وزوج
ابنة خالة والدتها وصديقتها المقربة قبل المركز المهم الذي كان
يتقلده وما فعله من أجل البلاد قبل وبعد عودته لها .
ما أن دخلت غرفتها غيرت ثيابها وارتدت بيجامة نوم ناعمة
بأكمام طويلة وتوجهت نحو مرآة التزيين جلست أمامها ونظرت
لوجهها الحزين وبشرته الشاحبة وعيناها التي باتت غائرة تعيسة
وظلال بنية طفيفة بدأت تزين بشرة جفنها السفلي وكأنها دفنت
للتو أحد أفراد عائلتها !
تنهدت بعمق مغمضة عينيها وما أن فتحتهما نظرت لحركة يدها
وهي تفتح الدرج الواسع أمامها ونظرت داخله ويدها تمتد لربطة
الشعر ورفعتها بيديها عالياً وأدخلتها خلال رأسها ثم رفعتها فوق
جبينها فابتعدت بذلك غرتها بعيداً عن وجهها وعادت ونظرت
للدرج مجدداً تُخرج العلب الموجودة فيه وتقرأ الكلمات الانجليزية
المطبوعة عليه قبل أن ترميها مكانها وتعود وترفع الأخرى حتى
توقفت عند إحداها أخيراً فتحتها وأخرجت بعضاً من السائل
الكريمي فيها ونظرت لوجهها في المرآة ووزعته على بشرتها
الناعمة شديدة البياض وبدأت بتوزيعه عليها بأطراف أصابعها
بحركة بطيئة بينما لم يترك نظرها صورة عيناها الحزينة أمامها
ولا تفهم لما تفعل هذا !
هل تهرب من أفكارها ؟ من نفسها أم من واقعها ؟! حتى أنها لم
تكن من اشترى كل هذا بل والدتها وقت وجودها معها في منزلها
وهي جلبتهم إلى هنا كي لا تجدهم هناك وتظن بأنها لا تهتم بما
تجلبه من أجلها خصيصاً وما يفترض بأن كل فتاة تهتم بشرائه
واستخدامه كل ليلة قبل أن تنام .
أغلقت العلبة ورمتها في الدرج بإهمال وأمسكت بأخرى قرأت
المكتوب عليها وكان مصيرها كسابقتها قبل أن تغلق الدرج وإن
كانت تحتاج فعلياً لوضع البعض منه تحت عيناها .
نظرت ناحية هاتفها ما أن علا رنينه مالئاً صمت المكان ووقفت
وتوجهت نحوه ونظرت للاسم على شاشته وهي ترفعه وتذكرت
مكالمتها لها صباحاً وبأنها ستكون هنا معها خلال ساعات قليلة
ولم يحدث ذلك فتهدت بحزن وهي تفتح الخط ووضعته على
أذنها هامسة
" مرحبا عمتي "
ولم تترك المجال للموجودة في الطرف الآخر أن تتحدث وهي
تتابع بحزن وعبرة مكتومة
" لما لم تأتي عمتي ..؟ أنا أحتاجك بجانبي وجدي الذي أتعبني
بعزله لنفسه عنّا وحتى والدي كذلك وإن كان لا يقول هذا "
وصلها الصوت الحزين سريعاً
" بنيتي الحبيبه أقسم بأني غادرت ظهراً وأعادونا عند مدخل
الحميراء لأنهم يمنعون المغادرة إلا للضرورة "
اقترب حاجباها الرقيقات بحزن هامسة
" حتى الطائرة ! "
قالت جوزاء مباشرة
" لا يوجد مطار في الحميراء كما أنّ الطائرات توقفت رحلاتها
اليوم أيضاً وثمة أخبار بأن الحياة ستعود لطبيعتها تدريجياً ومنذ
الغد وسأكون لديكم في أقرب وقت أعدك صغيرتي "
وتبدل صوتها للحماس الباسم وهي تتابع
" رجال والدك لم يخذلوه أبداً والقنوات الإخباريّة لا تتوقف عن
التحدث عنهم وعلى رأسهم قاسم وما فعله جهاز المخابرات في
هذه الأزمة وخلال ساعات قليلة فقط وهو يقوم بتجميد حتى
الخلايا النائمة "
ابتسمت بحزن تتذكر ملامحه التي لا تفارقها صورتها أساساً
وابتسامته التي تعشق وهمست بصوت باسم حزين
" الحمد لله "
قالت محدثتها سريعاً
" أجل كم نحمد الله أن الأمر لم يتحول للأسوأ وإن لم تهدأ الأمور
بعد لكنها على الأقل توقفت عند السوء الذي بدأت به "
وتنهدت فور ختامها لكلماتها تلك بينما تبدلت نبرتها للحزن
متمتمه
" أعان الله شقيقي مطر على كل ما ينتظره "
لمعت الدموع في عيني تيما حينها واشتدت أصابعها على الهاتف
فيها هامسة بحزن وحسرة
" ليت تلك المحاكمة لم تحدث وتلك المرأة لم تكن عمتي يوماً
ولم أعرفها ولم نراها لا هي ولا والدتها في حياتنا "
واختلطت آخر كلماتها تلك بعبرة شعرت بها تحرق حنجرتها
وجوفها قبلها بينما كان صوت جوزاء لا يقل عنه حزناً وتعاسة
حين قالت
" تيما حبيبتي يكفيك تعذيباً لنفسك ولا تتركي الشيطان
يتلاعب بك "
تحرك رأسها حينها برفض وفارقت الدمعة الأولى رموشها
وخرجت كلماتها من عمق المأساة الحقيقية داخلها
