كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
رسم نور الشمس الخفيف المتسلل من زجاج النافذة المغلقة خطاً
عريضاً على سجادتها وصولاً ليديها التي رفعتها ما أن فرغت
من صلاة الظهر ، أمر لم تفعله منذ وقت لا بأس به لأنها كانت
راضية تقريباً عمّا وضعها الله فيه ولا تلجأ لفعلها إلا إن وقفت
حائرة بين أمرين فهي مقتنعة تماماً بأن ما يصيبنا في هذه الحياة
إمّا اختبار لنا علينا وبكل جهد أن نسعى للنجاح فيه أو عقوبة
على أخطاء اقترفناها وعلينا الرضا والقبول والسعي لتكفيرها
بذلك .
علاقتها مع الله ليست سيئة لكنها وكالجميع تشعر فطرياً بالضآلة
والخجل من فكرة طلب أمر من أمور الدنيا وإن كان مسموحاً لها
بذلك لذلك كانت تقول ذات الكلمات في كل مرة لتشعر بعدها
بالرضى التام ومهما كانت النتائج لأنها تركتها بين يديه سبحانه ،
وهي تشعر بأنها بحاجة لهذا الآن بل وكامل الاحتياج بعد كل ما
حدث معها يوم أمس .
لمعت الدموع في عينيها ما أن انفرجت شفتاها ببطء وهمست
بكلمات حزينة تنظر لأصابعها من بين الدموع التي لم تفارق
رموشها
" يا رب اجعلني من الراضين بالخير في قضائك وإن كرهته
نفسي وأبعدني عن الشر وإن أحبته ... يا رب "
الطرقات المنخفضة على الباب جعلتها ترفع يدها لوجهها
ومسحت بظهر إبهامها الدموع من رموشها ووقفت ترفع
سجادتها في الوقت الذي فتحت فيه والدتها الباب فشغلت نفسها
عن النظر لها بنزعها للباس الصلاة وطيه ، لكنها كانت في
انتظارها كما يبدو فما أن وضعته مكانه ونظرت لعينيها وجدت
النظرة التي كانت تخشاها وإن كانت ترفضها وهو ما جعلها تبعد
نظرها عنها وتوجهت ناحية سريرها وجلست على طرفه قائلة
ببرود
" أمي رجاءً لا تلقي باللوم علي فيما حدث ولا تأملي أن أكون
السبب في عودة ابنك للمنزل فهو من فعلها لنفسه ولست أنا "
قالت التي كانت تعلم بأنها لن تعلن استسلامها سريعاً
" أنتما شقيقان وهذا ما لا يمكنكما نكرانه يا جلي... "
نظرت لها وقاطعتها قائلة بمرارة وهي تشير بسبابتها لوجهها
" أنظري أمي فيبدو أن الشمس حجبت الرؤية عنك ، هذا ما فعله
ابنك بي ومن تقولين بأنه شقيقي "
ظهر الحزن جلياً على ملامحها وقد اقتربت منها قليلاً
قائلة بانكسار
" أعلم وأرى يا جليلة لكن إخراجه للشارع ليس حلاً "
نفضت حينها يديها وقالت بانفعال واضح وإن لم يغادر الحزن ولا
المرارة كلماتها كما صوتها
" أمي بالله عليك أصبح بهذا العمر ولازلتِ تعاملينه كطفل ! أليس
يعمل الآن وراتبه جيد ؟ لا تخشي عليه إذاً "
اقتربت منها أكثر حتى أصبحت تقف أمامها واشارت بيدها حيث
النافذة المفتوحة قائلة باستياء
" أنا وأنتِ نعرف وثاب جيداً ومن ينتظره ما أن يخرج من هنا
ولن يتركوا له راتباً ولا قرشاً واحداً بل وسيعود لأفعاله السابقة
ونحن لم نصدق أن ابتعد عنهم "
أشاحت بوجهها جانباً ترفض فتح تلك الدفاتر تحديداً وهو ما جعل
الواقفة أمامها تتابع بحزن واستجداء
" بل وسيكون مصيره السجن فوالدك أقسم في آخر مرة أن لا
يكتب أي تعهد وأن لا يدفع أي تعويضات مستقبلاً وخاصة بعدما
حدث البارحة "
نظرت لها بحركة سريعة وقالت بغضب
" اتركوه يدخل السجن ، ماذا سيحدث له مثلاً ؟ لن يموت هناك ،
لعله يتعلم درساً في تحمل المسؤولية بدلاً من الاعتماد على الغير
في كل شيء كالأطفال "
ألجمتها بكلماتها للحظات وكانت تعلم بأنها لن تيأس ولم تنتهي
بعد لذلك قاطعتها قائلة بمرارة وضيق تشير لنفسها
" أمي أقسمت عليك بالله أن لا تتحدثي معي في الأمر فأنا ابنتك
أيضاً وتأذيت دون وجه حق على يديه "
وتابعت من فورها ترفع سبابتها وبكلمات حازمة
" وتأكدي من أمر واحد بأني خارجة من هنا مع قائد إن دخل هو
المنزل فلن يجمعنا مكان واحد بعد اليوم فما يعنيه في هذا الزواج
أنا لا يعنيني أبداً "
كانت ستتحدث دون اهتمام لتهديدها وكلماتها فهي غاضبة الآن
وتتفهم مشاعرها مما حدث لكنها لن تيأس لأنها السبيل الوحيد
لإقناع والدها بأن يعود عن قراره الأخير لكن ما منعها هذه المرة
هو صوت جرس باب المنزل فاكتفت بأن حركت رأسها متمتمه
بأسى وهي تغادر
" لا حول ولا قوة إلا بالله " .