" لا يمكنني تخيل أن يوافق والدي شرطهم ذاك ، سيقتل قلوبنا
جميعها به "
ولامست شفتاها بظهر أناملها وكأنها تمنع شهقتها الباكية من
الخروج ، وكان ما ساندها على الصمود صوت عمتها حين
وصلها قوياً واثقاً وإن شابه بعض الحزن
" والدك رجل حروب يا تيما ، رجل لا يمكنه أن يفكر كما نفكر
نحن فلا هو يرى أفكارنا وقرارتنا صائبة ولا نحن نراه كذلك ،
لكنّه وكوني واثقة من ذلك سيفعل كل ما في استطاعته ليجنب
الجميع الضرر "
" إلا نفسه بالتأكيد "
وانهارت جالسة على السرير خلفها ما أن قالت كلماتها الشبه
باكية تلك فهي تفهم معنى ما تقوله عمتها وبأنه سيضحي بكل
شيء وحتى سعادته من أجلهم ، وهذا ما تعلمه من في الطرف
الآخر جيداً والتي قالت ما يمكنها فقط التخفيف به عنها حينها
وبكلمات حزينة عاجزة
" عليك بالدعاء بنيتي لا شيء آخر بيدنا نفعله والله وحده قادر
على كل شيء "
شدت شفتاها المرتجفة لازالت تقاوم نفسها بكل ما تملك من قوة
كي لا تنهار باكية كالأطفال وهو ما جعل كلماتها تتشتت كما
أفكارها حين قالت
" أخشى .. هو ... "
واستطاعت فعلها نهاية الأمر وقول ما هي نفسها تخشى التفكير
فيه ودمعة جديدة تفارق رموشها
" هو لن يتردد في هذا القرار بعدما حدث ، وهذا جل ما أخشاه "
قالت جوزاء سريعاً وكأنها تحاول نفي أفكارها تلك عن
نفسها قبلها
" تيما يفترض بأنك أكثر من يعرف والدك ! وموقنة من معرفتي
له بأنه لن يتخذ ذلك فقط لينتقم من والدتك أو ممّا فعلته فهذا
زواج لا طلاق ولا تعدد ولا زيف فيه ، أي هو حكم انتحار له
أيضاً وليس لها فقط "
لم تجعلها كلماتها تلك تشعر بالتحسن وبالأخص آخرها وذاك القيد
الذي وضعه أولئك الغيلوانيين حول عنقه بل وأعناقهم جميعاً
ليعجزوه عن أي خيار آخر فإما أن يسلمهم عمه وبالتالي هي
ووالدتها أو أن يوافق شرطهم ذاك ، وهو ما جعل الدموع
تتكدس في عينيها مجدداً وتكسر صوتها بألم وبحة قائلة
" لكنُه حين سيكون خياره الوحيد سيفعلها فهو لم يفكر في
نفسه يوماً "
وتناثرت دموعها كحبات رقيقة على وجنتيها وهي تشير بيديها
للبعيد وقالت باكية
" انظري عمتي كل ما حدث ويحدث له ، كل خساراته وكل ما
عاناه لأعوام طويلة مضت وما يقاسيه الآن سببه أنه يفكر في
الجميع ، جميعنا دمر نفسه وحياته وشبابه من أجلنا ولازال يدفع
الكثير وهو الملام دائماً "
كانت تحارب عبراتها كي لا تلحق بدموعها وهي التي تمسكت
بكل تلك القوة طيلة النهار لتنهار حصونها المنيعة الآن حين
استطاعت أن تتحدث وتخرج ما يكاد يحرقها كتمه داخلها كل تلك
الساعات تحترق ولا يعلم أحد عمّا يحدث خلف ملامح الفتاة
الجميلة الصامتة الشاردة طوال الوقت ، لكن تلك الدموع تحجرت
الآن أيضاً وفجأة وعلقت أنفاسها الباكية في حنجرتها ما أن
وصلها صوت عمتها معاتباً
" لا أصدق بأنك قد تكوني في صفه ضد والدتك ! "
وهو ما جعل عيناها تتسع وتحرك رأسها برفض قائلة سريعاً
" لا لم ولن يحدث هذا فما عانته هي لا يقل عنه شيئاً ، إنهما
ضحية قضية لا يد لهما فيها وأحقاد وضغائن وانقسامات دفعا
ثمنها ظلماً وجوراً "
تنهيدة جوزاء الواضحة هي ما وصلها حينها وقبل أن تقول
بعجز وحزن
" لو فقط أعلم ما الذي يريده أولئك الرجال من عمي دجى
وعائلته ! "
أجابت تيما حينها سؤالها بحزن وانكسار
" هو الثأر لموت أشقائهم بالتأكيد "
قالت جوزاء سريعاً وبنبرة ملؤها حيرة وتساؤل
" ينتابني شك مريع حيال ذلك يا تيما "
وهو ما جعل ملامحها الحزينة تتبدل للاستغراب فجأة
وقالت بتوجس
" ما معنى هذا عمتي ؟! "
كانت تشعر بضربات قلبها ترتفع وتضرب في أذنيها وهي تنتظر
كلمات التي رحمتها أخيراً قائلة
" إن كان الأمر كما تقولين فلما أوصاني مطر بيمامة وشدد على
ذلك ؟! ويبدو ثمة شكوك حول تورط زوجة والدها معهم سابقاً
ومحاولتها قتلها ، حتى أن ثمار مزرعتهم أثبتت التحقيقات بأنها
تعرضت للإتلاف المتعمد بسبب اختلاط التربة حول جذوعها بمواد
كيميائية ! وزيزفون وشقيقها موت والدتهم محترقة بفعل فاعل
وكل ما مرا به ألا ينتابك الشك حيال أنها أمور مدبرة تطال كل من
يقرب لجدك وتربطه رابطة الدم به ؟! "
ارتفعت أناملها لشفتيها المصدومة وشرد نظرها للفراغ
وقالت بريبة
" لكن ... لكن ماذا عنك أنتِ عمتي وعائلتك ؟! وحتى عمي
صقر ! أنتم أقرباء له أيضاً !! "
كان ما فكرت فيه سليماً وواقعياً فلما حياة من ذكرت تسير بشكل
طبيعي ولم يفكر أحد بأذيتهم كما يبدُ ! وهو ما فكرت فيه جوزاء
سابقاً بالتأكيد وما أكدته كلماتها حين قالت
" وهذا ما يحيرني في الأمر لكنّ كلام والدك بشأن يمامة جعلني
موقنة بأنه ثمة سر ما تجاوز الثأر "
حركت رأسها في حيرة متمتمه
" ماذا سيكون إذاً ! "
قالت تلك متنهدة
" الله وحده يعلم ومن بعده رأس ذاك البغل شعيب غيلوان "
وقالت آخر كلماتها تلك بحنق وهي تذكر اسمه وهو ما جعل
الممسكة بالهاتف تشرد في الفراغ بعينين حزينة وما جعل من
في الطرف الآخر تسأل فجأة
" هل تواصلتِ مع والدتك وعلمتم عن مكانها ؟ "
تقوست كتفاها وهمست بحزن
" ليس بعد ، هاتفها وهاتف خالي رعد مغلقان طوال الوقت "
ولمعت الدموع في عينيها ما أن تابعت بحسرة
" الله وحده يعلم ما تمر به الآن ، لو فقط تركوني أكون معها "
قالت جوزاء سريعاً
" هذا أفضل لها وحتى لك يا تيما صدقيني "
تحرك رأسها وغمغمت بأسى
" لا أعتقد ذلك "
وتابعت على الفور قائلة بألم
" أنا لم أعد أريد شيئاً سوى سلامتهما فقط وليتوقفا عن
أذية بعضهما "
تنهدت جوزاء بحزن قائلة
" تيما بنيتي إن كتب الله لوالديك أن يفترقا ويعيش كل
واحد منهما بعيداً عن الآخر فلن يغير قدر الله ذاك شيئاً ومهما
كانت الأسباب والمتسبب بها لذلك عليك أن تتوقفي عن التفكير
في كل ما ليس لك السلطة عليه وأن تلتفتي لدراستك وزوجك
ومستقبلك "
كانت كلماتها تحاكي الواقع تماماً وهو ما أعجز المعنية بالأمر
عن الكلام لأن فعل ذلك بالنسبة لها أصعب كثيراً من التفكير فيه
أو التحدث عنه لذلك اكتفت بمسح عيناها الباكية بطرف كم
بيجامتها الذي كانت تشده بأصابعها بينما تابعت التي علمت بأنها
لن تعلق على ما قالت
" تيما أنتِ لست لأيٍّ منهما وعائلتك وإن كانت مجتمعة فأنت لن
تكوني معهم بل مع زوجك وفي منزلك وعائلة خاصة بك تحتاج
منك كل هذا الاهتمام والعطف والمحبة "
وتنهدت من فورها متابعة وكأنها تذكرت أمراً ما فجأة
" وبغض النظر عن كل ذاك السوء الذي حل بنا لازلت أحمد الله
أن الزوج الآخر كان عمي صقر وليس قاسم "
شهقة قوية هي كانت رد فعل تيما الأول والتي خرجت دون شعور
منها ولا استئذان ويدها الحرة تلامس صدرها بينما همست
شفتاها المرتجفة وهي تتخيل ذلك
" يا إلهي "
فلن تكون طعنة واحدة ما ستوجه لها حينها بل اثنتان كل واحدة
منهما أشد عليها من الأخرى ، وشعرت بتعاستها تتعاظم وهي
تختبر الشعور الذي سينتاب والدتها حين تعلم بالأمر بينما قالت
من في الطرف الآخر
" أرأيت رحمة الله ؟ هو لا ينسانا وما علينا هو الحمد والشكر
وعلى كل حال "
تمتمت شفتاها تحمده بحزن وقالت السؤال الذي جال في عقلها
ورفض الابتعاد عنه
" ترى هل لأن قاسم لا يقرب لجدي ! "
وعادت وأجابت نفسها بريبة وتساؤل
" لكنه ابن شقيقته وخالي صقر أيضاً ! "
وعادت الألغاز للتكدس في عقلها المشوش ووصلها صوت عمتها
الحائر العاجز
" لا أعلم كيف يفكر أولئك المجرمين وعجزت عن التحليل
والتفسير حقاً !! "
كان وقع كلماتها تلك أقسى عليها من أي شيء لأن حالها يشبهها
تماماً واشتدت أصابعها في قبضة واحدة في حجرها وكأنها تحاول
التخفيف عن الألم الذي كان يعتصر قلبها حينها وقالت بتعاسة
بدت في ملامحها كما كلماتها
" لن يتركوه وشأنه إذاً بما أنه زوج حفيدة دجى الحالك ، وهذا
جل ما أخشاه أن يقتلوا البقية المتبقية من قلبي "
وعادت الدموع للتجمع بين جفنيها تشوش زرقة مقلتيها الباهتتان
وما من مواسي لها حينها سوى صوت عمتها الحزين الذي
طرقت كلماته قلبها قبل أذنها
" ليحفظه الله ويحفظكم جميعاً بنيتي ولن نتكهن بالأسوأ بما أنه
خارج لعبتهم حتى الآن "
" يا رب "
ذاك كان فقط ما جادت به الشفاه الزهرية الحزينة بينما وصلها