وما أن وصلت له في الأسفل وفتحته عرف وجهها الابتسامة
وللمرة الأولى منذ ليلة البارحة حين وجدت ابنها أمامها والذي
دمجت نظراته الاستغراب والحيرة معاً وتوقع سريعاً بأنهما لم
تعلما بما حدث ! بدى تكلفه واضحاً لإهدائها ابتسامة مماثلة
وقد قال
" صباح الخير أمي "
ازدادت ابتسامتها اتساعا وقالت
" صباح الخير يا حبيب والدتك ... ادخل هيّا "
قالت آخر كلماتها تشير بيدها نحو الداخل فتقدم خطوة واحدة وقال
" هل جليلة مستيقظة ؟ أريد أن أراها "
أومأت برأسها قائلة
" نعم وهي في غرفتها "
كان سيتحرك لكنها أوقفته من ذراعه قائلة
" قائد "
وما أن توقف ينظر لعينيها شدت أصابعها على ذراعه وقالت
تنظر لعينيه باستجداء حزين
" حاول تهدئة الأمور بني فهما يبقيان شقيقان ووثاب ... "
قاطعها من قبل أن تنهي كلماتها قائلاً بضيق
" أمي رجاءً لا تحملني فوق طاقتي "
وتابع من فوره يسكتها عمّا يعلمه جيداً ويتوقعه
" ولا تحلفيني بالله لأنك ستدفعين كفارته هذه المرة "
تنهدت بأسى وخيبة أمل وقالت في محاولة جديدة يرتسم اليأس
الحزين على ملامحها
" أنا أعلم بأنه مخطئ لكني أخشى عليه من رفقاء السوء وأن
يرجع لطريقه القديم "
تنهد بضيق يبعد نظره عن عينيها وقال ببرود وإن لازالت ملامحه
تحتفظ بغضبها
" فليتحمل نتائج أفعاله وحيداً هذه المرة فهو ليس طفل "
قالت من فورها وبحزن تنظر لملامحه المحببة لديها
" أنت ووسام أكبر منه سناً ولا زلتما أطفالاً في نظري "
كانت تحاول ودون يأس لكنه وجد مسلكه للهروب منها وقال
بضيق وهو يجتازها نحو الداخل
" توقفي عن رؤيتنا كذلك أمي إذاً فلم نعد أطفالاً ويجب محاسبتنا
على أفعالنا "
وتوجه نحو السلالم من فوره متجاهلاً نظراتها الحزينة
المستجدية وللمرة الأولى في حياته فقد أقسم البارحة أنه لن
يصمت هذه المرة ولن يترك شقيقته تواجه هذا الأمر وحيدة ولن
يكرر خطأه السابق وعلى والدته أن تقتنع بهذا وبأن ابنها المدلل
ذاك عليه أن يُعاقب هذه المرة .
ما أن وصل باب الغرفة وقف أمامه متردداً للحظات فهو لا يعلم
كيف سينقل لها الخبر وما تأثيره عليها بالرغم من علمه المسبق
عن مشاعرها نحوه ومشكلتهما الأخيرة لكنه شعور فطري يتغلب
علينا كبشر حين نتكفل بمهمة نقل خبر سيء لأحدهم فمثل هذه
الاخبار لا يمكن التكهن برد فعل متلقيها .
حرك رأسه متأففاً وتمتم وهو يمسك مقبض الباب
" وكأنك ستنقل خبر وفاته مثلاً ؟! "
ما أن فتح الباب وبعد طرقتين متتاليتين ابتسم ودون شعور منه
متجاوزاً شعور الغضب والألم في داخله لرؤية وجنتها المتورمة
والصعوبة التي تعانيها حتى الآن وهي تقف لاستقباله ورغم ذلك
كانت تبتسم له متغلبة على الحزن الذي لم تخفيه عينيها وهذا
أكثر ما يؤلمه ، لكنه وكعادة الرجال بل وأمثاله تحديداً لم يُظهر إلا
القوة أمامها وأغلقت يده الباب خلف ظهره بينما تقدمت خطواته
نحوها حتى وقف أمامها وأمسكت يداه برأسها وقبل مقدمته أعلى
جبينها يشعر بنعومة خصلات شعرها تحت شفتيه وهمس مبتسماً
وهو ينظر لعينيها مجدداً
" كيف حال الجليلة اليوم ؟ "
همست ببحة تنظر بحزن باسم لعينيه
" بخير .. الحمد لله "
نظر حوله وقال
" يبدوا أنك لم تفتحي التلفاز ولا هاتفك ! "
وبدى التوتر واضحاً على ملامحه وذاك ما قرأته جيداً فيها فقالت بتوجس
" ماذا هناك ؟ "
واتسعت عيناها فجأة ما أن تذكرت ما نسيته تماماً منذ خروجه
بها من منزلها وحتى هذه اللحظة فقالت تنظر لعينيه بوجل
" المحاكمة !! هل كانت بالأمس ؟ "
أبعد نظره عن عينيها نحو الأسفل ولم يتحدث وذاك ما جعلها
تُصدق ظنونها وكان عليها توقع ذلك منذ البداية لما كانت ستراه
أمامها ، ارتفعت يدها لساعده وأمسكته قائلة بترقب ولازالت تنظر
لما يظهر لها من ملامحه
" ماذا كان الحكم ؟ "
كان عليها الاكتواء بنار الانتظار لثواني شعرت بها أعوام وهي
تنتظر شفتاه أن تتحرك ،ورحمها أخيراً وقد همس بخفوت ولازال
يتجنب النظر لعينيها
" لقد رفض القاضي دعوى الطلاق "
ارتفع رأسها حينها محدقة في الأعلى وتنفست بعدم تصديق هامسة
" يا إلهي "
وما أن أنزلت رأسها أمسكت جبينها بأصابعها تنظر للفراغ
بشرود واجم وقالت بحزن وضياع
" أي سوء هذا الذي تشعر به غسق الآن ...؟ "
كانت ضائعة مشتتة بين توقع ما حدث وما تشعر به ابنة خالتها