صوت عمتها الحنون
" هيّا نامي حبيبتي ولا تفكري في شيء الله هو المتصرف فيه
وتأكدي فقط بأن والداك يحبانك لكنها التضحيات التي يكون
الوطن المقابل لها ، إنها كسلاسل تقيد صاحبها والنساء يدفعن
الثمن غالباً "
شعرت بكلماتها تعتصر قلبها ألماً وتمتمت بحزن تنظر للفراغ
بوجوم كئيب
" ليحفظهم الله لي لا أريد شيئاً أكثر من ذلك "
وصلها صوت جوزاء مختلطاً بضحكة مكتومة حينها
" جيد ها هو قاسم أصبح من ضمنهم أخيراً "
ضربت قبضتها على فخذها وقالت بعتاب خجول وابتسامة حزينة
تزين شفتيها
" حتى أنت عمتي "
وصلها صوتها الباسم سريعاً لازال متأثراً بضحكتها تلك
" إنه رجل رائع يا تيما وأنا أعرفه منذ صغره وكيف ربته والدته
وعاش بين أفراد عائلة الشاهين ومتأكدة من أنه سيكون مثلهم
تماماً زوج مخلص مضحي وأب رائع ورجل قوي يحميك وعائلته
قبل نفسه "
تنهدت مبتسمة تشعر بتوهج خداها وكل ما شعرت به حينها
الاشتياق له وهي من كانت معه منذ وقت قريب ! لكنه القلب
المحب دائماً ما يفعلها ما أن يتحدث أحدهم عن الذي لا يسكنه
سواه ، تاهت الكلمات منها بينما قالت التي لم تنتظر ذلك
فرسالتها وصلت وهو المهم لديها
" هيّا تصبحي على خير بنيتي وسأكون معكم ما أن تتيسر
الأمور أعدك "
همست حينها تودعها مبتسمة بحنان
" شكراً لك عمتي تصبحين على خير "
وأبعدت الهاتف عن أذنها ونظرت له بين يديها اللتان باتت
تريحهما في حجرها وكم كانت ممتنة لها فهي شعرت بارتياح
كبير بعد مكالمتها تلك وكم تمنت أن كانت معهم اليوم لكانت أمور
كثيرة تغيرت في هذا المنزل لكنها تعذرها أيضاً ويكفيها
مشاعرها نحوهم وأن فكرت في القدوم كل تلك المسافة من أجلهم
وأن تحدثت معها كامرأة وليس كطفلة وهو ما يفكر فيه كل من
سيحادثها بالتأكيد وأولها عبارة
( لا تفكري كالأطفال ، انت لازلت صغيرة على فهم هذا )
والأقسى من كل ذلك
( توقفي عن البكاء على والدتك كالأطفال )
لأنه لا أحد منهم يفهم ما مرت به وحرمانها منها ومن أن تكون
لها عائلة فهم لم يعرفوا هذا الشعور أبداً .
تنهدت بأسى مستغفره الله فها هو الكاسر فقد والديه وهو حديث
ولادة وسيتمنى أن يراهما وإن كل واحد منهما في مكان ، لذلك
عليها أن تحمد الله فقط وتدعوه ليبقيا في حياتها .
كانت نظراتها ملتصقة بشاشة هاتفها التي لازالت تزينها قائمة
الأسماء القليلة الموجودة فيها وابتسمت شفتاها بحزن وحنين
وهي تنظر لعبارة ( أمي حبيبتي ) التي كانت اختارتها اسما
لرقمها ، ولن تفكر في وضع سبابتها عليه بالتأكيد لأن النتيجة
ستكون واحدة وكسابقتها وهو صوت المجيب الآلي الذي
سيخبرها بأن الرقم مقفل ، ولعلّ الأمر كما قالت عمتها هو أفضل
لكيهما هكذا وخاصة ذاك القلب المكسور الذي الله وحده يعلم ما
يقاسيه الآن ، نظرت من بين دموعها السابحة في مقلتيها لاسم
قاسم ولم تتردد كسابقتها في الضغط عليه بل وتشغيل مكبر
الصوت وانغرست أسنانها في طرف شفتها تمسك ابتسامتها
المناقضة فجأة لحزن ملامحها وعينها ما أن انفتح الخط سريعاً
وملأ صوته الباسم المكان الساكن حولها "
ما هذه الليلة السعيدة !! "
ازداد انغراس أسنانها في شفتها والابتسامة فيهما تتسع أكثر قبل
أن تحررها ببطء وقالت
" مجحف وناكر "
كان رد فعله المبدئي ضحكة رجولية عميقة شعرت بها تلتف
حولها وتدفئ قلبها حتى تبدلت ملامحها للرقة وابتسامتها للحنان
بينما قال
" هل أحصي لك عدد المكالمات التي تلقيتها منك بالتاريخ
والساعة والدقيقة ؟ "
عبست ملامحها بطريقة طفولية فاتنة تشبهها وقالت تنظر للجهاز
المسطح بين يديها وكأنها تراه من خلاله بينما خرجت كلماتها
مستاءة حانقة
" غريبون أنتم الرجال تكرهون مطاردة المرأة لكم طوال الوقت
وإن جنبتكم ذلك اتهمتموها بالتقصير ! "
كان تعليقه الأول ضحكة أخرى قال من خلالها
" أنتِ من علّمك كل هذا "
تبدلت ملامحها للحزن الذي لم يتركها سوى من لحظات فقط ما
أن تذكرت مربيتها المتوفاة وكل ما كانت تخبرها به ومنذ صغرها
عن عالم الرجال كما تسميه ، وتذكرت عبارتها تلك حين سألتها
لما تخبرها عن كل هذا بينما ضحكت قائلة
( لأني أريدك حين تصبحي امرأة ناضجة واعية لا تتعذبين بسبب
حب رجل سكن قلبك ويرفض الخروج منه بل أن يكون هو كذلك
ولا ينالك حتى يقسم أن لا يتركك ويكون معك وهو يعرف معنى
أن يفقدك وما أن يبتعد عنك يترك قلبه وعقله لديك )
ارتسم طيف ابتسامة حزينة على شفتيها وتمنت أن كانت تلك
المرأة العظيمة على قيد الحياة الآن لتخبرها بأن كل ما علّمتها
إياه وجدته حقيقياً بالفعل ، لكنها قالت بدلاً عن ذلك للموجود
ضمن الأحياء ويسمعها الآن وبكلمات أنثوية رقيقة ماكرة
" بل أعلم عنكم أكثر ممّا تعلمونه أنتم عن أنفسكم "
عاد للضحك مجدداً وقال
" آه يا إلهي وكنت أنا ضحية التحقق من كل هذا "
أمسكت ضحكتها تغمض عيناها بقوة فهو كان وكأنه يسمع عقلها
وما كان يحدث فيه وهو ما أعجزها عن التعليق على ما قال ،
ويبدو بأنه لم ينتظر ذلك وقد قال مغيراً مجرى الحديث بأكمله
" اتصلت قبل قليل وكان هاتفك مشغولاً ولوقت طويل ! "
رفعت الهاتف لحضنها وارتفع رأسها مغمضة عينيها وابتسامة
محبة تزين شفتيها فها هو فكر في فعلها قبلها بالرغم من أنهما
كانا معاً من وقت قريب ! وكم حمدت الله أن زالت تلك الغمامة
الغريبة بينهما الأيام الماضية والتي لا تفهم كيف ولا متى حدثت !
كل ما تفهمه بأنه أروع رجل عرفته بعد والدها فهو قادر على
امتصاص غضبها وإن لم يكن السبب فيه ، يفهمها وفي صمت
ويمكنه الشعور بما يؤلمها وما تحتاجه وإن كانت ترفضه .
أبعدت الهاتف مجدداً وقالت تنظر له بين يديها بينما لازلت
الابتسامة المُحبة تزين شفتيها
" تلك عمتي جوزاء اتصلت بي واعتذرت عن المجيء لأن
طرقات المدينة جميعها مغلقة لديهم "
وتبدلت ملامحها للحزن عند آخر كلماتها تلك بينما قال
هو مباشرة
" وهو الأفضل فعليهم أن لا يتنقلوا كثيراً من أجل سلامتهم هذه
الفترة على الأقل "
عاد الحزن للسيطرة التامة على ملامحها الجميلة وقالت
" هل الوضع سيء كثيراً وستنشب الحرب ؟ "
وتعالت ضربات قلبها مع آخر كلمة قالتها وهي تخشى حتى من
النطق بها فكيف بعيشها حقيقة وواقع أمامها ! لكن سرعان ما
غمر رئتيها الهواء المنعش البارد ما أن بدد مخاوفها من قال
بكلمات واثقة
" لن يسمح أحد بذلك ووالدك أولهم تأكدي من ذلك يا تيما "
همست مبتسمة بأمل كسير تنظر للفراغ أمامها
" كم أتمنى هذا "
وعادت ونظرت للهاتف بين يديها وعادت ضربات قلبها للتوتر ما
أن قالت ما لا يمكنها احتجازه فيه أكثر من ذلك
" أنت تعلم شيئاً عن مكان والدتي ورعد بالتأكيد فالمخابرات لا
يخفى عنها شيء في البلاد ؟ "
كان شكها في محله وأكده صمته التام عن الإجابة فقالت بعبوس
" قاسم !! "
كان تنهده الواضح جوابه الأول والمؤكد لظنونها تلك قبل أن
تخرج كلماته الجادة من هاتفها
" هي بخير يا تيما وحين يقرر شقيقها بأنه يمكنها مغادرة مكانها
سيفعل بالتأكيد "
ترقرقت الدموع في عينيها وهمست ببحة وصعوبة
" لكن ... "
وخانتها الكلمات وهي تتشاجر في حنجرتها أيُّها يخرج أولاً وقالت
نهاية الأمر وبنبرة حزينة شبه باكية
" أقسم بأني مشتاقة لها ولا يمكنك تصور كم يكون ذلك "
وسحبت الهواء لصدرها بقوة توبخ نفسها وهي تتذكر كلمات
عمتها والكاسر قبلها ومسحت عيناها بطرف كمها في حركة
سريعة وقالت بسرعة توقفه عن قول ما كان ينوي قوله ولم
تسمع منه سوى حرفان مبتوران
" هل تنام في المنزل ؟ "
قال بعد صمت لحظة ومبتسماً
" بالتأكيد أين سأكون مثلاً بما أنني لست معكم هناك ؟ "
لا تعلم أي مشاعر انتابتها وهي تقول حينها
" ماذا فعلت أيضاً فيما يخصه ؟ "
واتسعت عيناها مندهشة ما أن صرخ متفاجئاً وقبل أن
يقول بضحكة
" وأخيراً تذكرت زوجة قاسم أنه لديهما منزل وحياة مستقبلية قد
يأخذها الفضول للسؤال عنها "
لم تستطع أن تكتم ضحكة خجولة غلبتها بالرغم من الحزن الذي
انتابها وهي تدرك بأن كل ما قالاه حقيقة وبأنها تضعه في المرتبة
الأخيرة دائماً وهو يشعر بهذا ويراه بل ويتفهمه ويصمت
عنه أيضاً .