وصديقة طفولتها الآن بينما اكتفى الواقف أمامها بمراقبتها
بوجوم كئيب حتى غادرت صدمتها وإن قليلاً وقالت تلوح بيدها
بضيق ولازالت تنظر للفراغ أمامها
" كان عليها توقع هذا من البداية وأن لا تقف في وجه من يمثل
قانون البلاد "
جعلت كلماتها تلك حاجباه يقتربا وقال بضيق مماثل
" ليس السيد عقبة من يخضع لمثل ذلك ، وكانت محاكمة نزيهة
بالتأكيد "
رفعت نظراتها المتسعة له بل وحدقت في عينيه وكأنها تبحث عن
الجواب فيها قبل أن تقول بعدم استيعاب
" كانت وبالتأكيد !! ألم تكن فيها ؟! "
عاد للهرب من عينيها وقال
" أتركينا من هذا الآن فثمة ما هو أهم أنا هنا من أجله "
وما أن عاد ونظر لعينيها ولنظرة الضياع والتساؤل فيهما لا يفهم
بسبب ما قال الآن أو سابقاً لكنه تابع بما هو أهم بالنسبة له وقال
بكلمات متأنية متوجسة
" عمير تعرض لحادث واصطدمت شاحنة بسيارته البارحة "
كان رد فعلها الأولي شهقة قوية ويدها تلامس صدرها بينما
ارتجفت حدقتاها المتسعتان تنظر لعينيه وكأنها لا تراه أمامها ،
وكان يظن بأنها تحولت لتمثال حجري للحظات قبل أن تتحرك
شفتاها وهمست بصعوبة
" وما وضعه الآن ؟ "
حرك رأسه بضياع وقال
" لا أعلم فقد رأيت الخبر في الإنترنت ولا معلومات واضحة لدي
فالمستشفى الموجود فيه تم إخلاؤه بالكامل وتحيطه الشرطة
ورجال الأمن من كل جانب ومؤكد رجال مطر شاهين جميعهم
هناك هذا إن لم يكن هو نفسه معهم "
فردت يديها قائلة بضيق
" ولما كل هذه الإجراءات !! هذا لم يحدث سابقاً ! "
قال من فوره
" لم أجد شخصاً يفيدني بأي معلومات مؤكدة ، وقنوات الأخبار لا
يمكنها نقل إلا ما يؤذن بإخراجه فحتى إن مات فلن يُذاع ذاك
الخبر الآن خاصة مع ما تمر به البلاد "
امسكت طرفا وجهها ناحية صدغيها بأصابعها تنظر للأرض تحتها
بضياع وتشتت تشعر بتعالي رهيب في ضربات قلبها حتى كانت
تشعر بها تؤلم أضلعها فسماع الفواجع يجعل من مشاعرنا
تتشتت تضيع حتى نحار في فهمها وأول صورة واجهتها حينها
وجهه المبتسم وهو يمسك علبة المشروب الغازي في يده وتخيلت
أنها لن تراه مجدداً ، هي لا تحمل مشاعر نحوه يمكنها أن تترجم
بها ما شعرت به حينها لكنها بالفعل تشعر بالفاجعة وبأنها كمن
يقف وحيداً في مكان مظلم موحش يشعر به يضيق بأنفاسه حد
الاختناق ، هي لم تعش مشاعر موت فرد من عائلتها سابقاً
لتقارن لكنها تشعر بما لم تعرفه يوماً .
واستطاعت نهاية الأمر فعلها وتحررت من قيود الصدمة وتجمد
ساقيها وتحركت نحو هاتفها وفتحته بأصابع مرتجفة زادتها
محاولتها التحرك بسرعة وكان رقمه أول ما فكرت في الاتصال به
وكان كالمتوقع مغلق فجربت خيارها الآخر ومن قد يفيدها بشيء
وهي عمته التي أجابت سريعاً وكأنها تمسك هاتفها في يدها !
وشعرت بقلبها يهوي للقاع ما أن سمعت صوت نشيجها الباكي
تكتم عبرتها وارتجفت يداها حتى لم تعد تقوى على إمساك هاتفها
وتحرر لسانها وقالت بكلمات مندفعة مفجوعة وعيناها تلمع
بدموع خفية
" عمتي لم أعلم بما حدث إلا الآن أخبريني ما هو وضعه
وحالته أرجوك "
تحررت حينها عبرات التي قالت بصوت باكي ونحيب موجع
" ليرحمنا الله برحمته يا جليلة "
اتسعت عيناها وهي تصرخ مفجوعة
" هل مات عمير عمتي ؟! "
شعرت وكأنه ثمة من سكب على رأسها دلو ماء بارد حين
وصلتها كلماتها السريعة
" لا يا ابنتي لكانوا أخبرونا "
تنفست بارتياح حينها ودمعة يتيمة تنزلق من رموشها لوجنتها
وهمست بكلمات مرتجفة
" هل تحدثتم مع أحدهم ؟ "
قالت تلك من فورها
" وردنا اتصال واحد من المستشفى وكان من أحد رجال الزعيم
مطر ولا أعلم من يكون قال فقط بأنه على قيد الحياة وأن الأطباء
في الداخل ولا يعلمون شيئاً عن حالته حتى الآن "
أغمضت عينيها بقوة هامسة
" يا رب لطف القضاء يا رب "
جعلت كلماتها تلك وضع محدثتها يزداد سوءاً وقالت ببكاء
" قلبي سيحترق عليه يا جليلة "
عادت الدموع للتكدس في عينيها وقالت بحزن
" طمأن الله قلوبنا عليه .. أخبريني إن علمتم أي أخبار عنه
أرجوك عمتي "
وأنهت الاتصال معها تمسح عيناها الدامعة ونظرت لقائد الواقف
مكانه منتبه لكل ما تقول وهمست تلتقط أنفاسها
" حمداً لله هو لازال على قيد الحياة "
ابتسمت شفتاه فجأة مناقضاً الموقف الذي هم فيه وقال