أغمضت عينيها مبتسمة ولا تعلم كم ستحب هذا الرجل وفي كل
مرة تظن بأنه لم يعد هناك شيء أقوى من ذلك ؟!
احمرت وجنتاها وهي تحذره قائلة
" لا تجعلني أندم على هذا "
" لا بالله عليك "
كان تعليقه الباسم سريعاً وقال متابعاً
" هو شبه متوقف منذ تلك الزوبعة التي أحدثتها والدتك
واعتصامك عني حتى ترضا بي نسيباً لها لكني اشتريت
باقي الأثاث "
تقوست شفتاها بحزن وهي تستمع لكلماته التعيسة تلك بين أسطر
إجابته عن سؤالها وتابع ما أن لم يصدر عنها أي تعليق
" وما أن أتصل بمهندس الديكور سيكون هنا وينهي الأمر خلال
أيام قليلة "
تمتمت مبتسمة
" هذا جيد "
كان ذاك فقط ما قالته فهي لا تهتم حقاً لما سيكون عليه المكان
أكثر من اهتمامها بأنه يجمعهما معاً ، بينما قال الذي يبدو أنه
عكسها تماماً متحمساً وكان ينتظر فقط أن تسأل عن ذلك
" في آخر مرة اختلفت معه حول الغرفة الغربية في الطابق
الثاني وكان رأيه بأنها ستكون غرفة للأطفال أفضل من تجهيز
غرفتين للضيوف لكني أخبرته بأن الأمر مؤجل ولا أريد أن تكون
ثمة غرف فارغة حين نعيش فيه ، أنا أكره هذا "
غابت الابتسامة عن شفتيها وهي تسمع تلك العبارة تحديداً من
بين ما كان يسترسل في قوله وكأنه لا يهتم لما عناه بما يقول !
اغلقت مكبر الصوت ورفعت الهاتف لأذنها فهي تحتاج لسماع هذا
فيها مباشرة وقالت وقد انعقد حاجباها الرقيقان بقوة
" ما معنى أنه مؤجل بينما سنكون موجودان فيه !! "
قال مباشرة
" لأنه ليس وقته وأنت أمامك دراسة و.. "
قاطعته بضيق
" دراسة ماذا ...! أنا لست موافقة "
وحين كان سيتحدث وتعلم جيداً ما سيقول سبقته قائلة بكلمات
جادة لا مزاح فيها
" أنا أعلم جيداً لما لم يتزوج أي واحد منكم هناك ، لأنكم تخشون
على بعضكم من أي هفوة سببها حماقات النساء ، أما هنا فما
المانع من أن يكون لكل واحد منكم عائلة ؟ يكفيكم ما أضعتموه
من أعماركم من أجل الوطن "
كانت تنهده المتضايق حينها كفيل بأن تعلم بأنه لم يقتنع بكلمة
ممّا قالت وجاء تعليقه الحانق مؤكداً ما أن قال
" أريد أن أفهم هل لي رأي في الموضوع أم لا ؟ "
قالت من فورها محتجة على أفكاره تلك
" بلى ولكل منا رأيه وعلينا مناقشته ، هذه حياة تخص كلينا "
وصلها صوته مباشرة متملقاً
" أجل لي أن أتصور هذه الحياة وأنا أجوب به المنزل صراخه
يثقب رأسي لأنه بالطبع والدته لديها امتحان ما في الغد "
التوت شفتيها بابتسامة ماكرة وقالت
" وما المانع في ذلك ألست والده ؟ "
تنهد متمتماً باستسلام
" لا مانع لدي بالتأكيد "
وسرعان ما تبدل مزاجها للضيق وقالت تمسك خصرها
بيدها الحرة
" ثم هل هذا ما يزعجك فقط أنك ستشارك في الاعتناء به !! "
قال مبرراً وبكلمات جادة
" بل أنت التي أرفض أن تتعب فالأمر ليس بالسهل كالتحدث عنه
يا ابنة مطر "
زمت شفتيها بسبب مناداتها بتلك الصفة ، ولأنه يعلم كلاهما لما
قال ذلك قالت ببرود تبعد يدها عن خاصرتها
" وأنا راضية وسأهتم به وقت الامتحانات أيضاً "
وصلها صوته الحانق سريعاً
" تيما الأمر ليس عناداً "
رمت قبضتها في الهواء قائلة بضيق
" أنا لا أعاند إلا إن كنت ترى بأن القرار لك دائماً وأنا من عليها
الخنوع والرضا وتلك حياة لا أريدها "
توقعت منه كل شيء حينها إلا ما قاله بكلمات ساخرة
"ينتابني الشك حيال تاريخ ميلادك الحقيقي يا ابنة مطر شاهين "
" قاسم !! "
قالتها بحنق تذكره بأن الموضوع بالنسبة لها ليس مزاحاً ولا
حديثاً عادياً فتهد بعمق قبل أن يقول بكلمات هادئة رزينة
ذات الوقت
" الأمر ليس فرضاً للرأي لا من طرفي ولا من طرفك يا تيما هو
الواقع يحتم علينا بالتنازلات وأنت أيضاً أعني فأمامك شهادة
ثانوية وفصو... "
قاطعته بعينين متسعة
" وستؤجل الأمر حتى تخرجي تعني ! "
قال بهدوء وكأنها لم تعترض أساساً
" لا فالدراسة الجامعية أسهل من حيث نظامها "