" كانت توقعاتي مختلفة لتلقيك للخبر "
لم يستغرب اتساع عينيها بذهول حينها ولا هجومها الغاصب
حين قالت
" لم تنعدم إنسانيتي بعد وهو زوجي في جمع الأحوال ولم أرى
منه أي تصرف سيء نحوي سابقاً "
شد شفتيه يخفي تلك الابتسامة بتصرف لا إرادي بسبب سلوكها
الغاضب والذي لم ينتهي عند ذلك وقد تابعت تشير بيدها بعيداً
نحو الأرض
" القط في الشارع إن رأيته ميت أو يتألم تشعر بالشفقة حياله
فكيف بإنسان لم يخطئ في حقك يوماً ؟ "
تحررت شفتاه حينها كما أنفاسه مع تبدل مزاجه للضيق وقال
بحدة يشير بيده للمكان ذاته في حركة مشابهة
" ألا يكفي هذا إذاً ليكون له تأثيراً على قرارك بالأمس وأنتِ
تغادرين منزله ؟ "
استكانت موجة غضبها فجأة وحدقت في عينيه بجمود لم يستطع
التكهن بتفسير ثابت حياله إن كان ما قال قد أعجزها عن التعليق
أم أنها ترفض من نفسها ذلك فتقدمت خطواته منها حتى أصبح
يقف أمامها مباشرة ونظر لعمق عينيها وقال بهدوء حذر
" كان يحادثني البارحة وقبل الحادث بثواني فقط "
تبدل ذاك الجمود في حدقتاها البنية المستديرة للاستغراب فتابع
من فوره
" كان يسأل لما تغلقين هاتفك "
هربت بعينيها منه حينها وأخفضت رأسها للأسفل وقد بدأت
بتمسيد جبينها بحركة بطيئة متوترة ظهرت في رجفة أصابعها فلم
يهتم سوى لمتابعة ما لديه وما هو هنا من أجله فقال بهدوء أشد
" حتى أنه طلب أن لا يتدخل أحد فيما بينكما حين سألته إن كنتما
تواجهان مشكلة ما ، وحين ذهبت لمنزلك استقبلني بترحاب
بالرغم من أنه لم يمضي الكثير على ما حدث "
رفعت رأسها بحركة سريعة حينها وظهر له احمرار جفنيها
الواسعان وإن لم يكن ثمة أي أثر للدموع في عينيها وكأنه
يحترق لحبسه إياها وفاجأته بأن قالت بانفعال واضح
" وماذا تتوقع يا قائد ؟ أن يخبركم بأن شقيقتك حامل من رجل
آخر ؟ مؤكد كان سيترك الأمر سراً أواجه وحدي مهمة البوح
لكم به "
حدق في عينيها بعدم تصديق وقال بضيق ما أن تجاوز كل ذلك
" ليس ثمة رجل يفعلها يا جليلة هم نادرون في وقتنا هذا ،
وعربي مسلم خصوصاً ! "
كان تعليقها الصمت التام تنظر لعينيه فقط فتابع وبكلمات جادة
" أنا محامي يا جليلة ومرت عليّا قضايا شرف لا عد ولا حصر
لها من التهم للتشهير للمتورطين في دماء النساء إن كان قريبها
أو زوجها ولم يكن ثمة متعقل يساعد المرأة في إخفاء جرمها
وهو ليس والدها أو شقيقها وما يمسه يمسها ! هذا الأمر لا
وجود له سوى في الروايات والتلفاز "
لم يكن ينتظر منها أي تعليق وتوقع أن تتصرف كما سابقاتها لكن
ما لم يتوقعه هو ما فعلته حينها وقد استدارت وأولته ظهرها
مكتفة ذراعيها لصدرها في صمت وكان يرى بوضوح اشتداد
أصابعها على قماش الفستان الذي يغطي ذراعيها وكأنها تفرغ
بهما ما تكبته تلك اللحظة وما ترفض قوله ، وهذا ما يرفضه هو
أيضاً ويفهم جيداً ما تفكر فيه فسحب نفساً عميقاً لصدره ونظره
تركز على شعرها الكثيف الناعم المجموع بمشبك كبير خلف
رأسها وقرر توضيح موقفه لذلك قال بكلمات جادة تؤكد صدق
كل ما يقول
" جليلة أنا لا أقول هذا لأني أقف ضد قرارك بل لازلت في صفك
أكثر من البارحة وما ستقررينه فقط سيحدث ، أنا أردت فقط
إخبارك بما حدث وما أخبرني به ليلة أمس ومتأكد إن لم يكن
تعرض لذاك الحادث لكان هنا اليوم "
وكان جوابها الصمت أيضاً لكن ما أراحه هو ارتخاء أصابعها
فرفع يديه لذراعيها وأمسكها منهما وأدارها ناحيته حتى تقابلت
عيناهما مجدداً وقال وكأنه يخاطبهما تحديداً أو يخاطب عقلها
من خلالهما
" أردت فقط أن أقول بأن زوجك بحاجة لك الآن يا جليلة أمام الله
وأمام إنسانيتك التي كنتِ تتحدثين عنها ، وأمام الناس أيضاً "
كان تعليقها الصمت بينما لم تبعد عيناها عن عينيه فتابع من
فوره مؤكداً
" وكما سبق وأخبرتك القرار بيدك فقط وأنا في صفك حتى آخر
نفس لي في هذه الحياة "
شعر بالارتخاء في جميع أوردته المتشنجة ما أن ظهر طيف
ابتسامة تداعب حزن شفتيها وعينيها الممتلئتين بالحزن وخيبة
الأمل وأراحه ذلك وإن لم تتحدث ولازالت تتجنب وبطريقة غير
مفهومة الحديث في الأمر بأكمله !! وقرر هو أيضاً التوقف عن
ذلك فما لديه قاله لها وعليه تركها تقرر بمفردها وأن يحترم
قرارها وكيفما كان كما وعدها وعليه التحدث في الأمر الآخر
الذي هو هنا من أجله أيضاً .