تنفست بضيق وقالت بعناد
" لست موافقة ورغماً عنك ، أنا من ستحمل ليس أنت "
ضحك وقال
" ولن يحدث إن لم أريد لا تنسي هذا "
شعرت بالحمى تغزوا جسدها حتى أشعلت وجنتيها وكأنها لم تكن
من قالت ما قالت قبل قليل ، بينما جنبها هو التفكير فيما ستعقب
على كلامه ذاك قائلاً بشيء من البرود
" تيما لننهي الجدال في الأمر فليس وقته ، من يسمعك يظن
بأنها العقبة الوحيدة أمامنا الآن "
قال آخر كلماته بنبرة تفهمها جيداً فالتوت شفتاها وقالت
ببرود مماثل
" سيكون هذا الخلاف الكبير بيننا قريباً على ما يبدو "
وكان رده الساخر جاهزاً أيضاً وقال
" لست متفائلاً بهذا فقد لا تكونين هنا في منزلي قبل اتمامك
الثانوية أساساً "
كان رد فعلها شهقة قوية وهو ما جعله يتابع بذات نبرته الساخرة
" إن كنا سننتظر موافقة الجميع فسيكون كذلك بالتأكيد "
عبست ملامحها قائلة ببؤس
" هل ترضى أنت أن نتزوج رسمياً ووالدتي ليست موافقة
وستغضب مني ولن تحدثني بعدها بالتأكيد "
تنهد بعجز أمام نبرتها الحزينة تلك فلا شيء يكسره سواها
وقال مستسلماً
" لا حل أمامي سوى الصبر ، أعانني الله عليكما كلاكما ووالدك
معكم أيضاً "
أمسكت ضحكتها وقالت تحرك كتفها
" يمكنك التراجع متى أردت "
وكان تعليقه بما يشبه المفاجأة بكلامها حين قال
" لن أفعلها إلا لسبب واحد فقط وهو طلب منك وإن
بكلمة واحدة "
غابت الابتسامة عن وجهها مصدومة وأمسكت خصرها بيدها
مجدداً وقالت بضيق
" هكذا هو الأمر سهل لديك ! قد أكون غاضبة حينها أو أنك
فعلت أمراً أجبرني على ذلك "
تمتم ببرود من فوره
" قولي هذا لشخص لا يعرفك جيداً فأنت ولله الحمد تشبهين
والدك في هذا وليس والدتك "
شعرت بكلماته ذبحت روحها قبل قلبها ولأنها تعرف وجهة
نظره في الأمر لم تتفاجأ بذلك لكنها لم تستطع منع كلماتها
الحزينة حينها
" لما لا يستطيع أحد منكم تفهم ما مرت به وما أرغمها
على هذا ؟ "
كان تعليقه سريعاً أيضاً وحاسماً
" لننهي الحديث في الأمر تيما كي لا يغضب أحدنا من الآخر "
وها هو كما توقعت متعصب لرأيه السلبي ضد والدتها بسبب
عقبات ما حدث ، تنهدت بأسى وقالت متمتمه ببرود
" لن يفهم رجل ما تشعر به امرأة ، إنكم متعصبون كثيراً
لبعضكم "
كان صمته مريباً حينها حتى خُيّل إليها أن المكالمة بينهما انقطعت
وكانت ستبعد الهاتف لتتأكد من ذلك لولا خرج صوته الرجولي
المتزن مجدداً وبنبرة تساؤل وريبة
" هل أفهم من حديثك بأن والدك المخطئ ومن دفعها لذلك "
فغرت فاها مندهشة وقالت سريعاً
" أنا لم أقل هذا ولم أعنيه وأعذر والدي أيضاً "
تبدل مزاجه للابتسام الذي اظهرته كلماته حينها وقد قال
" ليهبني الله ابنة مثلك تشعر بي أكثر حتى من نفسها "
أدارت عيناها جانباً متمتمه ببرود
" مهتم بهذا حقاً ...! لقد صدقتك "
اختلط صوته بضحكة خفيفة وهو يقول
" قلت بأنها تنازلات لم أقل بأني لا أريد أن يكون لي أبناء "
تمتمت ببرود
" وأنا لا أريد هذا التنازل "
عاد للضحك مجدداً وقال
" كم أحب كبيرة القب والعقل هذه يا الله "
ابتسمت ابتسامة مزجت الحنان والحب والحزن معاً في مزيج
غريب يشبه مشاعرها نحوه والذي سرعان ما أصبحت التعاسة
الشعور المسيطر عليه بل وتعالت ضربات قلبها بخوف وهي
تتذكر كلام عمتها عن الغيلوانيين وأنه من الغريب أن لم يكن
ضمن دائرة غضبهم الانتقامي ذاك وهو ما جعل الكلمات تخرج
من بين شفتيها بحزن وحنان
" اعتني بنفسك جيداً قاسم أرجوك من أجلي "
وكان ذاك ما جعل من في الطرف الآخر يتأوه بصوت رجولي
رخيم مرتخي متمتماً
" آه بربك تيما توقفي عن تعذيبي في هذا السرير البائس البارد "
وهو ما جعل خداها يشتعلان وقالت مندفعة
" وقح .. اصمت الآن "
ضحك بصوت مرتفع وقال
" من كانت قبل قليل تهدد وتتوعد بأنها ستحمل مني مرغماً "
ولم تزد كلماته تلك وضعها إلا سوءاً وقالت مهددة