نظر لأصابعه وكأنه يهرب من عينيها وقال
" أنا ... "
وتاهت الكلمات منه متردداً لكنه رفع رأسه ونظر لعينيها وقال
هذه المرة
" أنا سأسافر لفترة و.. "
" تسافر !! "
قاطعته هامسة بعدم تصديق فخانته كلماته مجدداً أمام الصدمة
التي ملأت عينيها بل والدموع التي بدأت تلون زجاجها النقي
فقال سريعاً
" بل هذا ما سيعلم به الجميع عداك وحتى والدتي وسأختفي
لبعض الوقت "
تبدلت الصدمة في عينيها للحيرة وعدم الاستيعاب وكأنها تترجم
ما قال كلمة كلمة وقالت أخيراً وإن ببرود قاتل
" إن كنت رجل آخر لا أعرفه لقلت أنّ هذا بسبب صدمتك لفشل
قضية طلاقها وتحررها منه "
" جليلة !! "
صاح بتلك الكلمة بعينين متسعة من الصدمة والغضب ، نظرة
كانت كفيلة بقتلها فقالت سريعاً موضحة وإن بكلمات قوية
" قلت بأنني أعرفك لا تفعلها فما الذي حدث ؟ "
كانت نظراتها مليئة بالتساؤلات والتوجس وهو ما جعله يتنهد
بعمق وقال بجمود
" أنا محامي وكنت ناشطاً سياسياً لوقت طويل في السابق وعليّا
الابتعاد حفاظاً على حياتي وحياتكم من التهديدات لأن هذا ما
سيحدث حال رفضي "
اقترب حاجباها الرقيقان باستغراب وهمست
" تهديدات ماذا !! "
كانت ضربات قلبها تتعالى بجنون وكل ما أخبرها به عقلها حينها
بأنه مطر شاهين والقضية وراء ذلك لكنه خان جميع توقعاتها تلك
حين قال ببرود
" لو أنك فتحت هاتفك لعلمت عن الأخبار وما حدث يوم أمس "
نقلت نظرها بين هاتفها والتلفاز المعلق على الجدار باستغراب
وكأنها ستجد الجواب بذلك ! ونظرت لعينيه ما أن قال بنبرة
لم تفهمها
" لقد فتحت تلك المحاكمة جميع القضايا المغلقة من قضية الثأر
لسبب خروج مطر شاهين ورجاله من هنا وعودتهم المرتبطة
بموت الزعيم شراع رحمه الله "
حدقت فيه بذهول بل ببلاهة إن صح التعبير قبل أن تقول
بنفاذ صبر
" أنا لا أفهم شيئاً يا قائد فأخبرني وإن مختصراً أرجوك "
تنهد بقلة حيلة وبدأ يسرد عليها ما حدث مختصراً قدر المستطاع
بينما ملامحها المفجوعة وشفتاها المنفرجتان بعدم تصديق لما
تسمعه منه جعلاه يسترسل في الحديث حتى قال كل ما ضجت به
وسائل الإعلام لساعات ولازالت ، وما أن لاذ بالصمت وقال ما
لديه حتى أمسكت رأسها بيديها هامسة
" يا إلهي ، أي كارثة هذه التي حلت بك يا غسق ! "
حرك رأسه متنهداً بأسى وقال
" هي كوارث ليست غسق فقط من يتحمل تبعاتها ، بل وهي
السبب الوحيد فيها وهنا الكارثة الحقيقية بالنسبة لها "
اتسعت عيناها مصدومة وقالت
" لكنها لم تكن تعلم بأن كل هذا سيحدث ، لا تنظر للأمر من
جانب واحد يا قائد "
أشار لنفسه بيده قائلاً بجدية
" أنا لست منحازاً لكانت غسق أقرب لي منه لكنها كارثة هزت
الوطن بأكمله ، أنتِ لا تعلمين تبعاتها أنا أعلم جيداً ما سيحدث
مستقبلاً "
شعرت بارتجاف قوي في قلبها جعل أطرافها تتنمل وهمست
بخفوت تنظر لعينيه
" أنت تخيفني يا قائد "
أشاح بوجهه المتشنج جانباً وتمتم بجمود
" لنأمل فقط أن يكون لديه الحل كالعادة "
عقدت حاجبيها باستغراب وقالت
" من تقصد ؟ "
قال ولازال يتجنب النظر لها حدقتاه تتنقل في المكان بعشوائية
" مطر شاهين بالتأكيد فهو وحده بعد الله القادر على فعلها ... "
وتركز نظره على نقطة واحدة في الفراغ بشرود وتابع بذات
نبرته الجادة
" خاصة أنه حتى الآن لم يصدر أي أوامر قبض في حق
الحقوقيين الذين بدأت ترتفع أصواتهم في صنوان وحتى
الهازان مهاجمين إياه "
كانت ما تزال عيناها المفجوعتان ملتصقتان به بينما غطت
شفتيها بظهر أصابعها هامسة
" يا إلهي ... كل هذا يحدث الآن ! "
عاد ونظر لعينيها وحرك رأسه بالنفي وقال بملامح واجمة
" يمكننا القول بأنه لم يحدث شيء حتى الآن والقادم سيكون
أسوأ مع تعالي تلك الأبواق الناعقة وعدم إسكاتها "
نظرت لعينيه بتفكير عميق وكأنها تترجم ما قال وقالت بعد
صمت برهة
" واتخاذه أي إجراء حيالهم سيكون كارثة أخرى وسحبهم
للسجون سيجعل الصامت أيضاً يتحدث "
حرك رأسه في حيرة وقال
" لا أعلم كيف سيجد عقل ذاك الرجل مخرجاً من هذا الآن خاصة
بعد الحادث الذي تعرض له رئيس جهاز المخابرات فهذا سيحدث
خللاً كبيراً به وإن لوقت قصير سيستغله الكثيرين لزعزعة الأمن
أكثر وهذه الفجوة سيكون عليه إيجاد حل سريع لها أيضاً "
شعرت بانقباض قلبها يزداد وهربت بنظراتها للأسفل هامسة بأسى
" يا رب رحماك "
قال بهدوء وإن ظاهري
" فلنأمل خيراً فذاك الرجل لن يتخلى عمّا أفنى عمره من أجله
حتى وهو مطرود من البلاد فكيف بالآن ؟ "
نظرت لعينيه مجدداً وقالت
" لكن المهمة الآن أصعب "
حرك كتفيه قائلاً
" هذا ما نراه نحن "
تبدلت نظراتها للاستغراب تحاول فهم ما قال لكنه أنهى كل
ذلك قائلاً
" ألمهم الآن يا جليلة إن حدث وتأزمت أمور البلاد فعليكم البقاء
في العمران وعدم مغادرتها "
تعالت ضربات قلبها حتى كان تأثيرها واضحاً على أنفاسها وهي
تسمع العبارة التي ظنت بأنهم نسوها من أعوام طويلة ولم يعيدها
سوى موت شراع صنوان وكانت ثمة معجزة إلهية أنهت كل ذلك
بظهور مطر شاهين مجدداً ، وها هي تعود في وجوده أيضاً فآخر
ما تخشاه وتتهرب من التفكير فيه هو عودة البلاد لما كانت عليه
في الماضي لذلك قالت تحاول نفي كل مخاوفه وما قال
" بلادنا تختلف عن السابق ولن يحدث أي سوء إن شاء الله "
أومأ بالإيجاب في حركة جعلتها تشعر بالراحة لكنه قال أيضاً
وبكلمات جادة تؤكد اقتناعه بما يقول
" إن لم تحدث انشقاقات في رجال الجيش خلال هذه الفترة
سيكون بخير لكن إن جرهم المتمردون لهذا ستكون مشكلة
حقيقية "
عادت مخاوفها لسالف عهدها وفقدت ارتياحه اللحظي ذاك مما
جعلها تقول بأسى
" أنت رجل قانون وحقوقي كما تقول ألا يفترض أن تكون
نظرتك أقل سوداوية لتمد الغير بها ؟ "
حرك رأسه بالنفي بقوة وقال بحزم
" أنا رجل واقعي ، هكذا يكون رجل القانون الشريف واقعي ولا
يوهم أحداً بما لا وجود له "
ملأ الألم عينيها بشكل واضح ولأنه يعرف مدى تأثرها بقضايا
الغير فكيف بوطن بأكمله قرر إنهاء الحديث في الأمر وأمسك
ذراعيها وقال ينظر لعينيها
" جليلة افعلي فقط ما قلت وسأتصل بك برقم آخر هو لي أيضاً
لكن لا يعرفه إلا القليلون فإن حدثت أي مشكلة مع وثاب أو حتى
والدك أخبريني فقط وسأخرجك من هنا اتفقنا ؟ "
تنقلت نظراتها بين عينيه بتفكير وقالت
" كلامك هذا يدل بأنه ثمة تهديدات موجهة لك وليست
تكهنات فقط ؟! "
أبعد يديه كما نظره عنها وكأنه يهرب من الحقيقة التي اكتشفتها
وأصابت فيها لكنه لم يحاول الهرب من الاعتراف بها فقال وقد
عاد بنظره لعينيها
" الأمر لم يصل للتهديدات بعد ولازالت محاولات لجمع أكبر قدر
ممكن في صفهم ممن يعلمون بأن أصواتهم الإعلامية تخدمهم "
لم تفته نظرة التفكير التي ارتسمت سريعاً في عينيها وكأنها
خمنت أمر ما ، وما توقعه كان حقيقي فقد همست تنظر لعينيه
بتساؤل عميق وكأنها تملك الجواب عنه
" من تقصد ؟ "
كان يعلم بأن ذكائها لن يفوته هذا لذلك أومأ برأسه مؤكداً ظنونها
تلك قائلاً
" نعم جبران "
وضعت يديها على صدرها في شهقة صامتة وهمست مفجوعة
" يا إلهي "
عاد لإبعاد نظراته عنها وزم شفتيه بقوة يكتم غيضه وهو يتذكر
الاتصال الذي وصله فجراً من رقم مجهول واكتشف بأنه هو ما
أن أجاب ، حاول أن يطرد ذاك الشعور بأن تنهد بعمق لكنه لم
يختفي في صوته حين قال بصوت أجوف بينما لازال نظره شارداً
في الفراغ
" بدأ الأمر به ولن ينتهي بالتأكيد فكلامه كان يحمل تهديداً
واضحاً من قبل أن يعلم عن رأيي وتوجهي السياسي "
حركت رأسها بضياع تنظر لعينيه التي يسدل جفناها عليهما
وملامحه كانت متجهمة بوضوح ممّا زاد وضعها سوءاً لكنها
قالت وإن بتشتت وكلمات حزينة
" لكن ... لكنَّ صمتك لن يخدم قضية الوطن أيضاً يا قائد فلما لا
تقف في صف من تراه على صواب ؟ "
نظر لعينيها مجدداً والتجهم في ملامحه قد تبدل للجدية فجأة وقال
عاقداً حاجبيه بقوة
" لن يجدي هذا في شيء يا جليلة أنا لست رجل جيش ولا
مخابرات ، الحقوقيون لا يُخمدون الحروب بل يشعلونها ، هذا ما
تنجح فيه أبواقهم لذلك إن لم يكن غرضكَ تأجيج الوضع عليك
أن تصمت فقط "
لون الحزن عينيها تشعر بقلبها يتألم لِما آل وسيؤول إليه وطنها
الحبيب بسبب الحمقى أتباع كل ناعق وإن كانت عاجزة عن فعل
غير ذلك ولو كان بيدها شيء تفعله لما تأخرت ثانية عن تقديمه ،
ويبدو ذاك ما يعلمه الواقف أمامها جيداً وترجمه في كلمات جادة
وقد قال
" وهذا ما عليكم فعله أيضاً يا جليبة فلا تنسي بأنك زوجة رئيس
جهاز المخابرات وأنك من صنوان "
ابتلعت مرارتها مع ريقها الجاف ممّا جعل صوتها يخرج مبحوحاً
حين قالت تنظر لعينيه بحزن
" العمران كانت دائماً خارج نطاق الصراعات السياسية كما أني
لم أكن أخطط أبداً لمغادرة المنزل "
أومأ برأسه مباشرة قائلاً
" هذا أفضل ولهذا طلبت أن لا تغادروها "
شردت عيناها بعيداً عنه بحزن وضمت يديها أمام شفتها هامسة
بأسى حزين
" أعانك الله على ما تشعرين به الآن يا غسق "
أبعد نظره عنها يقبض يداه بقوة بجانب جسده وقال
" وهذ ما جعلني أعض أصابعي ندماً لموافقتي ذاك الأمر لكن
الأوان قد فات على الندم أيضاً "
نظرت له وقالت بكلمات قوية واثقة من اقتناعها بها
" لما تقول هذا يا قائد فأنت كنت تريد مساعدتها كرجل قانون فقط
ولا تعلم عن تبعات الأمر وما سيحدث لكنت رفضت بالتأكيد "
تنهد بعمق وأدار ظهره لها وقال متجهاً نحو الباب الذي دخل منه
" علينا بالدعاء فقط فهو ما تبقى لدينا الآن "
وغادر مغلقاً الباب خلفه ونظراتها الحزينة الدامعة تتبعه بينما
كانت تتحرك شفتاها بتمتمات هامسة لا يُفهم منها سوى كلمة يا
رب ودعواتها الحزينة الراجية بدأت تشمله أيضاً فأعظم كابوس
يواجهم منذ توحد تراب هذا الوطن هو عودته لما كان عليه فأي
مصاب غيره يمكن تجاوزه إلا المصاب فيه يدمر معه كل شيء
ولن يرحم قائد نفسه حينها من لومها لأنها تعرفه جيداً كما
غسق أيضاً .