" اصمت أو أنهيت الاتصال الآن "
ضحك مجدداً وقال
" حسناً ها هي توبة مولاتي ، لا تحرميني من سماع هذا
الصوت رجاءً "
لوت شفتيها وتمتمت ببرود
" من يسمعك لا يصدق بأنك كنت هنا قبل قليل ! بل وكل
يوم مؤخراً "
قال بضحكة
" وهل تركني شقيقك أقول كلمتين في غيابه ! وإن غاب هو قام
خالي صقر بالمهمة ، وإن لم يكن هو خرج لنا والدك من تحت
الأرض "
لامست يدها مكان قلبها وتنهدت بحزن هامسة
" ليحفظكم الله لي جميعاً "
قال من فوره بصوت باسم
" نامي هيّا واتركيني أنام ورائي أسبوع حافل الله وحده يعلم
كيف سيكون "
غضنت جبينها قائلة بتساؤل بسبب كلامه ذاك
" هل قرار تعيينك كرئيس لجهاز المخابرات دائم ؟! "
قال مباشرة
" لا .. ولن أوافق على هذا فأنا رجل ينفع أن يكون امرأة أكثر
من هذا "
قال آخر كلماته بما يشبه الضحكة المكتومة فاتسعت عيناها وقالت
بضحكة مندهشة
" كيف يكون ذلك ! "
ضحك على رد فعلها وطريقة فهمها للأمر وقال موضحاً
" أعني أنني أحب أن يكون لي منزل وعائلة أقضي
معهم أغلب يومي ليس رجل لا يراه أبنائه وزوجته إلا آخر
الليل قبل أن ينام "
عاد الحنان والدفء لملامحها الجميلة بسبب كلماته تلك بل وما
قالته عمتها عن تأكدها من أنه سيكون زوج رائع وأب مضحي
بينما حدثت نفسها
( وتريد أن تحرم نفسك الأطفال من أجلى ..! لا تحلم بهذا ) .
بينما قال هو بعد صمت لحظة منهياً حديثه الأسبق
" ثم أنا متيقن ما أن يترك والدك منصبه الحالي لن يبقى واحد
من رجاله في مناصبهم فهم مرتبطون به ارتباط الروح بالجسد
والجميع سيسلمون أماكنهم لمن سيراه هو الجدير بها "
تبدلت ملامحها للتساؤل وقالت باستغراب وريبة
" هل سيرضى الشعب بغيره رئيساً لهم ! "
وكان التعليق سريعاً من الذي قال وكأنها لمحت سخرية
ما في صوته
" الشعوب لا تفكر كما تفكرين يا تيما ووالدك يفهم هذا جيداً
لذلك فعل كل ما فعله من أجل تراب الوطن ليس الموجودين
فوقه لأن الشعب يريد الماء الغذاء الأمان الراحة وتوفير
احتياجاته ولا يهم لديه عن طريق من تكون ومن الجالس في
مبنى القصر الرئاسي "
حبست كلماته تلك أنفاسها في صدرها بينما تحرك رأسها بعدم
تصديق متمتمه
" لا .. كيف يكون ذلك ! "
ولم يرحمها وهو يؤكد كل ما قال وبكلمات جادة
" إنها الحقيقة يا تيما ومن لم يؤمن بها لن يفعل شيئاً من
أجل وطنه "
وتثاءب قائلاً بكلمات كسولة
" هيا نامي فإن تحدثنا عن هذا لن نصمت قبل طلوع النهار
وسأنام في مبنى المخابرات حينها "
ابتسمت بحب وحزن وقد اختلطت مشاعرها نحوه بأخرى
متناقضة بسبب ما قال قبل لحظات بينما همست شفتاها
" أحبك كثيراً .. اعتني بنفسك "
وأبعدت الهاتف عن أذنها على آخر كلماته
" أحبك دميتي الجميلة "
وأنهت الاتصال ونظراتها الحزينة تتبع الهاتف الذي اراحته مع
يديها في حجرها مجدداً وفكرت في كلماته التي ترفض مفارقتها،
فهل فعلاً لا تهتم الشعوب لمن يحكمها مادامت تعيش رغد
الحياة ! هل يدرك والدها ورجاله جميعهم ذلك لذلك تفانيهم
وحبهم للوطن نابع من داخلهم لا يهتم كل واحد منهم إن ذكر
التاريخ اسمه أو أثنت الناس عليه ؟!
هو هذا ما يسمونه الولاء للوطن إذاً ! يا إلهي كم هو صعب
وقاسي ولا يستطيع فعله إلا الرجال فعلاً ، فأن تدرك حقيقة أن
الشعب الذي تضحي بكل شيء من أجله قد يتخلى عنك في أي
لحظة لأنه يرى بأنك لم تعد مصدر أمان بالنسبة له هو شعور لا
يمكنها تخيله ! وأدركت حينها معنى كلماته تلك فإن فكر كل واحد
منهم هكذا ما فعلو كل ما فعلوه من أجلهم .
ارتفعت نظراتها الحزينة للفراغ وعادت الدموع تلمع في عيناها
الواسعة وتذكرت كلمات عمتها عن تضحية الرجال من أجل
الوطن وما تعانيه النساء تحديداً بسبب ذلك وشعرت بالتعاسة
تغمرها فلا يمكنها تخيل أنه ثمة من قاست ولازالت تعاني مثلهم
من أجل تراب هذا الوطن .
*
*
*
|