نظرت نحو هاتفها فجأة وأخذتها خطواتها نحوه ودون شعور
منها لعلها تجد عند عمته أي أخبار جديدة فلا سبيل لها غيرها
لتعلم .
*
*
*
كانت خطواتهم المتنقلة في المكان بعشوائية وحدها ما يُسمع في
الممر البارد الشبه خالي لطوله وأتساعه وقلة عددهم فيه وكأنه
الجمر تحت أقدامهم لا أحد منهم قادر على الوقوف في مكانه ولا
التحدث مع الآخر سوى من المكالمات المتفرقة التي يجريها
أحدهم بين الحين والآخر يحاولون تنظيم مهامهم مع واجبهم نحو
رفيق دربهم الصعب الطويل الذي خاضوه معاً ولأعوام طويلة ،
وكلما غادر أحدهم كان ثمة آخر أصبح هنا في مكانه بسبب مضي
الساعات دون أي جديد يذكر .
توقفت حركتهم العشوائية فجأة ما أن ظهر بِشر من أول الممر
وحدقوا جميعهم به وقد وقفوا في أماكن متفرقة لكن وجهته كانت
نحو قاسم تحديداً وظن الجميع بأنه بسبب كونه أقربهم له حينها
لكنه كان يقصده أساساً وقد وقف أمامه وقال بعد أن نقل نظره
بسرعة خاطفة بينهم
" هل قال أحد الأطباء شيئاً ؟ "
تمتم قاسم بهمس كئيب
" لا شيء "
غضن جبينه باستغراب وقال
" كل هذا الوقت !! "
حرك قاسم رأسه متنهداً بعجز وقال
" لا أعلم ، لم يصرح الأطباء بأي شيء حتى الآن بالرغم من
مرور كل هذا الوقت ! "
وتابع من فوره ينظر لعينيه بتساؤل
" أين غادر خالي صقر ؟ "
حرك كتفيه بمعنى لا أعلم بينما قال بشيء من البرود
" ذهب برفقة الزعيم مطر ولا أكذب إن قلت لك لا أعلم
وجهتهما "
تنهد بضيق مبعداً نظره عنه ومتمتماً
" مطر لا يتخلى عن عاداته أبداً "
ارتسمت ابتسامه جانبية على طرف شفتي بِشر وهو يومئ
برأسه وقال
" ثمة شيء يخصك أنا هنا من أجله "
نظر له مستغرباً وقال بتوجس
" شيء ماذا !! "
كان يظن بل ويخشى بأنه ثمة شيء سيء حدث فيما يخص قضية
الثأر وتلك العائلة وهو ما جعل مطر وعمه صقر يختفيان هكذا
فجأة لكن المخبأ له كان مختلفاً تماماً وأسقطه عليه كالصاعقة
حين قال وبكل بساطة
" ورقة وصلت من القصر الرئاسي مختومة للوزارة تخصك "
ولم يترك له مجالاً ولا لتقبّل ذلك أو التفكير فيه وهو يلقي عليه
بالأخرى والأشد قائلاً
" لقد تم تكليفك برئاسة جهاز المخابرات "
" ماذااا !! "
صرخ بها في وجهه مما جعل الواقفين هناك ينظرون بانتباه
نحوهما ، ولأنه يتفهم صدمته بالأمر ولا يستغرب رد فعله ذاك
فرد كفيه وقال
" القرار رئاسي أي لا نقاش فيه "
لكن أسلوبه ذاك لم ينجح في إقناعه بالأمر وقد قال بضيق ويده
تشير خلفه حيث الباب الكبير المزدوج والمغلق منذ وقت
" كيف يفعل مطر أمر كهذا ونحن لم نعرف وضع عمير بعد ؟! "
قال بِشر من فوره وبكلمات قوية حازمة وصلت لجميع الواقفين
هناك وليس له وحده
" هذا أمر لا يحتمل العواطف يا قاسم فمهما كان يعني له ولكم
ولنا جميعاً فمصلحة الوطن هي الأهم الآن وعمير يفهم ذلك جيداً
ويوافقه بالتأكيد ، أنتم لم تفنوا أعماركم هناك تحاربون من أجله
لتستسلموا الآن ولأي سببٍ كان "
جعلت كلماته تلك الوجوم في وجوههم يزداد شدة من قسوة واقع
ما يمرون به ، بينما تخطى قاسم كل ذلك لأن ما يهتم له حينها
أمر مختلف وقال بانفعال محتج
" الأمر ليس هنا فقط بل في أن مطر لم يسلم مركزاً سيادياً لفرد
من عائلته سابقاً فلما يفعلها الآن وثمة خيارات غيري كثيرة
أمامه !! "
قال بِشر من فوره وبجدية تامة
" نحن رجاله لا نناقش ولا نتساءل يا قاسم ننفذ فقط ومؤكد
سنوات غربتك معه هناك علمتك هذا "
رمى يده جانباً قائلاً بضيق
" سيتهمه الجهلة الآن حتى بتدبير حادث عمير لطمس بعض
الحقائق وإعطاء المنصب لقريبه "
جعلت كلماته تلك الموجودين خلفه يتبادلون نظرة صامتة بينما
عقد بِشر حاجبيه بقوة وقال بضيق
" مطر لم يهتم يوماً بما يقوله لا المجانين ولا العُقال هو يؤمن
بالأفعال فقط "
أنهى كلماته تلك ينظر لعينيه بقوة تشبه كلماته تلك فقال قاسم
ممسكاً برأسه
" يا إلهي رأسي سينفجر دون الحاجة لتلك المهمة الصعبة وفي
هذا الوقت تحديداً "
لامست يد تميم كتفه مما جعله يدير رأسه نحوه وتدخل
قائلاً بجدية
" هو يعتمد عليك بالتأكيد وجميعنا نثق في قراراته ، عمير كان
الاختيار الصائب له سابقاً ولن ننسى بالتأكيد ما فعله لكشف
مخططات الإرهابيين على حدودنا الغربية وها قد حان دورك الآن
فأثبت له وللجميع بأنه أحسن الاختيار بالفعل كسابقتها "
أبعد نظره عنه وحرك رأسه هامساً من بين شفتيه بحنق
" تباً لقراراتك الهوجاء يا مطر "
أمسكت يد بِشر بكتفه هذه المرة وقال مبتسماً بسبب كلماته تلك
" هيّا قم بمهامك المناطة إليك لا وقت أمامك "
تحرك من مكانه حينها مبتعداً في الممر الطويل وأخرج هاتفه من
جيب سترته بينما علا صوته الجهوري بسبب تحدثه في هاتفه
" أريد رؤية رؤساء أقسام المخابرات في المدن كافة ، خلال
ساعتين فقط يكون الجميع هنا في حوران "
كانت نظرات الجميع هناك تراقبه بينما استدار عند نهاية الممر
قائلاً بأمر صارم
" هي ساعتان فقط الاجتماع طارئ وسيتم توقيف كل
من يتخلف "
ابتسم بِشر بفخر حينها تودعه عيناه هامساً
" الوطن يعتد عليكم الآن آل الشاهين "
وسرق نظر الجميع الباب المنتظر فتحه الذي فُتح فجأة فتوجهوا
جميعهم ناحية الطبيبان اللذان خرجا منه وقد قال أحدهما من قبل
أن يفكر أيّا منهم في السؤال المتوقع
" وضعه استقر أخيراً "
كانت تنهيدة ارتياح مشتركة صدرت عنهم وتداخلت همسات
الحمد الرجولية بينما قال الطبيب الآخر ينقل نظره بينهم
" ثمة كسور وإصابات شديدة ، الفحوصات جميعها تقريباً جيدة
لكنه لم يستعد وعيه بعد "
تبادلوا نظرة صامتة حينها وقال تميم ما أن عاد ونظر له
" وما درجة خطورة وضعه ؟ "
قال موضحاً
" الحادث كان قوياً لكن لحسن الحظ كان الاصطدام ناحية الجانب
الآخر من السيارة ، علينا الانتظار ليس أقل من أربع وعشرون
ساعة لنتأكد بأنه لا نزيف داخلي كما سنجري كشوفات متواصلة
للدماغ حتى يفتح عينيه "
قال تميم مجدداً
" هل سيغادر غرفة العناية ؟ "
نظر له الطبيب الآخر وقال
" ليس في الوقت الحالي يجب أن يكون تحت المراقبة كما
الزيارات ممنوعة عنه "
قال آخر كلماته يغلق أي باب للتفكير في طلب رؤيته وتابع
من فوره
" سنقوم بكل ما يمكننا فعله والأهم الآن أن لا يدخل في غيبوبة "
وتحركا بعدها قائلان معاً
" حمداً لله على سلامته "
وغادرا الممر وممرضتان في إثرهما بينما علقت نظرات من
تركوهم خلفهم في الباب المغلق بمشاعر مختلفة بين متأمل
وشبه فاقد للأمل حتى قال بِشر ينقل نظره بينهم
" عليكم المغادرة جميعاً الآن فثمة أمور تنتظركم بعد أن
اطمأنننا عليه "
قال حيدر بأسى يشير بيده حيث اختفى الأطباء قبل قليل
" وهل تُعد حديثه هذا مطمئناً ؟ "
قال من فوره وبجدية
" وإن يكن فلا شيء نفعله هنا خلال اليومين القادمين سوى
الجلوس والانتظار وثمة ما هو أهم يحتاجنا ، والأمور جيدة
بالتأكيد بما أنه لازال على قيد الحياة "
وتابع مباشرة وقد عاد ينقل نظره بينهم
" سأتكفل أنا بكل شيء وسيكون القسم بأكمله مراقباً لضمان
سلامته "
قال تميم يومئ برأسه
" هيّا يا رجال فمهمتنا لن تكون سهلة أبداً ، إن أُفلتنا زمام
الأمور من بين يدينا الآن فلا شيء سيعيدها كما كانت "
قال ضرغام في حيرة فارداً ذراعيه
" لكننا لم نتلقى أي أوامر من مطر حتى الآن ! أين هو ؟ "
وقال آخر كلماته موجهاً سؤاله ذاك لبِشر الذي قال ولم تخفى
عنهم الحيرة في ملامحه
" غادر القصر الرئاسي قبل لحظات برفقة عمه ولم يصدر سوى
قرار واحد هو تعيين قاسم بدلاً عن عمير "
تبادلوا نظرات مستغربة فيما بينهم وقال بِشر مجدداً
" لن نقف نتفرج علينا أن نتحرك الآن "
قال تميم
" من دون أوامر ؟ "
نظر له وقال بضيق
" تخيل بأنه ميت الآن ماذا كنا سنفعل ؟ نقف ننتظر أوامره ؟ "
حرك رأسه بعجز وقال بحنق
" مهما قضينا من أعوام معه نحن رجاله المقربين لازلنا نعجز
عن فهمه "
قال بِشر مستغرباً
" تقصد بأنه يتعمد الصمت !! "
حرك كتفيه وقال بقلة حيلة
" سنفترض هذا ونتحرك بموجبه "
وتابع من فوره ينقل نظره بينهم
" وسنكون على اتصال دائم ببعضنا اتفقنا ؟ علينا إنقاذ الوضع
بكل ما نستطيع قبل أن يتحول لكارثة "
قال بِشر بجدية
" ولا نريد قرارات فردية أيضاً "
قال وهو يشير برأسه نحو بداية الممر
" بالتأكيد ... هيّا "
وسلكت خطواتهم الواسعة وأجسادهم الرجولية الفخمة الممر
وكأنها لرجل واحد كقلوبهم وكأنها طُبعت كقلب رجل واحد لا
أقوى من حركاتهم سوى الصوت العميق القوي المتزن لتميم
الذي رافقهم قائلاً
" جهاز الداخلية هو الأهم الآن علينا حفظ الأمن وتحييد الجيش
ذات الوقت حتى نحدد الخطوة القادمة "
*
*
*
|